الفصل الثالث
مشكلة المرجع الموضوعي
أولًا: برهان الإجماع
لا يستخدم المتصوِّف نفسه
براهين ولا حججًا ليُبيِّن لنا أنَّ
تجربته موضوعية، بمعنى أنها تُقدِّم معلومات عن طبيعة العالم
الموجود خارج الذهن البشري. بل نراه يزعم أن النور الداخلي هو
الذي يؤكِّد له ذلك. ومن ثم فليست هناك ضرورة بالنسبة له لوجود
برهان منطقي، لكن طالما أن غير الصوفي لا يستطيع أن يزعم مثل هذا
الزعم، فسوف تكون المشكلة بالنسبة له هي أنه ليس في قدرته إصدار
قرار عمَّا ينبغي التفكير فيه، ما لم تكن هناك حجج مؤيدة ومعارضة
تُعرض أمامه. وسوف نبدأ بما نسميه
برهان الإجماع؛ لأننا لم
نستطِعْ أن نجد اسمًا أفضل، وهو برهان تبدأ مقدمته من كلية التجارب
الصوفية؛ فهي واحدة أو متشابهة، على نحو ما رواه المتصوِّفة في
مختلف الثقافات المتقدمة والعصور، وبلدان العالم. وسوف أناقش ما
قاله بروفيسور برود
Broad عن هذا
الدليل بوصفه أفضل عرض له،
١ يمكن أن يكون أساسًا لبحثنا لأنه، على ما أعلم، أفضل
عرض حذر وحريص ومحافظ لهذا الدليل. في الفصل السابق فحصنا
المُقدِّمة التي يرتكز عليها هذا الدليل، ورأينا الدفاع عن الزعم
بأنَّ هناك اتفاقًا أساسيًّا بين التجارب الصوفية في جميع أنحاء
العالم، على الرغم من الاختلافات الكثيرة والعظيمة في تأويل هذه
التجارب. والنتيجة التي استخلصها بروفيسور «برود» من هذه المقدمة هي
أن هناك احتمالًا كبيرًا للاتفاق، وإذا استعملنا عبارته فهي
«فإن احتمال الإيجاب فيها أكثر من السلب». إن المتصوف في
تجربته يصل إلى ملامسه الواقع أو جانب من جوانبه، لا يصل إليها
الناس بأيَّة طريقة أخرى. وعلينا الآن أن ننظر فيما إذا كانت هذه
النتيجة، أو أيَّة نتيجة مشابهة، هي استنتاج معقول من المقدمة.
وسوف ندرس في هذا الفصل، فيما بعد، أيَّة مبررات أخرى للإيمان
بموضوعية التجارب الصوفية التي يمكن أن يكشف عنها بحثنا.
ما هو المبدأ من مبادئ المنطق، أو من مبادئ الاحتمال، التي يستند
إليها برهان الإجماع؟ بأيَّة طريقة يميل الاتفاق الكلي للصوفية إلى
دعم قضية الموضوعية؟ إن الاتفاق العام أو الكلي بين الشهود إلى
جانب درجة عُليا من الاستقلال المتبادل بينهم، يُمكن أن يُقبل
كدليل جيد.
- (١)
الشهود يقولون الحقيقة فيما يتعلق بتجاربهم، لكن لما
لم يمكن هناك احتمال لاتهامهم بالتزييف المتعمد، فإنَّ
هذه النتيجة لا أهمية لها.
- (٢)
إنَّهم في روايتهم لتجاربهم لم يتعمَّدوا تزييف وصف
طبيعة تجاربهم، أعني أنهم خبروا بالفعل بصفة عامة،
وبغير استثناءات محتملة، ما يقولون إنَّهم مرُّوا
بتجربته. شاهد واحد، أو عدة شهود، قد يقع في أخطاء في
وصف ما يعتقد أنه هو نفسه قد استنبطه، لكن يبدو أنَّ
ذلك غير محتمل عندما يكون ما لدينا هو دليل غامر لعدة
آلاف من الأشخاص في مختلف البلدان والعصور في جميع
أنحاء العالم. لا سيما إذا كانت الشهادة التي تُقدَّم
من إحدى مناطق العالم أو في فترة من الفترات التاريخ
مستقلة عن أولئك الذين قدَّموا نفس الشهادة في مناطق
وفترات أخرى ومجهولة لديهم.
لكن أن يبيِّن أن لتجاربهم مرجعًا موضوعيًّا، فإن هناك وقائع
معينة واضحة تُعارض ذلك فيما يبدو. واقعة أن معظم الناس يرون
نوعًا معينًا من السراب سيقولون بإجماع إن ما يرونه هو ماء. ومن
المؤكد أنه ليس كذلك، رغم أنهم لم يتعمدوا تزييف وصف تجاربهم
البصرية، لكن ليس ثمة ميل يُبيِّن أن هناك، من الناحية
الموضوعية، أيَّة مياه موجودة في أي مكان، طالما أنه لا يوجد في
الواقع سوى رمال ساخنة. والقول بأنَّ كل إنسان يضغط في جانب
مُعيَّن، على إحدى عينيه، أو على نصف العين، يروي على نحو صحيح
تجربة الرؤية المزدوجة لا يقدِّم أي دليل على الازدواج الفعلي
للأشياء. والقول بأنَّ الأشخاص العاديين الذين يتعاطون جرعة من
«السانتونين
Santonin» يميلون
لرؤية الأشياء مصبوغة باللون الأصفر لا يقدِّم أي دليل على أنها
في حقيقتها صفراء. وباختصار يُمكن أن تكون التجربة كلية وعامة ومع
ذلك وهمًا. وهذا ما أدركه تمامًا بروفيسور «برود» في عرضه لهذا
البرهان. وهو يضرب مثلًا بهلوسات المخمور وما يُدركه من ثعابين
وفئران، وهذه التجربة يشترك فيها عدد لا حصر له من المخمورين. وهو
يناقش كذلك المعايير التي بناء عليها نُسمِّي التجربة بأنها وهم.
٢ فكيف يمكن للبرهان الذي يُقدِّمه جميع المتصوِّفة، أن
يفند على أي نحو، أقوال الشاكِّ الذي يؤكد أن التجارب الصوفية،
أيًّا ما كانت قيمتها بالنسبة للحياة، فإنَّها مع ذلك أوهام؟
إن كل ما يثبته برهان المتصوِّفة بذاته — بغض النظر عن بيان
أنهم لم يزيفوا وصف تجاربهم — هو أن وجود عنصر مشترك عام في
تكوين الموجودات البشرية يُسبِّب لهم جميعًا تجارب متشابهة. وتكوين
الموجودات البشرية يشمل بالطبع بنيتهم الجسمية والذهنية في آنٍ
معًا؛ فالناس جميعًا يرون رؤية مزدوجة عندما يتم الضغط على نصف
العين لأنَّ بنية العين واحدة، أو تقريبًا واحدة عند كل الناس، فكل
إنسان يتناول عقار «السانتونين» يرى الأشياء صفراء لنفس الأسباب.
وحتى لو كان لكل الناس تجارب صوفية — بدلًا من النسبة الضئيلة من
البشر ممن لهم الآن مثل هذه التجارب — وحتى لو كانت جميع هذه
التجارب متشابهة تمامًا، فإن ذلك في حد ذاته لا يدل على شيء أكثر
من أن هناك شيئًا في طبيعة الموجود البشري، سواء الطبيعة
البدنية، أو الذهنية، يجعلهم يمرون بتجارب متشابهة.
٣
لا يُمكن أن نتخلَّص من برهان الإجماع بهذه الطريقة الموجزة.
لأنَّ مَن يُدافع عن هذا البرهان سوف يرد، على نحو ما، على الشكوك
التي رفضت البرهان على النحو التالي:
افرض أنَّنا طرحنا سؤالًا عمَّا يُشكِّل ماهية الموضوعية في
تجربتنا اليومية، في إدراكنا الحسي الصادق ضد، مثلًا، التجربة
الذاتية على نحو ما نجدها في الحلم أو حالة الهذيان، فما الذي
يُمكن أن نقوله في النهاية سوى إنَّنا يمكن أن نتحقَّق من صدق
الأولى بطريقة عامة في حين أن التجربة الثانية تجربة خاصة؟
فرؤية الجبل الحقيقي — من الناحية الموضوعية — يعني المرور بتجربة
بصرية للجبل، ويمكن لأي إنسان آخر طبيعي أن يراها أيضًا لو أنه
وضع نفسه على بُعد صحيح من الجبل وحقق المتطلبات المناسبة. أمَّا
رؤية الجبل في الحلم أو حالة الهذيان، فذلك يعني المرور بتجربة
خاصة لا يستطيع شخص آخر أن يتحقق من صدقها. أليس ذلك ببساطة الحجة
المأخوذة من الإجماع؟ فحيثما كان الناس العاديون يتفقون على أنَّ
تجاربهم متشابهة تمامًا فإنَّنا نقول إن التجربة موضوعية. وإذا
كان الإجماع معيارًا كافيًا للموضوعية في التجربة الحسِّية، فلِمَ
لا يكون كذلك في التجربة الصوفية؟
افرض أنَّني أثناء كتابتي لهذا البحث — رفعتُ رأسي من فوق مكتبي
فوجدتُ حمارًا وحشيًّا يقف أمامي، فسوف أتشكك في المنظر وأعتقد
أن ذلك هلوسة أو هذيان. فليس هناك حديقة حيوان عند الجيران، بما
في ذلك الشرطة، وإذا لم ير أي شخص شيئًا يشبه الحيوان الوحشي سواي،
كانت النتيجة المؤكدة أن ذلك مجرد هذيان، لكن إذا ما كان كل
الجيران قد مروا بتجربة رؤية الحمار الوحشي، كانت النتيجة أنه
لا بد أن يكون هناك حمار وحشي حقيقي. رغم أن دخوله إلى غرفتي سوف
يظل بغير شك لغزًا محيرًّا، يحتاج إلى استدعاء «شرلوك هولمز» لحله.
وهذا المثال يظهرنا، من جديد، على أن اتفاق التجارب هو الذي يشكل
الموضوعية. فلماذا لا يُشكل إجماع الاتفاق بين الصوفية على تجاربهم
موضوعية هذه التجارب؟
لا شك أن هناك اختلافًا كبيرًا بين الحالتين اللتين قارنَّا
بينهما: حالة التجربة الحسِّية من ناحية والتجربة الصوفية من
ناحية أخرى. من حيث عدد الشهود. فأي موجود بشري طبيعي أو إنسان
عادي يمكن أن يتحقق من صحة التجربة الحسِّية، في حين أن عددًا
ضئيلًا جدًّا من الأشخاص الشواذ هو الذي يستطيع أن يتحقق من صحة
التجربة الصوفية. وقد يُضعف ذلك قضية موضوعية التجارب الصوفية،
وبذلك يُقلِّل من حجم التأييد الممكن، لكنَّه يستحيل أن يُغيِّر من
منطق البرهان؛ فالمنطق واحد في الحالتين. فربما كانت ضآلة حجم
الشهود تُقلِّل من ترجيح النتيجة، لكنَّها لا تُغيِّر من النتيجة
ذاتها. وقد يكون لنا ما يُبرر القول إن هناك يقينًا تجريبيًّا
بوجود «برج لندن»، لكن من المحتمل أن يكون الإيجاب أكثر من السلب،
إذا أردنا ترديد عبارة بروفيسور «برود» التي تقول إن الصوفي في
تجربة يلتمس واقعًا موضوعيًّا.
غير أن عرض المشكلة على هذا النحو قد لا ينصف كثيرًا قضية
الموضوعية الصوفية؛ لأن الصوفي قد يُنكر أن هناك أي فارق أو
اختلاف بخصوص أعداد الشهود
الممكنة. وأنَّ البرهان يعتمد على
إمكان
التحقق من الصحة وليس التحقق الفعلي. ويزعم الصوفية أن جميع
الأشخاص العاديين هم شهود
ممكنة للواقع الصوفي. وينبغي علينا أن
نؤمن بوجود جبل مكتشف واحد نعتمد عليه هو الذي رآه؛ ذلك لأنَّنا
نعتقد أن هناك سببًا وجيهًا للإيمان بأنَّ جميع الأشخاص العاديين
يُمكن لهم ملاحظته، لو أنهم نظروا إليه من بُعد مناسب. ولا يُدرك
كل الناس جبال القطب الجنوبي أو الأدغال المختبئة في «ماتو جروسو»
٤ غير أن كل الناس يستطيعون إدراكها لو أنهم اتبعوا
تعليمات معينة، ربما كانت في معظم الحالات، وبالنسبة لمعظمنا، لا
تُطاق من حيث صرامتها والوقت الذي تستغرقه، مِمَّا يجعلها مستحيلة
من الناحية العملية. وبطريقة مماثلة نستطيع أن نقول إن الشخص
العادي يستطيع أن يتحقق من تجربة الصوفي لو أنه بدأ يعيش حياة
القديسين الخالصة. وإذا استطاع أن يفصل نفسه تمامًا عن جميع
الرغبات الدنيوية. وإذا استطاع أن يُخضع نفسه لنظام ذهني وجسدي
طويل وصارم، كتلك التي يخضع لها أتباع اليوجا في الهند، أو حياة
الصلوات والابتهالات وممارسة التأمل في أحد الأديرة، كتلك التي
كتبت عنها القديسة تريزا، والقديس «إجناثيوس الليولي».
٥ وهناك ما يُبرِّر لنا الاعتقاد بأنَّ هذا الزعم الذي
تقوم به الصوفية — وهو
إمكان أن تكون التجربة الصوفية كلية وعامة
— زعم صحيح. وذلك يعني أن التجربة الصوفية يمكن أن تكون «عامة»
كالتجربة الحسِّية طالما أن قولنا إن التجربة عامة لا يعني
سوى أن عددًا كبيرًا من التجارب الخاصة متشابه، أو لا بد أن يكون
متشابهًا إذا ما اتخذت الخطوات المناسبة. وكما لاحظنا من قبل فإنَّ
جميع التجارب هي في ذاتها خاصة على حد سواء؛ فعالم العمومية هو
بناء من التجارب الخاصة.
ويبدو أن البرهان، والبرهان المضاد، قد وصلا إلى طريق مسدود؛
فمن المؤكد تمامًا أن الاتفاق المحض أو الإجماع فيما يتعلق
بالتجارب لا يكفي لإثبات الموضوعية. ما دامت كثرة من الأوهام؛
كالرؤية المزدوجة، أو المظهر الأصفر للأشياء عند مَن تناول جرعة من
«السانتونين» هي كلية وعامة بدورها. ذلك هو البرهان الذي يسعى
الشاكُّ بواسطته أن يهدم قضية الموضوعية الصوفية، ومن الواضح أنه
اعتراض سليم. غير أن الشاكَّ، فيما يبدو، عندما يشير إليه فإنَّه
يهدم نفسه إذا ما كان جزءًا من زعمه أن التحقق الكلي العام يكفي
للبرهنة على موضوعية التجربة الحسِّية؛ لأنه قد يُبيِّن لنا
أن كثرة من الأوهام التي هي كلية وعامة يمكن التحقق منها.
