المقدمة
وأقدم التواريخ المدونة أسفار موسى الخمسة وأسفار يشوع وصموئيل، فإنها دُوِّنت فيما يظهر حوالي السنة ٩٠٠ قبل الميلاد، وأوَّل مَن حاول نقد الروايات التاريخية هكتايوس الملطي اليوناني. فإنه كتب في القرن السادس قبل الميلاد في أصل الشعب اليوناني وفي تجوالاته الأولى، وقال: «ولست أُثبت هنا إلَّا الحكاية التي أعتقد صحتها. فإن أساطير اليونان كثيرة، وهي عندي حديث خرافة.» وجاء بعده عدد من أبناء جنسه يؤرِّخون، فينظرون إلى الأشياء على حقيقتها ويبتعدون عن الخرافات والأساطير، شأنهم في كل عمل فكري قاموا به، ولكن أحدًا منهم فيما نعلم لم يحاول أن يجعل من هذا النظر إلى الروايات التاريخية على حقيقتها «علمًا بأصول».
وأول من نظَّم نقد الروايات التاريخية ووضع القواعد لذلك علماء الدين الإسلامي، فإنهم اضطروا اضطرارًا إلى الاعتناء بأقوال النبي وأفعاله لفهم القرآن وتوزيع العدل. فقالوا: «إن هو إلَّا وحي يوحى، ما تلي منه فهو القرآن وما لم يُتلَ فهو السنة.» فانبروا لجمع الأحاديث ودرسها وتدقيقها، فأتحفوا علم التاريخ بقواعد لا تزال، في أسسها وجوهرها، محترمة في الأوساط العلمية حتى يومنا هذا، وهو ما سيتاح لنا الاطلاع عليه في تضاعيف هذا الكتاب في حينه.
وجاء عبد الرحمن بن خلدون في القرن الرابع عشر (١٣٣٢–١٤٠٦) فكتب في مقدمته في «طبائع العمران» وجعل من هذه الطبائع محكًّا علميًّا لنقد الأخبار التاريخية وتمحيصها، فسجل بذلك فوزًا كبيرًا، ونحن وإن خالفناه في صحة هذه الطبائع وفي وجوب تطبيقها على حوادث الماضي، لا يسعنا إلَّا أن نعترف بفضله وبتفوقه على سائر من كتب في التأريخ قبله، وسنعرض على القارئ شيئًا من هذا في حينه في فصل لاحق من فصول هذا الكتاب. وعاصر ابن خلدون فلافيوس بلوندوس الإيطالي (١٣٨٨–١٤٦٣) الذي كتب في تاريخ روما، وحكَّم عقله وطبَّق منطقه الفطري، فقذف بأساطير زملائه السابقين إلى حيث يطرح سقط المَتَاع. فكان خير زميل لجاره التونسي الكبير.
وأدَّت الاكتشافات الجغرافية واليقظات العلمية الفنية والمنازعات الدينية، والمطامع السياسية والوثبات الفلسفية في القرون الحديثة في أوروبا إلى الرجوع إلى الماضي، وتقليب صفحاته والاهتمام بأخباره اهتمامًا شديدًا، ولكن رائد المؤرخ الأوروبي في القرن الخامس عشر حتى الثامن عشر، بقي طوال هذه العصور مجرد استغلال الماضي لصوالح سياسية أو دينية، ولم يدرس لذاته؛ أي للوصول إلى الحقيقة المجردة.
وأول مَن نادى بنقل التاريخ من ميادين الخصام والنزاع والحرب إلى مجالس الدرس والتدقيق، العالم الإيطالي جيوفني فيكو (١٦٦٨–١٧٤٤) فإنه درس أفلاطون وغروتيوس، فدفعه الأول إلى درس بعض كُبريات مسائل التاريخ والفلسفة، وبعثه الآخر على درس فلسفة القانون، وفي السنة ١٧٢٥ أصدر كتابه «أصول علم جديد» اعتبر به التاريخ فرعًا من علم المجتمع الإنساني، وذهب إلى أن البحث التاريخي الحقيقي يقوم على أصول منطقية دقيقة، وقال بمبدأ التطور، وسكت عن تدبير الخالق، ونوَّه منتسكيو نفسه بتجرُّد هادئ تطور الحكم في فرنسا وإنكلترا، ووازن بين الاثنين، وجاء فولتير (١٦٩٤–١٧٧٨) بنقده اللاذع، فنفذ إلى صميم عناصر القوة والضعف في فرنسا، وحاول وضع تاريخ حرٍّ للثقافة، ولكن الاثنين أسرعا إلى الكتابة قبل إكمال نقد المصادر واستيعابها.
