الفصل الأول
افتراضات مسبقة للبحث
أولًا: البحث جدير بالدراسة
كتب برتراند رسل — وهو فيلسوف، لا يُمكِن لأحد أن يقول إنَّه يأخذ
بالعاطفة دون العقل، أو إنه أحمق، أو إنه منحاز للتصوُّف —
يقول في مقال شهير: «لقد شعر عظماء الرجال من الفلاسفة بالحاجة إلى
العلم والتصوف معًا.» ثم يُضيف: «إن وحدة المتصوف مع رجل العلم
تُشكِّل أعلى مكانة مرموقة، فيما أعتقد، يُمكن إنجازها في عالم
الفكر.» وأيضًا: «هذا الانفعال [التصوف] هو الملهم لِمَا هو أفضل
ما في الإنسان.»
١ وذلك تقدير عالٍ جدًّا لقيمة التصوف.
ويسوق رسل كنماذج لهذا الاتحاد بين التصوف والعلم عند عظماء
الفلاسفة: هيراقليطس، وبارمنيدس، وأفلاطون، واسبينوزا، لكن من
الواضح أن هذه القائمة لا تستهدف الحصر، بل تقديم نماذج فحسب.
ويُشير برتراند رسل، بذلك، إلى مشكلتين ينبغي على الفلسفة أن
تواجههما؛ المشكلة الأولى هي: ما دام للتصوُّف قيمة عالية على هذا
النحو، كعنصر أساسي للفلسفة، فينبغي علينا أن نبحث عن الأثر الذي
يجعله مؤهَّلًا منطقيًّا للتأثير في أفكار الفلاسفة. وثانيًا: ما هو
الأثر الذي يُمارسه بالفعل في أفكارهم؟ والأُولى هي مشكلة المنطق
والفلسفة النسقية، والثانية هي مشكلة مؤرخ الفلسفة، والمشكلة
الأولى هي التي يهتم بها هذا الكتاب.
لا شك أن الغالبية العظمى من فلاسفة العالم الأنجلوسكسوني
يعتقدون أن النظريات الفلسفية التي استمدها فلاسفة الماضي — عن
وعي أو بغير وعي — من التصوف ينبغي رفضها؛ كالقول بأنَّ
الزمان أزلي، وأنَّ المكان ليس سوى مظهر فحسب، والقول بأنَّ هناك
المطلق الكامل، وأنَّ الخير والواقعي متَّحدان، لكن حتى ولو صحَّ
ذلك فهل ينتج عنه أنه لا يُمكن أن نستمد أيَّة معتقدات في
الإطلاق من التصوف، وأنَّ الموضوع كله ينبغي رفضه على أنه
هلوسة وهراء؟ كلَّا، على الإطلاق. إن مثل هذا التفكير
اللامنطقي يُشبه قولنا إن جميع المعتقدات الكاذبة كانت تقوم في
العلم البدائي على أساس التجربة الحسِّية، ومن ثَم فينبغي علينا
أن نرفض التجربة الحسِّية، تمامًا، كمصدر من مصادر المعرفة؛ فلو
كانت المعتقدات التي أقامها فلاسفة الماضي على أساس التصوف غير
مقبولة، لكان ينبغي علينا أن نسأل أنفسنا عمَّا إذا كان من الممكن
أن يحل محلها بعض التأويلات الأفضل للتجربة الصوفية، وربما كانت
هذه المقارنة بين التجربة الصوفية والتجربة الحسِّية مضللة
تمامًا، غير أن ذلك ينبغي أن يكون نتيجة للبحث، وليس افتراضًا
يمنعنا من البحث. ومن هنا فإن المشكلة الأولى التي تواجهنا في
هذا الكتاب هي ما إذا كانت التجربة الصوفية، كالتجربة الحسِّية،
تُشير إلى أي حقيقة موضوعية، أم إنها مجرد ظاهرة سيكولوجية ذاتية.
ويُمكن لنا أن نصوغ المشكلة التي يدرسها الكتاب بطريقة أخرى،
فنسأل: ما هي
الحقائق، إن كانت هناك أيَّة حقائق يُمكن أن يأتي
بها التصوف عن الكون، ولا يستطيع العلم أو العقل المنطقي أن يصل
إليها؟ لو طرحنا السؤال على هذا النحو فربما كانت إجابة رسل: إنَّ
التصوف لا يصل بنا إلى أيَّة حقائق على الإطلاق؛ لأن العلم
والتفكير المنطقي هما وحدهما اللذان يُقدِّمان لنا الحقائق، وإسهامات
التصوف تنحصر في المواقف النبيلة والاتجاهات الانفعالية الرفيعة
تجاه حقائق اكتشفها العلم والعقل المنطقي، وحجة رسل في هذا الموضوع
عبارة عن قياس بسيط جميل جدًّا؛ يقول إن ماهية التصوف هي
الانفعال، والانفعالات ذاتية، بمعنى أنها لا تزودنا بأيَّة حقائق
موضوعية عن العالم الخارجي. كتب يقول «التصوف لا يزيد عن كونه
شعورًا عميقًا مكثَّفًا حول ما نؤمن به عن الكون.»
٢ وربما وافقنا على أن الانفعالات ذاتية، لكن لا أحد
لديه أدنى علم بآداب التصوف العالمية الواسعة، يُمكِن أن يوافق
على وصف رسل بالتصوف بأنه انفعال فحسب.
قد يُخطئ المتصوِّفة في تأويلاتهم لتجاربهم، لكن ينبغي عليهم أن
يعرفوا — ربما أفضل من رسل — ما هي تجاربهم ذاتها. وهم يقولون
باستمرار إنَّها أقرب إلى الإدراكات منها إلى الانفعالات، رغم
أنه لا أحد يُنكر أن لهم انفعالاتهم الخاصة، كما أن لهم
إدراكات خاصة. إن من الأفضل لمن يرغب في البرهنة على أنَّ
التجربة الصوفية ذاتية أن يَنسب إليها ذاتية الهلوسة والهذيان، من
أن يَنسب إليها ذاتية الانفعال.
ربما كان رسل على حق في النتيجة التي انتهى إليها من أنَّ
التصوف ذاتي، ولا يكشف عن أيَّة حقيقة عن العالم، وتلك إحدى
المشكلات الرئيسية التي علينا أن نُناقشها، لكن ينبغي على القارئ
ألَّا يسير مع قياس رسل السطحي، الذي يقوم على مقدمات فاسدة وغير
مدروسة، فيقول إن حالات التصوف هي مجرد انفعالات. وعلينا قبل
كل شيء أن نصل إلى معرفة أصيلة عمَّا هو التصوف بالفعل، قبل أن
نرفض — متسرعين — أن لقضاياه أيَّة قيمة حقيقة، وسوف أحاول أن
أقدِّم شرحًا لبعض الوقائع الفعلية عن التصوف في الفصل القادم،
وسوف نجد عندئذٍ أن العقبات في طريق اتخاذ قرار بما إذا كان
للتصوُّف أيَّة قيمة معرفية، لو كانت هناك، هي على أقصى درجة من
التعقيد والخفاء والمراوغة. وسوف تستغرق مناقشتنا لهذا الموضوع الفصل الثالث.
وإلى أن نصل إلى هذا الموضوع فإن علينا أن نُلاحظ أن كلمة
«التصوف» نفسها كلمة سيئة الطالع، فهي تكسوها غشاوة، وتوحي من
ثَم بالتفكير الغامض الضبابي المضطرب، كما أنها ترتبط بالدين
الذي يُعارضه عدد كبير من الفلاسفة الأكاديميين. وقد يُدهش بعض
هؤلاء الفلاسفة إذا علموا أنه على الرغم من أن عددًا كبيرًا من
المتصوِّفة كانوا من المؤلهة، وأنَّ عددًا آخر كانوا من أصحاب وحدة
الوجود، فإن هناك أيضًا متصوِّفة مَلاحِدة. وربما كان من الأفضل
لو استطعنا استخدام كلمات مثل «الاستنارة» و«الإشراق» الشائعة
الاستخدام في الهند لِنَصف الظاهرةَ نفسها، لكن يبدو أنه لا بد لنا
في الغرب، ولأسباب تاريخية، أن نظل محافظين على كلمة «التصوف»،
وكل ما نستطيع عمله أن نُحاول بالتدريج أن نتغلب على الأحكام
المبتسرة التي تميل إلى الظهور.
عندما أشرتُ إلى آراء رسل استخدمتُ كلمتَي «الذاتي» و«الموضوعي»
اللتين لم يستخدمهما رسل نفسه. وربما يميل الفلاسفة المعاصرون
الحَذِرون إلى تجنُّب هاتين الكلمتين لغموضهما؛ فقد استُخدِمتا في
معانٍ شتى ومختلفة جعلتهما عرضة للغموض والالتباس، لكن سيكون من
المناسب لنا جدًّا أن نستخدمهما في مراحل متأخرة من هذه المناقشة،
بشرط أن نُشير إلى ما نعنيه بهما. وسوف أحاول في الفصل الثالث أن
أحدِّد بدقة قدر ما أستطيع، معايير الموضوعية، بالمعنى الذي
أستخدمه هنا، لكن ربما استطعتُ في هذه المرحلة، أن أوضِّح الموضوع
بقدر كافٍ بإعطاء أمثلة تحل محل التعريفات المجردة. إنَّنا سوف
نستخدم الكلمات في هذا الكتاب بالمعنى الذي يُمكن أن يُقال فيه عن
التجربة الحسِّية الحقَّة إنَّها موضوعية، في حين أن الهلوسات
والأحلام ذاتية، فعندما أجد أمام وعيِي — في التجربة الحسِّية
الصادقة — شيئًا أسمِّيه منزلًا، فإن هذا التمثُّل موضوعي، بمعنى
أنه يكشف عن وجود منزل حقيقي، يحتل مكانًا في العالم الخارجي
مستقلًّا عن وعيِي به، أمَّا ما الذي يعنيه ذلك على وجه الدقة، وما
هي الأُسس التي تجعلنا نؤمن به، فتلك أسئلة ليس من الضروري أن
نفحصها الآن، غير أن صورة المنزل التي أراها في الحلم ذاتية؛
لأنه لا يوجد مثل هذا المنزل الواقعي في العالم الخارجي أثناء
الحلم. وبهذا المعنى يظهر التساؤل عمَّا إذا كانت التجربة الصوفية
موضوعية أم ذاتية. فهل تكشف عن وجود أي شيء خارج ذهن المتصوِّف
ومستقل عن وعيه؟ ولو صحَّ ذلك، فما هو نوع الوجود الذي تكشف عنه؟
أيًّا ما كانت النتائج التي ننتهي إليها في هذا الكتاب بصدد
المشكلات السابقة — أو الأسئلة المرتبطة بها — فليس من الضروري أن
تكون لتلك الأسئلة مكانة الاستنتاجات الاستنباطية أو الاستقرائية.
