النقطة
القضبان الحديدية غير شاهقة العلو، كقُبةٍ عالية من الرمل والزلط والأخشاب والحديد. الشريط الحديدي طويلٌ طويل موغل في الطول، ينتهي وراء الأفق إلى رماديةٍ صفراء، لا تلبث أن تدكن وتدكن، بحيث لو أمعنتَ النظر فيها وأصررتَ على المضي في الرؤية لاستحالت إلى سواد. شريطٌ حديدي طويل يدخل المشهد منحنيًا انحناءة قوسٍ عظيم، وكأنه القوس الذي تفتحه لتضع داخله ثلاثة آلاف مليون إنسان، سكان الأرض بحياتهم وهمومهم، وكل ما دار بخلدهم منذ أن كانوا بضع كائناتٍ إلى أن أصبحوا آلاف الملايين، ويخرج الشريط من المشهد أيضًا منحنيًا نفس الانحناءة الخفيفة المهولة ذات الجلال.
غير بعيدٍ شجرةٌ في حالة خريفٍ دائم، أوراقها مُصفرَّة الاخضرار، مُخضرَّة الترابية، معلَّقة بغصنها برباطٍ ما، واهٍ، شجرة كلما هب الريح انتزع منها أكثر من بضع أوراق حتى لتخالها في نهاية اليوم ستقف جرداءَ عارية، ولكنها أبدًا هكذا لا تنقُص أوراقها ولا تزيد، دائمة الخريف مستمرة الاخضرار المصفَر المترَّب، لا ثمر لها ولا زهر، ولا اسم، شجرة، ومساحة، تلك التي تُكوِّن دائرة الأفق تتسع إذا وقفتَ، وإذا صعِدتَ الشريط الحديدي اتسعَت أكثر، وكلما علوتَ اتسعَت حتى لكأن باستطاعتها أن تشمل — لو أمكنك العلو الكافي — الدنيا بأَسْرها.
المشهد صامتٌ ساكن إلا بين كل حين وحين، حين تهب الريح هباتٍ متقطعة غير ملموسة لا تعرف كيف تبدأ، إنما شيئًا فشيئًا تسمع الأوراق وهي تُوشوِش في خفوت، ثم وهي تئز ويستطيل الأزيز. وتتطاير بضع أوراق ومن فوق الأرض يثور بعض الغبار حاملًا معه عيدانًا مُهَرَّأَة من قَشِّ أرزٍ قديم، ثُمَّ يسكن الصوت والحركة إلا من اختلاجةٍ أخيرة لورقة، ثم يئوب كل شيء إلى صمت، صمتٍ غير داكن، ولكنه في نفس الوقت غير مضيء، صمت هو بالتأكيد كالضوء في المشهد إذ الشمس غير موجودة، والنور غير مباشر وقليل، ولكنه مستمر على نفس الدرجة لا يشتد أو يخف ولا حتى تعتريه هزَّات الحركة، إنما هو كالشريط الحديدي الطويل سادر في وجوده وشموله واستمراره، ضوء كضوء عصرٍ ضيِّق مترَّب، يومه التالي يوم القيامة.
وأنا موجود داخل المشهد لا أعرف مكاني على وجه الدقة، ولكني أرى المشهد بزاويةٍ ما، ومهما غيَّرتُ من وقفتي أو اتجاهي، فأظل أرى المشهد من نفس الزاوية.
إني في انتظار القطار القادم مع أن المكان ليس بمحطة، وإحساس طاغٍ كبير أني لا أنتظر القطار لأركبه، إنما فقط أنتظره بالضبط. أنتظر اللحظة التي فجأة — تمامًا لا بد أن تكون فجأة — تظهر رأس القطار من كرة الأفق، سوداء فلتكن ولكن لا بد أن تظهر، تنبثق فجأةً فيدُق قلبي هلعًا أو رعبًا أو فرحًا، وأُوجد وأعيش. أشعر أني لأول مرة آخذ نفَسي، الشهيق، وأني حي، وأني بدأتُ أعي بالوجود. غير مُهمٍّ بعد هذا أن تستحيل النقطة المفاجئة إلى شَرطة، والشرطة إلى خَط، والخط إلى جسَد القطار الطويل تتوجَّه سَحابة الدخان المتعمَّدة المتصلة، غير مُهمٍّ أن يقترب أكثر وأكثر، وأن يُصبح أمامي، غير مُهمٍّ أي شيء، المهم هو ذلك الظهور المفاجئ المروِّع للنقطة.