غير أن النتيجة التي ينبغي لنا أن نستخلصها لا يصعب علينا أن
نراها، إن هذا الإجماع، حتى ولو كان اتفاقًا عامًّا في التجارب،
قد يكون جزءًا مِمَّا يُشكِّل الموضوعية؛ فهو ليس كل ما يُشكِّلها
سواء في حالة التجربة الصوفية أو في حالة التجربة الحسِّية. بل
لا بد أن يكون هناك شرط آخر هو «س» مطلوبًا، كما يكون كليًّا
وعامًّا، ليجعل من التجربة موضوعية. ومن ثَم فلو أنَّنا أردنا أن
نتساءل عمَّا إذا كان الزعم بالموضوعية الصوفية صحيحًا، فإن هناك
خطوتين لا بد أن نقوم بهما. لا بد لنا أولًا أن نكتشف ما هي «س»،
ثم نرى ثانيًا ما إذا كانت «س» موجودة في التجربة الصوفية؛ ذلك
لأنَّ البرهان الذي عرضناه في الفقرات القليلة السابقة، والذي
شرحنا فيه الرد الذي يُمكن أن يقوله أنصار الموضوعية، يُبيِّن بما
فيه الكفاية، في رأيي، أن التجربة الصوفية تحتوي على النوع
والدرجة المطلوبين من الكلية والشمول. ومن ثَم أصبحت قضية الموضوعية
الصوفية الآن تعتمد اعتمادًا كليًّا عمَّا إذا كانت «س» هي خاصية
من خصائص هذه التجربة أم لا.
ووجهة النظر التي أُدافع عنها هي أن «س» هي
النظام. فتكون
التجربة موضوعية إذا ما كانت مُنظَّمة في كل من علاقتها الداخلية
والخارجية. وتكون التجربة ذاتية إذا ما كانت مشتقة غير مُنظَّمة
في كل من علاقاتها الداخلية والخارجية.
٦ وكونها عامة هو أحد خصائص كونها
مُنظَّمة، لكن كونها
خاصة فذلك أحد علامات اللانظام وعدم الترتيب. فالعمومية هي إذن
جزء
من تعريف الموضوعية، لكن الموضوعية لا يمكن أن تُعرَّف تعريفًا
تامًّا ومقنعًا، إلَّا من منظور تصوُّر أوسع كثيرًا للنظام.
وأنا أعني بالنظام القانون أي الانتظام في التتابع، وتكرار
النموذج، «والاقتران المتواصل» لبنود خاصة. والنظام بذلك هو تصوُّر
عام جدًّا بحيث لا يكون ما نُسمِّيه بالطبيعة أو النظام، لعالمنا
اليومي، سوى مثال جزئي له، وإن شئنا الدقة فإن الموضوعية ينبغي
أن تُعرف من منظور تصوُّر عام للنظام، وليس من منظور نظام عالمنا
الجزئي؛ إذ من الممكن أن نتصوَّر أنه يوجد في مكان ما نظام نسقي
من الأحداث تختلف قوانينه اختلافًا تامًّا عن القوانين التي
نألفها. قد يكون هناك عالم يحل فيه الطرد الكلي المتبادل، محل
الجاذبية الكلية، وتؤدي فيه الحرارة، على الدوام، إلى تجمد الماء،
كما تؤدي البرودة، على الدوام، إلى الغليان. والتجربة في مثل هذا
العالم منظَّمة من منظور ذلك النظام الذي لا بد أن يكون موضوعيًّا
في ذلك النظام.
لكن لو أنَّنا حصرنا أنفسنا هنا فقط في عالم تجربتنا اليومية،
فربما لاحظنا أن العالم الواقعي الحقيقي، من الناحية الموضوعية،
هو ما نُسمِّيه بنظام الطبيعة، أعني نسق الأحداث المنظَّمة الممتدة
في سلسلة الزمان في الماضي الموغل الذي لا نستطيع أن نعرف بدايته،
والذي سوف يمتد إلى ما لا نهاية في المستقبل، وتجاربنا المنظَّمة
من منظور نظام ذلك العالم هي التي نُسمِّيها موضوعية. أمَّا تلك
الأحداث المشتَّتة غير المنظَّمة داخليًّا أو خارجيًّا، بمعنى
أنها تخرق قوانين نظام ذلك العالم، فهي التي نُسمِّيها ذاتية.
ومن أمثلتها الأحلام، والهلوسات والهذيان. (هناك بالطبع تفرقة بين
الأحلام والهلوسة أو الهذيان، لكن طبيعة هذه التفرقة لا تعنينا
هنا؛ لأنهما بنفس المعنى ذاتيان، أي بالمعنى الذي شرحناه الآن
توًّا). ولا بد لنا أن نعترف بأنَّ مفهوم نظام العام ليس نتيجة،
ولا يُمكن أن يكون نتيجة لذهن واحد مفرد، ولا يُمكن أن يقوم على
أساس تجربة فرد واحد مفرد. وإنَّما هي نتاج لجميع التجارب
البشرية، التي تمتد إلى الوراء في أغوار الماضي البعيد. وهذا هو
السبب في أن العمومية، وقدرة جميع الأشخاص على المشاركة فيها،
وإمكان التحقق من صحتها على نحو عام، ذلك كله جزء — وليس أكثر من
جزء — من معيار الموضوعية. وسوف نشرح ذلك شرحًا وافيًا.
الهلوسة والهذيان، والأحلام هي باستمرار مشوشة وغير منتظمة،
بمعنى أنها تخرق قوانين الطبيعة بإحدى طريقتين أو بهما معًا. فما
يحدث في الحلم قد يكون في ذاته كسرًا للقانون الطبيعي. وهكذا فإنَّ
القِدر الحقيقي الموضوع على النار يغلي باستمرار، لكن القِدْر في
الحلم قد يوضع على النار فيتجمد ماؤه. وربما نقول: «أي شيء يُمكن
أن يحدث في الحلم». وهذا يعني أن ليس على الحلم أن يطيع قوانين
الطبيعة في حين أن التجربة الموضوعية تفعل ذلك. ولو أكَّد لنا
شخص ما أنه رأى مياه القِدر تتجمد عندما توضع على القِدر فربما
قلنا له «لا بد أنَّك تحلم». وهذا مثال للتجربة التي يُحكَم عليها
بأنها ذاتية لأنها غير منظَّمة في علاقاتها الداخلية أو داخل
حدودها الخاصة.
غير أن الحلم قد يكون أحيانًا منظَّمًا تنظيمًا تامًّا داخل
ذاته، دون أن يرتكب خرقًا للقانون الطبيعي، لكنا سنجد في هذه
الحالة أن كسر القانون الطبيعي يحدث في العلاقات الخارجية التي
تُحيط به على نحو مباشر؛ فإن كسر القانون يحدث عند حواف
الحُلم، إن صحَّ التعبير، على الحدود بين النوم واليقظة. فأنا،
مثلًا، أذهب إلى فراشي في الولايات المتحدة، وأحلم أنَّني أسير في
شوارع «لندن» التي أعرفها، وهناك ألتقي بأخي وأتناقش معه. ثم
أستيقظ فأجد نفسي مرة أخرى في أمريكا. فلا شيء داخل الحلم غير
منظَّم بأيَّة طريقة: فالشارع، والمشي، والحوار مع شقيقي، أمور
يمكن كلها أن تحدث، وهي طبيعية جدًّا، لكن ما لا يُمكن أن يحدث،
ولو أنه حدث لانطوى على خرق للقانون الطبيعي؛ هو انتقالي من
فراشي من أمريكا إلى شوارع لندن دون أن أعبر المسافة بينهما، ثم
عودتي مرة أخرى إلى فراشي بطريقة خارقة. وقد يكون من الممكن طبعًا
أن نُفسِّر ذلك بطريقة أخرى غير افتراض أن يكون الحلم تجربة معينة
— رغم صعوبة تجربة الحلم كله التي ذكرناها الآن توًّا — أبدو فيها
أنا نفسي كما لو كنت قد انتقلتُ فجأة من أمريكا إلى لندن. فقد أخلد
إلى النوم في أمريكا، وأقع في غيبة الإغماء الجامد، وأنتقل، بغير
وعي، عبر المحيط الأطلنطي وأستيقظ في لندن، ثم في غيبة إغماء أخرى
أعاود أدراجي إلى أمريكا! لكنا عندما نقول إن ذلك لم يحدث،
وإنَّما كنت أحلم، فإن جزءًا من معنى ذلك، أن ما يبدو أنه قد
حدث لا يُفسَّر في الواقع بأيَّة سلسلة من الأحداث الطبيعية
المنظَّمة.
لم يبقَ ضروريًّا لإكمال النظرية سوى أن أُبيِّن فحسب الدور الذي
تلعبه فيها العمومية، أو الاتفاق العام للتجارب، ولماذا لا يكون
هذا الاتفاق بذاته كافيًا لتفسيرها، رغم أنه جزء من معيار
الموضوعية. وطبقًا لوجهة نظرنا فإن القول بأنَّ التجربة
موضوعية، يعني أنها مُنظَّمة، لكنها لا يمكن أن تكون كذلك إلا
إذا كانت جزءًا من النظام النسقي للعالم. وسوف نجد أن أيَّة
تجربة أخرى تكون غير منظَّمة في علاقاتها الداخلية أو علاقاتها
الخارجية أو فيهما معًا. والآن: فإن نظام العالم، طالما أنه
سلسلة من الأحداث تمتد من أغوار الماضي البعيد إلى المستقبل
اللامحدود، فإنَّه يجاوز تجارب أي ذهن فردي. والدليل على ذلك هو
دليل الجنس البشري كله. ليس ثمة سوى نظام عالَم واحد (على قدر ما
نعلم) تشارك في إدراكه جميع الموجودات البشرية بطريقة تكون فيها
جميع النوافذ مفتوحة، إن صحَّ التعبير! وليس ثمة كثرة من نسق
الأحداث المنظَّمة، لكل فرد. ومن ثَم فإن التجربة التي تكون
خاصة تمامًا ليست تجربة موضوعية، لا لأنها خاصة، وإنَّما
لأنها بما أنها خاصة، فسوف توجد باستمرار على نحو غير
منظَّم.
وما ينبغي علينا تفسيره بصفة خاصة: هو لماذا لا تكفي الواقعة
المحض التي تقول إن جميع الناس يتفقون في تفسيرهم للتجربة،
لتكون أساسًا للموضوعية؟ وهذا هو القصور الذي نجده في برهان
الإجماع في تطبيقه على التجربة الصوفية. وقد سبق أن أشرنا إلى
أن أي تجربة يمكن أن تكون كلية وعامة وأن تكون سهلة المنال
لكنَّها مع ذلك ذاتية. ولقد قدَّمنا أمثلة للسراب، وتجارب
«السانتونين»، والرؤية المزدوجة. وما تكشف عنه نظريتنا هو أن هذه
التجارب ذاتية، لا لأنها خاصة — طالما أنها في الواقع ليست
خاصة — بل لأنها غير مُنظَّمة. فلنأخذ حالة الرؤية المزدوجة،
فليس من غير المنظَّم أن الإنسان إذا ما ضغط على نصف العين رأى
الأشياء مزدوجة، لكن من غير المنظَّم أن الضغط على نصف العين
يحدث ازدواجًا موضوعيًّا للأشياء. فليس ثمة قانون من قوانين
الطبيعة تُدرج تحته هذه الظاهرة ويُفسِّرها. بل على العكس؛ فطبقًا
لكل القوانين السببية المعروفة، فإن ضغط المرء على نصف عينه لا
يؤثر على الأشياء التي يراها. ومن ثم فإن التجربة التي يمر
بها، أعني مظهر الازدواج، تتعارض مع القانون الطبيعي. ولهذا فهي
غير مُنظَّمة، وهي لهذا السبب ذاتية.
طالما أن النظام هو معيار الموضوعية، فإن علينا الآن أن
نُطبِّقه على الحالات الصوفية للوعي حتى نتأكَّد مِمَّا إذا كانت
موضوعية، فهل التجارب الصوفية مُنظَّمة بالمعنى المطلوب؟ إنَّ
تعريف النظام هو الاقتران المتواصل لعناصر الخبرة التي يمكن أن
تتكرر. والتعريف لا يذكر شيئًا عن التجربة الحسِّية، وهو مستقلٌّ
عنها تمامًا. وهو سوف ينطبق على أي نوع من التجارب. إن نظام
وموضوعية المحتويات الحسِّية سوف يعني الاقتران المتواصل لعناصر
خاصة بالتجربة الحسِّية. ونظام وموضوعية المحتويات غير الحسِّية
سوف يعني الاقتران المتواصل لعناصر خاصة بالتجربة غير الحسِّية.
ومن ثَم فإن علينا أن نسأل، ببساطة، عمَّا إذا كانت التجارب
الصوفية منظَّمة بهذا المعنى. سوف نتناول أولًا النوع الانطوائي من
التجربة الصوفية؛ فهي تجربة غير حسِّية ما دامت جميع الإحساسات
والصور قد استُبعدت منها، فهل هي تتألَّف من اقترانات متواصلة
لعناصر التجارب غير الحسِّية؟ من الواضح أن الجواب بالنفي؛ لأن
ذلك يتطلب أن يكون بداخل التجربة الانطوائية كثرة من العناصر
الجزئية للتجربة. في حين أن جوهر التجربة ذاتها هو أنها لا
تشمل على تمايز ولا اختلاف؛ فهي تخلو من كل كثرة، فلا تمايز بين
العناصر أو الأحداث بين النماذج المتكررة التي يمكن تعقبها. وبذلك
ينهار زعم الموضوعية الذي تزعمه التجربة الانطوائية، فهي لا يمكن
أن تكون موضوعية، غير أنه ينبغي على الشاك أو الناقد ألَّا يتسرع
عند هذه النقطة فيظن أنه انتصر؛ لأننا سوف نجد أنه، على
الرغم من أن التجربة ليست موضوعية، فإنَّها ليست كذلك ذاتية.
والواقع أن أمامنا طريقًا طويلًا ينبغي علينا أن نقطعه قبل أن
نحدد وضعها.
ولكي نرى ذلك فإن علينا الآن أن نُطبِّق على التجربة معيار
الذاتية، كما طبقنا عليها من قبل معيار الموضوعية. والتجربة تكون
ذاتية، بالمعنى الذي يكون فيه الهذيان والهلوسة والأحلام، ذاتية،
لا بد أن تنطوي على خرق إيجابي للقانون الطبيعي، سواء من
الناحية الداخلية أو الخارجية. وهي لا بد أن تكون غير مُنظَّمة،
ولا يكفي أن نُقرِّر النتيجة السلبية وحدها وهي أنها تفتقر إلى
النظام، وهي كل ما أظهرناه حتى الآن. التجارب الصوفية هي بالطبع
أجزاء من النظام الطبيعي بنفس المعنى الذي تكون فيه الأحلام
والهذيان والهلوسات أجزاء من هذا النظام؛ فهي لها أسبابها
ونتائجها. وهي واقعة موضوعية من حيث إن هذا الشخص المُعين، في
وقت معين، وفي مكان معين، كان له حلم، أو هذيان، أو مرَّ بتجربة
صوفية. غير أن اكتشاف ما إذا كانت التجربة من أي نوع ذاتية،
بالمعنى الذي يكون فيه الحلم ذاتيًّا، أو موضوعية بالمعنى الذي
تكون فيه التجربة الحسِّية الحقيقية، موضوعية، فإن علينا أن
ننظر إلى المضمون الداخلي للتجربة للنظر ما إذا كانت، سواء في
ذاتها، أو في علاقاتها مع ما يقع خارج حدودها، منظَّمة أو غير
منظَّمة. ولو أننا طبقنا الآن هذا المعيار على التجربة
الصوفية الانطوائية، لوجدنا أنها لا يمكن أن تكون ذاتية، بالضبط
لنفس السبب الذي يُظهرنا على أنها لا يمكن أن تكون موضوعية، فهي
لا يُمكن أن تكون غير منظَّمة داخل حدودها الخاصة، كمثل الحلم
بقِدْر الماء الذي يتجمد عندما يوضع على النار؛ لأنه ليس ثمة
عناصر يمكن تمييزها بداخلها لتُشكِّل تسلسلًا يُعارض الاقتران
المتواصل في نظام العالم، وفي الوقت نفسه لا يُمكن أن يُعارض
النظام الطبيعي في علاقاتها الخارجية؛ لأن ذلك يتطلَّب أيضًا أن
تتعارض العناصر الخاصة داخل التجربة مع العناصر الموجودة خارجها،
مثلما يتعارض وجودي في لندن في الحلم مع وجودي في فراشي في أمريكا،
دون أن أعبر المسافة التي تفصل بينهما، لكن لا توجد عناصر داخل
التجربة الانطوائية يُمكن أن تتعارض مع أي شيء خارجها، وينتج من
هذه الاعتبارات أن لا تكون التجربة ذاتية.