ومن الأفضل أن نستخدم كلمة «التأويل» بدلًا من كلمة «الاستنتاج»،
وأنا أقترح أن نبحث ما إذا كانت أنواع التجارب المُسمَّاة بالتجارب
الصوفية تبرز أيَّة تأويلات بصدد طبيعة الكون التي يُمكن — سواء
أكانت استنتاجات منطقية أم لا — أن نُبيِّن أنها من النوع الذي
ينبغي على الناس المعتدلين قبوله. إن المفاهيم الأساسية في علم
الطبيعة هي تأويلات للتجربة الحسِّية ولا يُمكن استنتاجها
منطقيًّا من وجود التجربة الحسِّية، لكنَّها رغم ذلك تأويلات
ينبغي أن يقبلها الناس المعتدلون.
٣ والواقع أن وجود العالم نفسه مستقلًّا عن الوعي هو
تأويل للتجربة الحسِّية لا يُمكن البرهنة عليه منطقيًّا، فإذا
رأينا أن المشكلة الأولى أمامنا هي إذا كانت التجربة الصوفية
موضوعية بطريقة مماثلة لموضوعية التجربة الحسِّية. فليس من
الضروري أن نندهش إذا ما وجدنا أن مثلًا هذه النتيجة، لا بد أن
تكون لها مكانة تأويلية مماثلة، لكن لا يُمكن قبول أيَّة نتيجة ما
لم تكن قائمة على تبرير عقلي من نوع ما.
٤
بحثنا الحالي — كما أشرتُ من قبل — ليس تاريخيًّا، وإنَّما هو
بحث فلسفي نَسَقي، وليست مشكلتنا الأولى أن نسأل ما هي المعتقدات
التي استمدَّها من التصوف أولئك الفلاسفة الذين ذكرهم رسل، بل
بالأحرى ما هي المعتقدات — لو كان هناك معتقدات — التي ينبغي علينا
أن نستمدها كأناس معتدلين من التصوف، لكن من الطبيعي أن نضع في
اعتبارنا تلك المعتقدات التي كانت موجودة عبر التاريخ، إذا أردنا
أن ندرس بعضًا منها فحسب، ونسأل: هل يُمكن تبريرها من الناحية
العقلية أم لا؟ فالقضية — مثلًا — التي تقول «إن الزمان غير
حقيقي» كثيرًا ما تكرَّرت على أساس من التجربة الصوفية، لكنَّا
لسنا معنيِّين بالتاريخ كتاريخ، لكنِّي آمل أن أناقش الأثر الفعلي
للتصوُّف على عظماء الفلاسفة في الماضي، والتراث الصوفي في الفلسفة
في كتاب لاحق.
هذه الملاحظات عن الآراء التي استمدَّها الفلاسفة من التصوف
يُمكن تطبيقها أيضًا، في الجانب الأكبر منها، على آراء استمدَّها
المتصوِّفة أنفسهم من تجاربهم الشخصية. وينبغي لبحث من هذا القبيل
أن يكون مستقلًّا عن آراء المتصوِّفة، بقدر ما يكون مستقلًّا عن
آراء الفلاسفة، ومن الطبيعي أن ننظر إلى آرائهم على أنها جديرة
بأكبر قدر من الانتباه والاحترام، لكنَّا لا يُمكن أن نهبط إلى
مستوى القبول الأعمى للتأويلات التي يرويها المتصوِّفة عن تجاربهم
الشخصية؛ لأن هناك شيئًا واحدًا يُبرِّر لنا الافتراض أن ما هو
أساسًا نفس التجارب فإنَّه يُؤول تأويلات متباينة عن طريق
متصوِّفة مختلفين. والنقطة الهامة هي أنه كما أن التجارب
الحسِّية يُمكن أن يُساء تأويلها من أشخاص لهم تجارب حسِّية، فكذلك
التجارب الصوفية يُمكن أن يُسيء المتصوِّفة تأويلها. ومن ثَم
فإن الفحص النقدي والتحليل المستقل لمعتقداتهم لازم هنا بقدر ما
هو ضروري في الفحص المماثل لمعتقدات أي شخص آخر.
ثانيًا: مَثَل الحمار يحمل أسفارًا
هناك قصة قرأتها في مكان ما، تقول إن النبيَّ محمدًا قارن بين
الباحث أو الفيلسوف الذي يكتب عن التصوف دون أن تكون له أدنى
تجربة صوفية بالحمار الذي يحمل أسفارًا من الكتب.
٥ إنَّه لافتراض سابق لبحثنا، أن هذه الحكمة الذكية،
إذا ما أخذتُ بحرفيتها، وبقيمتها الصريحة، تبالغ في تصوُّري حمق
الباحثين، ومن الممكن للفيلسوف أو الباحث أن يُسهم إسهامات قيمة في
دراسة التصوف.
وربما كان من الطبيعي ألَّا يثق المتصوِّف في عين الباحث، التي
تُحدِّق في فضول، ولا في عقل الفيلسوف النافذ، ولقد عبَّر مؤلف
مجهول عن هذا الموقف في كتاب عنوانه «سُحب المجهول» كُتِب في
القرن الرابع عشر، ومن المعتقد أن مؤلفه كتبه ليساعد أحد تلاميذه
ليبلغ المستويات العليا من التأمُّل الصوفي. وهو يبدأ كتابه
بمناشدة قوية ألَّا يقرأ أحد كتابه ما لم يكن لدية نية صادقة في
اتِّباع طريق الصوفية حتى نهايته؛ فالكتاب، كما يقول مؤلفه، لا يتَّجه
إلى مُحبي الاستطلاع من الكسالى، سواء أكانوا متعلمين أم لا … فهو
يأمل «ألا يتطفلوا عليه»، وهو يعارض «حب الاستطلاع للتعليم
الزائد والبراعة الأدبية الموجودة عند العلماء الباحثين … الذين
طبَّقت شهرتهم الآفاق، كما يُعارض التملُّق عند الآخرين.»
٦ ومع ذلك فليس جميع المتصوِّفة لديهم نفس هذا الشعور؛ فكثير منهم كانوا هم أنفسهم علماء
وفلاسفة؛ مثل: أفلوطين،
وأورتيجا، وإيكهارت، وكثيرون غيرهم.
من الواضح أن التصوف، شأنه شأن الموضوعات الأخرى، قد يؤدي إلى ظهور اهتمام علمي أو
نظري، والاهتمام العلمي هو ذلك الذي يكون
عند الإنسان الذي استلهم السير في الطريق الصوفي. أمَّا الاهتمام
النظري، سواء أكان في ميدان التصوف أو غيره، إنَّما يكون عند ذلك
الإنسان الذي يريد ببساطة أن يعرف، والذي يُقدِّر المعرفة لذاتها.
والمؤلف يُسمِّي هذا الدافع عند الإنسان «حب الاستطلاع». بينما كان
أرسطو يُسمِّيه بالدهشة أو «التعجب»، لكن سواءً استخدم المرء الكلمة
بنغمة ازدرائية أو بتداعيات سارة، فإن حقوق العقل النظري في
دراسة أي موضوع لا يتجادل بصدده المثقفون في يومنا الراهن.
غير أن النقطة الهامة في قصة الحمار الذي يحمل أسفارًا، ربما
لم تكن تعني أن الباحث لا يحق له دراسة التصوف، بل بالأحرى
أنه من المستحيل استحالةً تامةً أن يفعل ذلك ما لم تكن له هو نفسه
تجربة صوفية. لقد قيل في بعض الأحيان إنَّه كما أن الإنسان
الذي وُلِد أعمى لا يستطيع أن يتخيَّل ماذا يُشبه اللون، حتى لو
حاول الشخص المبصر أن يخبره عنه، فكذلك لا يستطيع غير الصوفي أن
يتخيَّل ماذا تُشبه التجربة الصوفية، حتى لو حاول الصوفي أن يصفها
له. ومن ثَم قيل إن الصوفي مهما كان ذكيًّا لا يستطيع أن يُسهِم
بشيء ذي قيمة في مناقشة موضوع التصوف لنفس السبب الذي لا يجعل
الأعمى، مهما كان ذكيًّا، يستطيع أن يُسهِم بشيء ذي قيمة لفهم الضوء أو الألوان.
لا نستطيع أن نُنكِر أن هناك قوة في هذا النزاع إلى الحد الذي
يجعل الرجل الأعمى — على الأقل — يخضع لعائق سيكولوجي يمنعه من
مناقشة نظرية الضوء؛ لأنه لا يستطيع أن يتخيَّله، والرجل غير
الصوفي الذي يُناقش أعمال التصوف يخضع لنفس هذه الظروف، لكن ليس
من الواضح أبدًا لِمَ يكون من المستحيل على الرجل الأعمى أن يُسهم
بأي شيء ذي قيمة في فيزياء الضوء واللون في الخلاف الذي نشب حول
نظرية الجسيمات ونظرية موجات الضوء، التي كانت في وقت من الأوقات
مشكلة بالغة الحدة؛ لأن ما يحتاجه علماء الفيزياء هو فهم البنية،
وليس الاتصال المباشر بمضمون التجربة وهو الضوء. ولا يُمكن أن
نسير بالمقارنة إلى أقصى مدى؛ لأن التجربة الصوفية النموذجية هي — كما قيل — ليس لها
بنية، وإنَّما هي «بلا شكل»، لكن المقارنة
تظهرنا على أن حجة الاستحالة المزعومة المأخوذة من مناقشة الرجل
الأعمى لنظرية الضوء، لا يُمكن طرحها، فليس من الواضح أن هناك
مثل هذه الاستحالة.
