ما خَفِيَ أعظم
لم يكن أحدٌ قد رأى وجه امرأته رأي العين. كانت إذا خرجَت ترتدي فستانًا لامعًا أسود، طويلًا إلى حدٍّ يُجرجر خلفها على الأرض، وطرحةً سوداء مُلتفَّة حول الرأس والوجه، ومن نسيجٍ ضيقٍ لا يُظهِر أبدًا ما وراءه، وإذا خرجا سويًّا لا يسير بجوارها إنما أمامها بمشوارٍ يسير، وبعد أمتار كثيرة تجدها وراءه كظله الأسود الذي انفصل وتجسَّد ودبَّت فيه الحياة، ولكنها لم تكن تمامًا كظله، فقد كانت سمينةً تخينة مدكوكة، وكأنها أربع نساء أُدمجن معًا. وكان الشيخ «فقر» بعد فصله من الأزهر لرفعه الكرسي على أستاذه، وبعد صرمحته زمنًا وإدمانه ﻟ «دومينو والكوتشينة» إلى آخر مليمٍ ورثه عن أبيه، وبقائه في البلدة يقتاتُ من النفحات، حتى ضاق به الكرام قبل اللئام، قد أخذ في وجهه وصمَّم على أن يذهب للعمل في الإسكندرية. وقد ظل أسبوعًا يجمع في أُجرة السفر، ثم ذهب، ولكن أخباره لم تنقطع كليةً عن مواطنيه، بين كل حينٍ وحين يفد إلى البلدة عنه خبر، مرةً أنه عمل كاتبًا في الميناء، ومرةً فتح «كشكًا» للسجاير، ومرةً ربح ورقة يانصيب بعشرين جنيهًا. ومضت سنواتٌ وأخيرًا فُوجئوا به وقد عاد، ولكنه لم يكن وحده. لقد تزوج وجاءت معه زوجته، وما كاد يهبط من المحطة وهي خلفه ويراها الناس، حتى كتموا الضحكات؛ فرغم لثامها الشامل التام الذي أحالها إلى شبحٍ أسود، فاللثام والسواد لم يستطيعا أن يُخفيا تخنها، بل ربما أسهما في فضحه أكثر، تخنًا لم يره أحد من قبلُ أو من بعدُ؛ فنساء القرية عجفاواتٌ كعيدان القطن الجافة، وهذه «باسم الله ما شاء الله» ككيس القطن، أقصر منه قليلًا إنما في تخنه بل ربما أتخن. ولا يدري أحدٌ سر هذا الأمر بتاتًا؛ فما يكاد الإنسان يراها إلا ويتصور الشيخ «فقر» معها في فراشٍ واحد، بعصبيته التي لا حد لها، وعصاه الغليظة التي يُسمِّيها «الحكمدار»، وغضبه الذي ينشأ كالظواهر الكونية بلا سبب، وينفثئ كالظواهر أيضًا بلا سبب، ووجهه المملوء بحُفرٍ قديمة نصف مردومة من آثار هجوم جُدريٍّ قديم فاشل، تنبُت بينها شعراتُ ذقَنٍ قليلة متباعدة، ولكنها كأشجار السنط البرية ناشزةٌ مسنونة. وما يكاد الناظر يتصورهما معًا في فراشٍ واحدٍ على هذا النحو، هي بتخنها وهو بحدته وعصبيته، حتى يظل يضحك ربما إلى أن يُصاب بالمغص. والشيخ «فقر» لم يكن طبعًا اسمه الشيخ «فقر» إنما كان اسمه الشيخ رابح، وحتى لقبُ الشيخ كان تجاوزًا؛ فهو لم يكن يرتدي عمامة، إنما كان يمنحُه الناس له، أو بالأصح يُصِر هو على أن يُنادى به، وكأنما إمعانًا في انتصاره على مدرسه السابق بالأزهر، ذلك الذي أكَّد له أنه أبدًا لن ينجح في حياته أو يربح أو يحمل لقب شيخ من هنا إلى يوم الدين.
