التقميش
إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها. هذه قاعدة عامة لا موضع للجدال فيها، وذلك أن التاريخ لا يقوم إلَّا على الآثار التي خلَّفتها عقول السلف أو أيديهم. فإذا سطت محنُ الدهر، أو عوادي الزمن، على بعض هذه الآثار، وأزالت معالمها، فقدها التاريخ، وكانت كأنها لم توجد، وبفقدها يجهل التاريخ عصرها ورجالها. أما إذا بقيت، وحُفِظت، فقد حُفِظ التاريخ فيها. لهذا يرى المؤرخون لزامًا في أعناقهم، قبل كل شيء، أن يتفرغوا للبحث والتفتيش، عن شتى الآثار التي تخلَّفت عن السلف، والتي اصطلحنا أن نسميها أصولًا.
والأصول لدى المؤرخ، هي جميع الآثار التي تخلَّفت عن السلف، فالرسائل الواردة إلى مجلس محمد علي باشا، والصادرة عنه هي أصول لتاريخ هذه الحقبة من تاريخ العرب، ومجموعة المدافع والأسلحة التي ترجع إلى عهده والتي لا تزال محفوظة في وزارة الحربية في مصر وفي سراي عابدي الملكية، هي أيضًا أصول، بعرف المؤرخ واصطلاحه، وكذلك جامعه الشهير القائم اليوم على هضبة المقطم، والذي يطلُّ ويشرف على مدينة القاهرة، وقل الأمر نفسه على عظامه المحفوظة في مثواه في داخل هذا الجامع العظيم، وعن بقايا ألبسته وأدواته الشخصية التي لا تزال محفوظة، لدى أحفاده في سراي عابدين الملكية، وسائر قصورهم. وما يصحُّ من هذا القبيل على الآثار الشخصية المتخلَّفة عنه، يصح أيضًا على آراء غيره من المعاصرين وآثارهم؛ فتاريخ الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الذي عاش في القاهرة وعاصر عزيز مصر هو أيضًا أصل من الأصول، وكذلك كتاب الدكتور كلوت بك الذي استُخدِم في حكومة الباشا والذي أسَّس كلية الطب في القصر العيني، وكتاب الدكتور مخايل مشاقة الدمشقي الذي درس الطب في القصر العيني، والذي التحق بخدمة الأمير بشير الثاني، وغيره من الأمراء الشهابيين الذين عاصروا عزيز مصر، ودخلوا تحت حكمه ردحًا من الزمن، كل هذه في عرف المؤرخين ضروب من أصول، وهلمَّ جرًّا.
فإذا صحَّت القاعدة العامة — وهي صحيحة دون جدال — في أنه إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ، أقول إذا صحَّت هذه القاعدة لزم على المؤرخ أن يبدأ عمله دائمًا بجمع الأصول، وهي لعمري حقيقة أساسية لازمة، عرفها علماء الحديث قرونًا عديدة، وعملوا بها قبل أن يُدرِك فائدتها، وينوه بصحتها، ويحبذ العمل بها المؤرخون الحديثون، إنْ في أوروبا أو في غيرها من مراكز العلم الحديث.
والآن وقد ثبت لدينا وجوب التقميش، ننتقل إلى النظر في كميته فنتساءل: أيجب أن نجمع كل الأصول أم نكتفي ببعضها؟ وبطبيعة الحال، يصبح هذا البعض ما يسهل علينا الوصول إليه — ما قد نجده مثلًا في البلدة التي نقيم فيها أو في أقرب المكاتب إلينا — نتساءل فنجيب: إذا كانت غاية المؤرخ الوصول إلى الحقيقة؛ فالحقيقة هي كل الحقيقة، لا بعضها، وهي وحدة تامة لا تتجزَّأ.
ومما لا بد من الإشارة إليه، قبل اختتام هذا الفصل، مساس الحاجة في العالم العربي اليوم إلى المشتغلين في التقميش في شتى العلوم العربية، ولا يختلف اثنان، فيما نعلم، في أن علماء العرب اليوم يعيشون في القرن العشرين، وإنهم مع احترامهم لما أنتجه السلف الصالح، ومفاخرتهم به، ينوون النهوض بثقافتهم وتراثهم القومي، إلى مستوى الأمم الرقية كي يتمكنوا من خدمة العلوم التي يشتغلون بها، ومن السير مع زملائهم الغربيين في مضمار التقدم والعمران. فالعلوم العربية اليوم في بدء نهضة مباركة، وعلماءُ العرب في بدء عمل عظيم. فليس أفيد والحالة هذه من الاشتغال في التقميش إن في اللغة أو في التاريخ أو في الفلسفة أو في الفنون العربية.
والمجال واسع من هذا القبيل. فإنه بإمكان البعض أن يتعاضدوا في تأسيس أو تشجيع المكتبات العمومية، وفي مقدور البعض الآخر أن يعنوا في التفتيش عن المخطوطات العربية في جميع المواضيع، ومن المستحب أن يقوم البعض في نشر مجلة أو مجلات ببليوغرافية، أو في نشر فهارس بعض المكتبات العمومية والخصوصية.
وقد قلنا، منذ عشرين سنة، عندما بدأنا بنشر الأصول العربية لتاريخ سوريا في عهد محمد علي باشا — قلنا، ولا نزال نقول: إن مؤرخي العصر الحاضر، وإن حسبناهم على مستوى واحد مع رصفائهم في العصور السالفة، فهم يفوقونهم، بما توافر لديهم من المصادر والمراجع الأولية، التي لم يتسنَّ لأولئك الأسلاف الوقوف عليها.