أمَّا القول بأنَّ الفيلسوف الذي لا يعترف أنه صوفي فهو لا
يُمكن أن يقول شيئًا ذا قيمة عن التصوف، فلا بد أن نُشير أنَّ
كثيرًا من أمثال هؤلاء الفلاسفة مثل: وليم جيمس،
٧ وج. ب. برات،
٨ والعميد إنج،
٩ وردولف أوتو،
١٠ تقفز إلى الذهن في الحال. ولا شك أن المرء يستطيع أن
يكتب قائمة طويلة بتلك الحالات، إذا كان الأمر يتطلَّب ذلك. وربما
قيل إن ما كتبه هؤلاء الفلاسفة، واهتمَّ بقيمته غيرهم من
الباحثين، ليس له أدنى قيمة للمتصوِّف، وربما لم يكن له قيمة في
الحياة العملية للحياة الروحية للمتصوِّف، لكن إذا كان المتصوِّف
نفسه مهتمًّا بنظرية التصوف، وفلسفة التصوف، كما هي الحال عند
أفلوطين وكثيرين غيره، فليس ثمة ما يمنع أن تستفيد تأملاته
الفلسفية حول التصوف من القوى النظرية والتحليلية لغير المتصوِّف.
ومن المفيد أن ننظر عن قرب أكثر قليلًا من حالة وليم جيمس. لقد
كتب عن نفسه يقول إن تكوينه الشخصي حالَ بينه تمامًا تقريبًا وبين
الاستمتاع بحالات التصوف، لدرجة أنه يستطيع أن يتحدَّث عن تلك
الحالات بطريقة غير مباشرة. ونتيجة لذلك فقد عبَّر، بتواضع، عن شكه
في كفاءته في تقديم أي شيء ذي قيمة.
١١ ومع ذلك فلستُ أستطيع أن أرى كيف يُمكن إنكار أنَّ
إسهامه في فهم الموضوع كان، في الواقع، ذا قيمة كبيرة جدًّا. ومن
الواضح أن جانبًا هامًّا من سبب ذلك؛ هو أنه على الرغم من أنَّ
وليم جيمس ربما لم يستمتع بحالات الوعي الصوفية؛ فقد كان تعاطفه
المزاجي مع التصوف قويًّا جدًّا. مما يوحي بأنَّ التعاطف مع
التصوف، حتى من جانب الفيلسوف غير الصوفي، قد يُعطيه قدرًا ما من
البصيرة للنفاذ في حالة الذهن الصوفية، ومن ثَم قدرًا من الكفاءة
لمناقشتها. وكثيرًا ما قيل إن الناس جميعًا — تقريبًا — هم بمعنًى
أو بآخر متصوِّفة بطريقة بدائية أو فجة. على الرغم من أن الوعي
الصوفي عند معظمنا يكون مدفونًا أو مطمورًا في أعماق اللاشعور ولا
يظهر على سطح ذهننا إلَّا في صورة مشاعر غامضة في الاستجابة
المتعاطفة لدعوة المتصوِّف الأكثر وضوحًا. وإذا استخدمنا التعبير
الشائع، قلنا إن المتصوِّف عندما يتحدَّث، فإن شيئًا في أقواله
«يدق الأجراس» في أعماق مستمعيه، فيظهر ما لديهم من تعاطف ورقة في
الشعور.
ومع ذلك فربما اعترض معترض فقال إن موقف التعاطف ليس خاصية من
خصائص البحث الفلسفي، ما دام ذلك يتعارض مع الموضوعية وعدم التحيُّز.
فقد يولِّد الشعورُ بالتعاطف ميلًا مسبقًا للاعتراف بسهولة أكثر مما
ينبغي بدعوى المتصوِّف أنه يصل من خلال تجربته إلى معرفة بطبيعة
الواقع، لا تُتاح لغيره من الناس. ويستمر الاعتراض فيقول إنَّ
الفيلسوف يسترشد بعقله فقط دون مشاعره. ولا شك أن هناك قدرًا من
الحق، ليس كبيرًا، في هذا الاعتراض؛ ذلك لأنه يستحيل أن يكون
هناك موجود بشري بغير مشاعر. ومن هنا فإنَّه لا يُمكن أن يكون هناك
موجود بشري يخلو من التحيُّز ويقترب من الآلة الحاسبة. ولو قال
الناقد إنَّه ينبغي على الفيلسوف أن يتجنَّب موقف التعاطف،
فإنَّنا، يقينًا، لا نوصي بموقف العداء واللاتعاطف، الذي سيكون
بدوره مبتسرًا على الجانب الآخر. أيُمكن أن يكون لدى إنسان ما موقف
محايد تمامًا؟ إن الموقف المحايد تمامًا سوف يُعادل ببساطة عدم
الاهتمام بالموضوع. ويبدو لي أن برتراند رَسِل قد قال الكلمة
الأخيرة في هذا الموضوع؛ يقول: «إن الموقف الصحيح في دراستنا لأي
فيلسوف هو ألَّا نجلَّه ولا نحتقره، بل نُبدي نحوه في البداية
نوعًا من التعاطف المشروط، حتى يكون من الممكن أن نعرف ما الذي
نشعر به عندما نؤمن بنظرياته، وعندئذٍ فقط نقوم بإحياء الموقف
النقدي …»
١٢
وهناك نقطة أخرى يُمكن أن يقول بها الفيلسوف غير الصوفي لصالحه،
وهي أن المتصوِّفة أنفسهم يتفلسفون، وهم حين يفعلون ذلك يهبطون
إلى المستوى العقلي، ومن ثَم لا يُمكن لهم أن يتوقعوا الإفلات من
النقد والتحليل العقلي. فلا يُمكن لهم غزو أرض الفيلسوف، ثم ينكروا
عليه في الوقت نفسه الحق في مناقشة أقوالهم الفلسفية، ولو أنهم
حصروا أنفسهم في وصف الأنواع الخاصة من تجاربهم، فإن الفيلسوف
الذي ليست له هذه التجارب، لن ينتقد أقوالهم فيما عدا أنه سيُسمَسح
له بالتساؤل كيف تتفق هذه العبارات مع عبارات أخرى يقول بها
المتصوِّفة، عادةً، وهي أن تجربته الخاصة لا يُمكن أن توصف، ولا
أن يتفوه بها. غير أن المتصوِّفة يسيرون، في العادة، فيما وراء
الوصف المحض، فيقومون باستنتاجات فلسفية عامة عن العالم، وعن طبيعة
الواقع، وعن وضع أحكام القيمة ومصدرها، وهي كلها موضوعات تقع داخل
المنطقة المشروعة للفيلسوف، فهُم مثلًا يقولون عبارة مثل «الزمان
غير حقيقي» أو أنه «ظاهر محض» أو «وهْم» ولا جدال في أنَّ
الفيلسوف ليس مؤهَّلًا لفحص وتحليل هذه العبارات، أو رفض قضايا من
هذا النوع إذا رأى ذلك مناسبًا. والمتصوِّفة بدورهم لا يكفون عن
ذكر قضايا فلسفية عامة من هذا النوع، وإن كانت معزولة، ولقد ذهبوا
بعيدًا، في الشرق على الأقل، وشيَّدوا مذاهب فلسفية كاملة، تقوم
على أساس تجاربهم الصوفية. ومن الواضح أنهم حينما يفعلون ذلك
يعطون لجميع الفلاسفة الآخرين الحق في فحص مذاهبهم وتقييمها.
والفيلسوف، كما سبق أن ذكرنا من قبل، الذي ليس له تجارب صوفية،
لديه عائق سيكولوجي يُحتِّم عليه تناول وصف الصوفي لتجاربه بطريقة
غير مباشرة. وهناك كثرة من هذه الأوصاف، رغم الحديث عنها، على
أنها لا يُمكن التفوه بها. ولا بد للفيلسوف أن يُحاول بقدر
الإمكان التغلب على هذا العائق عن طريق الاستبصارات التي يُقدِّمها
له خياله المتعاطف.
ثالثًا: المبدأ الطبيعي
إنَّنا نزعم، على الأقل كمُسلَّمة منهجية، شمول سيادة القانون في
الطبيعة، وذلك يعني أن جميع الأحداث والموجودات الميكروسكوبية،
التي تقع في عالم الزمان والمكان يُمكن تفسيرها بواسطة الأسباب
الطبيعية بغير استثناء.
ولا بد لنا الآن أن نفحص بعض الأمور التي ينطوي عليها هذا المبدأ
الطبيعي. وأن نُلاحظ أيضًا بعض الأشياء القليلة التي لا يتضمَّنها.
إن هذا المبدأ يُمكن أن ينطبق، طبقًا لما قلناه، على الأحداث
الميكروسكوبية. وتلك الأحداث هي وحدها التي سنهتم بها في هذا
الكتاب. ومن ثَم فلسنا في حاجة إلى أن نضع في حسابنا مبدأ
اللاحتمية في الفيزياء النووية. وكذلك فإن القول بأنَّ قوانين
الطبيعة في العالم الميكروسكوبي إحصائية وليست مطلقة، هو قول لا
يعنينا، ويُمكن أيضًا أن نتجاهل القول بإمكان أن يكون الماء قد جرى
إلى أعلى الجبل ذات مرة من مليون سنة.
وليس للمبدأ الطبيعي أيَّة علاقة بمشكلة حرية الإرادة؛ فالحتمية،
إذا كانت هي ما يتضمَّنه هذا المبدأ، لا تتعارض مع الإرادة الحرة،
كما أن اللاحتمية ليست مُعينًا لها. ولقد سبق أن ناقشت هذا
الموضوع بالتفصيل في مكان آخر، ولن أُكرِّر هنا ما سبق أن ذكرته.
١٣
إن المبدأ الطبيعي يمنعنا من الإيمان بأنَّ هناك تقطعات تحدث
في المسار الطبيعي للأحداث أو تدخلات عشوائية من موجود يعلو على
الطبيعة. لقد عرَّف ديفيد هيوم المعجزة بأنها كسر لقوانين
الطبيعة. والمبدأ الطبيعي يُنكر وقوع معجزات بهذا التعريف، لكن قد
تكون هناك تصوُّرات للمعجزة فضفاضة أكثر لا تتناقض مع المذهب
الطبيعي. فمثلًا «بروفيسور س. د. برود» لأغراض خاصة ترتبط بالبحث
الروحي، يُعرِّف المعجزات بأنها «أحداث هي استثناءات، لا من
القوانين الطبيعية، بل من افتراضات معينة للحس المشترك.»