وانتظمت الممالك في أوروبا في القرن السادس عشر، وقامت عصبية وطنية جديدة ونشأ شعور قومي حديث، فقام علماء مؤرخون في دول الغرب، يعنون بجمع المصادر بدافع الاعتزاز بالماضي، وأهم مجموعة من هذه المجموعات التاريخية الوطنية، مجلدات تواريخ العصور الوسطى التي بدأ بنشرها الرهبان البندكتيون من جماعة القديس مور، وذلك في منتصف القرن السابع عشر، والواقع الذي لا مفر منه هو أن رسالة جان مابيون في الديبلوماسيات (١٦٨١) هي فاتحة البحث العلمي الحديث للمخطوطات، وظهر في القرن الثامن عشر سلاسل أخرى من نوع هذه منها مجلدات موراتوري الخمسة والعشرون من كتاب الشئون الإيطالية (١٧٢٣–١٧٥٠) ومجموعة توما هيرن الإنكليزي للتواريخ الإنكليزية القديمة. فتيسر لمؤرخي القرن التاسع عشر ما لم يتيسر لغيرهم من سهولة الرجوع إلى المراجع، وإنعام النظر فيها ومقابلتها ومقارنتها مما لا بد منه للوصول إلى الحقيقة.
وفي السنة ١٧٩٥ أصدر العلامة وولف الألماني مقدمته الشهيرة لمجموعة هوميروس الشعرية، فأحدثت ضجة في الأوساط اللغوية الأدبية التاريخية، في ألمانيا وخارجها؛ لأن وولف ذهب فيها إلى أن الإلياذة والأوذيسية لم يكتبهما هوميروس ولا غيره بهذا الاسم، بل جماعة من الشعراء في فترات متباعدة من الزمن، ودفعت هذه الضجة التي أحدثتها مقدمة وولف بتلميذه أوغست بوخ، أن ينقد المصادر التاريخية اليونانية، في موضوع الاقتصاد السياسي في أثينا (١٨١٧)، وقام برتولد نيبور الألماني (١٧٧٦–١٨٣١) وهو ابن الرَّحالة كارستن نيبور؛ صاحب المجلدات الثلاثة في وصف الجزيرة العربية. نقول قام برتولد نيبور يغربل المراجع الرومانيا بغربال وولف، فوضع كتابه تاريخ الرومان، ونهج به نهجًا علميًّا جديدًا، فلم يبق من أقاصيص الرومان وأساطيرهم سوى راسب يسير من الحقيقة «فأحيا التاريخ الروماني وبوَّأه مكانة علم مستقل.»
وآمن بالنقد الجديد رهط من علماء الألمان في القرن التاسع عشر، جعلوا من ألمانيا معلمة أساتذة للعالم بأسره في فن التاريخ الحديث، وزعيم هؤلاء، دون منازع، هو ليوبولد فون رانكي (١٧٩٥–١٨٨٦) الذي ولد في فيهي وتوفي في برلين، وقد كان مثال النزاهة والعدالة، رائده الحقيقة العارية، دون أي التواء، ودأب كثيرًا، وطرق مواضيع شتى، فصنَّف في تاريخ إيطاليا وتركيا والصرب وإنكلترا وفرنسا والكنيسة، وفي الثمانين من العمر بدأ تاريخه العام، فأتمَّ منه سبعة مجلدات، وعندما تُوفي في الحادية والتسعين من العمر، هبَّ جماعة من تلاميذه الأوفياء، فأكملوا هذا التاريخ، وتسلَّم شعلة نيبور ألماني آخر تيودور مومسن (١٨١٧–١٩٠٣) فوضع تاريخًا عامًّا لروما، وآخر لولاياتها، لا يزالان مرجعين هامَّين لكل من يعني بالتاريخ الكلاسيكي، حتى يومنا هذا.
وساهم المؤرِّخون الإفرنسيون مساهمة قيمة في نقد المراجع الأولية بعملهم العظيم، في مدرسة الوثائق التاريخية التي أسَّسوها في السنة ١٨٢١، فعنوا عناية فائقة بنقد وثائق العصور الوسطى، ووضعوا القواعد الأساسية لعدد من العلوم الموصلة لعلم التاريخ، كعلم الديبلوماسية، وعلم السفر أجيستيك وفن الباليوغرافية، وغير ذلك مما لا بد لمؤرخ العصور الوسطى من التذرع به، لفهم مراجعه الأولية، ونقدها نقدًا علميًّا ثابتًا، ومن أشهر تلامذة هذه المدرسة بنيامين غيوار وغبريال مونو، وفوستيل ده كولانج.