أنا لا أنتظر؛ فالإنسان لا ينتظر إلا شيئًا يتوقَّعه أو واثق من حدوثه، أو حتى عَلِم، أو أخبره أحدٌ أنه لا محالة واقع. أنا رأيتُ قبلًا قطارًا يمر ولا البقعة محطة ولا أنا مسافر، ولا شيء على الإطلاق، على الإطلاق لا علاقة بيني وبين القطار إلا علاقة أني أرى قضبانًا، وما دام هناك قضبان، فلا بد أن يكون هناك قطار، حتى لو كانت القضبان تلك التي أراها صدئة صدأً سميكًا استحال من طبقة إلى قشرة، ولكن رغم كل الصدأ فمن المؤكد أن قطارًا، بل لا بد قطارات مرَّت فوقها، لا بد قطارات مرَّت من هنا، وإلا فيم القضبان؟ أتكون خطًّا فرعيًّا أقامَتْه السكة الحديد ونسِيَت أمره؟ أتكون خطًّا حديديًّا أقامه الحلفاء في أثناء الحرب وضاع من الخريطة؟ فلتكن أي شيء، فالمشهد مستمر، وأنا موجود داخله. أرى مهمَّاتٍ سرت أو غيَّرَت موضعي بزاوية، والنور غير مباشر وداكن، والشريط طويلٌ محني بجلال، طويل، والشجرة قائمةٌ خريفية كأنها نبتَت من بذرة خريف، وبين كل حين وحين وبلا بداية أو نهايةٍ محسوسة تهُبُّ قبضة الهواء، فتُحرِّك الورق في الشجر، وقَش الأرز المترَّب في الأرض، ثم الاختلاجة الأخيرة لورقة شجرة أو عُود قَش، ثم الصمت المستمر الساكن.
المشهد مستمر، والأشياء فيه تتعاقب باستمرار، وحتى كَم الحزن الموضوع بطريقةٍ ما في صدري لا يتغير هو الآخر حجمه، ولا تشتد أو تخفُت وطأته. حزنٌ لا بد جاء من المشهد إذ تُحس لا بُد أنه مشهد نهايةٍ ما، نهاية العالم، نهاية الحياة على الأرض، نهاية الفرح أو الأمل، ربما حتى نهاية الأحزان، ولكنه بالتأكيد نهاية، نهايةٌ حقيقية كنهايات العلم حيث لا نهاية، إنما النهاية خيطٌ متصل من الشيء ذاته، من السكون ذاته، من الشريط ذاته، من الضوء ذاته، من الخريف المُشجَّر ذاته، من هبَّات الهواء ذاتها، من الترقُّب ذاته.
المشهد دائم ومستمر، وإحساسي به دائم ومستمر، وحزن النهاية — ولو كانت نهاية الحزن — دائم ومستمر. لا أذكُر كيف بدأ ولا أين أو متى؟ وجدتُ فيه لكأني وعَيتُ أو حتى وُلدتُ داخله، وسأظل فيه إلى أن تنتهي حياته. كل شيءٍ فيه هو هو لا يتغير أبدًا، لا يزيد، لا ينقص، لا ينتهي، لا يبدأ، بل حتى تلك النبضة المتباعدة التي بين النبضة فيها والنبضة التالية مسافةٌ أو زمنٌ كأنه ألفُ عام، حتى لو كانت تتمُّ في ثانية فهي ثانيةٌ طولها ألف عام، نبضةٌ ضعيفة واهنة كالاختلاجة الأولى لجنين القلب داخل قلب الجنين حين دق لأول مرة، خافتةٌ واهنة تدق على استحياءٍ شديدٍ وبغربةٍ زائدة. دقٌّ مذعور يكاد الذعر يُسكِت نبضه ودق قلبه. نبضة خاطر؛ إذ فجأةً تنبثق النقطة بادئةً هناك من لا نهاية الشريط، فجأة أُحدِّق وأجدها، وغير مُهمٍّ أبدًا ما يحدث بعد هذا أو يكون.
المشهد والإحساس والحزن، وحتى النبضة مستمرة الحدوث، وأنا فيما عدا هذا غير حزين أو خجلان أو نائم أو مستيقظ. أنا أنا، هكذا أيضًا، باستمرارٍ طويل لا ملل فيه ولا تبرُّم ولا تغيُّر مطلقًا في الزمان أو المكان أو درجة الوعي. كل ما في الأمر أني لديَّ كل نبضة خاطر، قبلها بقليل وكأنما قبل الحدث الكوني الهائل، وأثناءها، وبعدها أُحس بقلبي أنا، قلبي الحقيقي يدق في انفعالٍ حي، انفعالٍ خافت مبهور، ولكنه حقيقي وملموس. بالضبط قبل وأثناء وبعد الخاطر يكاد جسدي كله يرتعش، وتكاد صرخة تنطلق مني هاتفة: أنا حي. وكأنها اكتشاف، ومع أنها هي الأخرى مستمرة ودائمة ولا تتغير، إلا أن فرحتي بها لم تَفقِد أبدًا، حتى لو كان المشهد قد بدا مع بداية الخليقة، واستمر إلى نهايتها لم تَفقِد أبدًا طعمَها، بل هي لحظتها فقط، تلك اللحظة المتباعدة التي كان بينها وبين التالية أو اللاحقة لها ألف عام، لحظتها فقط، هي كل ما يربطني بالحياة.
أجل! أُحدِّق فجأةً فألمح، هكذا بمعجزة، النقطة.
وغير مهمٍّ بعد هذا أن تصبح النقطة شرطة، والشرطة خطًّا طويلًا لا نهاية لطوله.
أبدًا غير مُهِم.