وإذا كانت حياة الشيخ رابح معروفٌ أمرها للناس جميعًا، فقد كانت النساء هي علامة الاستفهام الكبرى في حياته؛ إذ كان دائمًا يذكرهن بحقدٍ خفيٍ غير معروف المصدر، وإذا مرَّت من أمامه امرأةٌ نقَرَها — أوَّلَ ما ينقرها — من نهاية سمَّانة ساقها عند اتصالها بالقدم، ثم يُصدِر عليها بكل قسوة وبلا تردُّدٍ حكمًا جائرًا بأنها «…» غير قابل لأي نقضٍ أو تعديل؛ ولهذا كانت المفاجأة الكبرى أن يتزوَّج الشيخ «فقر»، ويتزوَّج من تلك الكتلة اللحمية الكيسية القطنية الإسكندرانية التي ما أفلح السواد أو اللثام المضروب بعناية حولها أن يُخفي أنها امرأة، وامرأةٌ من نوعٍ يُصدِر عليها أي إنسانٍ حكمه دون حاجةٍ إلى نظرةٍ يُلقيها على «سمَّانة الرجل» عند اتصالها بالقدم.
وكأنما كانت عودة الشيخ رابح وزوجته على هذه الصورة إيذانًا باندلاع حربٍ خفية بينه وبين بلدياته حول رؤيةِ وجهِ امرأته؛ إذ كان يبدو وكأنما أصدر لها أوامر حازمةً باترة مصحوبة بتلويحةٍ مُروِّعة من عصاه «الحكمدار» بأن معنى أن يرى أحدٌ — سواء كان رجلًا أم امرأة في الطريق — وجهها الهلاك المحتَّم لها، وإذا كان قد قُدِّر لك أن ترى الشيخ «فقر»، وهو يُهدِّد، وقد انقبض وجهه واحتقَن واسودَّ، وتدبَّبَت أشجار السنط في ذقنه وتقنفذَت، والتقى الخطان العميقان في جبهته على هيئةِ عُقدةٍ دون حلها رابعُ المستحيل، لآثرتَ السلامة حتمًا، وفضَّلتَ أن تُطيع أوامره، ولكن أوامره مهما بلغَت من قسوتها، فلم تكن لتحُول بين الناس وبين رغبتهم التي تتزايد يومًا بعد يوم لرؤية وجه امرأته المَخْفي دائمًا وراء الطرحة، ولا محاولاتهم المستميتة للعثور على ثغرةٍ في النقاب، أو حتى لضبطها مرةً واقفةً في حوش منزلهم القديم الواسع أو فوق سطحه الآيل للسقوط، سافرة. ذلك أمر لم يحدث أبدًا، وبدا مُصِرًّا على عدم الحدوث إلى درجةٍ أيأسَت الناس تمامًا، فسلَّموا أمرهم وحُب استطلاعهم إلى الله، ونفضوا أيديهم. أما الذي لم ييأس أبدًا، ومضر مُصرًّا وبكل ما يملكه من تزمُّت فهو الشيخ رابح، ليس فقط على إخفاء وجه امرأته، بل بعد هذا على إخفائها نفسها عن أعين الجميع، وكأنها «بضاعة … والناس جواعة»، بل على أن يمضي في هذا الطريق إلى آخر المدى؛ فالشيخ «فقر» رغم غضبه السريع والعُنجُهية التي تَستبِد به في أحيان، إلا أنه كان دائمًا وأبدًا قبل ذهابه إلى الإسكندرية إنسانًا مرحًا ذا ضحكة، وإن كانت أقبحَ ضحكةٍ ممكن أن تسمعها إلا أنها دائمة الحدوث، وبسببٍ وبلا أي سبب، ودائمًا تُغري على الضحك، بحبوحًا لا تفوته النكتة، وإن فاتَتْه انقلب على نفسه وفقره وحياته وأُسرته الكبيرة يسخر منها — ويحتد في سخريته — حتى إنه هو الذي أطلق على نفسه الشيخ «فقر»، ولكنه حين عاد بهذه الزوجة عاد إنسانًا آخر، ضاق خُلقه إلى أبعد مدًى، وحوَّل ضحكاته إلى نظراتٍ نارية جادة يُخوِّف بها القريب والبعيد، وكأنما كان يتصوَّر أنه لو فرَّط لحظةً واحدة في حديثه لاستهان الناس به، ومن ثَمَّ بامرأته وكشفوا عنها النقاب والغطاء. كان بمثل ما يُرهبها ويفرض عليها الحجاب فَرْض عزيزٍ مقتدر يُريد أن يُرهب الآخرين، ويفرض عليهم غض النظر، حتى لو كان النظر إليه، وكأنما التحديق فيه مُقدِّمةٌ مستترة للتحديق فيها. أصحابه القدامى هجَرهم ولم يعُد يجلس إلا مع الكبار الوقورين ذوي الدم الثقيل، حتى هو نفسه أصبح «كقرد قطع» وحيدًا صامتًا معقود الجبهة لا يطُيق الناسُ — من تلقاء أنفسهم — رؤيته.