لا يوجد، في الواقع، شيء جديد في النتيجة التي وصلنا إليها. وسوف
نجد أن القضية التي تقول إن التجربة الصوفية لا هي ذاتية، ولا
هي موضوعية — هذه القضية هي نفسها نظرية صوفية أعلنها صراحةً كل
المتصوِّفة الفلاسفة — فهم لم يصلوا إليها عن طريق عملية
استدلالية، على نحو ما فعلنا في هذا القسم. لقد شعروا حدسيًّا،
وببساطة، أنها التأويل الطبيعي السليم لتجاربهم. صحيح أن ذلك
يبدو متعارضًا مع ما وجدناه في الفصل السابق من أن الإحساس
بالموضوعية هو إحدى الخصائص المشتركة بين جميع أنواع التجربة
الصوُّفية. غير أن الإحساس بالموضوعية هو في الواقع عبارة فجة
جدًّا، رغم أنه كان من المناسب استخدامها في مرحلة من مراحل
التفكير. والحقيقة هي أن المتصوِّف يشعر باقتناع شديد أو مكثف
بأنَّ تجربته ليست مجرد حُلم، بل هي شيء مطمور تمامًا بداخل وعيه
الخاص. وهو يشعر أنها تجاوز شخصيته الخاصة الضئيلة، وأنها أعظم
بشكل هائل من ذاته، وأنها، بمعنًى ما، تجاوز حدود فرديته إلى شيء
لا متناهٍ. وهو يُعبِّر عن ذلك بقوله — لأنه لا يجد كلمات أفضل —
إنَّها «واقعية» و«حقيقية»، بل هي الحقيقة الواقعية الوحيدة …
إلخ. ومن الطبيعي أن ينتقل من هذه الكلمات إلى القول بأنها
«موجودة» خارج ذاته، وأنها موضوعية … إلخ. وسوف نبذل أقصى ما
نستطيع لتوضيح ذلك في الخاتمة. وما يعنينا الآن على نحو مباشر،
هو أن نُبيِّن العبارة الأكثر دقة التي تقول إن التجربة الصوفية
لا هي ذاتية ولا موضوعية. هل تنطبق نفس الحجج ونفس النتائج على
النوع الانبساطي من التجربة الصوفية؟ يبدو لأول وهلة أن هذه
الحالة تختلف أتم الاختلاف؛ لأنه يوجد في هذه التجربة كثرة من
العناصر التي يُمكن التمييز بينها، وهي عناصر موجودة في مكان ما،
حتى إذا لم تكن تيَّارًا زمانيًّا؛ فالمتصوِّف الانبساطي يُدرك
بحواسه البدنية أوراق الحشائش، والأشجار، والأحجار، لكنَّه يُدركها
على أنها «كل واحد»، فهو يدركها على أنها متحدة ومتمايزة في
آنٍ معًا. وبمقدار ما يدركها على أنها متميِّزة، فإنَّها تكون
بالطبع من نوع العناصر التي يمكن تمييزها وهي التي تعرض النظام،
فالحشائش، والأشجار، والأحجار هي ببساطة جوانب موضوعية من النظام
الطبيعي.
لكن يبدو لي أنه على الرغم من أن الحشائش، والأشجار،
والأحجار هي موضوعية على هذا النحو، فإن واحديتها ليست كذلك.
إن الكثرة أو التعدد في التجربة ليست بما هي كذلك إدراكًا
صوفيًّا، وإنَّما الواحدية المُدرَكة في التجربة الانطوائية،
فهناك وحدة في الداخل، ووحدة في الخارج، لكن ليس ثمة وحدتان، بل
وحدة واحدة. وتلك هي بالقطع الدعوي الصوفية. وعلى أيَّة حال
فالوحدة الخارجية، مثل الوحدة الداخلية، لا يوجد فيها كثرة عناصر
ولا أحداث، ومن ثَم فإن نفس الحجج يمكن أن تنطبق عليها، كما
تنطبق على التجربة الانطوائية، ولا بد أن نستخرج منها التجربة
نفسها: فلا هي ذاتية، ولا هي موضوعية.
ثانيًا: تجاوز الذاتية
على الرغم من أن برهان الإجماع لا يُظهرنا على أن تجارب
الصوفية موضوعية، كما زعم بك
Bucke، ووليم جيمس، وعدد كبير
غيرهم من الكُتَّاب، بما في ذلك «بروفيسور برود
Broad» ومع ذلك فقد أدى بنا
إلى إحدى النتائج الهامة جدًّا؛ فهو دليل واضح على أن المتصوِّفة
ليس لديهم، بأيَّة طريقة أساسية، سوء تأويل لتجاربهم. إن الشاكَّ
قد يؤكِّد أنه على الرغم من أن المتصوِّف قد يعتقد أنه كبت
جميع الإحساسات، والصور، والأفكار العقلية، فإن ذلك في الواقع لا
يُمكن أن يكون صحيحًا. ولا بد أن نرد على ذلك بقولنا إنَّنا إذا
ما كان لدينا رواية واحدة من شخص يزعم أنه قد وصل إلى تجربة
باللاتمايز واللااختلاف تمامًا، فإنَّنا نكون على حق عندما ننظر
إلى هذه الرواية بشك كبير، فعلينا أن نفترض أنَّنا لا بد أن
نكون قد ارتكبنا خطأً ما، لكن إذا كان لدينا عدد كبير جدًّا من هذه
الروايات ومن مصادر مستقلة، تؤكِّد الرواية الأولى فإن شكنا
ينبغي أن يتضاءل، فإذا ما وجدنا أن هذه المصادر المستقلة تأتي من
عدد كبير من الثقافات المختلفة، والعصور، وبلدان العالم، من
الديانة الهندوسية القديمة، ومن مسيحية العصور الوسطى، ومن الفرس،
والعرب، ومن الديانة البوذية في الصين، واليابان، وبورما، وسيام،
ومن المُثقَّفين في أوروبا الحديثة وأمريكا، فسوف يكون ذلك اتفاقًا
بعمق يرقى إلى مستوى الدليل القوي على أن التجارب ليس فيها تزييف
في روايتها، وإنَّما هي بالضبط كما رواها المتصوِّفة
تمامًا.
ولو قبلنا ذلك فإنَّنا سوف ننظر مرة أخرى في التجربة
الانطوائية، وسوف نجد أنها على الأقل في الغالبية العظمى من
تجارب التراث الصوفية تُروى على أنها تجربة تجاوز الذات، فبعد
أن يكبت الفرد المحتوى الذهني التجريبي كله، يصل إلى وحدة خالصة،
إلى وعي خالص، هو أيضًا أنا خالص، وربما افترضنا أن ما وصل إليه
على هذا النحو هو أناه الفردية الخالصة، لكنه يروي واقعة أبعد من
هذه الذات، تبدو في البداية أنها ذاته الخاصة، وأنه يمر
بتجربة ذاته. وقد أصبحت فجأة متحدة مع، أو فنيت في، ذات كلية لا
متناهية؛ إذ تذوب جدران الحدود التي تفصل الذات، ويجد نفسه وقد
تجاوز ذاته بحيث يصبح مدمجًا مع وعي كلي بغير حدود. وهذا الوجه
من التجربة الصوفية قد تأكَّد في القسم الذي تحدَّثنا فيه عن فناء
الفردية في الفصل السابق. والنتيجة التي يستخلصها الصوفي، وهي ليست
بطريقة النتيجة التي نصل إليها بالاستدلال، بل هي شيء يمر بتجربته
مرورًا مباشرًا، هي أن ما وصل إليه ليس مجرد أناه الفردية
الخالصة بل الأنا الخالص للعالم، أو بعبارة أخرى إن ذاته الفردية
والذات الكلية متحدتان بطريقة ما، وتلك هي النتيجة المستخلصة صراحة
من الأوبنشاد، لكن اللاهوتيين المؤلِّهة اعترضوا عليها على أساس
أنها تنطوي على نفس الهرطقة الموجودة في وحدة الوجود، لكن نظرًا
للأسباب التي ناقشناها فإنَّه لا يُمكن النظر إلى الأنا الكلي على
أنه موضوعي؛ إذ طالما أنه يتجاوز الفرد فإنَّه لا يُمكن النظر
إليه على أنه ذاتي كذلك.
نحن مضطرون جميعًا — متصوِّفة وغير متصوِّفة على السواء — إلى
النظر إلى التفرقة بين الذاتي والموضوعي على أنها تفرقة مُطلقة،
بمعنى أنه يستبعد منها الحد الأوسط، ومن ثَم فإن الصوفي الذي
يشعر أنه وصل إلى ملامسة ما هو خارج الذات وما يجاوزها، فإن من
المحتمل جدًّا أن يُعبِّر عن ذلك باستخدام عبارات تتضمَّن أنَّ
الذات الكلية هي حقيقة واقعية موضوعية. وأنا هنا أؤكد ذلك، على
الرغم من أن الصوفي قد يكون له ما يُبرِّره في الاعتقاد بوجود
ذات كلية مفارقة، ومع ذلك فهناك خطأ مؤكَّد في طريقته في الحديث
إذا ما أكد أن لها وجودًا موضوعيًّا مفارقًا، ولا بد لنا أن
نقتنع في الوقت الحاضر بالنتيجة التي تقول إن وضعها يُجاوز
الذات. أمَّا إذا كان هناك شيء يمكن أن يُقال، ويكون أكثر تحديدًا
وأشد إقناعًا، فذلك ما سوف نناقشه في أقسام تالية من هذا
الفصل.
وفي استطاعة القارئ الناقد أن يقول إنَّه لا يستطيع — كما تزعم
الملاحظات السابقة — أن يقبل أو يقتنع بعبارة المتصوِّف التي تقول
إن تجربته نفسها تجاوز الذاتية. افرض أن القارئ وافق — على مضض
— على أن برهان الإجماع والاستقلال للمتصوِّفة في ثقافات كثيرة
مختلفة، وعصور، وبلدان … إلخ قد أظهر أنهم لم يُزيفوا تجاربهم،
ومع ذلك فإن هذا الاتفاق يقوم على الزعم بأن التجربة قد
نُظِر إليها على أنها مجرد واقعة سيكولوجية تحدث داخل ذاتية ذهن
المتصوِّف. والآن يُطلب من القارئ أن يوافق على أن التجربة
نفسها تذهب إلى ما وراء ذاتها إلى اللاذاتية. وسوف يعترض، بغير
شك، بأنه سيكون أسهل كثيرًا وأفضل كثيرًا، أن يرى ما إذا كان
فناء الفردية التي يتحدَّث عنه المتصوِّف ويقول إنَّه يشعر به لا
يمكن تفسيره بافتراض تأويلي لا ينطوي على القفزة الهائلة، وهي قفزة
التسليم بوجود أنا كوني خالص. ألا يحدث مثلًا في التجارب العادية
تمامًا، أنَّنا كثيرًا ما نفقد كل وعي بالفردية، وننسى أنفسنا
وتضيع ذواتنا للحظات عندما يستغرقنا بحث رائع يستحوذ على الانتباه؟
ألا يمكن أن يُفسَّر شعور الصوفي بضياع الفردية بطريقة مشابهة
تمامًا؟
لا شك أن لهذا الاعتراض وزنًا كبيرًا، ما لم يكن هناك اعتبار
أبعد لم نكشف عنه بعد. هناك استدلال لم يقُل به أحد من المتصوِّفة،
على ما أعلم، ولا من غيرهم، بل حتى لم يَعِه أحد، لكن بشرط أن
نقبل مقدمته، سوف يكون حاسمًا في دعم وجهة النظر التي يقول بها
الصوفي ضد وجهة نظر الشاك. وتقول المقدمة إن الصوفي قد استبعد
جميع المحتويات التجريبية من وعيه، وشعر بوعي خالص هو أناه
الفردية الخالصة. وهذه المقدمة لم تذهب أبعد من ذاتيته، لكن ما أن
نُسلِّم بذلك، فسوف نجد أنه من المستحيل منطقيًّا أن يقف عند هذا
الحد، وإنَّما نحن مضطرون إلى التسليم بأنَّ الأنا الفردي الخالص
هو في الحقيقة، ليس فرديًّا فحسب، وإنَّما هو فردي وكوني. ويسير
الاستدلال على النحو التالي:
افرض أن شخصَين «أ» و«ب» كَبتَ كل منهما في داخله المضمون
الذهني الخاص به، ومن ثَم بلغ كل منهما الوعي الصوفي لأناه
الخالصة. أيكون الموقف في هذه الحالة هو أن «أ» وصل إلى الأنا
الخالص الخاص ﺑ «أ» وأن «ب» وصل إلى الأنا الخالص الخاص ﺑ «ب»،
بحيث يكون لدينا في هذه الحالة اثنان من الأنا الخالص منفصلان؟
الجواب الطبيعي المتوقع لا بد أن يكون بالإيجاب: نعم، لكن لو صحَّ
ذلك فلا بد أن يكون هناك شيء هو الذي يفصل ويُميِّز أنا «أ» عن أنا
«ب». أعني مبدأ ما للقسمة أو التفريد يجعلهما كيانين متمايزين فما
هو مبدأ التفريد هذا؟
دعنا أولًا نتساءل ما هو مبدأ التفريد الذي يفصل بين ذهنين في
الحياة المألوفة. ذهنَين لم يُحاولا أو يبلغا أي وعي صوفي، بل
يعملان في مستوى تجربة الحياة اليومية. ما الذي يجعل، مثلًا، ذهن
مؤلف هذا الكتاب مختلف عن ذهن القارئ؟ لو طُرح هذا السؤال لا عن
الأذهان بل الأبدان عند المؤلف والقارئ، لكان الجواب بسيطًا
للغاية؛ فالمبدأ الأساسي للتفريد هنا هو المكان. أي إن المسافة
المكانية تفصل بين الجسدين وتجعلهما كيانَين متمايزَين. ولا شك أنَّ
ذلك إسراف في التبسيط، فحيثما يعيش شخصان في فترتين مختلفتين،
فإن الزمان — مثل المكان — يفصل بينهما. وكذلك قد تدخل الكيفيات
المادية المختلفة في عملية التفريد والاختلاف. فقد يكون شعر المؤلف
أبيض، بينما شعر القارئ بُنيًّا، لكنَّا نستطيع أن نتجاهل هذه
التعقيدات، ولا نُركِّز إلَّا على المبدأ الأساسي للتفريد
والاختلاف الذي هو المكان في هذه الحالة.
لكنا هنا نتساءل فقط عن مبدأ القسمة بين ذهنين، لا بين جسمين.
