الباب الخامس
تفسير النص
وبانتهاء المؤرخ من نقد الأصول، على الوجه الذي تقدَّم شرحه في الباب الثالث من هذا
الكتاب، ينتهي النقد الخارجي، وينتقل المؤرخ من ظاهر النص ومجرد اللفظ إلى باطن الكلام
وفهم
المعنى، فيشرع في النقد الداخلي. والنقد الداخلي في مصطلح التاريخ على نوعين: نقد داخلي
إيجابي، ونقد داخلي سلبي. فالإيجابي يُفَسر النص ويُظهر معناه، والسلبي يكشف الستار عن
مآرب
المؤلف وأهوائه ودرجة تدقيقه في الرواية.
وتفسير النص، وهو موضوع هذا الباب، يكون على وجهين: أولهما: تفسير ظاهر النص، وثانيهما:
إدراك غرض المؤلف. فعلى المؤرخ المدقق المنقب؛ حيث يحاول تفسير ظاهر النص، أن يلم أولًا
بلغة الأصل الذي يدرس، وعليه أن يجيد فهم هذه اللغة كما عُرفت واستُعمِلت في العصر الذي
عاش
فيه راوي الرواية. فمعاني المفردات تتطور وتتغير أحيانًا مع تطور الظروف وتغير الأحوال،
وكفانا دليلًا على ذلك بعض أعمال المجمع اللغوي في مصر، وما وضعنا في هذا الكتاب من المعاني
الجديدة العصرية في بعض المفردات والاصطلاحات التي استُعمِلت في كتب الحديث والتفسير
منذ
مئات السنين، وعلى المؤرخ أيضًا أن يذكر أن المفردات والاصطلاحات اللغوية تختلف أيضًا
باختلاف الإقليم، وقد تختلف باختلاف الكاتب نفسه.
وحيث يشعر المؤرخ المدقق بشيء من الشك في فهم بعض هذه الدقائق اللغوية في أصل من الأصول
يجدر به أن يكمل قراءة النص، أولًا، لعله يقف على إيضاح ما التبس. فإن أعياه ذلك فعليه
بسائر كتب المؤلف، وإذا لم يجد التفسير في النص نفسه، ولا في مؤلفات المؤلف الأخرى، رجع
في
ذلك إلى أقوال الزملاء المعاصرين. هذا؛ وإن «لا أدري» لمن العلم!
وقد يكتفي المؤرخ، في قراءة الأوامر الإدارية وبعض النصوص التاريخية القصصية، بتفسير
ظاهر
النص لإدراك غرض المؤلف، وذلك أن واضع النص، في مثل هذه الظروف، يتوخى استعمال الألفاظ
التي
توضح المعنى دون أي تردد في الأمر. فإذا ما نجح المؤرخ في فهم ظاهر النص، توصل إلى إدراك
المعنى الحقيقي.
وقد يلمس المؤرخ غموضًا أو نقصًا أو تناقضًا في
المعنى، إذا هو استمسك بظاهر النص. فقد يكون في الكلام كتابة، أو مجاز، أو استعارة، أو
تشبيه، أو هزل، أو مداعبة، أو تلميح، أو تعريض، وما إلى ذلك. قال ابن عبد ربه في عقده
في
باب الكناية والتعريض:
١
«وقد كنَّى الله تعالى في كتابه عن الجماع بالملامسة، وعن الحدث بالغائط … وقال تعالى:
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ
سُوءٍ (طه: ٢٢) فكنَّى عن البرص، ودخل الربيع
بن زياد على النعمان بن المنذر، وبه وَضَحٌ، فقال: ما هذا البياض بك؟ فقال: سيف الله
جلاه.
