تنظيمُ العمل
يجدر بالمؤرخ المدقق بعد ولوج هذه الأبواب الثلاثة؛ أي بعد أن يكون قد جمع الأصول، ونقدها، وتمكن من العلوم الموصلة إلى فهمها، أن ينسق ما جمع من الأصول ويتبع خطة عملية رشيدة في استخلاص المعلومات منها، وقد أدرك المنفعة من مثل هذا العمل خاصَّةُ الناس وعامتهم، وأجمعوا عليه في حياتهم الشخصية. فقالوا بوجوب ترتيب الثياب في الخزائن والجوارير، ووضع أواني المطبخ في محلات معينة لها، وذلك لتسهيل الوصول إليها وعدم ضياع الوقت في التفتيش عنها.
وعلى الرغم من هذه لا نزال نرى بعض علمائنا يقضون السنين الطوال في البحث والتنقيب وجمع المعلومات، وعندما تضطرهم الظروف للرجوع إليها، يستغلق الأمر عليهم ويعسر الوصول إلى ما يريدون مما جمعوا، إلَّا بعد العناء الطويل، ونحن نعرف صديقًا لنا قضى عمره في درس تاريخ لبنان الحديث، فوقف على جلائله ودقائقه، وأصبح أعرف الناس به، ولكنه قليل الترتيب في تدوين ما يعلم. فإنك لو طلبت إليه أن يطلعك على مرجع من المراجع التي أخذ عنها وذهبت معه إلى بيته، ودخلت مكتبته، لو فعلت هذا لرأيته يطلب دفترًا قديمًا هنا، وهامشًا هناك، وقصائص أوراق دوَّن في الواحدة منها معلومات شتى بخط سقيم ممجمج، وقد تبقى في غرفته ساعتين أو أكثر، ثم يقول لك سأبحث عن هذا في جوٍّ رائق وأوافيك بالجواب، وقد يجد ما يطلب أو لا يجد، ولست أدري من هذا الذي قال إن مثل هذا مثل قوم قضوا حياتهم كلها في تشييد بناء يحملون حجارته على أكتافهم دون أن يفقهوا أين يضعونها، حتى إذا بلغوا المرحلة الأخيرة في حياتهم نظرت إليهم وإلى ما يفعلون، فلا تسمع سوى ضجة تصم الآذان، ولا ترى سوى سحب من الغبار عقدت سرادقات فوق رءوسهم تُعمي الأبصار.
ومثل هذا التنسيق أو الترتيب على تواضع ظاهره، يعد في عرف المؤرخين المدققين، دعامة كبرى في بناء التاريخ، وبفضله وحده يتميز نفر من المؤرخين على سواهم. فيوفرون على أنفسهم أتعابًا جمَّة، ويصلون من أهدافهم إلى ما لا يصل إليه غيرهم.
وإذا كان لا بدَّ من تنظيم العمل فكيف يكون ذلك؟ وماذا يفعل المؤرخ فورَ انتهائه من نقد الأصول؟ على المؤرخ أن يعترف بادئ بدءٍ أنه ليس بإمكانه أن يعتمد على ذاكرته في العمل، وأن يسلم بوجوب القيد، وهو أمر لا يرتاب فيه عاقل، وقد نطق بصحته فلاسفة علم النفس، وتناصرت عليه حججهم. أوَلم يقل الفقيه اللغوي ابن عباس الكوفي:
ويترتب على المؤرخ أن يبتعد كل البعد عن الدفاتر والأوراق المجلَّدة؛ لأنه إذا دوَّن ما يستخلصه من الأصول في دفتر أو دفاتر معينة تقيد بترتيب خاص، قد تقضي الظروف بتغييره أو تعديله قبل الانتهاء من مهمة التأريخ، وقد يضطر المؤرخ، بعد الابتداء بالعمل، أن يفسح مجالًا أوسع لموضوع ما، فلا يرى سبيلًا لذلك إلَّا بعد العناء، وقد لا يرى. أما إذا ابتعد عن كل ما يمتُّ إلى المجلدين بصلة، واتخذ للتدوين أوراقًا منثورة، انطلقت يده في العمل، وأصبح حرًّا يزيد متى يشاء، ويقدِّم ويؤخر ما شاء.