وربما كان أول اعتراض يُثار هو أنَّنا لا نستطيع أن نطرح مثل هذا
السؤال إلَّا إذا افترضنا ثُنائية بين الذهن والبدن. وأنه يُمكن
الاعتراض على مثل هذا الفرض. غير أن ذلك عبارة عن سوء فهم
للمشكلة، فالسؤال لا يفترض أيَّة نظرية على الإطلاق، ثنائية كانت
أم واحدية للعلاقة بين الذهن والبدن. إنَّه لا يفترض إلَّا إمكان
الحديث والتفكير بوضوح بألفاظ «ذهنية» و«استبطانية» على نحو ما
نتحدَّث بالألفاظ المادية سواء بسواء. إنَّه يزعم أنه ليس بغير
معنى أن نتحدث عن أفكار المرء الداخلية وعن مشاعره، وأنَّ العبارات
التي تُقال عنها، ليست، ببساطة، عبارات عن البدن. على الرغم من
أنه توجد، بغير شك، صلة وثيقة جدًّا بينهما. ولا يتضمَّن سؤالنا
أيَّة نظرية على الإطلاق، كما أنه لا يتضمَّن إنكارًا لأيَّة
نظرية. إنَّه لا يتحرك على مستوى النظرية بل على مستوى التجربة
إنه عبارة بسيطة عن واقعة نمرُّ بتجربتها، وهي أن المرء يستطيع
أن يتحدَّث حديثًا معقولًا عن أفكاره، ومشاعره، ومقاصده، ورغباته …
إلخ. وإنه عندما يفعل ذلك فإنَّه لا يتحدَّث عن المعدة، أو
الرئة، أو المخ. وفي استطاعتنا الآن أن نعود إلى سؤلنا ونسأل: ما
هو مبدأ التفريد الذي يُميِّز بين ذهنين يعملان معًا على مستوى
تجربة الحياة اليومية؟
لو أنَّنا استبعدنا الاختلافات البدنية، فيبدو واضحًا بالنسبة لي
أنه لن يكون هناك سوى ظرف واحد هو الذي يُميِّز ذهنًا عن ذهن
آخر، وأعني به أن كل ذهن يحتوي على تيار مختلف من الوعي، أو تيار
مختلف من التجارب، والمعنى واحد. سوف نجد أن المكونات، في أي
فترة من فترات الزمان التي تُكوِّن السيرة الذاتية الداخلية ﺑ «أ»
كالإحساسات والصور، والأفكار، والانفعالات، تختلف عن مكونات السيرة
الذاتية الداخلية ﻟ «ب»، ولسنا بحاجة إلى أن نُزعج أنفسنا كثيرًا
باللغز المُحيِّر عندما يقول «أ» و«ب» في حديث مشترك إنَّهما
ينظران إلى «نفس» الشيء المادي، فهل يكون لديهما بالفعل إحساس واحد
أو إحساسان منفصلان وإن كان متشابهين؟ لأنه سواء أكان هناك في
مثل هذه اللحظة الزمنية تقاطع فِعلي بين تيارين من الوعي، أو مجرد
تشابه فحسب، تظل الحقيقة باقية، وهي أن جانبًا كبيرًا من
المحتويات الذهنية ﻟ «أ» يستمر في معظم المدة مُتميِّز تمامًا عن
تيار «ب». وذلك، على قدر ما أرى، هو الشيء الوحيد الذي يُميِّز ذهن
أي إنسان عن غيره من الناس. وبعبارة أخرى، تتمايز الأذهان الواحد
منها عن الآخر بمحتواها التجريبي ولا شيء غير ذلك. وينتج من ذلك
أنه إذا كبت «أ» و«ب» بداخلهما جميع المحتويات التجريبية، فلن
يبقى ثمة شيء، أيًّا كان نوعه، يُمكن أن يُميِّز بينهما ويجعلهما
اثنين. وإذا ما وصل «أ» و«ب» إلى الوعي الصوفي للأنا الخالص، فلن
يكون هناك شيء يُميِّز بينهما ويجعلهما اثنين من الأنا
الخالص.
لو أنَّنا استخدمنا تفرقة الفيلسوف بين الأنا الخالص والأنا
التجريبي، لوجدنا أن ما ينتج من ذلك هو أنه توجد كثرة من الأنا
التجريبي في العالم، لكن لا يُمكن أن يكون هناك سوى أنا خالص واحد.
ومن هنا فإن الصوفي الذي وصل إلى ما يبدو لأول وهلة أنه أناه الخالص التجريبي، فإنَّه
في الواقع يصل إلى الأنا الخالص في
العالم، أي الأنا الكوني الخالص.
وذلك يُفسِّر، ويتفق مع، تجربة العلو الذاتي التي يرويها
المتصوِّف باستمرار. إن تجربة الصوفي مع الاستدلال النظري
المستقل تمامًا للفيلسوف تلخصان معًا الاتفاق على نتيجة واحدة
ويدعم بعضها بعضًا. وإذا لم تكن المسألة مسألة استدلال نظري، فإنَّ
الناقد الشاك يُمكن أن يستبعد الشعور بالعلو الذي يمر المتصوِّف
بتجربته، وغياب الهوية الشخصية في «وجود لا حد له» حسب رواية
«تنسون»، واختفاء الأنا وفناءها في «البركة الكلية» حسب رواية
«كويستلر»، والتجارب نفسها التي رواها المتصوِّفة المسيحيون،
وصوفية المسلمين بلغتهم اللاهوتية، ومتصوِّفة الهندوسية والبوذية
بلغة ومصطلحات تتناسب مع ثقافاتهم ونظرياتهم الخاصة – ويُمكن
للمتصوِّف أن يستبعد ذلك كله بالالتجاء إلى القول بأنَّ الشخص
المستغرِق في موضوع يشد انتباهه تمامًا ينسى نفسه. ومثل هذه
الحقيقة السيكولوجية الواضحة الشائعة سوف تبدو في أيَّة حالة — على
الأقل بالنسبة للمؤلف — غير كافية تمامًا لتفسير التجارب التي يمر
بها الصوفية، وهي تجارب غير عادية، وغير مألوفة، بل شاذة في
الواقع، لكن يبدو أنه من الأفضل الاعتماد على البرهان الاستدلالي
الذي اكتشفناه ونعرضه في هذا القسم.
الذات الكلية، إذن، هي تلك التي يصل إليها المتصوِّف، ويُمكن أن
يتحد معها. غير أن المشكلة في هذه الحالة تكمن في معنى كلمة هي
في هذه العبارة، فهي لا يُمكن أن تؤخذ بمعنى «يوجد»، طالما أنَّ
ذلك يجعلها موضوعية، لكن لا بد لنا أن نبقى، الآن، على الأقل، مع
النتيجة التي تقول إنَّها تُجاوز الذاتية، لكنَّها مع ذلك ليست
موضوعية، مُرجئين تصفية الحساب مع المشكلات التي تنطوي عليها إلى
قِسم لاحق.
يمكن أن نتناول الآن باختصار السؤال الذي طرحناه في الصفحات
السابقة، عمَّا إذا كان الواحد في التصوف الانبساطي هو نفسه
الواحد في التصوف الانطوائي، كما يُسلِّم بذلك المتصوِّفة
دائمًا. لقد سبق أن ذكرنا أن توحيد الصوفي لهما يفترض مقدمًا
أن تجربته موضوعية، ومن ثَم لا يُمكن مناقشته قبل أن تُحسم هذه
المشكلة أولًا. ولقد انتهينا الآن إلى أنه على الرغم من أنَّ
«الموضوعية» هي الكلمة الخطأ التي تُستخدم، فإن تجربة الصوفي
تُجاوز في الواقع ذاتيته، وهذه تكفي لإمكان التوحيد بين الواحد
الداخلي والخارجي، إذا ما كان هناك أساس جيد لكي يفعل ذلك، فهل
هناك، بغض النظر عن افتراض الصوفي الحدسي غير الاستدلالي أي مبرر
للتوحيد بينهما؟ ربما قلنا إن افتراض أن الواحدَين الاثنين هما
في الحقيقة واحد هو افتراض طبيعي جدًّا، ومن المحتمل أن يكون
صحيحًا. وربما تركناه عند هذا الحد. وإن كنَّا نستطيع الآن أن نكون
أكثر تحديدًا من ذلك؛ لأن البرهان الذي بيَّنا، الآن توًّا، على
أساسه أن الأنا الخالص للفرد متحد من الأنا الخالص للعالم، يُمكن
أن يُستخدم كذلك لبيان أن الواحد في التجربة الانبساطية
مُتَّحِد مع الواحد في التجربة الانطوائية؛ لأنه طالما أنهما
معًا فارغان من أي محتوى فليس ثمة ما يُشكِّل مبدأ للتفرد بينهما.
إذ كما لاحظنا فيما سبق فإن الأشياء الحسِّية التي تُدركها
التجربة الانبساطية على أنها «الكل واحد» ليست هي نفسها أجزاء
الواحد في التجربة الانبساطية الذي هو في ذاته لا تمايُز فيه ولا
مضمون له.
ثالثًا: الشعور بالموضوعية
سوف أدرس بإيجاز في هذا القسم ما إذا كان الاقتناع الذاتي
بالموضوعية أو الحقيقة الواقعية التي يشعر بها الصوفي، ينطوي على
أي قدر من الإقناع لغير الصوفي. إن الفلاسفة يميلون إلى القول
بأنَّ ما يشعر به الصوفي عن يقين، مهما كان مقنعًا بالنسبة
للمتصوف، ليس له أي وزن عند غير المتصوف. فالناس لديهم مشاعر ذاتية
قوية باليقين عن جميع الأشياء. ومع ذلك فقد يكون ذلك مجرد وهم
وضلال.
غير أن معالجة الموضوع على هذا النحو فيها فروسية أكثر ممًّا
ينبغي؛ ذلك لأنَّ شعور الصوفي يختلف اختلافًا تامًّا عن مجرد
النزوة أو التمسُّك العنيد للرأي الشخصي أو الرأي المبتسر؛ فهو —
بخلاف الآراء المبتسرة — كلي يجاوز الذاتية، بمعنى أنه يتعلَّق
بنوع مُعيَّن من التجربة عند مَن مرَّ بهذه التجربة، (ونحن لا
نظن أن الحالات المؤقتة تحدث عندما يكون لصاحب التجربة شكوك
لفترة قصيرة من الوقت؛ مثل جاكوب بوهيمي)، ومن هنا فلا بد من تفسير
اليقين الصوفي، على الأقل، على أنه ظاهرة سيكولوجية.
وكثيرًا ما بُذلت محاولات لتفسير هذه الظاهرة على أساس افتراض
أنها تقوم على اللاشعور، مع افتراض أن التجربة الصوفية تأتي
من هذا اللاشعور. وما دام اللاشعور يقع خارج الذهن الواعي، فإن صاحب التجربة يشعر أنه قد سيطر عليه ما هو خارج ذاته. غير أن الصوفي
قد يُسلِّم أن تجربته تأتي من خلال اللاشعور، لكنَّه يصر
مع ذلك أن مصدرها النهائي، يُجاوز اللاشعور، كما أنه خارج نفسه
أيضًا. وقد لا يكون اللاشعور سوى أنبوبة يصل منها الفرد إلى حقيقة
واقعية تجاوزه تمامًا.
ويبدو أن هناك تفسيرًا للشعور بالحقيقة الواقعية أشد عمقًا
وأكثر أهمية من هذا التفسير. لقد أشرنا بالفعل فيما سبق أن هذا
الشعور بالحقيقة الواقعية هو جزء من التجربة الصوفية نفسها، وليس
تأويلًا عقليًّا لها. والعلو على الذات في التجربة هو نفسه تجربة
وليس فكرًا؛ إنَّه التجربة بفناء الفردية، واختفاء «الأنا»،
وتجاوزها لذاتها فيما أسماه «كويستلر» «بالبركة الكلية». علينا أن
نُسلِّم، كالمعتاد بالطبع، أنه لا يوجد خط فاصل وحاسم بين
التجربة والتأويل. غير أن الاعتبارات التي قدَّمناها في القسم
الثامن من الفصل الثاني، تُبيِّن بما لا يدع مجالًا للشك، أنَّ
فناء الفردية هو تجربة يمر بها الصوفي بالفعل. والآن فإن القول
بأنَّ العلو الذاتي هو جزء من التجربة نفسها هو السبب في أن
الصوفي يكون على يقين مطلق من حقيقتها، بعيدًا عن أي احتمال في
مجادلته في ذلك. إن تأويل التجربة يُمكن الشك فيه، لكن التجربة
نفسها لا يُمكن الشك فيها.
ليس ذلك تفسيرًا سيكولوجيًّا فحسب لشعور الصوفي باليقين، وإنَّما
هو تبرير منطقي له أيضًا. ويظهرنا ذلك على أن ما يقوم به
الفيلسوف، عادة، من رفض جاف للقيمة الثابتة لهذا الشعور، ليس له
ما يبرِّره. وباختصار، فإن شعور الصوفي باليقين يُزوِّد غير
الصوفي بالفعل ببرهان إضافي لصالح تجاوز الذاتية. وليس في
استطاعتنا أن نشك في أن الصوفي يمر بتجربة الحقيقة الواقعية،
اللاذاتية، لنفس السبب الذي يجعلنا لا نستطيع أن نشك في تجربة
الإنسان بنظام مُعيَّن.
وهذا البرهان يخضع بالطبع لشرطين لا بد أن يُدخلا عنصر الشك من
جديد أثناء التطبيق العملي. ويعتمد الشرط الأول على افتراض أنَّنا
نستطيع أن نُميِّز بوضوح بين التجربة والتأويل. ويعتمد الشرط
الثاني على افتراض أن الصوفي لم يُسِئ وصف تجربة عن عمد
ووعي.
وهذه الاعتبارات سوف تُقلل، إلى حد ما، من قوة الإقناع في
البرهان لكنَّها لا تُدمره تمامًا.
رابعًا: المونادية الصوفية
سبق أن تحدَّثتُ عن «التراث الصوفي الرئيسي» على أنه يأخذ
بوجهة النظر القائلة بأنَّ الذات الفردية تُجاوز نفسها في التجربة
الصوفية الانطوائية، لتتحد مع اللامتناهي أو الذات الكلية. ومع ذلك
فهناك أقلية ضئيلة، على حين أنها تقبل الواقعة السيكولوجية
للتجربة الانطوائية، تصور على أنه لا يوجد علو في الذات
الفردية. وهذا التراث لا يُنكر بالضرورة أن التجربة تشمل على
شعور بعلو الذات، لكنَّه يُنكر أن يحدث ذلك بالفعل. وهو يُفسِّر
الشعور بعلو الذات على أنه وهم وضلال.
ويُمكن أن نسوق — كمثال على ذلك النص — الآتي من مارتن بوبر:
٧
«عرفتُ، معرفة جيدة، من تجربتي التي لا تُنسى، أن هناك
حالة تتلاشى فيها قيود الطبيعة الشخصية للحياة وتمر
بتجربة واحدة غير منقسمة، لكني لا أعرف ما الذي تتخيَّله
الروح طواعية، وما الذي تضطر إلى تخيله — (وهو ما فعلته
روحي ذات مرة) — وإنَّني بذلك قد بلغت اتحادًا مع موجود
أول أو مع الألوهية … وبوصف أمين لفهم مسئول فإن هذه
الوحدة ليست سوى وحدة روحي التي وصلت إلى «الأنا» الأساسي
فيها … وهكذا لم يكن لروحي أي اختيار سوى فهمها على أنها
بغير أساس. غير أن الوحدة الأساسية لروحي تُجاوز بالقطع
كل كثرة قد وصلت إليها حتى الآن عن طريق الحياة، وإن لم
تُجاوز على الأقل التفريد، أو كثرة جميع الأرواح في العالم
التي هي واحد - موجود، لكنَّه فريد مفرد، لا يُمكن رده إلى
وحدة مخلوقة: وحدة الأرواح البشرية، فهو ليس
روح الكل …»
٨
أول شرح يُمكن أن يُساق على هذه الفقرة هو أنها تُزودنا بدليل
أبعد لا يُمكن رفضه على أن التجربة الواحدة التي لا تمايُز فيها
ولا اختلاف و«التي تجاوز بالقطع الكثرة التي وصلتها حتى الآن من
الحياة» … (قارن ذلك بالعبارة التي استخدمتها «مادوكا أوبنشاد»،
والتي تتحدَّث عن «… الوعي الموحِّد الذي … انطمست فيه تمامًا كل كثرة».)