ودخل حارثة بن بدر على زياد، وفي وجهه أثر، فقال له زياد: ما هذا الأثر الذي في وجهك؟
قال:
ركبت فرسي الأشقر فجمح بي. فقال: أما أنك لو ركبت الأشهب لما فعل ذلك. فكنَّى حارثة بالأشقر
عن النبيذ، وكنَّى زياد بالأشهب عن اللبن، وقال معاوية للأحنف بن قيس: أخبرني عن قول
الشاعر:
إذا ما مات ميتٌ من تميم
فسرَّك أن يعيش فجيءْ بزاد
بخبزٍ أو بتمرٍ أو بسمنٍ
أو الشيءِ الملفف بالبجاد
تراه يطوف في الآفاق حرصًا
ليأكل رأس لقمان بن عاد
ما هذا الشيء الملفف في البجاد؟ قال الأحنف: السخينة يا أمير المؤمنين. قال معاوية:
واحدة
بأخرى والبادي أظلم. والسخينة طعامٌ كانت تعمله قريش من دقيق، وهو الحريرة، فكانت تُسبُّ
به.»
وهل ننسى ونحن نتكلم عن الكناية قول عمر بن أبي ربيعة:
أيها المُنكح الثريا سهيلا
عمرك الله! كيف يلتقيان؟!
هي شامية، إذا ما استقلَّت
وسهيل، إذا استقل، يماني
ويجدر بالمؤرخ العربي، بعد مطالعة القرآن ودرس حكمه
وأحكامه، أن يدرس رسالة الفخر الرازي «نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز»، فَيَلُم ببعض
ما
كان يجول في عقول السلف من هذا القبيل. فهنالك فصول متتابعة في الكناية وضروبها، والتجنيس
وأنواعه، والسجع، والتضمين، والترصيع، والمجاز والتشبيه، والاعتذار، والاستعارة، والمطابقة،
والمقابلة، والمزاوجة، والاعتراض، والالتفات، والاقتباس، والتلميح، واللفَّ والنشر،
والتعديد، والإبهام، وتجاهل العارف، والإغراق، والجمع، والتفريق، والتقسيم، ومثل هذا
يكثر
في النصوص الدينية، والمراسلات الشخصية، والقطع الأدبية، فعلى المؤرِّخ المدقق أن يستعد
لمثل هذه المفاجآت اللغوية، ويتهيأ لها.
وحيث يعترض المؤرخ مثل هذه العقبات، عليه أن يسعى لتذليلها بالوسائل نفسها التي يتذرع
بها
لفهم الغامض من ظاهر النص، عليه بمطالعة النص كله أولًا، ثم بمراجعة مؤلفات المؤلف الأخرى،
فأقوال الزملاء المعاصرين، ويجدر به أن يترزن في مثل هذه المواقف، فلا يتوقع الكناية
مثلًا
في غير محلها ولا يغفل عنها في محل وقوعها.
بقي علينا قبل اختتام هذا الباب أن نعترف بفضل علماء التفسير في هذا المضمار. فإن
الأسس
التي اتبعوها في أصول التفسير علمية صحيحة.
قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في رسالته في أصول التفسير
٢ ما نصه:
«فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب: إن أصح الطرق في ذلك أن يُفسَّر القرآن
بالقرآن؛ فما أُجمل في مكان فإنه قد فُسِّر في موضع آخر، وما اختُصر من مكان، فقد بُسط
في
موضع آخر، فإن أعياك ذلك، فعليك بالسُّنَّة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال
الإمام
أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: كلُّ ما حكم به رسول الله
ﷺ فهو بما
٣ فيه من القرآن، قال الله تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا
تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (النساء: ١٠٥)، وقال تعالى:
وَأَنْزَلْنَا (النحل: ٤٤)، وقال تعالى:
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا
فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (النحل: ٦٤)؛ ولهذا قال رسول
الله
ﷺ: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه.» يعني السنة، والسنة أيضًا تنزل عليه
بالوحي كما ينزل القرآن؛ لأنها تُتلى كما يُتلى، وقد استدل الإمام الشافعي وغيره من الأئمة
على ذلك بأدلة كثيرة، ليس هذا موضع ذلك، والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده
في
السنة كما قال رسول الله
ﷺ لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله.
قال: فإن لم تجد؟ قال: بسُنَّة رسول الله. قال: فإن لم تجد. قال: أجتهد رأيي. قال: فضرب
رسولُ الله
ﷺ في صدره، وقال: الحمد لله الذي وَفَّق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسول
الله، وهذا الحديث في المساند والسنن بإسناد جيد.
