العلوم الموصلة
لا بدَّ للمؤرخ العصري المدقق، من ولوج باب آخر، كي يتمكن من الوصول إلى الحقيقة. عليه أن يقلِّب ما قمش وينعم النظر فيه؛ ليرى إذا كان بإمكانه أن يدرك كنهه فيستعمله في تشييد ما يبني من صروح التأريخ، وإذا فعل سرعان ما يشعر بحاجته إلى ما نريد أن نسميه بالعربية العلوم الموصلة، والاستعارة في هذه التسمية من علم التفسير؛ فقد أجمع المفسرون على وجوب التمكن من العلوم الموصلة إلى علم التفسير قبل الشروع في فهم القرآن الكريم، وبيان معانيه، واستخراج حكمه وأحكامه، والعلوم الموصلة في عرف المفسرين إلى علم التفسير هي علم اللغة، وعلم النحو، وعلم التصريف، وعلم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع، وعلم القراءات، وأسباب النزول، وأحكام الناسخ والمنسوخ، وأخبار أهل الكتاب، وعلم أصول الفقه، وعلم الجدل.
وقد وجدنا باختبارنا عندما خطونا خطوة التقميش في تاريخ العرب في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أن الأصول لهذه الحقبة من تاريخنا ترد في العربية والتركية والإفرنسية والإنكليزية والألمانية والإيطالية والبولونية والروسية، وأهمها اللغات الخمس الأولى. فأسرعنا إلى التقاط ما ينقصنا منها، وكم كنا نود لو كان بإمكاننا أن نتعلم الباقي منها كي لا تكون استنتاجاتنا موقوفة على مقدرة المترجمين من هذه اللغات.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ فإنه ليس لنا ما لبعض زملائنا في توريخ بعض الأزمنة مجموعات من التعريفات الفنية، ونحن، وإن كنا لا نُنكر فائدة قاموس محيط المحيط للعلَّامة بطرس البستاني، فإننا لا نرى فيه جميع ما نطلبه من اللهجات العامية المحكية في عصره، وأما معجم المستشرق الهولاندي رينهاردت دوزي، فإن مُعظمه مبني على آداب العربية في القرون الوسطى؛ ولذلك فإن فائدته ضيقة النطاق محدودة الجدوى لمن يُعنى مثلنا في تاريخ العرب في القرن التاسع عشر.
ولدى إعادة النظر في بعض ما عثرنا عليه من الأصول المشار إليها، ألفينا رسائل رسمية متبادلة بين حكام ذلك العصر، توخى كاتبها نوعًا خاصًّا من الخط العربي هو الديواني المعلق، ولا يخفى أن قراءة الخطوط العربية العادية لا تكفي للتيقن من قراءة الخط الديواني المعلق. فأخذنا عندئذٍ ندرس قواعد هذا الخط للتثبت من قراءة الأصول المكتوبة به، وقل الأمر نفسه عن الأختام المستعملة في هذه الرسائل. فلا بد لنا من معرفة المواد التي كانت تصنع منها هذه الأختام، وكيفية بصمها، مثلًا، وعدد الأشخاص الموكلين بها، وغير ذلك من الأمور التي تقع اليوم في أوروبا، تحت علم «السفراجستيك».
وما إلى ذلك من قواعد منظمة متبعة كل الأتباع على ما يظهر.
وقد وجدنا بالاختبار أنه لا بدَّ لنا في تحرِّي الحقيقة التاريخية، من معرفة أنواع الحبر وألوانه، وأشكال الورق — من حيث الطول والعرض واللون والسماكة — وشركات إصداره إلى الأقطار العربية، وتمغاتها الشفافة عليه، وأصناف الأقلام وظروف استعمالها، في مختلف الدوائر والدواوين، ولا يخفى ما في درس هذه الأمور جميعها من الأهمية، لفهم محتويات المخابرات الرسمية وإيجاد تواريخها، وتثبيت أصالتها وعدم تزويرها، لا بدَّ إذًا من تعلُّم اللغات التي ترد فيها الأصول، ومن الاستعانة بمثل ما تقدَّم ذكره، من العلوم والفنون، وهل ننسى القرآن والتفسير والحديث ووجوب التضلع في هذه العلوم لمن يُعنى بتاريخ العرب؟
وهنالك طائفة أخرى، من العلوم الموصلة، لا مفرَّ من الوقوف عليها، والاسترشاد بنظرياتها ونواميسها، كي نستعين بالماضي، على فهم الحاضر، وتدارك المستقبل. لا بدَّ للمؤرخ العصري، من التبحُّر في العلوم الاجتماعية والفلسفية، إذا ما أراد أن ينظر إلى باطن المجتمع الماضي، ليتوصل إلى العوامل الأساسية، التي أثرت في عقول السلف، ودفعتهم لإحداث ما حدَث من وقائعهم، إن في الحرب أو في السلم، وقد أظهر علماء الاجتماع، كلٌّ في دائرة اختصاصه، أن كل حادث مضى، إنما هو مظهرٌ لقوًى شتى؛ اجتماعية واقتصادية وسياسية ونفسية وغير ذلك، تضافرت في إبرازه إلى حيز الوجود؛ ولذا كان محتمًا على المؤرخ المدقِّق، إذا ما أراد فهم حقيقة الماضي، أن يحيط علمًا بهذه القوى، وأن يطَّلع على نتائج أبحاث العلماء، في جميع العلوم الاجتماعية.
وهل يختلف اثنان، في أنه يجب على مؤرخ العلوم الرياضية، أن يكون مؤرخًا ورياضيًّا من الطبقة الأولى، وهل بإمكان من يجهل العلوم الرياضية من المؤرخين، أن يبت في تفوق علماء اليونان على علماء الشرق القديم، في مضمار علمي الهندسة والفلسفة الطبيعية؟ أو أن يحكم فيما إذا كان علم الجبر وعلم المثلثات من ابتكارات العرب أو لا؟ أو أن يقدر جهود لابلاس ونويتن ومونج حق قدرها؟ أو ليس من المضحك أن يتصدَّى للحكم على ابتكارات أينشتاين من لا يفقه شيئًا من الرياضيات العالية؟ وقل الأمر نفسه عن تاريخ العلوم الطبيعية والطب وغير ذلك.