٩ هي واقعة سيكولوجية، لكنَّها ليست كما يذهب البعض،
وصفًا مزيَّفًا لمتأمل بطني غير كفء. والقول بأن التجربة
الانطوائية هي وحدة لا تمايز فيها خالية من كل كثرة هي الخاصية
النواة المركزية والأساسية لهذه التجربة التي تندرج تحتها جميع
الخصائص المشتركة الأخرى. ولقد قدَّمنا في الفصل السابق عددًا
كبيرًا جدًّا من الشهود، اخترناه من ثقافات كثيرة مختلفة، وعصور
متعددة تتفق كلها على هذا الوصف، لكن كل واحد من هؤلاء الشهود —
باستثناء ج. أ. سيمتوتر — ينتمي إلى العصور ما قبل العالم الطبيعي
وعلم النفس. كل واحد منهم، ما دام أنه ينتمي إلى عصور غير متحضرة
عاش فيها، لم يكن لديه نقد ذاتي على الإطلاق إذا ما قورن بالمفكر
الحديث. ثم ظهر الآن إنسان من عصرنا الحاضر، على وعي تام
بالصعوبات الشكِّية، وكذلك المخاطر التي تكتنف طريق علم النفس
الاستنباطي، الذي تحدث بنفس الألفاظ بالضبط التي تستخدمها الوحدة
التي لا تمايز فيها ولا اختلاف، كما مرَّ، شخصيًّا، بتجربتها هو
نفسه. ومن المحتمل بالطبع أن يكون «بوبر» أيضًا، رغم ما عُرف عنه
من إسهامات عظيمة، قد اشترك مع الآخرين جميعًا في نفس الخطأ
الاستبطاني العام. غير أنه لا يبدو لي هذه النظرة مقبولة.
عبارة «بوبر» لنفس هذه الأسباب بالضبط شهادة لا يُمكن دحضها تقول
إن فناء الفردية، أو بعبارته هو «الحالة التي تبدو فيها قيود
الطبيعة الشخصية … تلاشت» هي أيضًا حقيقة سيكولوجية وليست وصفًا
مزيفًا.
يكفي هذا عن وصف «بوبر» للتجربة ذاتها، ودعنا ننتقل إلى تأويله
لها. والواقعة الجديرة بالملاحظة هي أنه قدَّم — في فترتين
مختلفتين من حياته العقلية — تأويلين مختلفَين للتجربة نفسها.
١٠ ومن الواضح أنه قام بتأويله المبكر بعد أن مرَّ
بالتجربة مباشرة، وذلك يتفق مع التراث الصوفي الرئيسي؛ فهو يؤمن
بتجاوز الذاتية ويقبلها على أنها حقيقة «وصل إليها عندما بلغ
مرحلة الاتحاد بالموجود الأول»، لكنَّه في فترة أخرى من حياته
غيَّر رأيه، وهو الآن يؤكِّد أن الوحدة التي لا تمايز فيها ولا
اختلاف التي مرَّ بتجربتها، لم تكن سوى وحدة الذات نفسها، أناه
الفردية الخالصة، واحدة بين بلايين من الأنا الفردية الخاصة وليست
«روح الكل».
تأويلات التجربة، بما في ذلك التأويلات التي يقدمها المتصوِّف
نفسه، ليس لها نفس السلطة التي لا تُدحَض، على نحو ما تكون لأوصاف
التجربة ذاتها. إن آراء «مارتن بوبر»، مثل التأويلات الفلسفية
الصحيحة لما مرَّ بتجربته، جديرة بالنظر إليها من زاوية عميقة.
لكنها تظل في النهاية مجرد آراء «لمارتن بوبر» من حقنا أن نختلف
معه فيها لو كانت لدينا مُبرِّرات قوية كافية. لا بد أن تكون هذه
الحالة، بصفة خاصة، هي التي مرَّ بها هو نفسه عندما قدَّم لنا
تأويلات متناقضة. وهناك بغير شك الكثير مما يُمكن أن يُقال بشأن
قبول التأويل الذي قدَّمه في اللحظة التي مرَّ فيها بهذه التجربة،
عندما كانت لا تزال حيَّة ونضرة، لصالح التأويل الذي جاء كفكرة
لاحقة، ربما بسبب ضغط التراث اليهودي الذي يُعارض مفهوم الوحدة أو
الاتحاد؛ لأنه لا يُمكن أن يكون هناك أدنى شك، فيما أظن، أنَّ
ضغط البيئة الثقافية التي ينتمي إليها كان هو السبب الأساسي في
تغيير رأيه الذي سار في خط يُعارض تمامًا البذور التي وجدت في
مشاعره التلقائية.
ربما كانت اليهودية أقل ديانة من ديانات العالم الكبرى، في
جانبها الصوفي، أعني أنها أقل ديانة تطمس جميع التمييزات وجميع
الكثرة،
بما في ذلك التمييز بين الذات والموضوع، والثنائية بين
الذات الفردية والذات الكلية، وهو جزء من تعريف التصوف؛ ذلك
لأنَّ التصوف في الثقافات غير اليهودية يُعرَف، عادة، بطريقة تجعل
مفهوم «الوحدة»، أو «الاتحاد» مع ما أسماه «بوبر» «الموجود الأول»
جزءًا من ماهيته ذاتها. ومع ذلك فنحن نجد أن مؤرخ التصوف
اليهودي «ج. ج. شوليم»، يقول: إن الوحدة ليست أساسية في
التصوف اليهودي. ولنأخذ، مثلًا، المتصوِّفة الأُوَل … في عصر التلمود.
١١ وما بعده … كانوا يتحدَّثون عن صعود الروح إلى عرش
السماء حيث تنعم بنظرة نشوانة بعظمه الله.
١٢ وهو يعتقد أنه «سوف يكون من الخُلف المُحال أن نُنكر
أن هناك خاصية مشتركة بين جميع أنواع التصوف»، ثم يُشير إلى
تلك الخاصية العامة على أنها «الاتصال المباشر بين الفرد والله».
١٣ لكنَّه لا يعني بهذه الخاصة «الاتحاد»، وإنَّما الرؤية
المباشرة لله، أو بالأحرى
لعرش الله. وهو يُقدِّم صورة مفصَّلة عن
عرش الصوفية، ويلاحظ أن ماهية التصوف اليهودي المبكر هي «إدراك
ظهور الله على العرش كما وصفه حزقيال».
١٤ كما أنه وجد كذلك بين متصوِّفة العرش «أوصاف … البهو
السماوي والأماكن التي يسير فيها النظر حتى يصل إلى السماء
السابعة، وفي نهايتها يظهر عرش الله». ومن الواضح أن ذلك كله؛
الرؤى، والاتصال المباشر بالله، لا يُشكِّل تجربة صوفية بالمعنى
الذي ناقشناه في هذا الكتاب. لقد سبق أن رأينا أن الرؤى والأصوات
لا تُعتبر ظواهر صوفية في أيَّة ثقافة دينية خارج اليهودية، ونحن
نذكر التصريح المحدَّد للقديس يوحنَّا حامل الصليب، الذي يقول فيه:
«إن الروح لا تستطيع أبدًا أن تبلغ درجة
الاتحاد بالله … من خلال
وسط الصور أو الأشكال».
صحيح أن متصوِّفة الحسدية المتأخرة، كثيرًا ما نجد عندهم بما فيه الكفاية، نوع التصوف
الذي يشتمل على «الاتحاد»، لكن مِن
الواضح أن ذلك انحراف عن قاعدة الأنواع اليهودية، ويبدو غريبًا
عن الثقافة اليهودية. ففي تراث الديانات السامية عمومًا هناك، في
العادة، هوة عظيمة، تفصل بين الخالق ومخلوقاته، ولا يستطيع روح
الفرد أبدًا محوها. بل ينظر إلى إزالتها على أنه ضرب من التجديف.
ويصْدُق ذلك على الإسلام، بقدر ما يصْدُق على اليهودية، ولقد
ورثتها المسيحية عن اليهودية. ومن الواضح أن هناك عددًا من
المتصوِّفة داخل الديانات الثلاث، مرُّوا بتجربة الشعور بفناء
الفردية، وبالتجربة التي تجاوز ذات المرء، وهي التي نُسمِّيها بما
وراء الذاتية. غير أن الديانات الثلاث، بدرجات متفاوتة، تخشى من
أن تؤدي هذه الفكرة إلى «هرطقة» وحدة الوجود. ومن المهم إلى أقصى
حد أن ننتبه إلى أنه، رغم الفهم المشترك للموضوع، فإن لكل
ديانة من الديانات الثلاث رد فعلها الخاص، الذي يُميِّزها، ولها
تأويلها الخاص، الذي يختلف عن ردود فعل الديانتين الأخريين، لكن
أقوى رد فعل ضد الاتحاد كان في الديانات اليهودية، التي اعتادت أن
تؤوِّل تجربتها الدينية بما تُسمِّيه «ديفيكوث
Devekuth»، وهي كلمة تعني
الاتصال أو الالتصاق المباشر، رغم وجود استثناءات في «الحسدية».
ويُصرُّ الإسلام أيضًا على وجود هوة بين الله والإنسان، ومن ثَم
فهو يُنكر وحدة الوجود. ومع ذلك فقد كان من بين المتصوِّفة من زعم
الوصول إلى الاتحاد، بل حتى إلى الهوية مع الله، وهم أكثر شيوعًا
من متصوِّفة اليهود، وتلك في الواقع هي القاعدة وليس الاستثناء.
وأخيرًا؛ أصبح «الاتحاد» عند متصوِّفة المسيحية، ماهية الحالة
الصوفية ذاتها، غير أن النفور من وحدة الوجود يُعبِّر عن نفسه
الآن في تأويلات متنوعة ونظريات مختلفة حول معنى «الاتحاد»، وهي
كلها تستبعد الهوية الفعلية بين الأرواح الفردية وبين الخالق.
وكثيرًا ما تم تأويل الاتحاد في التراث المسيحي بمقوله التشابه
أكثر من تأويله بمقولة الهوية. وسوف ندرس هذه النظريات جنبًا إلى
جنب مع المسائل الفلسفية التي تتضمَّنها بتفصيل أكثر في الفصل
الذي نتحدَّث فيه عن وحدة الوجود، وحتى ذلك الحين فإنَّنا نجد أن
الديانات الثلاث يُمكن ترتيبها في نظام تصاعدي طبقًا لاختلافها
في درجات القوة في ردود أفعالها ضد وحدة الوجود. ورد الفعل اليهودي
هو الأقوى، ومن الطبيعي أن يرفض فكرة الاتحاد كلها، بحيث يبدو
الزعم «الحسيدي» استثناء غير مألوف. أمَّا الإسلام، فهو يرفض هو
الآخر فكرة الاتحاد، رغم أن المتصوِّفة ابتهجوا بها، حتى أصبح
أولئك الذين ينكرونها هم الاستثناء. أمَّا المسيحية فقد قبلت فكرة
الاتحاد من كل قلبها، وجعلته ماهية التصوف، لكنَّها رفضت تأويلها
على أنها هوية، ومالت إلى تأويلها تأويلًا يحتفظ بالثنائية بين
الخالق والمخلوق. وعندما ننتقل إلى خارج التأثير السامي تمامًا،
سنجد في التصوف الهندي، على نحو ما يظهر عند الهندوس قبولًا
صريحًا لهوية وحدة الوجود.
وعلى ذلك فإن علينا أن نفهم وجهة نظر «مارتن بوبر» التي عرضها
في الفقرة التي اقتبسناها فيما سبق، في ضوء الثقافة اليهودية التي
نشأ فيها. ومن الواضح أن تجربته الصوفية قد اضطرته بقوة — كما
اضطرت كل متصوِّف حقيقي — إلى الإيمان بأنه قد بلغ فيها مرحلة
الاتحاد، بمعنى ما، مع «الموجود الأول». غير أن القول بأن
تراثه الثقافي كله الذي أثَّر فيه، ضد ميله الطبيعي، جعله يرفض
هذه الفكرة. وكانت النتيجة واحدية الصوفية، وذلك يضم بلوغ نفس
النوع من التجربة الصوفية الانطوائية كما يوجد في الثقافات
الأخرى، بما في ذلك الثقافة الهندوسية والبوذية، إلى التأويل الذي
يتفق مع الإيمان بأنَّ الروح الفردية تظل إلى الأبد «موناد»
Monad١٥ روحيًّا يتميَّز عن جميع المونادات الروحية الأخرى،
كما تتميَّز، بالطبع، عن
الموناد الأعلى.
لقد أكَّد «بوبر» أن الروح في التجربة الصوفية تُجاوز الكثرة،
مع ذلك «فهي لا تجاوز على الأقل التفرُّد أو كثرة جميع الأرواح».
لكنَّه فشل في أن يسأل، ومن باب أولى أن يُجيب على السؤال، ما هو
مبدأ التفرُّد الذي يُميِّز بين «موناد» وآخر؟ ولو أنه طرح هذا
السؤال، فربما رأى، كما أشرنا في القسم السابق، أن الفرد إذا
ما استبعد كل كثرة مادية داخلية، وبلغ الوحدة الأساسية الخالصة
للأنا الخالص، فلن يبقى شيء عندئذٍ، يُمكن أن يُميِّزه عن أنا
الآخرين الخالص. ومن ثَم فعن طريق جدل الضرورة المنطقية الداخلية،
يُصبح التفرد مستحيلًا، وهكذا تنتقل جميع الذوات إلى الذات الكونية
الواحدة.
ينبغي علينا أن لا نترك القارئ ولديه انطباع بأنَّ «بوبر» هو
الممثل التاريخي الوحيد للواحدية الصوفية، فقد يكون هناك بالطبع
عدد كبير آخر من طائفة اليهودية؛ رجال مرُّوا بتجربة الوحدة التي
لا تمايز فيها ولا اختلاف، مع تأويلها على نحو واحدي، لكن
تجاربهم وتأويلاتهم ظلَّت غير مدوَّنة، لكن حتى خارج الديانة
اليهودية، في الهند مثلًا وفي أماكن كثيرة، نجد أن المونادية
الصوفية تراث ضئيل؛ فمن الواضح أن فلاسفة «السانخيا» و«اليوجا»
وكذلك فلاسفة الجينية،
١٦ ينتمون إليها. ويبدو أن هناك ما يُبرِّر الاعتقاد
بأنَّ حكماء «السانخيا» و«اليوجا»، والقديسين والمخلصين في الجينية
و«اليزثمكارا» أو «صانعو المخاض»،
١٧ أو العبور من عالم الزمان إلى عالم الأزل، كانوا
متصوِّفة انطوائيِّين، بمعنى أنهم مرُّوا بنفس تجربة الوحدة لا
اختلاف فيها ولا تمايُز، التي هي المرحلة الأخيرة في التصوف
الانطوائي في جميع أنحاء العالم. فهي نفس التجربة التي أوَّلها
حكماء «الأوبنشاد» على أنها هوية الذات الفردية والذات الكلية،
وأصبحت التراث الصوفي الرئيسي في «الفيدانتا»، على حين أنَّ
متصوِّفة «السانخيا» و«اليوجا» أوَّلوها تأويلًا واحديًّا. فالخلاص
بالنسبة لكل مذهب من مذهبي «السانخيا» و«اليوجا»، يعتمد على انفصال
«البروشا
Purusha»،
١٨ أعني الأنا الفردية الخالصة، عن انغماسها في المادة
والإحساسات، وعلى بلوغها العزلة الأزلية عن العالم، وعن جميع
المونادات الحيَّة الأخرى. وسوف تكون حياة «البروشا» بعد ذلك، حياة
سلام دائم، وحياة سكون، وهدوء، لا يزعجها أي لهْو يأتي من العالم أو
من الموجودات الحية الأخرى، وهي ستكون «أنا» خالصًا ووعيًا خالصًا،
نظيفة كالبلور، بغير لون، ولا خلل، ولا مسحة من أي دنس تجريبي.