١٤
فالمعجزات المزعومة في منطقة لورد
Lourdes١٥ يُمكن جدًّا تفسيرها عن طريق القوانين العلمية التي
نجهلها حتى الآن؛ فالاضطرابات الانفعالية العميقة — كتلك التي
تتضمَّنها كثير من الأزمات الدينية — كثيرًا ما يصحبها تغيُّرات
جسمية هامة في الكائن الحي كما هو معروف جيدًا، رغم أنَّنا لا
نستطيع حتى الآن صياغة قوانين مثل هذه الأحداث. وتنطبق نفس هذه
الملاحظات على القوى الشافية التي تُنسب في بعض الأحيان إلى
عباقرة دينيين، لكنَّا نستطيع أن نستخدم ضد المعجزات، إذا ما
عرَّفناها بأنها كسر فعلي للقانون، حجةً أشد قوة من الحجة التي
استخدمها ديفيد هيوم. لا أهمية لمقدار ما يدهشنا من الحدث أو القول
بأنه يعلو على الطبيعة، فلن تكون لدينًا أبدًا أُسس مقنعة — ما
لم تكن على علم محيط بكل شيء — للقول بأنَّ المعجزة كسر للقانون
الطبيعي. لا نستطيع أن نُقرر ذلك ما لم نكن على يقين من أنَّنا
نعرف معرفة تامة، ونفهم كل قانون طبيعي في الكون، طالما أن أي
قانون نجهله يُمكن أن يُقدِّم لنا التفسير المطلوب.
إذا فهمنا الصلاة — على نحو ربما لا يفهمها به اللاهوتي المثقف —
بأنها التماس من الله لتغيير مسار الأحداث الطبيعية، فإنَّنا لا
يُمكن أن نؤمن بفاعلية الصلاة التي نُفسِّرها على هذا النحو؛
فالصلاة، مثلًا، التماسًا لإنزال المطر في أوقات القحط خُلف محال؛
لأنَّ الطقس لا يتحدَّد إلَّا بالظروف الجوية وحدها، والصلاة،
بالطبع، حتى إذا كانت تؤدَّى التماسًا لطلب مُعيَّن، يُمكن أن تسير
هي نفسها في طريق طويل لكي تجلب التغيرات المطلوبة. ومن المحتمل أن
يحدث ذلك عندما يكون ما نسعى إليه هو تغيُّر في القلب أو الذهن أو
حتى جسم الشخص الذي يُصلي، وليس تغيرًا في العالم الخارجي. إنَّ
الصلاة من أجل تحسن الصحة أو لاستلهام قوة روحية أو أخلاقية أكبر
سوف تؤدي إلى تحريك سلسلة من الأحداث السيكولوجية، ومثل هذه
التوقعات والتحسن في الأمور المعنوية، هي التي يبدو أنها تأتي
استجابة للصلاة. وهذا ما يُمكن لأي عالم من علماء النفس أن
يتوقَّعه، وليس هو بالطبع شيئًا معجزًا، ولا حتى مثيرًا للدهشة.
غير أن تاريخ التصوف يزودنا بتبريرات أعمق كثيرًا، بصدد
تأدية الصلوات أو «التضرُّعات»، من الاعتبارات السطحية التي ذكرناها
الآن توًّا؛ فالصلاة كما يفهمها المتصوِّفة المسيحيون تستهدف
أساسًا الاتصال أو الاتحاد بما يعتبرون
الموجود الإلهي، وليست
التماسات لمعروف أو رعاية، اللهم إلَّا بمقدار ما ينظر المتصوف إلى
الاتحاد نفسه، بالطبع على أنه أقصى معروف يُمكن للموجود البشري
أن يسعى إليه. وتُشكِّل هذه الصلوات درجات في سُلَّم الممارسات
الروحية التي تؤدي إلى الغاية التي يرغبها الوعي الصوفي؛ فمن
المعروف جيدًا عن القديسة تريزا أوف أفيلا
St.
Terese of Avila،
١٦ وغيرها من المتصوِّفة، أنها اتخذت الكثير من هذه
الخطوات، وقامت بها بنظام، واحدة إثر الأخرى، وهناك روايات
مُفصَّلة عن ذلك. وكل منَّا يعرف أن هناك تمرينات على النفس،
القصد منها إحداث حالات صوفية معينة، وهناك، بنفس الطريقة، تمرينات
ذهنية، وأنواع معينة من التأمل والتركيز يقوم بها المتصوِّفة وفي
ذهنهم الغاية نفسها. والصلاة إذا ما فُهمت فهمًا سليمًا، هي اسم
آخر لتلك المجهودات الذهنية للوصول إلى التجارب الصوفية. إنَّ
الصلاة إذا فُهمت على أنها التماس لمعروف فهي فساد شائع للصلاة
الحقيقية.
إن الخلط بين المبدأ الطبيعي والمذهب المادي، أو افتراض أنه
يتضمَّنه، ليس سوى سوء فهم لهذا المبدأ. كما أن المذهب الطبيعي
لا يتعارض مع وجهة النظر الديكارتية التي تذهب إلى أن الأفكار
والأحداث الذهنية بصفة عامة ليست مادية. وحتى إذا لم تكن الأحداث
السيكولوجية مادية فإنَّها يُمكن أن تكون محكومة بقوانين سيكولوجية
صارمة أو قوانين سيكو-فيزيائية، مثلها مثل الأحداث الفيزيائية
المحكومة بقوانين طبيعية.
وفضلًا عن ذلك فإن المبدأ الطبيعي لا يتعارض مع الإيمان
«بحقيقة مطلقة»، أو الإيمان بالمطلق أو الله، تلك الحقيقة التي تقع
خارج، أو تُجاوز، عالم الزمان والمكان، أيًّا ما كان معنى العبارات
المجازية «يقع خارجًا عن» أو «يجاوز» أو «يعلو على». إن كل ما
يتطلبه هذا المبدأ هو ألَّا يتدخَّل هذا الوجود أو تلك الحقيقة،
فتقطع السلسلة السببية للنظام الطبيعي. وهذا المبدأ لا يتعارض،
مثلًا، مع المذاهب الفلسفية عند هيجل، وبرادلي، فعلى الرغم من أنَّ
هذه المذاهب ليست مُحبَّبة في المناخ الفلسفي في يومنا الراهن،
فإن أولئك الذين يرفضونها يفعلون ذلك على أُسس تجريبية أو وضعية،
لا على أساس أنها تتعارض مع المذهب الطبيعي، وسوف يتضح فيما بعد
أنها، على العكس، لا تتعارض مع المبدأ الطبيعي، وذلك من تعريفنا
لهذا المبدأ، أعني عندما نسوق القضية التي تقول إن جميع الأشياء
والأحداث «في عالم الزمان والمكان» يُمكن تفسيرها بالأسباب
الطبيعية بغير استثناء.
غير أن المشكلة الأكثر أهمية أمامنا الآن هي أن نفهم أثر هذا
المبدأ الطبيعي على التصوف والمشكلات الفلسفية التي يُثيرها.
إن المذهب الطبيعي يتضمَّن أولًا القول بأنَّ منشأ الحالات
الصوفية في الذهن البشري هو ذاته نتيجة للأسباب الطبيعية. وهي لا
تُشكِّل على الإطلاق أي استثناء لسيطرة القانون. وقد يكون من
الأهمية بمكان أن نُلاحظ أن هذه الوجهة من النظر لا يعتنقها
المؤلف فقط، بل العديد من المتصوِّفة. وعندنا ر. م. بك
R. M. Bucke الذي يقول مثلًا
إن كتابه «الوعي الكوني» جاء نتيجةً مباشرة لإشراقة صوفية مفاجئة
أشرقت في داخله بلا توقُّع ودون أن يسعى إليها. و«الوعي الكوني …
ينبغي ألَّا يُنظر إليه على أنه — بأي معنًى — يعلو على الطبيعة
أو يجاوز المألوف، فهو ليس أكثر من نمو طبيعي.»
١٧ وهو يؤكِّد — في نفس هذا الخط — أن مثل هذا الوعي
يسير الآن في عملية تطوُّر — طبقًا لمبادئ تطورية مألوفة — في
النوع البشري، وأنه يقصد أن يُصبح يومًا ما الوضع السيكولوجي
للغالبية العظمى من الجنس البشري. وربما كان في استطاعة المرء أن
ينظر إلى هذه النبوءة الأخيرة على أنها لا يدعمها دليل، لكنَّها
على أيَّة حال تشهد على التصاق «بك» الشديد بالمذهب الطبيعي، وهو
يقترح — بنفس هذه الروح — تفسيرًا طبيعيًّا «للأضواء»، وهي إدراك
لنور ذاتي، لكنَّه شبه فيزيائي، يُصاحب أحيانًا، وليس دائمًا،
بداية الوعي الصوفي، على أنه إعادة ترتيب الجزيئات في المخ.
١٨ وإدوارد كاربنتر
E. Carpenter متصوِّف طبيعي آخر، طرأت عليه حالات
دورة من الإشراق، يرفض كذلك في كل مكان القول بأنَّ الحالات
الصوفية تعلو على الطبيعة، أو أنها معجزات، وإنَّما هي — في رأيه — تخضع لقوانين النمو
السيكولوجي المألوفة.
١٩
ولا جدال في أن هذه الوجهات من النظر تتعارض مع أفكار كثيرًا
ما عبَّر عنها المتصوِّفة المسيحيون في العصور الوسطى، من أمثال
«القديسة تريزا»، و«القديس يوحنا حامل الصليب»، و«هنرخ سوزو»،
وكثيرون غيرهم، الذين نظروا إلى تجاربهم على أنها هبة من الله
تعلو على الطبيعة. لكن على حين أنَّنا نُسلِّم بعظمتهم الفائقة
كمتصوِّفة، وبالأهمية العامة لشهادتهم (التي كثيرًا ما سوف نعتمد
عليها في الفصول القادمة) كخصائص فينومينولوجية للتجارب الصوفية،
فإنَّنا لا نستطيع أن نقبل، دون تحليل دقيق، وتمحيص حذر، تأويلاتهم
اللاهوتية أو الفلسفية، لتجاربهم. فلم يكن من المدهش أو الغريب، في
عصور ما قبل العلم، التي عاشوا فيها — لا سيما في حالة القديسة
تريزا — الذي كان يفتقر إلى القدرة النقدية، أقول: لم يكن من
المدهش أنهم لم يقبلوا أو يفهموا السيادة الشاملة للقانون.