إلى أن كان يومٌ لا يزال الرواة يتذاكرونه؛ فقد كان يوم شتاءٍ والمطرُ قد أحال البلدة إلى بِرَكٍ وطينٍ ومستنقعات، وكان الوقتُ منتصف الليل أو بعده بقليل، وكانت «طوبة» وبردُها القارس. وكان صُراخٌ إلى عَنان السماء تصاعَدَ في الليل من بيت الشيخ رابح، وظن الناس أول الأمر أنه يضربها، ولكنه أبدًا ومنذ قدومه إلى البلدة لم يسمع أحدٌ أنه ضربها، وما حاجته إلى الضرب إذا كانت سحنته تكفي؟ فقط حين طال الصراخُ وتزايد، أدرك الناس أنها لا بد تلد. وكانت مفاجأةً؛ فأمرُ حَمْلها كان كالسر لا يعرفه إلا أقرب المقرَّبين من الجارات؛ فتخنها كان كفيلًا بأن يختفي في طيَّاته عشرة أطفال دون أن يبدو لهم أثر؛ ولهذا كان طبيعيًّا جدًّا أن يكون معرفة الناس بالحَمْل ساعة الولادة معرفة لم تفعل إلا إطلاق الألسن المكتومة التي تتربَّص بالفرص للضحك، وإشفاء الغليل. وهكذا ظل أناسٌ كثيرون ساهرين يسمعون الصراخ ويتضاحكون تارةً على عملية ولادتها نفسها؛ فداية القرية كانت مريضة، والمرأة غريبة لا أم لها ولا قريبة، والشيخ رابح رأسه وألف سيفٍ إلا أن تلد في بيتها، وبمساعدة «أم الخير» الجارة العجوز. مضى بنفسه يُشرِف على عملية الولادة مزمجرًا في كل مَن تُحدِّثها نفسها من النساء بأن تقترب أو تدُق الباب عارضة المساعدة، خالعًا جلبابه، باقيًا في عز «طوبة» بالفانلة والسروال الطويل، يتفصَّد العرق الغزير من وجهه وكلِّ مكان في جسده، مشغولًا مشغوليةً عظمى، وكأنه يُشرِف بمفرده على معركةٍ حربية ليس لها نظير، وتارةً تنطلق الألسن مُندِّدة — قبل مجيئه — بالجنين المقبل، معترضةً أن الحمل لم يحدُث من الشيخ رابح، وإنما تَمَّ على أثر وصفةٍ اشترتها المرأة من قرداتي تحتوي على نُطفةِ قرد؛ فليس من المعقول أن يُخلِّف الشيخ رابح، وقد بلغ من العمر أرذلَه! وما يبدو مستحيلًا أكثر أن تُخلِّف هي! وتارةً تركن الألسن إلى قليلٍ من الجد، وتتساءل عن أخبار عملية الولادة، تلك التي طالت على غير العادة، حتى أصبحَت صرخات الإسكندرانية تتلاحق وتشُق كالسكِّين الحامية سكونَ الليل. مسألةٌ لا بد أنها كانت تدفع الشيخ رابح إلى ما يقرُبُ من الجنون، فإذا كان يرى في وجه امرأته عورة، فلا بد أن صوتها لديه عورةٌ أخطر، وتصاعُده في الليل على هذه الصورة جريمةٌ أكثر، فلا بد أن القاصي والداني الآن يسمعه، وكيف يمكن أن يقبل الشيخ رابح أن تتسمَّع الآذان، آذانُ كلِّ من هبَّ ودبَّ صوتَ امرأته، ذلك الحرم المقدَّس الخاص به وحده، الذي لا يصح أن تتسمَّعه آذان أحدٍ سواه؟ لو كان الودُّ ودَّه لخنقَها حتى يُسكِتها، أو للَفَّ في القرية يسُد آذان أهلها بالطين.