وتلك هي «النرفانا» عندهم. ذلك هو الخلاص الذي كان يسعى إليه
«صانعو المخاض»، وقد بلَغوه هم أنفسهم، وحقَّقوا النصر من خلال
تمرينات اليوجا التي تُوقف النشاط التلقائي لجوهر الذهن:
«خالدون على نحو ما هم عليه،
متشحون بالقوة،
لا يخلدون إلى الراحة أبدًا،
آلهة تكتسح الساعات العقيمة،
أعظم جدًّا من أن نسترضيها، أعلى جدًّا من أن
نُناشدها،
أبعد جدًّا من أن نستدعيها …»
خامسًا: الذات الكلية: الخواء-الملاء
انتهينا إلى أن مفهوم الذات الكلية، أو الذات الكونية التي
تندمج فيها ذات المتصوِّف على الأقل في لحظة «الاتحاد»، هي تأويل
صحيح للتجربة الصوفية الانطوائية. ويظل التساؤل عمَّا إذا كان هذا
المفهوم الصوفي عن الذات الكلية هو نفسه المفهوم اللاهوتي عن الله.
ويظل التساؤل كذلك عن معنى كلمة «هو» عندما نقول عبارة مثل «إنَّه
هو الذات الكلية»، وما دامت لا هي ذاتية ولا موضوعية؛ فهي لا يُمكن
أن تعني «يوجد» بالمعنى الذي نقول فيه «يوجد» هناك أشجار، وأنهار،
وأحجار. كما أن العبارات الصوفية عنها — أو عن أي شيء آخر — لا
يُمكن أن تكون «صادقة» بالمعنى العادي المألوف الذي تكون فيه
العبارات التجريبية صادقة، لكنَّها أيضًا لا يُمكن أن تكون كاذبة
بالمعنى العادي المألوف. وسوف نُسمِّي ذلك بمشكلة وضع Status القضايا الصوفية. وسوف
نرجئ دراسة هذه المشكلة حتى نهاية هذا الفصل. أمَّا ما سوف نُناقشه
في هذا القسم، فهو السؤال: ما الذي يُمكن أن نعرفه أكثر من ذلك عن
الذات الكلية إلى جانب الواقعة العارية التي تقول إن الذات
الكلية، أو الأنا الخالص، أو الوعي الخالص عبارة عن خواء Void؟ لأنه لا تزال هناك
نقاط هامة أبعد من ذلك ينبغي توضيحها. وأيًّا كان ما نقوله فسوف
يخضع للتفسير النهائي لمشكلة وضع القضايا. وبعبارة أخرى لو أنَّنا
قلنا أي شيء من صورة العبارة الآتية:
«الذات الكلية» هي «س»، أو «ص»، فإنَّنا في هذه الحالة لم نحسم
مشكلة ما الذي نعنيه بهذه العبارة.
لقد سبق أن لاحظنا أن التجربة التي يؤكِّد الصوفي أنه مرَّ
بها، وهي تجربة الوحدة الفارغة تمامًا، أي الوعي الخالص، الذي ليس
وعيًا بأي شيء، بل على العكس، يخلو من المضمون، هي تجربة تنطوي
على مفارقة إلى أقصى حد. فهذا الخواء، وهذا العدم، هو في الوقت
ذاته — كما سبق أن لاحظنا — اللامتناهي. إنَّه الوعي الخالص، أو
الأنا الخالص، وهو الواحد عند أفلوطين، وفي «الفيدانتا»، وهو
الوحدة الإلهية عند إيكهارت، وروز بروك. وهو الذات الكلية، وهو
إيجابي وسلبي في آنٍ معًا، وهو النور والظلمة، و«الغموض الذي يُصيب
بالدوار» عند سوزو Suso، وسوف أطلق
على هذه المفارقة: «الخواء-الملاء». وتطوير ما يُمكن أن نعرفه
أكثر من ذلك عن الذات الكلية لن يكون سوى تطوير لتفصيلات هذه
المفارقة.
وربما بدأنا من فكرة
الواحد الذي ينطوي على مفارقة؛ لأنه
بالقطع ليس هو الواحد أو الوحدة بالمعنى الذي نستخدم فيه عادة هذه
الكلمة؛ لأن كلمة الواحد كما نستخدمها في تجربتنا اليومية
المألوفة تُعبِّر باستمرار عن واحد عيني؛ أي واحد يتألَّف من كثرة.
فهي وحدة أو كل يضم أشياء كثيرة معًا، فأي شيء مادي، على سبيل
المثال، مما نُسمِّيه شيئًا
واحدًا: قطعة واحدة من الورق، منضدة
واحدة، نجم واحد … إلخ، هو واحد بمعنى أنه كل واحد يتألَّف من
أجزاء كثيرة. ولو انعدمت الأجزاء لاختفت وحدتها. غير أن
الواحد
الصوفي هو وحدة مجردة، انطمست فيها كل كثرة للأجزاء أو المحتويات.
وربما أمكن مقارنتها بالتصوُّر الأفلاطوني للعدد (١) في الرياضة، يقول سقراط في محاورة
الجمهورية: «أنت
تعلم ولا شك ما يفعله الراسخون في علم الرياضة، فإن شاء المرء في
نقاشه معهم أن يسِم الوحدة الصحيحة، نراهم يسخرون منه، ويأبون أن
يستمعوا إليه. فإذا قسمت الوحدة الصحيحة، نراهم يسخرون منه، ويأبون
أن يستمعوا إليه. فإذا قسمت الوحدة بالفعل، فإنَّهم يعيدون جمعها،
خشية أن تفقد الوحدة وحدتها، وتبدو كثرة من الأجزاء …»
١٩ غير أن قيمة هذه المماثلة مشكوك فيها؛ ذلك لأنَّ
الواحد الصوفي — بخلاف تصوُّر أفلاطون للعدد (١) — هو الذات وهو الوعي
الخالص. الوحدة الأفلاطونية هي الفراغ الخالص، أمَّا الواحد الصوفي
فهو في آنٍ معًا: فراغ وملاء.
من المتوقَّع بالطبع أن نجد مفارقات التصوف في أقصى حد لها، أو
في أعنف صورها، في تلك الديانات والفلسفات التي كان للتصوُّف فيها
تأثير ملهم، وهي بغير شك ديانات وفلسفات الهند. فديانة الأوبنشاد،
وفلسفة «الفيدانتا» معًا قد تأسَّستا تمامًا، تقريبًا، على الوعي
الصوفي؛ فهو ينبوعها الأعلى. وقُل مثل ذلك في الديانة البوذية التي
تأسَّست تمامًا على تجربة الاستنارة عند بوذا، والتصوف في
ديانات التأليه الغربية، كما يقول بروفيسور بيرت
Burt،
٢٠ هو تيار ضعيف رغم أنه تيار هام. ومن ثَم فمن الممكن
أن يتوقَّع المرء في هذه الديانات ظهور المفارقات الصوفية، وإنْ
كانت في صورة مخفَّفة وأقل وضوحًا. وهذا ما نجده بالفعل. وبهذا
فسوف يكون من الأفضل أن نفحص مفارقة «الخواء-الملاء» في المكان
الذي تكون فيه حيَّة أكثر، ويُمكن أن نتعرَّف عليها فيه بسهولة، ثم
نمضي بعد ذلك لنتعقَّب مظاهرها في مكان آخر، وهي توجد أوضح ما يكون
في الديانات الهندوسية، ولهذا السبب فسوف نبدأ عرضنا لمفارقة
«الخواء-الملاء» من هذه الديانة.
لمفارقة «الخواء-الملاء» ثلاثة جوانب بصفة عامة يُمكن
تعقُّبها، قليلًا أو كثيرًا، في جميع الديانات والفلسفات التي قام
فيها التصوف بدور بارز، وهذه الجوانب الثلاثة لا يطرد الواحد
منها الآخر ولا يستبعده. وسوف نجد فيما بعد أن الجانب الأول
يشتمل في الواقع على الجانبين الآخرين. ومن ثَم فربما كان علينا
أن نُسمِّيها ثلاثة أساليب من التعبير والتأكيد، لا ثلاثة جوانب
يُمكن التمييز بينها بوضوح. وسوف نُبيِّنها في الجدول
الآتي:
الجوانب الإيجابية (الملاء) |
الجوانب السلبية (الخواء) |
(١) للذات الكلية صفات |
(١) الذات الكلية لا صفات لها |
(٢) شخصية |
(٢) غير شخصية |
(٣) دينامية، خلَّاقة، نشطة |
(٣) ساكنة، سلبية تمامًا، هامدة |
وكثيرًا ما يتحدَّث المتصوِّفة عن الجانب الإيجابي بلغة شعرية
مجازية على أنه النور، أو الصوت، وعن الجانب السلبي على أنه
الظلام أو الصمت والسكون. ومن هنا فإن تعبير «الغموض الذي يبعث
على الدوار» الذي قاله «سوزو» يُعبِّر عن جانبَي المفارقة معًا. في
حين أن عبارة «روز بروك» عن «الصمت أو السكون المظلم الذي يفقد
فيه جميع المحبين أنفسهم» لا تُشير إلَّا إلى الجانب
السلبي.
في حالة أي مفارقة أو متناقضة تعرض نفسها أمام الوعي، فسوف يظهر
باستمرار أمام الذهن البشري — سواء كان ذهن المتصوِّف أو غير
المتصوِّف — فإن الذهن يميل إلى إزالة التناقض المنطقي أو
التخلُّص منه بطريقة أو بأخرى؛ فهناك طريقة قد تجد فيها محاولات
جادة ومقصودة من الذهن الفلسفي لإزالة هذا التناقض بالقول بأن
المحمول الذي يؤكِّد الموضوع ويُنكره في وقت واحد، يستخدم بمعنى
مرة في حالة التأكيد وبمعنى آخر في حالة الإنكار؛ فقد يستخدم الشيء
الواحد على أنه يعني مرة «س»، ويعني «لا س» في وقت واحد. وهناك
طريقة أخرى يعتمد فيها المنهج البسيط في تخليص الذهن من توتر
المفارقة على تجاهل أو نسيان ما تعنيه «س» إذا ما كنَّا نتحدَّث عن
«لاس»، ونسيان أو تجاهل «لاس»، إذا كنَّا نتحدَّث عن «س». ويتجه
فيلسوف مثل «سانكارا»
٢١ إلى استخدام المنهج الأول في الكتابات الهندوسية،
أمَّا المنهج الثاني فتستخدمه عقول أكثر بساطة مثل مؤلفو
«الأوبنشاد». أمَّا في الكتابات المسيحية؛ فقد استخدم المنهج الأول
متصوِّف على درجة عالية من التفلسف والثقافة، مثل «إيكهارت». كما
يُستخدم المنهج الثاني في الأحاديث الدينية الشعبية. وإني لأزعم مع
ذلك أن جميع الحيل التي استخدمها ذهن الحس المشترك ضاعت هباء،
وأنه لا بد، في النهاية، من مواجهة المفارقات والتناقضات العارية
والواضحة التي تتجلَّى في الوعي الصوفي. ولكن حتى ذلك الوقت فقد
نتوقَّع أن نجد جانبًا من جوانب المفارقة يظهر بدون الجانب الآخر،
ويُمكن أن يوجد الآخر في مكان آخر، رغم أنَّنا قد نجد الجانبين
أحيانًا صراحة، وفي وقت واحد، في عبارات تنطوي على مفارقة عن وعي
وتعمد.
ويبدو أنَّنا إذا انتقلنا من «الأوبنشاد» إلى «الجيتا
Gita» — ويفصل بينهما بضع مئات
من السنين — نلاحظ تغيرًا تدريجيًّا في درجة التأكيد، ففي
«الأوبنشاد» — لا سيما في الأجزاء الأولى — نجد تأكيدًا لطبيعة
«براهمان» السلبية، اللاشخصية، الخالية من الصفات والعاطلة. في حين
أنَّنا نجد في «الجيتا» — على العكس — أن شخصية الله ونشاطه هي
البارزة. ويظهر «كرشنا» على أنه الإله الذي يتجه إليه الناس
بالصلاة، والعبادة، والحب. وبالتالي نجد فقرات — لا سيما في نهاية
الكتاب — عن الرقة تذكرنا بفقرات العهد الجديد. «استمع مرة أخرى
إلى كلمتي العليا … أنت حبيبي الذي يزداد حبه عندي … ركز ذهنك
فيَّ، وخشوعك نحوي … ينبغي عليك أن تأتي إليَّ، وسوف أهبك الوعد
الحق، فأنت عزيز عليَّ. تنازل عن كل القوانين، وتعال إلى ملجئي أنا
وحدي وسوف أُخلِّصك من جميع الخطايا، ولن تحزن».
٢٢
ومهما كانت هذه الفقرة مؤثرة، فينبغي ألَّا تضللنا؛ فليس ثمة
تغير حقيقي في الفلسفة الأساسية للفيدانتا من «الأوبنشاد» حتى
«الجيتا»، والتغير الوحيد هو التأكيد على جانب من المفارقة دون
الجانب الآخر.
أمَّا بالنسبة للجوانب الثلاثة من المفارقة التي ذكرناها فيما
سبق، فليس من الضروري أن نعرض أو نوثِّق الجانب الإيجابي بالتفصيل،
لأنَّ هذا هو الجانب الذي يتأكَّد باستمرار في الديانة الشعبية،
ومن ثَم فهو معروف جيدًا ويفهمها، تقريبًا، كل إنسان. أمَّا الخصائص
التي تُنسب إلى «براهمان» فهي أساسًا نفس الخصائص والصفات الموجودة
والتي تُنسب إلى الله، في ديانات التأليه: فهو شخص لا متناهٍ،
أزلي، كلي القدرة، عليم بكل شيء، حكيم، وخيِّر، وهو خالق العالم.
والنقطة الرئيسية في «كينا أوبنشاد» هي أن تعلم الناس أن أي قوة
فهي مستمدة من «براهمان»، وأنه على الرغم من أن الأشياء
المتناهية، وكذلك الأشخاص في عالم الظاهر، تبدو أنها تمارس قوة،
فإن القوة الموجودة فيها تنبع في الواقع من «براهمان». ويظهر
«براهمان» في «المونداكا أوبنشاد» على أنه مصدر كل خير؛ «فهو
الخير الأقصى، والمعرفة العليا، والفعل اللامحدود».
٢٣ ويُقال في «سفتاس فاترا أوبنشاد» أنه السبب الأول للعالم،
٢٤ وأنه «خالق كل شيء».
٢٥ ونجد في نفس «الأوبنشاد» فقرة يذكر فيها جانبا
المفارقة جنبًا إلى جنب، على النحو التالي:
«الموجود الواحد المطلق غير الشخصي … يظهر على أنه الرب
الإله، أو الإله الشخصي المُلقَّب بأمجاد كثيرة …»
٢٦
وفي هذه الفقرة تجنب لصدام مباشر بحيلة هي نسبة اللاشخصية إلى
الواقع الحقيقي Reality في حين
أن الشخصية تُنسب إلى مظهرها أو تجليها.
هكذا يُمكن أن يُفهم الجانب الإيجابي من المفارقة فهمًا جيدًا.
ويبقى أن نُطوِّر، بطريقة ما، وعلى نحو مفصل أكثر، الجانب السلبي
من الجوانب الثلاثة للمفارقة.
أولًا براهمان ليس له صفات. وهذا ما
تؤكِّد «الأوبنشاد» بصفة عامة، عن طريق نفي قائمة الصفات:
«لا صوت، لا شكل، لا ملمس … لا مذاق، لا لون … تلك هي الذات.»
٢٧
لكنَّه في فقرة شهيرة يذكر بطريقة مجردة وفجة على
النحو التالي:
«توصف الذات بأنها لا هي هذا، ولا هي ذاك.»