في استطاعتنا إذن، أن نقول إنَّه يُمكن تفسير منشأ الوعي الصوفي،
من منظور التركيبة السيكولوجية والفسيولوجية لأصحابها. غير أنه
لمن الأهمية القصوى — مع ذلك — أن ذلك ليس له أدنى أثر على مشكلة
الطابع المعرفي المزعوم لهذه التجارب، ولا على ذاتيتها أو
موضوعيتها، أو زعمها باكتشاف حقائق عن طبيعة الكون؛ لأن القول
بأنَّ الظروف السابقة — السيكولوجية والفسيولوجية — هي التي
تُحدِّد هذه التجارب، هو أيضًا قول يَصدُق على التجارب الحسِّية،
وعلى الوعي البشري كله؛ فرؤية شيء ما بواسطة العين تُحدِّده بنية
العين وحالة الجهاز العصبي، كما تُحدِّده الخلفية، والعادات،
والتوقعات السيكولوجية. وكذلك أيضًا العمليات العقلية والاستدلالية
لعالم الهندسة، ربما كانت مشروطة بالعمليات الجسدية والذهنية
السابقة. ومع ذلك فلا أحد يشك أن الإدراك الحسِّي والاستدلال
يؤديان إلى حقائق عن العالم الخارجي. وليس هناك مُبرِّر أكثر من
ذلك حتى نفترض أن الإدراكات الصوفية ليست سوى وهْم؛ لأنها لا
يُمكن أن توجد بدون المخ والجهاز العصبي، أكثر من افتراض أنَّ
الرؤية البصرية ليست سوى وهْم؛ لأنها لا يُمكن أن توجد بدون العين
والأعصاب البصرية.
وقد يُقال إن الإدراكات الحسِّية لا تُسبِّبها بنية الكائن
الحي أو حالته إلَّا جزئيًّا فحسب، أمَّا الجانب الجوهري الآخر
فيُسبِّبه مُثير من العالم الخارجي، على حين أنه في حالة الحالات
الصوفية للذهن، ليس هناك مُبرِّر لافتراض أنها ليست كلها نتائج
لأسباب من بينها عضوية ومن بينها سيكولوجية، وأنَّ هذا الفرق ربما
كان هو ما يُبرِّر لنا — ونحن ندرس الحالات الصوفية — أن نقول
إنَّها ذاتية خالصة، على حين أنَّنا نُسلِّم بالطبع أن الإدراكات
الحسِّية لها مرجع موضوعي بسبب المُثيرات الخارجية، التي هي جزء من أسبابها.
غير أن هذه الحجة لا تصلح؛ لأن وجود المُثير الخارجي في حالة الإدراك الحسي لا يُعرَف
مستقلًّا عن التجربة الحسِّية. فوجوده هو نفسه تأويل لهذه التجربة. ومن ثَم فالتجارب
الحسِّية والصوفية، من هذه الزاوية، تقوم على أساس واحد؛ فوجود أي شيء موضوعي تُشير إليه
هذه التجارب هو في جميع الحالات، تأويل للتجربة وليس أكثر من ذلك.
وإذا كانت واقعة أنَّنا لا نستطيع أن نُدرك الموضوعات المادية بدون
العين والأذن والمخ، لا يمنعنا من تأويل التجربة الحسِّية بوصفها
تُشير إلى شيء موضوعي، فإنَّنا لا نحتاج إلى القول بأنَّنا لا
يُمكن أن تكون لنا تجربة صوفية بدون آليتها السيكولوجية المناسبة،
وأن نستنتج من ذلك أنها لا يُمكن أن تكون شيئًا سوى وهم
ذاتي.
قد يُقال ضدنا، لو كان بحثنا سوف يأخذ بوجهة النظر التي تقول
إن التجربة الصوفية موضوعية، بمعنى أنها سوف تكشف عن واقع
حقيقي لمطلق ما؛ مثل الواحد عند أفلوطين، أو الذات الكلية في أسفار
الفيدانتا، أو الله عند المؤلهة، فسوف يتناقض ذلك مع المبدأ
الطبيعي؛ إذ ينبغي علينا أن نقول، عندئذٍ، إن التجربة الصوفية
يُسبِّبها في جانب من جوانب أحداث عضوية، ويُسبِّبها المطلق في
جانب آخر. وذلك يعني السماح لتدخُّل سبب خارج الطبيعة، لكن يُمكن
أن يُقال الشيء نفسه عن السببية المزعومة للإدراكات الفيزيائية
بواسطة الإلكترونات، والموجات وما إلى ذلك؛ فالقوانين الطبيعية هي
علاقات تقوم بين الظواهر التي يُمكن أن نُلاحظها، بين، مثلًا،
الحالة التي يُمكن أن نُلاحظها للبرودة، وتجد الماء الذي يُمكن
ملاحظته. غير أن الجزيئات والموجات تقع خارج وخلف سطح ظواهر
العالم بنفس الطريقة التي يقع بها المطلق، على الرغم من أن الوضع
الأنطولوجي للأحداث النووية، لا بد، بغير شك، أن يختلف أتمَّ
الاختلاف عن الوضع الأنطولوجي للمطلق. لدينا في كلتا الحالتين خطوط
سببية مزدوجة، إذا كانت كلمة السبب هي الكلمة المناسبة في
الحالتين. خط واحد من الأسباب — في الحالتين — يجري خلال السطح
الظاهر للعالم، ويأتي الخط الثاني من خلف السطح بزوايا قائمة إن
صحَّ التعبير.
وقد يستمر المعترض فيقول إنَّه حتى لو سلَّمنا بوجود المطلق خارج
النظام الطبيعي، فإن ذلك يتناقض مع المبدأ الطبيعي. غير أن هذا
المبدأ على نحو ما عرفناه في الفقرة الأولى من هذا القسم، لا
يُسلِّم إلَّا بالسيطرة الشاملة للقانون داخل الطبيعة، فهو لا
يُنكر إمكان وجود واقع حقيقي
Reality خارج الطبيعة، رغم
أن الفلاسفة الطبيعيين قد يُنكرون ذلك. ومن المُسلَّم به أنَّ
الواحد عند أفلوطين أو الذات الكلية، أو الوجود الإلهي، سوف يكون
مفارقًا للطبيعة، لكن لا بد لنا أن نُلاحظ أنه لن يكون وجودًا
«يعلو على الطبيعة» أو فوق الطبيعة بالمعنى الشائع لهذه الكلمة
الذي يتضمَّن التدخل الفضولي العشوائي لإله شخص، أو مجموعة من
الآلهة أو الأرواح. وهذا ما يُحرِّمه المبدأ الطبيعي على نحو ما
تصورناه. سوف يتضح أنه ربما كان هناك وجود واقع حقيقي — أو أكثر — خارج الطبيعة «لا يعلو
عليها» أو ليس فوقها، بالمعنى الخارجي، لو
أنَّنا تأمَّلنا «عالم المُثُل» عند أفلوطين؛ فالمثال على نحو ما
يتميَّز عن الصورة عند أرسطو — يقع خارج الزمان والمكان، لكن سوف
نُسيء استخدام اللغة لو قلنا إنَّه يعلو على الطبيعة أو إنَّه
فوقها.
نحن هنا بالطبع لا نُناقش القول بأنَّ للتجربة الصوفية مرجعها
الموضوعي؛ فتلك إحدى المشكلات الرئيسية التي سوف ندرسها في الفصول
القادمة. وإنَّما النقاط الرئيسية التي نُناقشها هي فحسب أنَّ
المبدأ الطبيعي يترك الباب مفتوحًا، لتحسمه الدراسة التالية.
ويستحيل الحكم مسبقًا ضد مزاعم الصوفي بأنَّ تجربته تكشف له عن
حقائق حول الواقع الحقيقي
Reality.
رابعًا: مبدأ اللامبالاة السببي
مبدأ اللامبالاة السببي هو على هذا النحو: لو أن ﻟ «س» تجربة
صوفية هي «ص١». ولو زعم «ع» أن له تجربة صوفية هي «ص٢». ولو
كانت الخصائص الفينومينولوجية للتجربة «ص١» تُشبه تمامًا الخصائص
الفينومينولوجية للتجربة «ص٢»، بقدر ما يؤكده «س» و«ع»، فإنَّه لا
يُمكن عندئذٍ، النظر إلى هاتين التجربتَين على أنهما من نوع مختلف،
فلا يُمكن أن يُقال مثلًا، إن إحداهما تجربة «أصلية»، وإنَّ
الثانية ليست كذلك؛ لأنهما، ببساطة يظهران من ظروف سببية
مختلفة.
ويبدو أن المبدأ، منطقيًّا، واضح بذاته، وربما لا يكون هذا
المبدأ هامًّا جدًّا في الوقت الحالي، وربما لا يكون له تطبيق واسع
على الوقائع الموجودة، لكنَّه قد يُصبح هامًّا في المستقبل. ونحن
نتحدَّث عنه هنا؛ لأنه يُقال أحيانًا إن التجربة الصوفية
يُمكن أن تَحدُث نتيجةً للمخدرات والعقاقير من أمثال حمض المسكل
Mescalin.
٢٠ ومن ناحية أخرى، فإن أولئك الذين وصلوا إلى حالات
صوفية نتيجة لممارسات روحية شاقة وطويلة من صوم وصلاة وأعمال
أخلاقية عظيمة — ربما استمرَّت عدة سنوات — يميلون إلى إنكار أنَّ
العقاقير يُمكن أن تُحدِث تجربة صوفية «أصيلة»، أو ينظرون شزرًا،
على الأقل إلى مثل هذا الزعم. إن مبدأنا يقول إنَّه
لو كان لا
يُمكن التمييز بين الصفات الفينومينولوجية للتجربتَين، فلا يُمكن
لنا أن نُنكر أنه إذا كانت إحداهما فلا بد أن تكون الثانية أصيلة
أيضًا. ومع ذلك فإن هذه النتيجة سوف تنتج من المقدمات المبتذلة
لإحداهما، رغم الانزعاج الذي يُمكن أن نتفهَّمه، الذي يحدث للراهب،
والقديس، والبطل الروحي، عندما يُقال له إن جاره الدنيوي العابث —
الذي لم يفعل شيئًا قط يجعله يستحق هذه التجربة — قد وصل إلى
الوعي الصوفي عندما ابتلع بعض الحبوب.