المهم أنه قُرابة الفجر، رُوِّعَت القرية حقيقةً حين انفتح باب الشيخ رابح بقوة، وخرج منه الرجل حاسر الرأس بالفانلة والسروال، يتصبَّب عرقًا، ويجري كالمجنون يدُق أبواب الجيران طالبًا الغوث والعون، باكيًا، هذا الجبار، مستحلفًا طين الأرض — إذ كان طوبها كله قد تحوَّل إلى طين — طالبًا من الجميع مساعدته؛ فالجنين قد خرج نصفُه وانحشر نصفُه الأعلى لا يريد الخروج، وأمنية حياته الكبرى — تلك التي أخفاها عن الجميع إلى تلك اللحظة — كانت أن يُخلِّف ولدًا، والجنين ولدٌ رآه بنفسه وتأكد منه، ولكنه محشور، ولا بد ما لم تتداركه العناية أنه مخنوق ومقتول، وأنا في عرضكم يا ناس، في عرض الصغير فيكم قبل الكبير، والحافي قبل اللابس، أنقذوا الولد وسأعيش عمري عبدكم الذليل.
يا لله! لم يُصدِّق أحدٌ عينَيه أبدًا ولا أذنَيه؛ فلا يمكن أن يكون المتذلل الباكي هذا هو نفسه الشيخ رابح صاحب «الحكمدار» والنظرات المقطرة سُمًّا، مستحيلٌ أن يكون، ولكنها دهشة لم تدُم طويلًا فسرعان ما اختفى الاستغراب، وكُتِمَت الضحكات لتحل محلَّها الشهامة المعتادة.
وكانت المشكلة أنه لا بُد من نقل الوالدة فورًا إلى المستشفى، وطلبُ الإسعاف وانتظاره مسألةٌ لا يمكن أن يُفكِّر فيها عاقلٌ بالمرة، أي إسعافٍ هذا سيأتي في الفجر والأرض موحلة؟ إنه في أثناء النهار وفي الطرق المرصوفة نفسها لا يأتي إلا بعد ساعات، فما بالك في ليلةٍ كهذه وفي ظرفٍ كهذا، الدقيقة فيه — كل دقيقة — لها ثمنها الفادح؟ وبينما الشيخ رابح قد تهاوى إلى جوار الحائط غير عابئ بالوحل والطين، تاركًا أمر التصرف في الموقف لأولاد الحلال الذين تجمَّعوا بالعشرات والمئات داخل بيته وخارجه، كان الناس قد قرَّروا أن يتولَّوا بأنفسهم نقل الوالدة إلى المستشفى، وبدلًا من النقَّالة قرَّروا أن يستعينوا بسُلَّم يضعون عليه مرتبة ويُرقدونها فوقه، ويحملونها — جرى من جرى — إلى المستشفى الذي لا يبعد عن البلدة إلا بكيلومترَين، وانتشَرت موجة الشهامة، وعمَّت القرية كلها حتى استيقظَت عن بكرة أبيها؛ فالقرية ليس فيها إلا شيخُ رابحٍ واحد، ورغم كل شيء فالشيخ قضى عمره كله يُسلِّي بغضبه الناس ويُضحِكهم، ومن المُحال أن يتخلَّوا عنه في ورطةٍ كهذه. أكثر من «كلوب» أُشعل وجيء به إلى البيت والساحة التي أمامه، وفُتِّشَت القرية كلها بحثًا عن سُلَّمٍ متين ورجالٍ أقوياء؛ فالحِمْل الذي سيُحمل حِملٌ غير عادي، والسرعة المطلوبة سرعةٌ غير عادية أيضًا. وأخيرًا تَمَّ في دقائقَ قليلة إعدادُ كل شيء، وبقي أصعب شيء؛ فالوالدة جاءها المخاض وهي نائمة في «المقعد» فوق السلَّم، والسلَّمُ المؤدي إلى السطح سُلمٌ عادي كالسلَّم الذي ستُحمل عليه، ولا بد لكي تهبط سليمة من حملها في وضعٍ أفقي، وإنزالها على هذه الصورة سُلَّمةً سُلَّمة، وبحرصٍ شديد، والدنيا وحل، والأقدام والسلالم زَلِقة، وهي