وسَرَت عدوى هذا التدقيق في المراجع من ألمانيا وفرنسا إلى بريطانيا، فقام سر فرنسيس بالغرايف (١٧٨٨–١٨٦١) وجون ميتشل كامبل (١٨٠٧–١٨٥٧) يعنيان بتاريخ الجُزُر البريطانية، في العهدين السكسوني والنورماندي، بالدقة المطلوبة، ففتحا بذلك عصرًا جديدًا في التاريخ، في الجزر البريطانية، وفي منتصف القرن التاسع عشر أمَّ مدارس ألمانيا، عدد من الطلاب الأميريكيين، يدرسون التاريخ بالأسلوب الجديد، وأشهر هؤلاء قدمًا هنري أدمز الذي درس في جامعة هيدلبوغ، ودرَّس في جامعة جونس هوبكنز، وجون برجس الذي عاد من ألمانيا، فأسس في جامعة كولومبية مدرسة العلوم السياسية، على طراز ما شاهد في برلين.
وعلى الرغم من العناية بالمصادر وجمعها ونشرها ونمو الرُّوح البريء من الهوى، وتقدم الطريقة العلمية في البحث، وازدياد احترامها في جميع الأوساط في أوروبا الغربية وفي الولايات المتحدة، ظلَّ البعض من رجال التاريخ والفلسفة يندفع بالعاطفة، فيضل ويضلل، ولا يزال رجال الفلسفة، حتى يومنا هذا يتذرعون بالتاريخ لتأييد نظرياتهم دون تبصر، فيما يقرءون أو تروٍ في الاستنتاج، وما أكثر الفلاسفة الذين يجهلون التاريخ، ولا يكلِّفون أنفسهم مشقة الاستشارة، فيجعلون التاريخ ينطق بما ليس فيه!
ولمس بعض أساتذة التاريخ هذا الضعف، وهالهم أمر هذا الشطط، فنبهوا إليه وردعوا عنه، وبين هؤلاء غبريال مونو، فإنه ما فتئ منذ السنة ١٨٧٦ عندما ظهر العدد الأول من مجلته التاريخية الإفرنسية؛ نقول ما فتئ يردع عن التعميم قبل الإحاطة، ويُنذر بالخطر الذي ينجم عن تقبُّل مذهب معين من مذاهب الفلسفة، وكتابة التاريخ على ضوئه، قبل التثبت من الحقائق التاريخية تثبتًا مستقلًّا عن كل رأي فلسفي، وذلك حتى وفاته في السنة ١٩١٢، وقال غيره من المؤرخين الأساتذة، بوجوب تربية المؤرخين المبتدئين الصغار تربية علمية واقعية تتفق في جوها وأسلوبها وتربية طلاب العلوم الطبيعية، وأشهر من أقدَم على هذا العمل الشاق وأعرقهم شرفًا العلَّامة الألماني الأستاذ الدكتور أرنست برنهايهم. فإنه أعدَّ في الثمانين من القرن الماضي، مؤلفًا خاصًّا لهذه الغاية، أبان فيه الخطوات الصائبة التي يجب على المؤرخ أن يخطوها، والعقبات التي تعترضه، وكيفية تذليلها، والمهالك التي قد يقع فيها، وكيفية تحاشيها، وأردف كلامه فيها كلها بالأمثلة الدقيقة المُفَصَّلة. ثم نشر هذا المؤلف الأول مرة في السنة ١٨٨٩ وأعاد طبعه مرارًا، وهو لا يزال حتى يومنا هذا أكمل ما صُنِّف من نوعه، وانبرى بعده المؤرخان الإفرنسيان الكبيران شارل سينيوبوس وشارل لانغلوا، فأصدرا في السنة ١٨٩٨ مقدمتهما في الأبحاث التاريخية، فجاءت مختصرًا دقيقًا مفيدًا. أما علماء الإنكليز، فإنهم آثروا ولا يزالون التعليم بالأمثلة دون اللجوء إلى كتاب خاص بالقواعد.
ولست أذكر تمامًا متى بدأ عهدي بهذا العلم؛ ولكني أذكر تمامًا أني لما عدت من جامعة شيكاغو سنة ١٩٢٣، وباشرت عملي في جامعة بيروت توليت تدريس علم المثودولوجية فيها، وأول ما عملته أني أخذت أجمع أهم المؤلفات التي تدور حوله. فتوفر لدي عدد منها في اللغات الأجنبية، ولكني لم أعثر على شيء في العربية، فصمَّمت آنئذٍ أن أتلافى هذا الفراغ، وأكتب شيئًا في هذا الموضوع.
ورأيت أن أتريث في الأمر، فأبدأ بتدريس الموضوع بلغة أجنبية، ريثما تتوفر لديَّ الأمثلة التاريخية المحلية والاصطلاحات الفنية العربية. فاضطررت أن أرجع إلى مصطلح الحديث لسببين: أولهما: الاستعانة باصطلاحات المُحدِّثين، والثاني: ربط ما أضعه لأول مرة في اللغة العربية بما سبق تأليفه في عصور الأئمة المحدِّثين.