لكن يظل السؤال قائمًا: هل حقًّا تجربة «المسكل» تشبه ذاتيًّا
تجربة القديس، وأنَّنا لا نستطيع أن نُميِّز بينهما، بحيث نعثر
على حالة هي تطبيق تجريبي لمبدأنا؟ وجوابي عن هذا السؤال هو:
إنَّنا لم نصل بعد إلى معرفة كافية بالآثار التي تُحدثها العقاقير.
إن التجارب المعملية لهذه العقاقير الهامة تتقدَّم الآن، من وجهة
النظر الروحية والطبيعة في آنٍ معًا، وعلينا أن ننتظر
النتيجة.
ويُمكن أن نُجازف ونسوق تخمينًا؛ هو أن التجربة التي تُحدثها
العقاقير ربما كانت تُشبه النوع الانبساطي من التجربة الصوفية،
بحيث لا يُمكن التميز بينهما، لكن من غير المحتمل جدًّا أن تُشبه
النوع الأكثر أهمية النوع الانطوائي من هذه التجربة. وسوف نشرح
هذه التفرقة فيما بعد.
وليس لهذه المشكلة في كتابنا الحالي سوى أهمية ضئيلة؛ ذلك
لأنَّنا في جميع الأوصاف الفينومينولوجية، أي المتعددة، التي
اقتبسناها لندعم بها نتائجنا المختلفة، لا يوجد سوى حالة واحدة
منفردة تنبع فيها التجربة التي نصفها عند تناول «المسكل»
والتجربة الناتجة من هذه الحالة الوحيدة تُشبه بغير شك النوع
الانبساطي من التجربة التقليدية التي يرويها الصوفية الذين لا
يتناولون عقار «المسكل»، بحيث لا يُمكن في الواقع التمييز بينهما.
وسوف أذكر هذه الحالة عندما نصل إليها. وفي استطاعتي أن أحذفها
حذفًا تامًّا دون أن نخسر خسارة كبيرة، بالنسبة للمجموعة المتراكمة
من الدلائل التي تقوم عليها نتائجنا، فحذفها لن يؤثر في هذه
النتائج.
هناك تطبيق آخر لمبدأ يُمكن أن نقتبسه، وهو يظهر مرتبطًا
بالمرحلة الثانية من المراحل الثلاث الشهيرة للإشراق الصوفي في
حياة «جاكوب بوهيمي»
٢١ مبدأ الإشراق الثاني بالتحديق في قرص مصقول.
٢٢ ويبدو أن النظر إلى سطح مصقول يُشبه الحالة المبتذلة
غير الروحية للتجربة الصوفية، مثل تناول العقاقير تمامًا. ومع
ذلك، فلا أحد، فيما أعتقد، يُنكر أن «جاكوب بوهيمي» كان
متصوِّفًا أصيلًا.
خامسًا: التجربة والتأويل
إنَّه لافتراض مُسبَق لبحثنا أن نقول إن من الأهمية بمكان أن
نُفرِّق — بقدر المستطاع — بين التجربة الصوفية ذاتها، والتأويلات
التصورية التي تُقال عنها، وهي تفرقة تُشبه التفرقة التي يُمكن أن
نقوم بها بين التجربة الحسِّية وتأويلها. وهذا التشابه مفيد
ومشروع رغم أنه كثيرًا ما يُساء فهم طابع المفارقة بين التجربة
الحسِّية والتجربة الصوفية، وهو ما نبهتُ إليه فيما سبق.
محتمل أن يكون من المستحيل في كلتا الحالتين عزل التجربة
«الخالصة»، ومع ذلك، فعلى الرغم من أنَّنا لن نكون قادرين أبدًا
على تجربة حسِّية متحوِّرة تمامًا من أي تأويل؛ فمن الصعب أن نشك
في أن الإحساس شيء وتأويله التصوُّري شيء آخر. هناك قصة مشكوك في
صحتها لكنَّها مشهورة عن زائر أمريكي في لندن حاول أن يُصافح تمثال
شرطي مصنوع من الشمع في مدخل متحف «مدام توسو».
٢٣ ولو كانت هذه القصة قد حدثت، فلا بد أن يكون السبب هو
أن الزائر كانت لدية تجربة حسِّية فسَّرها في البداية تفسيرًا
خاطئًا على أن رجل الشرطة رجلٌ حي، ثم فسَّرها بعد ذلك تفسيرًا
صحيحًا على أنها تمثال من الشمع، وذلك يعني أنه يُمكن التمييز
بين التأويل أو التفسير وبين التجربة، وأنه قد يكون صحيحًا
أنه ليس هناك فترة زمنية كانت التجربة فيها بلا تأويل، ومعنى
ذلك أنه مثل هذه التجربة الخالصة مستحيلة من الناحية
السيكولوجية. ولا شكَّ أن الشيء الأصلي الذي رآه في المدخل قد
أدرك في الحال أنه شيء مادي، على اعتبار أن له لونًا مُعيَّنًا
ويتخذ شكلًا عامًّا هو شكل الموجود البشري، وطالما أن ذلك
يتضمَّن تطبيق مفاهيم مصنَّفة على الإحساسات، فإن هناك منذ
البداية درجة معينة من التأويل. والموقف السليم، فيما يبدو، أن
نقول إن هناك تفرقةً واضحة بين التجربة والتأويل، حتى لو كان من
الصواب أن نقول إنَّه يستحيل أن نقف على تجربة بلا تأويل خالص.
ورغم أن التفرقة تقريبية، فإنَّنا نستخدمها كل يوم في حياتنا
العملية، ويصعب جدًّا أن نسير بدونها. إنَّنا نطلب من الشاهد في
المحكمة أن يقول ما شاهده بالفعل فحسب، وأن يتجنَّب الاستدلال أو
التأويل، وهذه التعليمات هامة وتُفيد كثيرًا. ومع ذلك فإذا ما قال
إنَّه شاهد المتهم في ساحة الجريمة، فقد يصرُّ بعض الفلاسفة من
أمثال «مل» على أن كل ما شاهده الشاهد هو سطح ملوَّن، وأنَّنا
عندما نُسميِّه «المتهم» فإنَّنا بذلك نُمعن في الاستدلال.
علينا الآن أن نُقِيم تفرقة موازية بين التجربة الصوفية
وتأويلها، لكنَّنا لا نتوقَّع هنا أيضًا أن نجد انفصالًا واضحًا.
فصعوبة تحديد ذلك الجزء من وصف المتصوِّف للتجربة الذي ينبغي أن
يُنظر إليه كتجربة فعلية، وذلك الجزء الذي ينبغي أن يُؤخذ على
أنه تأويل لها، هي في الواقع أصعب بكثير جدًّا من المشكلة
المماثلة في حالة التجربة الحسِّية. ومع ذلك فمن الأهمية الحيوية
لبحثنا التسليم بهذه التفرقة، وأن نضعها باستمرار أمام أذهاننا،
وأن نقوم بكل محاولة ممكنة لتطبيقها بقدر ما نستطيع على مادة
الموضوع، مهما بلغت صعوبة هذا العمل. وهناك سببان لأهمية
ذلك:
-
السبب الأول: كما هي الحال في التجربة الحسِّية، فعلى الرغم من
أن التجربة الخالصة — لو كان من الممكن عزلها —
ثابتة ولا سبيل إلى الشك فيها، فإن تأويلِي لها، سواءً
أكان تأويل الشخص صاحب التجربة أو تأويل شخص آخر،
عُرضة لأن يكون خطأ. وكثيرًا ما قيل إن غير
المتصوِّف لا يُمكن له أن يُنكر أن لدى المتصوِّف
التجربة التي يقول إنَّها لديه، غير أن ذلك يصدق
فقط على المكونات المعملية لوصفه، لكنَّه لا يتضمَّن
أن الفيلسوف الذي ليس متصوِّفًا هو نفسه غير مؤهل
لأن يسبر أغوار التجربة، وأن يفحصها، ويُحلِّلها، وأن
يدرس تلك الجوانب من وصف الصوفي التي تبدو أمامه بوضوح
متضمِّنة عناصر التأويل. بل لا بد للفيلسوف أن يدَّعي
لنفسه هذه التجربة.
-
والسبب الثاني: في إصرارنا على هذه التفرقة أهمية كبرى؛ فالذين
كتبوا عن التصوف كثيرًا ما ذهبوا إلى أن التجارب
الصوفية واحدة أساسًا، أو هي متشابهة في جميع أنحاء
العالم، وفي مختلف العصور والثقافات، وفي مختلف
التداعيات الدينية. وقد أقام العديد من الكُتَّاب
حجتهم في موضوعية التجربة الصوفية على أساس هذا
التشابه. فقد كتب «ر. م. بك»، مثلًا، يقول «أنت تعرف
أن الشجرة واقعية وليست هلوسة أو هذيانًا؛ لأن
جميع الأشخاص الآخرين لديهم حاسة البصر … ولو أنَّك
رأيتها أيضًا، عندما تكون هناك هلوسة أو هذيان، فلا بد
أن تكون مرئية لك وحدك فحسب. وبنفس منهج الاستدلال هذا
فإنَّنا نُقيِّم الواقع الحقيقي للعالم الموضوعي التي
يُسجِّلها الوعي الكوني. إن كل شخص لديه نفس
الملَكة يعي بالضرورة نفس الوقائع … وليست هناك حالة
لشخص لديه إشراق يُنكر أو يُجادل في تعاليم شخص آخر
مرَّ بنفس التجربة.»٢٤
وتشمل النماذج التي يُقدِّمها ر. م. بك لأشخاص لديهم الوعي
الكوني، أي الصوفي، أشخاصًا ينفصلون انفصالًا كبيرًا في الزمان
والمكان والثقافة، مثل: القديسة تريزا، وبوذا. ولا شك أن «بك»
يُبالغ جدًّا في حالته. وسوف أقتبس في الفصل الخامس نسخة «ش. د.
برود» من الحجة،
٢٥ وهي أكثر الحُجج التي عرفتها اعتادلًا، وحذرًا،
وحرصًا. ومنطقها الجوهري واضح لنا الآن، حتى مع مبالغات «بك
R. M. Bucke». وتعتمد الحجة
على المماثلة مع الإدراك الحسي، وهي تزعم أنَّنا نُميِّز بين
الإدراك الحق والهلوسة عن طريق الاتفاق العام الشامل للموجودات
البشرية، على الإدراك الحق في مقابل الطابع الخاص لإدراكات الهلوسة
والهذيان. وهي تذهب إلى أن هذا الاتفاق مُتشابه بين المتصوِّفة
في كل مكان في العالم عن التجربة التي مرُّوا بها، وأنَّ ذلك يدعم
الإيمان بموضوعية التجربة.