تخينةٌ سمينة في ثقل حجر الطاحونة وربما أثقل، ومشاكلُ كثيرة وعويصة هندسية وميكانيكية وعضلية كان عليهم أن يحلُّوها قبل أن تهبط حرم الشيخ رابح إلى الأرض سالمة. أما الشيخ رابح نفسه فما كادت إجراءات الحَمْل تبدأ حتى انتفض من انهياره واقفًا وليس أمامه سوى مشكلةٍ واحدة قاهرة مُلِحَّة، أن يفرد فوق امرأته الملاءة السوداء التي أحضروها من بيت العمدة، بحيث تُغطِّيها تمامًا، وبحيث تحدُث عملية الهبوط كلها، والحَمْل إلى المستشفى دون أن يبدو من جيدها قُلامة ظفر. وفعلًا كان الرجال جميعًا مشغولين بحملها بالمرتبة التي ترقُد عليها ووضعها فوق السلَّم، ثم حمل السلَّم والهبوط به من فوق السلالم الناقصة أكثر من سُلَّمة، وكان هو مشغولًا تمامًا بضبط الملاءة فوق كل بقعةٍ من جسدها، ولقد نجح في هذا إلى أن وصل جسدها المحمول إلى رأس السلَّم، حيث بدأ الارتباك الأعظم؛ فالحمل ثقيلٌ جدًّا والأقدام تتزحلق، والمسافات بين خشب السلَّم متباعدة، ولولا لطف الله لكانت قد تهاوت بمن حملوها أكثر من مرة، وصرخاتها أقوى من صُفَّارات قطار أي بضاعةٍ أو اكسبريس تنطلق بمعدَّل عشر مرات في الدقيقة، وتُولوِل مستغيثةً مُربكة حامليها. وبمحاولاته المستميتة لتغطيتها كاد يُؤدِّي الشيخ رابح إلى سقوطها أكثر من مرة، حتى بدا واضحًا استحالة أن تهبط مُغطاة، أو على الأقل وثَمَّةَ أحد — حتى لو كان زوجها — يُمسِك بأطراف الملاءة، ولم يكن أمامه إلا أن يستسلم في النهاية، ويَفرِد عليها الملاءة، تاركًا أمر بقائها أو انحسارها للحَظِّ والقدَر. وكان أهل البلدة في الحوش يتطلَّعون بقلقٍ إلى محاولات الإنزال، ويرى كلٌّ منهم في المشهد عشرات التفاصيل التي تُضحِك وتميت من الضحك، فينجح في كتم بعضها، وفي أغلب الأحوال يفشل. وعلى أضواء خمسة «كلوبات» من كل الماركات قويةٍ مسلَّطة على السلَّم المستعمل كنقَّالة وسُلَّم الهبوط، بحيث تُحيل البقعة إلى ما يشبه المسرح المضاء بشدة، وتحت وَقْع الرذاذ الخفيف الذي بدأ يتساقط مُنذرًا بقرب عُروقِ مطرٍ سخية بدأَت عملية الإنزال، أو بالأصح الارتباك المهول في الإنزال، والأوامر الكثيرة التي يُصدِرها الجميع إلى الجميع، وصرخات الاستغاثة، وآهات الألم حين ينزلق أصبع أو يدوس أحدٌ على قدم أحد، والهرولة تكثُر، والسلَّم المهدَّد الذي حفل بعشرات المتسابقين إلى حمل السلَّم الآخر وإبقائه أفقيًّا، وعشرات الأيدي تمتد لتحفظ الوالدة فوق محفَّتها، والملاءة لم تنزلق فقط عن جزءٍ من جسدها، ولكنها سقطَت تمامًا من فوقها ولاكَتْها الأرجل والأقدام في الطين، بحيث إن الشيخ رابح ذلك الذي كان خوفُه الأكبر أن يرى أحدٌ وجه امرأته، قُدِّر له أن يرى بنفسه الناس — مئات الناس — كل أهل القرية وهم يشاهدون، ليس وجهها المكشوف أو ذراعها أو جزءًا من ساقها، وإنما جسدها كله بكلِّ ما هو ظاهر فيه أو