وحينئذٍ، إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة،
فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصُّوا بها، ولما لهم من الفهم
التام
والعلم الصحيح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة
المهديين مثل
٤ عبد الله بن مسعود، قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب
قال: أنبأنا جابر بن نوح، أنبأنا الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: قال عبد الله — يعني
ابن مسعود: والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، وأين
نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناوله المطايا لأتيته، وقال الأعمش أيضًا
عن
أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلَّم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن
والعمل بهنَّ، ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله
ﷺ وترجمان
القرآن ببركة دعاء رسول الله
ﷺ له؛ حيث قال: «اللهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل.»
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، أنبأنا وكيع، أنبأنا سفيان، عن الأعمش عن مسلم عن
مسروق
قال: قال عبد الله — يعني ابن مسعود: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. ثم رواه عن يحيى بن
داود
عن إسحاق الأزرق عن سفيان عن الأعمش عن مسلم بن صبيح أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود
أنه
قال: نعمَ الترجمان للقرآن ابن عباس، ثم رواه عن بندار عن جعفر بن عون عن الأعمش به كذلك،
فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة، وقد مات ابن مسعود في
سنة
ثلاث وثلاثين على الصحيح، وعُمِّر بعده ابن عباس ستًّا وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه
من
العلوم بعد ابن مسعود؟ وقال الأعمش عن أبي وائل: استخلف علي عبد الله بن عباس على الموسم،
فخطب الناس، فقرأ في خطبته سورة البقرة، وفي رواية سورة النور، ففسرهما تفسيرًا لو سمعته
الروم والترك والديلم لأسلموا.
وهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السندي الكبير في تفسير عن هذين الرجلين ابن
مسعود وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان، ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي
أباحها رسول الله
ﷺ؛ حيث قال: «بلِّغوا عني ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا
حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار.» رواه البخاري عن عبد الله بن عمر؛
ولهذا كان عبد الله بن عمر قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدِّث
منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك، ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر
للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها على ثلاثة أقسام؛ أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما
نشهد
له بالصدق فذاك صحيح، والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه، والثالث: ما هو مسكوت
عنه، لا من هذا القبيل، ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به، ولا نكذِّبه، وتجوز حكايته لما
تقدم وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني؛ ولهذا تختلف علماء أهل الكتاب في
مثل
هذا كثيرًا، ويأتي عن المفسرين خلاف، بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف،
ولون
٥ كلبهم، وعدتهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت، وأسماء الطيور التي أحياها الله
لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به المقتول
٦ من البقرة، ونوع الشجرة التي كلَّم الله منها موسى … إلى غير ذلك مما أبهمه
٧ الله في القرآن مما لا فائدة في تعيينه، تعود على المكلفين في دنياهم ولا
دينهم، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز كما قال تعالى:
سَيَقُولُونَ
ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ
رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي
أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا
مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (الكهف: ٢٢)، فقد
اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام وتعليم ما ينبغي في مثل هذا، فإنه
تعالى
أخبر عنهم بثلاثة أقوال ضعف القولين الأولين، وسكت عن الثالث، فدلَّ على صحته؛ إذ
لو كان باطلًا لرده كما ردهما، ثم أرشد إلى أن الاطلاع
على عدتهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا:
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ
بِعِدَّتِهِمْ فإنه ما يعلم بذلك إلَّا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه،
فلهذا قال:
فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا أي:
لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك، فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم
الغيب،
فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن ينبه على الصحيح
منها، ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة
تحته، فيشتغل به عن الأهم، فأما من حكى خلافًا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها؛
فهو
ناقص إذ قد يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكي الخلاف، ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من
الأقوال؛ فهو ناقص أيضًا. فإن صحح غير الصحيح عامدًا فقد تعمَّد الكذب أو جاهلًا فقد
أخطأ،
كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقوالًا متعددةً لفظًا، ويرجع حاصلها
إلى
قول أو قولين معنًى، فقد ضيع الزمان وأكثر مما
٨ ليس بصحيح، فهو كلابس ثوبي زور، والله الموفِّق للصواب.
إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من
الأئمة
في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر، فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد بن
إسحاق،
حدَّثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى
خاتمته، أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها، وبه إلى الترمذي قال: حدَّثنا الحسين بن
مهدي
البصري، حدَّثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: ما في القرآن آية إلَّا وقد سمعت فيها
شيئًا، وبه إليه قال: حدَّثنا ابن أبي عمر، حدَّثنا سفيان بن عيينة عن الأعمش. قال: قال
مجاهد: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما
سألت،
وقال ابن جرير: حدَّثنا أبو كريب قال:
٩ حدَّثنا طلق بن غنام عن عثمان الملكي عن أبي مليكة قال: رأيت مجاهدًا سأل ابن
عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فقال ابن عباس: اكتب. حتى سأله عن التفسير كله؛ ولهذا
كان سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك — وكسعيد بن جبير وعكرمة مولى
ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري ومسروق بن الأجدع وسعيد بن المسيب، وأبي العالية
والربيع وابن أنس وقتادة والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم، فتذكر
أقوالهم في الآية فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافًا،
فيحكيها أقوالًا وليس كذلك؛ فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو نظيره، ومنهم من ينص
على
الشيء بعينه، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن، فليتفطن اللبيب لذلك، والله الهادي،
وقال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حُجَّة، فكيف تكون حجة في
التفسير؟ يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على
الشيء، فلا
١٠ يرتاب في كونه حجة، فإنِ اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض، ولا على من
بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة
في
ذلك.
فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام، حدَّثنا
مؤمل، حدَّثنا سفيان، حدَّثنا عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول
الله
ﷺ: «مَن قال في القرآن بغيرِ علمٍ فليتبوأ مقعده من النار.» حدَّثنا وكيع حدَّثنا
سفيان عن عبد الأعلى الثعلبي، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله
ﷺ:
«مَن قال في القرآن بغير علمٍ فليتبوأ مقعده من النار.» وبه إلى الترمذي قال: حدثنا عبد
بن
حميد، حدَّثني حسان بن هلال، قال: حدثنا سهيل أخو حزم القطعي، قال: حدثنا أبو عمران الجوني
عن جندب قال: قال رسول الله
ﷺ: «مَن قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ.» قال
الترمذي: هذا حديث غريب، وقد تكلَّم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم، وهكذا روى بعض
أهل
العلم عن
١١ أصحاب النبي
ﷺ وغيرهم أنهم شددوا في أن يفسر القرآن بغير علم، وأما الذي
رُوي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنهم فسروا القرآن، فليس الظن بهم أنهم قالوا
في
القرآن وفسروه بغير علم، أو من قِبَل أنفسهم، وقد رُوي عنهم ما يدل على ما قلنا: إنهم
لم
يقولوا من قِبَل أنفسهم بغير علم، فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلَّف ما لا علم له به،
وسلك غير ما أُمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر، لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأتِ
الأمر
من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل، فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر،
لكن
يكون أخف جرمًا ممن أخطأ، والله أعلم، وهكذا سمى الله تعالى القذَفة كاذبين فقال:
فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ
الْكَاذِبُونَ (النور: ١٣)، فالقاذف كاذب، ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر؛
لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به، وتكلَّف ما لا علم له به، والله أعلم؛ ولهذا تحرَّج
جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به كما روى شعبة عن سليمان عن عبد الله بن مرة
عن
أبي معمر قال: قال أبو بكر الصديق: أيُّ أرضٍ تقلَّني، وأيُّ سماء تظلَّني إذا قلت في
كتاب
الله ما لم أعلم، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدَّثنا محمود بن يزيد عن العوام بن
حوشب
عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله:
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ
نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
(الأنفال: ٣١)، فقال: أي سماء تظلَّني، وأي أرض تقلَّني، إن أنا قلت في كتاب الله ما
لا أعلم،
١٢ وقال أبو عبيد أيضًا: حدثنا يزيد عن حميد عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على