سوف يظهر هنا سؤالان؛ الأول هو: أصحيح أن التجارب الصوفية
واحدة ومتشابهة، وهي نفسها في جميع أنحاء العالم أو أن لها
جميعًا، على الأقل، خصائص عامة ومشتركة هامة؟ والسؤال الثاني هو:
لو صحَّ ذلك، ألا يُشكِّل ذلك حجة جيدة للإيمان بموضوعيتها؟ وأنا
أزعم أن الحجة كلها لم يحدث قط أن تمَّ تحليلها، وسبر أغوارها
وتقييمها بحياد من جانب أي كاتب فيما سبق. وتلك هي المهمة التي أود
أن أقوم بها. والسؤال الأول: إلى أي حد تتفق التجارب الصوفية
التي رواها المسيحيون، والمسلمون، واليهود، والهندوس، والبوذيون،
وأيضًا المتصوِّفة الذين لم يتبعوا أيَّة عقيدة دينية مُحدَّدة —
إلى أي حد تتشابه هذه التجارب أو تختلف — ذلك سؤال بالغ الصعوبة.
وعلينا أن نُجاهد للإجابة عنه، لكنَّا لا نأمل أن نعثر في مكان
قريب على أيَّة إجابة صحيحة ما لم نقم بالتفرقة بين التجربة
وتأويلها، ونُحاول أن نُطبِّق هذه التفرقة على مادة موضوعنا.
ويُمكن أن يوضح المثال الآتي سبب ذلك:
اعتاد المتصوِّف المسيحي أن يقول إن ما يمر به في تجربته هو
«الاتحاد بالله». ويقول المتصوِّف الهندوسي إن تجربته هي تلك
التجربة التي تتَّحد فيها ذاته الفردية مع براهمان أو مع الذات
الكلية في هوية واحدة. ويقول المتصوِّف المسيحي إن تجربته تدعم
مذهب التأليه Theism، وليست هي
تجربة الهوية الفعلية مع الله. فهو يفهم «الاتحاد» لا على أنه
يتضمَّن الهوية، بل علاقة أخرى مثل الشبه أو الصورة. بينما يصر
المتصوِّف الهندوسي على الهوية، ويقول إن تجربته تُقيم ما
يُسمِّيه كتاب التصوف بوحدة الوجود
Pantheism، على الرغم من أنَّ
المتصوِّف الهندوسي لا يستخدم عادة هذه الكلمة. ولا يتحدَّث
المتصوِّف البوذي عن الله أو براهمان أو الذات الكلية — على الأقل
في بعض صور الديانة البوذية — لكنَّه يؤوِّل تجربته من منظور لا
يشمل مفهوم الوجود الأعلى على الإطلاق.
ها هنا اختلافات كبيرة في الإيمان، رغم أنه يُقال عادة إنَّ
جميع ضروب الإيمان تقوم على تجارب صوفية. فكيف يُمكن أن نُفسِّر
هذه الوقائع؟ هناك افتراضان مختلفان نستطيع أن نُفسِّرها بهما،
وعلينا أن نختار بينهما؛ أحد هذين الافتراضين هو أن تجارب
المسيحي، والهندوسي، والبوذي، هي أساسًا تجارب مختلفة رغم وجود بعض
التشابهات بينها، وربما كانت تشابهات سطحية، تُبرِّر لنا أن نطلق
عليها كلها اسم التجارب «الصوفية». أمَّا الافتراض الثاني فهو أنَّ
تلك التجارب التي مرَّ بها هؤلاء جميعًا هي، أساسًا، واحدة — رغم
وجود بعض الاختلافات بالطبع — غير أن كل متصوِّف يجعل لتجاربه
تأويلات عقلية يستمدها من خصائص ثقافية. فالمتصوِّف المسيحي يؤوِّل
تجاربه من منظور العقيدة المسيحية الموجودة من قبل والتي تربَّى
فيها، أمَّا المتصوِّف الهندوسي فهو يؤوِّلها من منظور الأفكار
الهندوسية السائدة في ثقافته، والبوذي من منظور التصوُّرات التي
ربما أتت من مصادر آرية سابقة، أو ربما أعاد بوذا نفسه صياغتها من
جديد في بعض جوانبها على الأقل، وهناك ثلاثة تأويلات يتناقض بعضها
مع بعض للتجربة نفسها. ومن الواضح أنَّنا لا نستطيع أن نطرح هذه
الافتراضات البديلة، ولا أن نحسم بينها بقرار عقلي دون أن نستفيد
من التفرقة.
لم تُدرَك أهمية التفرقة، في العادة، حتى من معظم الكُتَّاب
المرموقين الذين كتبوا عن التصوف، فلم يستفد منها «بروفيسور ج. ﻫ.
لوبا» على نحو صريح، بل استخدمها لدعم وجهة نظره التي تقول إنَّ
التجربة الصوفية ذاتية، وانتقد «وليم جيمس» لتعاطفه مع الإيمان
بموضوعيتها، واعتبره نتيجة للخلط بين التجربة الخالصة، التي لا
سبيل إلى الشك فيها، وبين التأويلات المشكوك فيها جدًّا، التي قال
بها المتصوِّفة.
٢٦ غير أن «لوبا» يتحدَّث، على نحو عفوي، عن «التجربة
الخالصة»، وهي عبارة ربما التقطها من وليم جيمس نفسه، دون أي فهم
واضح للمشكلات البالغة الصعوبة التي تنطوي عليها أيَّة محاولة
لعزلها أو لتطبيق الفكرة عمليًّا. وهو نفسه لم يستفد من التفرقة
إلَّا كعصا لضرب وليم جيمس.
وهناك كاتب حديث أكثر، هو بروفيسور «ر. س. زينر R.
C. Zaehner»، يُبيِّن في كتابه «التصوف:
المقدَّس والدنس»، أنه على وعي — على نحو ما — أن هناك
اختلافًا بين التجربة وتأويلها، لكنَّه، في رأيي، ضلَّ ضلالًا
بعيدًا عندما فشل في أن يُبقي على هذه التفرقة واضحة في ذهنه، وأن
يُدرك مضامينها، وأن يستفيد منها استفادة بالغة؛ إذ يجد المرء في
تسجيلات التصوف الانطوائي أوصافًا متكررة لتجربة بوحدة مطلقة لا
تمايُز فيها ولا اختلاف، تنطمس فيها كل كثرة. وهذه الوحدة — كما
سنرى فيما بعد — هل التي وصفها متصوفون مسيحيون من أمثال
«إيكهارت»، و«روز بروك» من ناحية، ومن أمثال متصوِّفة الهندوس
القدماء الذين كتبوا «الأوبنشاد» من ناحية أخرى. وتتشابه لغة
الهندوس من ناحية ولغة المسيحيين من ناحية أخرى تشابهًا مُذهلًا،
حتى إنهم يُقدِّمون كل مظهر لوصف نفس التجربة وصفًا واحدًا. وهم
جميعًا بالطبع، مجهولون ومستقلون عن بعضهم البعض، ومع ذلك فإنَّ
بروفيسور «زينر Zaehner»، وهو
كاثوليكي روماني، يُصرُّ على أن تجاربهم لا بد أن تكون مختلفة،
لأنَّ «إيكهارت»، و«روز بروك» أقامَا تفسيرهما للتجربة على أساس
لاهوت التثليث الذي تأخذ به الكنيسة، بينما فهمها متصوِّفة الهندوس
على أساس وحدة الوجود. ومذهب وحدة الوجود
Pantheism عند اللاهوتيين
الكاثوليك «هرطقة» خطيرة. ويُمكن أن نترك الجواب مفتوحًا في الوقت
الحاضر عمَّا إذا كان بروفيسور «زينر» على حق في اعتقاده أنَّ
التجارب المسيحية والهندوسية مختلفة أتمَّ الاختلاف بعضها عن بعض،
رغم وجود كلمات واحدة تقريبًا، كثيرًا ما عبَّروا بها عن هذه
التجارب. فقد يكون على حق. لقد سلَّمنا، أو بالأحرى، أكَّدنا أنَّ
هناك فرضَين بديلَين لتفسير هذه الوقائع، اختار «بروفيسور زينر»
أحدهما. ونحن أنفسنا لم نقرِّر، حتى الآن، أيُّهما هو الفرض
الصحيح. غير أن المهم هو أن النتيجة التي انتهى إليها «زنير»
لا تنتج — ببساطة — من الواقعة المحض، التي تقول إن الإيمان الذي
أقام عليه متصوِّفة المسيحية تجاربهم، مختلف عن الإيمان الذي أقام
عليه المتصوِّفة الهندوس تجاربهم. والاختلاف بين ضروب الإيمان هو
في الواقع الدليل الوحيد الذي يُقدِّمه تدعيمًا لوجهة نظره. إنَّ
الإدراك العميق والأصيل للتفرقة بين التجربة والتأويل، لا سيما
الإدراك الأصيل للمشكلات التي ينطوي عليها تطبيق هذه التفرقة،
يُمكن أن يؤدي إلى دراسة وفحص أشمل وأكثر إنصافًا وحيادًا لهذين
الفرضين المحتملين.
وسوف أختتم هذا القسم ببعض الملاحظات حول المصطلحات. أنا أستخدم
كلمة «التصوف» لتعني الموضوع كله الذي نُناقشه في هذا الكتاب،
ومن ثَم فهي تشمل التجربة الصوفية وتأويلاتها في آنٍ معًا.
وأستخدم كلمة «المتصوِّف» لتعني الشخص الذي مرَّ هو نفسه بالتجربة
الصوفية، ولنقل ولو مرة واحدة في حياته، إذا كان من الضروري مثل
هذا التحديد، ومن ثَم فإن هذا التعريف لا يشمل المُفكِّر الذي
يدرس التصوف أو يكتب عنه بشيء من التعاطف، أو الذي تأثَّر بأفكار
صوفية أو يؤمن بها؛ فهيجل، مثلًا، تأثَّر بأفكار صوفية، لكنَّه لم
يكن هو نفسه متصوفًا بالمعنى الذي نستخدم فيه هذه الكلمة. كذلك لم
يكن «وليم جيمس» متصوفًا. ولقد تأثَّر أفلاطون بعمق بالأفكار
الصوفية، وهناك فقرات متعددة في كتاباته توحي أنه كان هو نفسه
متصوفًا، لكن لا أحد يعلم ذلك علم اليقين.