مستتر، وبالجنين يُطل منه، والأضواء قويةٌ مسلطة تتيح للأعمى نفسه أن يرى ما شاء لأي وقتٍ يشاء؛ فالمسرح بلا ستارة، والزوجة بلا غطاء ليس فقط كما ولَدْتها أمها، ولكنها عاريةٌ عُرْي أمها نفسها وهي تلدها، والأعين كلها مُجبرةٌ على تصويب نظراتها لكي يمكن إنزال المرأة وإنقاذها، والغريب أن هذا كله حين وقع لم يكن يحتلُّ من تفكير الشيخ رابح واهتمامه إلا أقل القليل؛ فجزعُه الحقيقي كان خوفًا من أن يموت الجنين، وجزعُه الثاني من أن تموت الوالدة، جزعٌ كاد يذهب بعقله، جزعٌ كان يدفعه لأن يصرخ بأعلى صوته في الرجال طالبًا من هذا أن يمسكها من فخذها حتى لا تسقط، ومن الآخر أن يحتضنها من أعلى حتى لا تتهاوى، ومن ثالث أن يمُد يده بين فخذَيها ليُباعد بينهما حتى لا تُهشِّما الجنين بضغطهما. مرةً واحدة فقط أفاق ورمَق الجمع الحاشد الذي تنصَبُّ نظراته كلها على جسد زوجته، فأحس بالأرض تميد به، ولكنه في الحال طرد الخاطر؛ فمن أعمق أعماق نفسه كانت تتصاعد خواطرُ أكثر قوة وحدة، وأمانٍ كثيرةٌ غير محددة، فهو مستعد والله أن يحدُث ما هو أكثر، بشرط أن تكون النتيجة أن يُنقَذ المولود وتُنقَذ الوالدة.
وبين عشرات الأشياء التي كانت تدفع الرجال ليسقطوا من أطوالهم ضحكًا، وعشرات الأشياء التي كانت تتطلب منهم العزم والقوة والجدية، وعشرات المُربكات والمُثبِّطات والمُشجِّعات، والوحل والمستنقعات والمطر الشديد الذي بدأ يهطل، من خِضَمِّ هذا كله هبطَت الوالدة وكأنما بمعجزةٍ إلى الأرض، وانطلق بها الموكب الجاري الحافل إلى المستشفى، عشرةٌ يتكاتفون في حمل السلَّم يسقط منهم تعبًا وإنهاكًا مَن يسقط، ويتهاوى مَن يتهاوى، ويلعَن في سِرِّه بأعلى صوته الليلة والشيخ والوالدة والمولود من يلعن؛ إذ كانوا وكأنما يحملون جاموسةً سمينة ومعلوفة أصابها «عرق الأنس» وليس امرأة مثل غيرها من النساء.
ولكن الموكب وصل والطبيب جيء به من حيث يقطُن، والعملية أُجريت، وحين صدر عن الولد أوَّل صراخ، بنفسه زغرد الشيخ رابح، وطبَّلوا له ورقص، وارتفعَت من صدرٍ طال عليه الإغلاق قهقهاتٌ عمرها أعوام وأعوام.
وحين عادت الزوجة إلى البلدة لم يكن قد تبقَّى للشيخ «فقر» ما يخفيه عن الناس، وقد رأَوا جميعًا ما رأَوا. ودون حاجةٍ إلى أوامرَ أو إلقاء تعاليمَ أو تهديداتٍ أصبحت الإسكندرانية تمشي في طرقات البلدة وشوارعها بوجهٍ سافرٍ مكشوف، وأصبح الشيخ «فقر» لا يسبقها أو يتخلَّف عنها إنما إلى جوارها تمامًا يمشي. كل ما في الأمر أن أحدًا لم تُواتِه الجرأة يومًا على التطلُّع في وجهها — ليس تعفُّفًا أو تأدبًا وإنما خجلًا — إذ ليتها ظلت مستترة خلف اللثام والطرحة والنقاب؛ فالناظر إليهما معًا كان يُفضِّل دائمًا أن ينظر إلى وجه الشيخ رابح ذي الحُفر القديمة نصف المردومة، واللحية النابتة كالسنط؛ فالنظر إلى وجهٍ كوجهه كان — والله — أرحم.