٢٨
وفي ترجمة أخرى بعبارة مثيرة أكثر:
«توصف الذات بكلمة: لا! لا! لا!»
٢٩
ويُعرف «براهمان» في الفيدانتا المتأخرة التي نسَّقها «سنكارا»
على أن له صفات، وأنه بغير صفات في آنٍ معًا. غير أن سنكارا
تجنب التناقض الصريح، بأن فرَّق بين نوعين من «براهمان»؛ «براهمان»
الأعلى الذي لا صفات له، و«براهمان» الأدنى الذي له صفات، وهو ليس
سوى تجل «لبراهمان» الأعلى، ومن ثَم فهو على المستوى الظاهري
النسبي فحسب.
الجانب الثاني من المفارقة هي أن «براهمان» شخصي وغير شخصي في
وقت واحد. ولذلك مسجل في الفقرة التي اقتبسناها من «سفتاس فاتارا
أوبنشاد». وهناك أيضًا العديد من الفقرات في «الأوبنشاد» التي يظهر
فيها الجانب اللاشخصي بالتأكيد على أن «براهمان» «لا ذهن له».
ولقد ذهب المتصوِّف الهندي الحديث «سراي راماكريشنا» إلى
أنه:
«عندما أُفكِّر في الموجود الأعلى على أنه غير فعَّال: لا في
الخلق، ولا في الإدراك، ولا في التدمير، فإنَّني أُسمِّيه براهمان
… الإله غير الشخصي. وعندما أفكر فيه على أنه فعال؛ «يخلق، ويحفظ،
ويدمر فإنَّني أُسميه شاكتي، أو مايا، أو براكتي أو الإله الشخصي.
غير أن التمييز بينهما لا يعني وجود اختلاف. فالإله الشخصي
واللاشخصي هما شيء واحد … ومن المستحيل تصوُّر الواحد بدون الآخر …»
٣٠
في العبارات التي شدَّدت عليها في الفقرة، محاولة لإزالة
المفارقة بواحدة من الطرق المألوفة. ونحن نجد لدينا تعارضًا واضحًا
بين الجانبين في التأكيد على أن الإله الشخصي واللاشخصي هما شيء
واحد.
الجانب الثالث من المفارقة هو تصوُّر «براهمان» على أنه في وقت
واحد: دينامي وساكن، ومتحرك غير متحرك، طاقة خلَّاقة، ومع ذلك عاطل
تمامًا وبغير فاعلية. ونحن نجد، بالطبع، في الكتابات الهندوسية
المحاولات المألوفة للحس المشترك، وللعقل المنطقي، لفصل الجانبين.
وبهذه الحيلة أو تلك لإبقائهما منعزلين حتى نتجنَّب التناقض
الواضح، لكنَّا نجد كذلك اعترافًا صريحًا بالتناقض، ولقد ظهر ذلك
بالفعل في الفقرة التي اقتبسناها الآن توًّا من «راماكريشنا» فلا
شك أن التأكيد الرئيسي ينصبُّ على تأكيد الهوية في الاختلاف
بالنسبة للإله الشخصي وغير الشخصي، فضلًا عن أن نفس هذه الهوية
في الاختلاف موجودة بين براهمان الفعَّال: الخالق، الحافظ، المدمر،
وبراهمان غير الفعَّال.
فالله عند «سفتاس فاتارا أوبنشاد»:
«بغير أجزاء، وبغير أفعال، هادئ ساكن … كالنار التي
استهلكت وقودها.»
٣١
ولا تعطينا هذه الفقرة سوى جانب واحد من التناقض وهو الجانب
السلبي: الساكن العاطل. غير أن الفقرة التالية من «ازا أوبنشاد»
تؤكِّد المفارقة كلها: «إن ذلك
الواحد،
أو الذات، وإن كان عديم
الحركة، إلَّا أنه أمضى من الذهن. وهو وإن كان ساكنًا لا
يتحرَّك، إلَّا أنه يفوق في سرعته كل العدَّائين. إنَّه يتحرَّك،
ولكنَّه لا يتحرك.»
٣٢ توجد المفارقة. كلها مفارقة: الدينامي والساكن،
المتحرك وغير المتحرك في وقت واحد، التي تُعبِّر عن طبيعة
الواحد.
والقارئ غير المبالي قد يأخذ هذه العبارة على أنها لعب بالألفاظ
بالمعنى الحرفي؛ فهناك متعة في الرنين المحض لتوازن المفارقة بين
أجزاء الجملة، وقد يكون مثل هذا التأويل هو كل الحقيقة في هذه
الفقرة، إذا لم تكن هناك شواهد عديدة، ومن مصادر كثيرة مختلفة من
جميع أنحاء العالم — تؤكِّد أن هذه المفارقة الدينامية — الساكنة
هي جزء حقيقي من التجربة الصوفية.
كثيرًا ما يُعرض تصوُّر «الخواء-الملاء» في صورة معممة، أعني
بغير تمييز للجوانب الثلاثة التي وجدناها في الديانة الهندوسية.
ومن المثير أن نجد النص التالي في التصوف الصيني (في
الطاوية):
«الطريق (الطاو) يُشبه وعاءً فارغًا،
يُمكن أن تسحب منه، ومع ذلك لا يحتاج أبدًا إلى أن
يملأ،
فهو لا قاع له، وهو الحد الأعلى لجميع الأشياء في العالم
…
وهو يُشبه بركة عميقة لا تجف أبدًا.
ولستُ أدري أي طفل هو،
فهو يبدو كما لو كان سابقًا على الإله.»
٣٣
فالوعاء فارغ ومليء في وقت واحد، لا شيء فيه، ومع ذلك فكل شيء
يأتي منه. ومرة أخرى ربما افترض القارئ غير المُبالي، أن ما يوجد
هنا ليس سوى مجموعة من الكلمات المتراصة مع خيال جامح، لكنَّه لا
يعني أي معنًى مُحدَّد؛ ذلك لأنَّ الذهن ينزلق بسرعة فوق سطح هذه
الكلمات دون أن ينتابه الشك في أن معناها الحقيقي لا يُمكن أن
يُفهم إلَّا لو كان في حوزتنا علم بالأغوار العميقة للوعي الصوفي.
وينبغي علينا أن نُلاحظ أن فكرة «الخواء-الملاء» لا يُعبَّر
عنها فحسب في هذه الفقرة في الأسطر الخمسة الأولى، بل علينا أن
نُلاحظ أيضًا السطرَين الآخرَين؛ فالوعاء الفارغ الذي هو ملاء «يبدو
كما لو كان سابقًا على الآلة» فما الذي تعنيه هذه العبارة؟ هل هي
مجرد خيال شعري آخر؟ ليس الأمر كذلك؛ لأن «لاو-تسو» يقول فيها
ما قاله «إيكهارت»، عندما أخبرنا أنه فيما وراء الإله هناك ثلاثة
أشخاص فيهم تكمن وحدة «الألوهية العارية» السابقة لله، والتي
تجلَّت منها الشخصية الثلاثية. فكيف تسنَّى ﻟ «لاو-تسو» أن يصل
إلى نفس التصوُّر غير المألوف الذي وصل إليه إيكهارت، ما لم
نُفسِّر هذا الاتفاق بافتراض أن كلًّا منهما استمد أفكاره من نفس
البئر العميق للتجربة الصوفية؟
سوف أنتقل الآن من صورة المفارقة في الهندوسية إلى صورتها في
البوذية: وفي استطاعتنا أن نُلاحظ في البداية أن «سوزوكي» بقدرته
الخاصة لمتصوِّف بوذي كتب يقول عن تجربة الاستنارة:
«إنَّها حالة
هذه المطلقة، والفراغ المطلق الذي هو ملاء مطلق».
٣٤
ويُقال لنا في «كتاب الموتى» في التبت أن هناك مسافة
زمنية بين موت الفرد وتناسخه مرة أخرى في جسد بشري جديد. فالذهن في
لحظة الوفاة يواصل وجوده بغير جسد، لكن لأنَّ الإحساسات البدنية لم
تعد تصل إليه من جسمه
فهو فارغ من كل مُحتوى تجريبي، لكن تبعًا
لجميع المتصوِّفة الانطوائيين، سواء في الشرق أو الغرب، عندما
يُصبح الذهن، على هذا النحو، خاويًا وفارغًا ينبثق نور الوعي
الخالص. ومن ثَم اعتقد أبناء التبت — وهو اعتقاد منطقي تمامًا —
أن الذهن في لحظة الموت يلمح بنظرة خاطفة:
النور الصافي للخواء الذي هو «النرفانا». ولو أمكن الإمساك بهذه الحالة على الدوام
لأمكن بلوغ حالة التحرُّر من النرفانا والميلاد من جديد. ويحدث ذلك
في حالات نادرة جدًّا، لكن في معظم الحالات، يُصبح الذهن الصافي
الفارغ بسرعة مضبب بسحب الرؤى الحسِّية والخيالات. يُصبح متورطًا
مع الرغبات الحسِّية المُلِّحة، التي تجره إلى الانحدار من الرؤية
الرفيعة اللحظية
للنور الصافي إلى الميلاد مرة أخرى في جسد جديد.
لكن طالما أن هناك فرصة للرجل المحتضر أن يلمح
النور الصافي وأن
يُمسك به، وبالتالي أن يُفلت من عجلة الأشياء، وعندما يلفظ المحتضر
أنفاسه الأخيرة، يهمس «اللاما»
٣٥ في أذنه ويظل يُكرَّر الكلمات الآتية:
«استمع أيها النبيل المولد [كذا وكذا]. أنت الآن تمر
بتجربة إشعاع الضوء الصافي للواقع الحقيقي الخالص. تعرَّف
عليه. يا أيها النبيل المولد، عقلك الحاضر، في الطبيعة
الحقة للخواء، لم يتشكَّل بأي شيء فيما يتعلَّق بالخصائص
أو اللون فهو خواء على نحو طبيعي، وهو الواقع الحقيقي
نفسه، والخير كله.
ولم يتشكَّل وعيك الخاص بأي شيء، والعقل المشع والمبارك
اثنان لا يُمكن أن ينفصلا. واتحادهما هو هارما-كايا،
حالة الاستنارة الكاملة …
تعرَّف على خواء عقلك لتصل إلى مرتبة بوذا …»
٣٦
لسنا معنيِّين بالطبع بأي سؤال يتعلَّق بصحة أو كذب معتقدات أبناء
التبت بشأن التناسخ، أو ماذا يحدث للإنسان بعد الموت. إنَّ ما
يعنينا فحسب هو وصف الوعي الصوفي بأنه الفراغ الذي هو في الوقت
ذاته ملاء. والظلام الذي هو أيضًا نور؛ فالمفارقة معروضة بوضوح في
الفقرة التي اقتبسناها. والعقل الذي هو خواء في الوقت نفسه «الواقع
الحقيقي، وهو الخير كله» (الفقرة الأولى). والوعي الذي هو «في
حقيقته خواء» (الظلام، الفراغ) هو في الوقت ذاته «العقل المشبع
المبارك» (الساطع، المليء)، وهما لا يُمكن أن ينفصلا، ووحدتهما هي
«الاستنارة الكاملة». وعندما يكون فارغًا ومليئًا على هذا النحو
فإنَّه يصل إلى مرتبة بوذا.
عندما ننتقل بعد صفحات قليلة، لفحص المفارقة على نحو ما تظهر في
الغرب، فسوف نجد، ربما مع شيء من الدهشة، أن «إيكهارت» و«روز
بروك» يتفقان تمامًا مع رواية أهل التبت عن المفارقة، رغم أنهما
لا يؤمنان بالطبع بمعتقدات هؤلاء القوم في التناسخ.
وحتى قبل أن نُصبح نحن في الغرب على وعي ببوذية الزن
Zen، وقبل أن نتعرَّف على
«كتاب الموتى» عند أبناء التبت، فإنَّنا نستطيع أن نقول إنَّ
المذاهب المألوفة للديانة البوذية التي نعلم عنها بعض العلم، سواء
كانت مذهب الهنايانا، أو مذهب الهمايانا، تروي نفس القصة لو أنَّنا
قرأناهما القراءة الصحيحة. لا توجد عند الهنايانا — على الأقل —
فكرة الله، بالمعنى الموجود في الغرب، وإنَّما توجد فكرة اللامشروط أي «النرفانا»، وهي
المقابل لفكرة
الله التأليهية. يقول أحد البوذيين في نص اقتبسته من قبل:
«هناك ناسك لم يولد، ولم يصر، ولم يضع، وغير مركب. وإذا
لم يوجد مثل هذا الناسك، فإنَّنا لن نستطيع الإفلات ممَّا
يولد، ويصير، ويضع ويتركب.»
٣٧
إن رواية بوذية الهنايانا التي تسَّربت إلينا في الغرب في فترة
مبكرة، من خلال البعثات التبشيرية وغيرها، توحِّد، عادة، بين
النرفانا والانعدام أو الملاشاة. وهم يزعمون أن الرجل البوذي
الصالح عندما يموت فإنَّه يبلغ النرفانا، كما يعتقد رفاقه من
البوذيين. وهم يعتقدون أن ذلك يرادف قولنا إنَّه كفَّ عن الوجود.
ولقد أصبح من المعروف الآن أن هذه الرواية ليست سوى جهل وخطأ.
غير أن الخطأ ينشأ من التركيز على جانب واحد فقط من مفارقة:
الخواء-الملاء، وهو الجانب السلبي. كما ينشأ الجهل من التركيز
على الجانب الآخر: أي الجانب الإيجابي. فالنرفانا، في الواقع، ليست
سوى الوعي المستنير عندما يُتصوَّر لا على أنه ومضة إشراق عابرة،
بل على أنه دائم، أو بالأحرى على أنه يُجاوز الزمان تمامًا،
وهي بما هي كذلك: الخواء-الملاء، لكن الروايات المبكرة التي وصلت
إلى الغرب جعلته خواء فحسب. أمَّا لو أنَّنا تأمَّلنا الروايات
المعاصرة عن الوعي الصوفي، على نحو ما يوجد عند «تنسون»
و«كويستلر»، و«سيمونز»، وغيرهم، (رغم أنه كان عابرًا فحسب، ولا
يقل كثيرًا في مغزاه وعمقه عن الوعي الصوفي عند بوذا، حيث نلمح هذا
النوع من الوعي)، فإنَّنا نستطيع أن نرى اختفاء «الفردية» أو
«الأنا»، أو أنها، بمعنى ما، قد «تلاشت …» ومع ذلك فهذا التلاشي
للهوية الشخصية «ليس انطفاء» (إذا استخدمنا تعبير تنسون)،
وإنَّما هو، على العكس، «الحياة الوحيدة الحقة»، واختفاء الفردية
هو الجانب السلبي من النرفانا، أمَّا جانبها الإيجابي فهو «الحياة
الوحيدة الحقة».
لقد عرضنا الآن المفارقة على نحو ما ظهرت في الديانتَين الهنديتَين
الرئيسيتَين وهما: الهندوسية، والبوذية، لكنَّها تبدو واضحة بما فيه
الكفاية أيضًا في ديانات التأليه في الغرب. دعنا ننظر إلى المسيحية
من هذه الزاوية.
هناك ثلاثة جوانب للمفارقة، الجانب الذي كثيرًا ما تردَّد على
ألسنة المتصوِّفة المسيحيين هو الجانب الدينامي الساكن. غير أنَّ
جانب الكيف الذي لا كيف له، والجانب الشخصي-اللاشخصي، موجود
دائمًا، على الأقل، ضمنًا وهو يظهر صريحًا على السطح بين الحين
والحين. وهو ضمني، بالطبع، في فكرة الله بوصفه الوحدة الخالصة التي
لا تمايز فيها ولا اختلاف؛ ذلك لأنَّ وجود عدد من الكيفيات
المختلفة، مثل: الخير، والحكمة، والقدرة، والمعرفة، تتعارض مع
الغياب الشامل للوحدة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف. وكذلك لا
يُمكن للشخصية أن تنتمي إلى الوحدة التي لا تمايُز فيها ولا اختلاف.