وأنا أستخدم كلمة «التأويل» لتعني أي شيء يُمكن أن يُضيفه العقل
النظري إلى التجربة بغرض فهمها. سواء أكان ما أضافه هو فقط
تصنيفًا للمفاهيم والتصوُّرات، أو استدلالًا منطقيًّا، أو أي فرض
تفسيري. والتأويل، كذلك، قد يكون من عمل المتصوِّف أو غير
المتصوِّف. ومن ثَم فلو أنَّني انتهيتُ في هذا الكتاب إلى أنَّ
التجربة الصوفية موضوعية، أو أنها ذاتية فحسب، فلن يكون ذلك سوى
تأويلاتي الخاصة.
ولا بد أن نُلاحظ أن هناك مستويات مختلفة من تأويل التجربة
الصوفية، تمامًا مثل التجربة الحسِّية، ولو قال قائل: «إنَّني أرى
لونًا أحمر»، وهذا هو المستوى الأدنى من التأويل، ما دام لا ينطوي
على شيء سوى التصنيف البسيط للتصوُّرات، لكن نظرية موجات اللون
عند عالم الفيزياء هي المستوى الأعلى من التأويل، وبالمثل لو أنَّ
متصوِّفًا تحدَّث عن تجربة «الوحدة التي لا تمايُز فيها ولا
اختلاف»، فقد يكون مجرد وصف أو تقرير لا يستخدم سوى كلمات تصنيفية
يُمكن أن يُنظر إليها على أنها المستوى الأدنى من التأويل. غير
أن في ذلك دقةً أكثر من اللازم عادة. ما دام ذلك بالنسبة لجميع
المقاصد والأهداف هو مجرد وصف فحسب. ولو أن المتصوِّف قال إنَّه
مرَّ بتجربة «الاتحاد الصوفي بخالق الكون» فيُمكن أن يُنظر إليها
على أنها المستوى الأعلى من التأويل، ما دامت تشمل إضافة عقلية
أكثر من مجرد الوصف المحض. فهي تشمل افتراضًا عن أصل العالم،
وإيمانًا بوجود إله شخص. لاحظ أن عبارة «الوحدة التي لا تمايُز
فيها» لا تتضمَّن أيَّة إشارة إلى الله أو المطلق. ولو أن شخصًا
قال على الأساس المزعوم للتجربة الصوفية إن «الزمان غير
حقيقي»، فمن الواضح أن ذلك نظرية فلسفية عامة يُمكن أن يُنظر
إليها على أنها المستوى الأعلى من التأويل.
وأنا أستخدم أحيانًا تعبير «الفكرة الصوفية»، وهو نفسه تقريبًا
يعني التأويل. غير أن هذا التعبير يتضمَّن عمومًا تلك القضية أو
التصوُّر الذي نُسميه هنا «بالفكرة»، وكان في الأصل تأويلًا
لتجربة صوفية فعلية مرَّ بها الشخص صاحب التجربة، ثم انتقل بعد
ذلك إلى التاريخ العام للأفكار، ويُمكن أن يقبله الناس الذين لا
يدركون أصله الصوفي. فتصوُّر هيجل مثلًا، «لهوية الأضداد» يُمكن أن
يُنظر إليه على أنه فكرة صوفية بهذا المعنى. وما سوف ندرسه هو
خصائص معينة للتجربة الصوفية. ولقد تحدَّث عنها كثيرون، وانتقدها
كثيرون، ممن ليس لهم علم بأصلها الصوفي. إن وحدة الوجود هي
بدورها فكرة صوفية، حتى لو اعتنقها المفكر، الذي يظن نفسه مفكرًا
عقلانيًّا على أُسس منطقية خالصة.
سادسًا: شمول البرهان
هناك افتراض سابق لبحثنا يقول إنَّه أيًّا ما كانت النتائج التي
نصل إليها فينبغي أن تقوم على أساس مسح واسع، بقدر المستطاع،
للبرهان. وذلك يعني أنه ينبغي علينا ألَّا ندرس التصوف في
ثقافة معينة فحسب؛ كالتصوف المسيحي مثلًا، بل أن ندرس بالأحرى
التصوف في جميع الثقافات العليا، أو على الأقل أن ندرس عددًا
كبيرًا بقدر ما يسمح به هذا البحث، وحدود المعرفة والتفرغ الجامعي،
ومن ثَم فسوف أحاول أن أدرس — بقدر ما تسمح به هذه الحدود —
التصوف المسيحي، والإسلامي، واليهودي، والهندوسي، والبوذي،
والطاوي، أمَّا بوذية الزن
Zen،
٢٧ التي هي بالطبع صوفية من الدرجة الأولى؛ فقد ظهرت في
البداية كفرع خاص من البوذية في الصين، ومن هناك انتقلت إلى
اليابان. وسوف تُدرس طبعًا تحت التصوف البوذي. والتعبيرات
الوحيدة عن التصوف الخاصة بالصين، والتي أعرفها، هي بعض الفقرات
الشهيرة لكُتَّاب الطاوية
٢٨ … سوف تأتي الفرصة للإشارة إليها في الصفحات
القادمة.
بالإضافة إلى المصادر التي ذكرتها الآن توًّا، فينبغي علينا كذلك
أن ندرس التجارب الصوفية التي سجَّلها أولئك الرجال الذين لم
يكونوا تابعين لأيَّة ديانة معينة، ولنطلق عليه اسم «المتصوِّف
اللامتنمي». هناك زعم شائع يقول إن جميع ضروب التصوف، هي بما
هي كذلك دينية. وهناك معنى يكون فيه هذا الزعم صحيحًا، طالما أنَّ
جميع ألوان التصوف تهتم بأعلى إلهامات الذات الروحية، ولسنا
بحاجة لدراسة الألوان الشريرة المنحرفة للتصوُّف، لكن هذا الزعم
الشائع غير صحيح، إن كان يعني أن كل متصوِّف مؤمن بواحدة من
ديانات العالم المنظَّمة، فهو لا يحتاج إلى أن يكون مؤمنًا بأيَّة
عقيدة دينية، على نحو ما يُفهم عادةً من هذه العبارة، وأفلوطين مَثَل
واضح بين القدماء، فقد قَبِل فلسفة أفلاطون، لكنَّه لم يقبل أيَّة
عقيدة دينية مُحدَّدة، لكن بغض النظر عن الأمثلة الكلاسيكية
الشهيرة، فهناك حالات كثيرة حديثة ومعاصرة «للمتصوِّف اللامنتمي»،
الذي تكون لتأويلاته لتجربته الصوفية أهمية كبيرة للبحث الفلسفي.
وسوف نجد في كثير جدًّا من الأحيان أن تجارب رجال مثل: تنسون،
٢٩ و«ج. أ. سيمونز»، و«ر. م. بك»، و«إدوارد كاربنتر»،
وكثير من المتصوِّفة المعاصرين «اللامنتمين» المجهولين، ولم يسمع
بهم أحد. لهذه التجارب قيمة كبيرة بالنسبة لبحثنا.
وهكذا نجد أن الدليل أو البرهان، الذي ينبغي أن نعتمد عليه لا
بد أن يأتي، على الأقل، من هذه الأنواع من المصادر؛ أولًا: ألوان
التصوف التي ترتبط تاريخيًّا بديانات العالم العظمى. وثانيًا:
المتصوِّف الشهير اللامنتمي، من أمثال أفلوطين. ثالثًا: المتصوِّفة
المعاصرون، سواء أكانوا مشهورين أم لا، وسواء أكانوا من اللامنتمين
أو المرتبطين بديانة معينة.
وأسباب هذا التشديد على شمول البرهان ينبغي أن تكون واضحة. فهناك
سبب لِمَ ينبغي على الباحث أن يحصر دراسته لأغراض محددة ويقتصر على
دراسة التصوف في ثقافة واحدة معينة. إنَّه لا يستطيع أن يفعل ذلك
إذا كان غرضه فحص المضامين الفلسفية للتصوُّف بما هو كذلك. فذلك
يتطلَّب منه مسحًا لجميع المناطق الرئيسية للتصوُّف. وهناك كذلك —
في حالتنا — سبب خاص. لقد سبق أن ذكرتُ في القسم السابق، أنَّ
كثيرًا من الكُتَّاب ذهبوا إلى أن التشابه بين التجارب الصوفية
في الثقافات، والديانات، والعصور المختلفة، في جميع أنحاء العالم،
يُعدُّ دليلًا في صف الموضوعية، ومن ثَم فلا بد أن يكون واجبنا
الأول فحص هذا الدليل الذي تُقدِّمه هذه الوجهة من النظر. ومن
الواضح أنَّنا لا نستطيع أن نفعل ذلك ما لم نضع في اعتبارنا، بأقصى
حد تسمح به قدراتنا، جميع المجالات الرئيسية للتصوُّف في الزمان
والمكان.
والقيام بمثل هذا العمل لا يتضمَّن أي حِكَم قيمة فيما يتعلَّق
بالقيم الذاتية النسبية للثقافات المختلفة أو الأفرع المختلفة
للتصوُّف بما هو كذلك. فلا شك أن الكُتَّاب المسيحيون يؤمنون —
وهو أمر طبيعي — أن التصوف المسيحي هو أكثر قيمة وصدقًا وأهمية
من غيره. والكُتَّاب الهندوس قد نغفر لهم عندما يعتقدون أنَّ
تصوُّفهم هو الأفضل. وعندما نضع في اعتبارنا دليل المتصوِّفة في كل
الثقافات، فلا ينبغي ألَّا يعني ذلك أنه يتضمَّن الرأي القائل
بأنَّ لجميع المتصوِّفة قيمة ذاتية متساوية، تمامًا مثلما أن
استماع المحكمة لدليل شهود مناسبين في القضية لا يعني أنها تنظر
إليهم جميعًا أنهم متساوون في الصدق أو القيمة. ولا يظهر أنَّ
ثمة ضرورةً بالنسبة لنا — على الأقل في هذه المرحلة من البحث — أن
نقول رأينا فيما إذا كان التصوف في ثقافة معينة هو نفسه أرقى أو
أدنى من التصوف في ثقافة أخرى.