المنبر:
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها،
فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلُّف يا عمر، وقال عبد بن حميد، حدَّثنا
سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: كنا عند عمر بن الخطاب،
وفي
ظهر قميصه أربع رقاع، فقرأ:
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، فقال: ما
الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلُّف، فما عليك أن لا تدريه، وهذا هو كله محمول على أنهما
—
رضي الله عنهما — إنما أرادا استكشاف علم كيفية الأب، وإلَّا فكونه نبتًا من الأرض ظاهر
لا
يجهل لقوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ
وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ
يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (الأنفال: ٢٧–٣٠)، وقال ابن جرير: حدثنا
يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية عن أيوب عن ابن عباس أنه سُئل عن آية لو سئل عنها
بعضكم لقال فيها فأبى أن يقول فيها، إسناده صحيح، وقال أبو عبيد الله: حدَّثنا إسماعيل
بن
إبراهيم، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة قال: سأل رجل ابن عباس عن
يَوْمٍ
كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ (السجدة: ٥)، فقال ابن عباس فما:
يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (المعارج: ٤)،
فقال الرجل: إنما سألتك لتحدِّثني، فقال ابن عباس: هما
يومان ذكرهما الله في كتابه. الله أعلم بهما، فَكَرِه أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم،
وقال ابن جرير: حدَّثني يعقوب بن إبراهيم،
١٣ حدثنا ابن علية عن مهدي بن ميمون عن الوليد بن
مسلم قال: جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله، فسأله
عن آية من القرآن، فقال: أحرج
١٤ عليك إن كنت مسلمًا لما قمت عني أو قال إن تجالسني، وقال مالك عن يحيى بن سعيد
بن المسيب أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال: إنا لا نقول في القرآن شيئًا،
وقال
الليث عن يحيى بن سعيد بن المسيب أنه كان لا يتكلم إلَّا في المعلوم من القرآن، وقال
شعبة
عن عمرو بن مرة قال: سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن، فقال: لا تسألني عن القرآن
وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء. يعني: عكرمة، وقال ابن شوذب: حدَّثني يزيد بن
أبي
يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه
عن
تفسير آية من القرآن سكت، كأنه لم يسمع، وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عبده العنبي، حدثنا
عبيد الله بن عمر، قال: لقد أدركت فقهاء المدينة، وأنهم ليعظِّمون القول في التفسير،
منهم
سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع الديلمي،
١٥ وقال: وقال أبو عبيد: حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن هشام بن عروة. قال:
ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله قط، وقال أيوب وابن عون وهشام الدستوائي عن محمد بن
سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن آية من القرآن. فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيما
أنزل
من القرآن، فاتق الله وعليك بالسداد، وقال أبو عبيد: حدَّثنا معاذ عن ابن عون عن عبيد
الله
بن مسلم بن يسار عن أبيه قال: إذا حدثت عن الله فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده. حدَّثنا
هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه، وقال شعبة عن عبد الله
بن
أبي السفر قال: قال الشعبي: والله ما من آية إلَّا وقد سألت عنها ولكنها الرواية عن الله،
وقال أبو عبيد الله: حدثنا هشيم أنبأنا عمر بن أبي زائدة عن الشعبي عن مسروق قال: اتقوا
التفسير؛ فإنما هو الرواية عن الله.»
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير
بما لا علم لهم به، فأما من تكلَّم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا، فلا حرج عليه؛ ولهذا
روي عن
هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلَّموا فيما علموه، وسكتوا عمَّا
جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنما كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب
القول
فيما سئل عنه مما يعلمه لقوله تعالى: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا
تَكْتُمُونَهُ (آل عمران: ١٨٧)، ولما جاء في الحديث المروي من طرق: «مَن سُئِلَ
عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار.» وقال ابن جرير: حدَّثنا محمد بن
بشار، حدثنا مؤمل، حدَّثنا سفيان عن أبي الزناد قال: قال
ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعْذر أحد
بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلَّا الله، والله سبحانه وتعالى
أعلم.