وقد اختلف المؤرخون في كمية ما يدونون على أوراقهم المنثورة. فمنهم من قال بتدوين كل ما له علاقة بالموضوع. أي إذا عُني مؤرخ ما بتاريخ حرب من الحروب، وأفرد لكل سبب من أسباب هذه الحرب ورقة أو ورقات، ولكل موقعة منها مثل ذلك، وهلمَّ جرًّا، فعليه أن ينقل على أوراقه كل النص الذي يتعلق بمثل هذه المواضيع، وقال آخرون بوجوب الاكتفاء بخلاصة النص.
أما نحن، فقد وجدنا بالاختبار الشخصي، بعد أن بدأنا بتأريخ الحملة المصرية على الأقطار الشامية (١٨٣١–١٨٤١)، أن لا هذه الطريقة ولا تلك تفي بالمرام، وذلك لأسباب نعرضها حالًا زيادة للإيضاح. أن الأصول لهذه الحقبة الوجيزة من تاريخ الأقطار الشامية تربو على الألف كتاب بين مقالة ورسالة ورحلة وتاريخ رسمي، وهنالك ما لا يقل عن الخمسين ألف وثيقة تتعلق بالموضوع نفسه. فلو عنيا بإدخال جميع هذه النصوص، على أوراق أو بطاقات منثورة، لاضطررنا أن نقضي حياتنا بالاستنساخ، وبعد أن عملنا بما ورد في أعلاه مدة من الزمن، وزاولنا استنساخ النصوص على البطاقات كما تقدم، اضطرتنا الظروف أن نكتب شيئًا في بعض نقاط معينة. فوجدنا أنه لا بدَّ لنا من مراجعة المؤلفات نفسها للتحقق، إما من صحة ما نقلنا، أو من علاقته بما قبله وما بعده. فلم نستفد من بطاقاتنا، والحالة هذه، سوى أنها أرشدتنا إلى النصوص في وقت قصير للغاية، وأنها مكنتنا من ترتيب هذه النصوص ترتيبًا تاريخيًّا في وقت وجيز أيضًا. فرأينا، بعد هذا الاختبار، أن نجعل من بطاقاتنا المنثورة فهرسًا عامًّا لجميع مواضيع الأصول، وجميع أسماء الرجال والأمكنة فيها.
على أن جميع المؤرِّخين، اليوم، يصرون على وجوب الإشارة إلى زمن وقوع الحوادث المرورية، ويُحتِّمون على المؤرخ المنقب وجوب الإشارة في كل ورقة من ورقاته المنثورة إلى المرجع الذي استخلص منه محتويات هذه الورقات، وذلك بذكر المؤلِّف والمؤلَّف والمجلَّد والصفحة.
وقد لا يختلف اثنان من علماء التاريخ في ترتيب الأوراق المنثورة. فحيث نجعل من هذه الأوراق فهرسًا عامًّا للأصول نرتبها ترتيبًا أبجديًّا، وإن آثارنا تدوين النصوص بكاملها عليها رتبناها إما بموجب تواريخها، أو بحسب الأمكنة التي وجدت فيها، أو على أساس مواضيعها، وليذكر المؤرخ المستجد أن ترتيب النصوص على أساس تواريخها ضروري في غالب الأحيان؛ وذلك لأنه يوضح له تسلسل الرواية والحوادث المروية، ولأنه يقيه شر تقديم المسببات على أسبابها، وحيث ترد بعض الأصول مجهولة التاريخ، عليه أن يسعى سعيًا حثيثًا لتأريخها، كي يتمكن من ترتيبها بموجب تواريخها.
ولا يتبادر إلى ذهن القارئ أنه لا يجوز ترتيب النصوص على أساس الأمكنة التي وجدت فيها، أو المواضيع التي تحتوي عليها. بل بالعكس، فإنه من المستحسن أن يتفنن المؤرخ في الأسس التي يتخذها للتصنيف والتنسيق، سواء أكانت زمنية أم جغرافية أم غير ذلك. فإذا ما عالج المؤرخ درس موضوعه من مثل هذه النواحي المختلفة، برزت له الحقيقة التي يتوخاها بوضوح وجلاء، قد لا يصل إليهما، إذا اكتفى باتباع أساس واحد للتنسيق.