فأكببت على مطالعة كتب المصطلح، وجمعت أكثرها، وكنت كلَّما ازددت اطلاعًا عليها، ازداد ولعي بها وإعجابي بواضعيها، ولا أزال أذكر حادثًا وقع لي عام ١٩٣٦ في دمشق، يوم احتفلت الحكومة السورية بمرور ألف عام على وفاة المتنبي. فإني كنت من جملة الوافدين إلى عاصمة الأمويين والمحتفلين بذكرى شاعر العرب، وأقمت فيها مدة من الزمن، أقلب في أثنائها مخطوطات المكتبة الظاهرية، وما إن بدأت بالعمل حتى أيقنت أني أمام أعظم مجموعة لكتب الحديث النبوي في العالم. ففي خزائن هذه المكتبة، عدد لا يُستهان به من أمهات المخطوطات في هذا العلم، وقسم منها يحمل خطوط أعاظم رجال الحديث، ومن أهم ما وجدت فيها، نسخة قديمة من رسالة القاضي عياض في علم المصطلح، كتبها ابن أخيه سنة ٥٩٥ للهجرة، وكنت قد قرأت شيئًا عنها في بعض رسائل المصطلح. فاستنسختها بالفوتوستات وبدأت في درسها وتفهُّم معانيها. فإذا هي من أنفس ما صُنِّف في موضوعها، وقد سما بهذا القاضي عياض إلى أعلى درجات العلم، والتدقيق في عصره، والواقع أنه ليس بإمكان أكابر رجال التاريخ اليوم، أن يكتبوا أحسن منها في بعض نواحيها، وذلك على الرغم من مرور سبعة قرون عليها. فإن ما جاء فيها من مظاهر الدقة في التفكير والاستنتاج، تحت عنوان «تحرِّي الرواية والمجيء باللفظ» يُضاهي ما ورد في الموضوع نفسه في كتب الفرنجة في أوروبا وأمريكا، وقد اقتطفنا من كلام القاضي عياض في هذا الموضوع شيئًا كثيرًا أوردناه في باب تحرِّي النص والمجيء باللفظ في كتابنا هذا.
والواقع أن المثودولوجية الغربية التي تظهر اليوم لأول مرة بثوب عربي، ليست غريبة عن علم مصطلح الحديث، بل تمت إليه بصلة قوية. فالتاريخ دراية أولًا ثم رواية، كما أنَّ الحديث دراية ورواية، وبعض القواعد التي وضعها الأئمة منذ قرون عديدة للتوصل إلى الحقيقة في الحديث، تتفق في جوهرها، وبعض الأنظمة التي أقرَّها علماء أوروبا فيما بعد، في بناء علم المثودولوجية، ولو أن مؤرخي أوروبا في العصور الحديثة اطلعوا على مصنفات الأئمة المحدِّثين، لما تأخروا في تأسيس علم المثودولوجية، حتى أواخر القرن الماضي.
وبإمكاننا أن نُصارح زملاءنا في الغرب فنؤكد لهم بأن ما يفاخرون به، من هذا القبيل، نشأ وترعرع في بلادنا، ونحن أحق الناس بتعليمه، والعمل بأسسه وقواعده.
وها أنا الآن أضع بين يدي القارئ رسالتين في مصطلح التاريخ، متوخيًا خدمة لغتي وبلادي، ومحاولًا أن أفتح بابًا جديدًا لطلاب التاريخ العربي، ينفذون منه إلى مجاهله، ويتوصلون به إلى فهم الروح العلمية الحديثة التي تتجلَّى في مؤلفات علماء الغرب اليوم. فكأي من قضية في تاريخنا، لا يزال مؤرخونا يخبطون في حلها، خبط عشواء، وكأي من ناحية في حياة القدماء، في العصور السالفة يجهلونها تمام الجهل، وحسبنا أن نذكرَ أنَّ أكثر مؤرخينا اليوم يزعمون أن كتابة التاريخ لا تتعدى نقل الرواية والإلمام بقواعد اللغة. ففي عرفهم أنك إذا أجدت الإنشاء وفهمت بعض النص، فقد هيئت لك العدة لكتابة التاريخ، ولقد فات هؤلاء أن التاريخ هو علم أيضًا، يعوزه ما يعوز سائر العلوم الأخرى من طب وهندسة وفقه وغيرها، وأنه لا بد لصاحبه من أن ينشأ نشأة علمية خالصة يتربى فيها على الشروط الفنية التي يقتضيها كل علم، مما أوردنا في تضاعيف هذا الكتاب، ولعلي أول مَن حاول أن يربط ما توصل إليه علماؤنا في الحديث بما وضعه علماء الغرب اليوم، في هذا الحقل من العمل.
عن الشوبر لبنان في ١٢ أيلول سنة ١٩٣٩
عن رأس بيروت في ٢ نيسان سنة ١٩٥٥