غير أن العبارة الصريحة التي تقول إن الله بلا كيفيات أو صفات،
تتطابق مع براهمان الذي لا كيف له. والتي وردت في عبارة إيكهارت:
«ليس للواحد كيف ولا خواص.»
٣٨
ويُمكن أن نقتبس من إيكهارت أيضًا عبارة صريحة عن اللاشخصية
بالنسبة لله أو بالأحرى للألوهية:
«إن الله في ماهيته التي لا تولد هو ماهية جوهرية بغير
شخصية. الماهية التي تتجلَّى ذاتيًّا كوجود غير شخصي … في
الماهية يفقد
الأب أبوته تمامًا. فلم يعد ثمة
أب على الإطلاق.»
٣٩
يُحاول سانكارا — وكذلك إيكهارت — في بعض الفقرات وليس كلها، أن
يتجنَّب التناقض بنفس الطريقة. فإيكهارت يُميِّز الألوهية عن الله،
تمامًا كما يُميز سانكارا بين براهمان الأعلى، وبراهمان الأدنى.
فالألوهية من ناحية، وبراهمان الأعلى من ناحية أخرى يتَّسمان
بالجانب السلبي من المفارقة، وهو: الخواء. والله من ناحية،
وبراهمان الأدنى من ناحية أخرى يتَّسمان بالجانب الإيجابي وهو
الملاء. وقل الشيء نفسه بالنسبة لله عند إيكهارت، حتى إن الجوانب
الثلاثة من المتناقضة تظهر عندهما معًا. وهما معًا يستخدمان حيلة
منطقية واحدة للإفلات من التناقض. أمَّا القول بأنَّ هذه الحيلة
لتخليص فلسفتها من التناقض لم تكن فعَّالة، فهو ما يُمكن أن نراه
عند إيكهارت بالطريقة الآتية: فعند إيكهارت أن الوحدة الساكنة
التي لا تمايز فيها ولا اختلاف، تُمايز نفسها في ثلاثة أشخاص في
الثالوث. غير أن هذا التصوُّر للوحدة التي تُمايز نفسها وتُخْرِج تمايزاتها، تخلف النشاط وراءها في الوحدة الساكنة. وإيكهارت يعرف
ذلك جيدًا في نصوص أشد عمقًا كما سنرى.
وربما رأينا أن الجانب الدينامي الساكن من المفارقة، على نحو
ما يظهر بوضوح في فقرة من «روز بروك» اقتبستها الآنسة أندرهيل على
النحو التالي:
«السكينة وفق ماهيته، والنشاط وفق طبيعته، السكون المطلق،
والإبداع المطلق … الأشخاص المقدسة التي تُشكِّل إلهًا
واحدًا لا غير هي في حالة الإبداع دائمًا نشطة حسب
طبيعتها. أمَّا في بساطة ماهيتها، فإنَّها تُشكِّل
الألوهية … وهكذا فإن الله من حيث هو شخص هو العمل
الأزلي، لكنَّه من حيث الماهية وسكون شخصيته، فهو الراحة الأزلية.»
٤٠
ولقد اقتربت الآنسة «أندرهيل» نفسها من التسليم بالتناقض الصارخ
للمفارقة، عندما كتبت تقول: «يبدو أن التوازن الذي يختل في هذه
المرحلة من الانطواء لا يمكن التعبير عنه إلَّا بالمفارقة، فالشرط
الحقيقي عند عظماء الصوفية هو إيجابي وسلبي في آنٍ معًا.»
٤١
ويتحد موقف «إيكهارت» تمامًا مع موقف «روز بروك» على نحو ما نجده
في النص الآتي:
«الله يعمل، والألوهية لا تعمل، فليس لديها ما تعمله، ولا
شيء فيها يصير … والفرق بين الله والألوهية هو نفسه الفرق
بين الفعل واللافعل.»
٤٢
نُلاحظ في هذه الفقرات من «إيكهارت» إلى «روز بروك» تأكيدًا على
الجانب الدينامي الساكن من المفارقة بوجه خاص. ومن الواضح أن
هذا الجانب الذي ينبع ربما من اللاشعور قد أثَّر بعمق نافذ في
العقل البشري بصفة عامة، بغض النظر عن اعتراف المتصوِّفة وإدراكهم
المباشر له. فهو يظهر في الشعر والأدب بصفة عامة. ومن هنا فقد كتب
ت. س. إليوت عن:
النقطة الساكنة للعالم المتحوِّل.
٤٣
ليس ثمة إشارة خاصة هنا لأي تصوُّر ديني أو صوفي، لكن الإشارة
واضحة هنا للمعنى الباطن للمحور الساكن لكوكب دوَّار. فعلى الرغم
من أن عالم الحس — كما يقول أفلاطون — عبارة عن تدفق دائم، فإن
قلب الأشياء مع ذلك ساكن وصامت. وفي سياق ديني أكثر وضوحًا نجد هذه
الترنيمة:
«أيَّة قوة، وأيَّة دعامة، تستند إليها كل
الخليقة،
وتظل دائمًا أبدًا ثابتة لا تعرف التغير.»
[التشديد من عندي.]
وحتى العبارة الشائعة التي تقول إن الله «لا يُمكن أن
يتغيَّر»، رغم أنها غامضة ويُمكن تأويلها بطرق شتى، فهي تنبع،
فيما يبدو، من الوعي الصوفي الباطني للجنس البشري لتؤكِّد أن
الله ساكن ولا يتحرَّك؛ لأن التحرُّك يتضمَّن الفعل، في حين أن
اللاحركة تتضمن اللافعل.
وطالما أن المتصوِّفة هم أيضًا موجودات تُحرِّكها قدراتها
العقلية والمنطقية، وما دام هناك، بالقطع، توتر وصراع بين النصف
المنطقي والنصف الصوفي من الروح البشري، وهي المضامين الفلسفية
التي سوف نناقشها في فصل قادم، فلا ينبغي أن نعجب عندما يُظهِر
الصوفية قدرًا من التأرجح، وميلًا إلى التذبذب بين العناصر
المتعارضة في شخصياتهم، وخصوصًا في الغرب. إن رجلًا مثل «سوزوكي»
لا يتردَّد في الحديث عن المفارقة المطلقة، وعن التناقض المنطقي
الصارخ. وهو لا يتردَّد في الحديث عن «الخواء-الملاء» وعن حالة
«الفراغ المطلق الذي هو ملاء مطلق». ولا يخجل مؤلفو «الأوبنشاد» من
الحديث عن «الذات الكلية» التي تُحرِّك ولا تتحرَّك. وتصر البوذية
بصفة خاصة — حتى بغض النظر عن بوذية زن — على الحديث عن المفارقة
المطلقة، وهو ما سوف نُشير إليه في شيء من التفصيل فيما بعد. ويبدو
لي أن هذا الفرق بين الشرق والغرب، يرجع إلى أن التصوف في
الشرق واثق من نفسه، وهو أكثر عمًّا، وأكثر شمولًا، من التصوف
غير الناضج، الذي يلتمس طريقه، حتى عند عظماء المتصوِّفة في الغرب.
فالتصوف في أوروبا هو تصوُّف هواة، إذا ما قورن بالتصوف في
آسيا.
ونتيجة هذا الوضع، فإنَّنا نجد أن شخصيات المتصوِّفة في أوروبا
تنقسم بين قدراتهم المنطقية وتصوُّفهم؛ لأنهم بوصفهم متصوِّفة
يتحدَّثون عن المفارقات، التي إن لم تتعارض مع العناصر المنطقية
فهي يستحيل حلَّها، لكن بما أنهم يتحرَّكون أيضًا عن طريق
المنطق، فإنَّهم يُحاولون إزالة مفارقاتهم، وتقديم حلول منطقية
لها. كما هي الحال عندما وصف إيكهارت الألوهية باللافعل، ووصف الله
بالفعل. وعندما يطغى جانب التصوف عندهم في حالات نادرة، فإنَّهم
يتحدَّثون مثل «سوزوكي»، لكن عندما تطغى القدرة العقلية — كما هي
الحال في معظم الوقت — فإنَّهم يستخدمون المبررات والحيل المنطقية
لكي يتجنَّبوا التناقض.
ومن ثم فإن من الطبيعي أن نستشهد بمتصوِّفة أوروبا في
الجانبين معًا. وأن يكون من الممكن تأويلهم بطرق متضادة. والسؤال
هو: أيهما هو التأويل الحق …؟ أنقول إن التجربة الصوفية تتضمَّن
بالفعل خرقًا لقوانين المنطق، أم نقول إن التناقضات هي مجرد مظهر
فحسب، أو أنها مسألة تَناقُض في الألفاظ، وليس في معناها
الحقيقي، وأنه يُمكن باستمرار إزالتها بحيلة منطقية؛ كالتمييز مثلًا بين المعاني المختلفة
للألفاظ؟ لا شك أن كثيرًا من
القرَّاء سوف يُفضِّلون الحل الأخير. وجميع أولئك الذين يُفضِّلون
هذا الحل هم من أصحاب العقول التي يُسيطر عليها ما لا بد أن
أُسمِّيه تفاهة الحس المشترك. جميع أولئك الذين يُفضِّلونه هم ممن
ليس لهم شعور أصيل نحو التصوف، وأولئك الذين غيَّرت العقلية
العلمية من شخصياتهم بأسرها، حتى إنها دهست تحت أقدامها الشعور
أو الميل نحو التصوف، لكن ذلك، في تقديري هو التأويل السطحي؛ ففي
رأيي أن التجربة الصوفية تُجاوز حدود الفهم المنطقي، وهي لا
تفعل ذلك في الظاهر فحسب. وسوف نتابع الشرق في هذه المسألة، وليس
الغرب؛ لأن المتصوِّف الشرقي عمومًا،
٤٤ يتحدَّث بصوت واحد فقط، في حين أن المتصوِّف الغربي
يتحدَّث بصوت مزدوج.
صحيح أنه حتى إيكهارت الذي يُشبه تصوُّفه التصوف الهندي أكثر
مما يفعل أي أوروبي آخر، كثيرًا ما يسوء عنده الجانب المنطقي في
الإصرار المتواصل على التفرقة بين الله والألوهية. غير أنه يبدو
لي أن متصوِّفة المسيحية في أقوالهم العميقة يتجاوزون ميلهم نحو
التأرجح ويُمسكون بشجاعة أكثر بما تنطوي تجاربهم من مفارقات
أساسية. ومن ثَم فتبعًا لما يقوله «رودلف أوتو» فإن «إيكهارت»
«يقيم هوية مركزية بين السكون والحركة داخل الألوهية ذاتها؛
فالسكون الأزلي للألوهية هو أيضًا عجلة تدور من تلقاء ذاتها».
٤٥
وسوف نقتبس من إيكهارت العبارات الآتية:
«هذا الأساس الإلهي هو سكون موحد، لا يُمكن في ذاته أن يتحرَّك.
ومع ذلك فإن جميع الأشياء بفضل هذا السكون تتحرَّك وتوهب
الحياة.» [شذرة ٣٩]. ولو أنَّنا انتقلنا الآن إلى
الشرق مرة أخرى،
لوجدنا أن المتصوِّف الهندوسي المعاصر «سراي أوروبندو» يؤكِّد
أنَّ:
«أولئك الذين نالوا السلام بداخلهم في استطاعتهم، دائمًا،
أن يُدركوا الإشباع الأبدي للطاقة التي تعمل في الكون وهو
ينبع من الصمت.»
٤٦
ويبدو لي أن هذه العبارة تُشبه تعبير التجربة الخالصة التي لم
تُؤوَّل، ومن الواضح أنها تجربة «أوروبندو» نفسه، على الرغم من
أنه لم يستخدم ضمير المتكلم؛ ذلك لأنَّ التعبير المستخدم هو
«يدرك» وليس «يُفكِّر». «والتمسك بالنظرية التي تقول»، «وبالسلام»،
و«الصمت» يُمثِّلان، بالطبع، الجانب السلبي من المفارقة، وهما مجاز
للسكون وانعدام الفعل. غير أن «الطاقة التي تعمل في العالم» لم
تدرك على أنها موجودة في شيء متميِّز عن الصمت، بل على أنها
كامنة فيه، وتنبع منه. وهو نفس المعنى الذي يتحدَّث عنه «إيكهارت»
عندما ذكر «سكون الألوهية على نحو أزلي، الذي هو
أيضًا العجلة التي
تدور حول نفسها». وهو كذلك نفس المعنى الذي ذكره «لاو-تسو» عندما
تحدَّث عن «الوعاء الفارغ الذي ننهل منه»، وهذه الصور الثلاث: طاقة
الكون التي تنبع من الصمت، والعجلة التي تدور حول نفسها، والوعاء
الفارغ الذي هو رغم ذلك المنبع الذي لا ينضب لمجرى الماء، هذه
الصور ليست سوى ثلاثة أنواع من المجاز لشيء واحد، هو التمايز
الذاتي لوحدة لا تمايز فيها ولا اختلاف، التي هي خلق العالم. وليست
هذه مجرد نظرية ميتافيزيقية. وإنَّما هي شيء يمر هؤلاء الرجال
بتجربته على نحو مباشر؛ فاللاتمايز واللافعل هو فعل نشط لدرجة
أنه يُحدث تمايزاته الخاصة من داخل ذاته. ويوضِّح ذلك على نحو
أكثر ظهورًا الفقرة الآتية من سوزوكي:
«ليس من طبيعة البراجنا (الحدس الصوفي) أن يظل في حالة سونياتا (خواء) بلا حركة على نحو
مطلق. فهو يتطلَّب من
ذاته أن يُمايز نفسه على نحو لا حدَّ له. وهو يرغب في
الوقت ذاته أن يظل داخل نفسه. وهذا هو السبب الذي يجعلنا
نقول إن الخواء هو مستودع إمكانات لا متناهية؛ فهو ليس
حالة فراغ محض. إنَّه يُمايز نفسه ومع ذلك يبقى في داخل
ذاته بلا تمايز وهكذا يستمر على هذا النحو بطريقة أزلية في
عمل الخلق … وفي استطاعتنا أن نقول عنه إنَّه الخلق من
العدم. ولا ينبغي أن يُفهم الخواء على نحو سكوني أو
دينامي، بل الأفضل
أن نتصوَّر أنه سكوني ودينامي في وقت واحد.»
٤٧ (التشديد على الكلمات من عندي.)
ولا يُمكن أن يكون هناك شك أين يقف كاتب هذه الفقرة، إنَّه يقف
إلى جانب المفارقة المطلقة على نحو لا يسمح بأي تلاعب منطقي أو
لفظي للتخلص مما ينطوي عليه من تناقضات داخلية.
لو أنَّنا خلَّفنا وراءنا الآن التساؤل عمَّا إذا كانت المفارقة
تُؤوَّل على أنها المطلق، أو عمَّا إذا كانت تنطوي على تناقض
داخلي أو لفظي وظاهري فحسب — وهو تساؤل أجبت عنه، حتى الآن، قدر
استطاعتي — لكان في استطاعتنا أن ننتقل إلى عرضنا الذي لم ينته عن
مفارقة: الخواء-الملاء، بما هي كذلك، وظهورها في الثقافات
المختلفة؛ لأننا قمنا بدراسة الهندوسية، والبوذية، والمسيحية.
لكنَّا لم نفعل ذلك حتى الآن بالنسبة للإسلام واليهودية. فهل تظهر
المفارقة نفسها في هاتين الديانتين؟ ليس في استطاعتي أن أُقدِّم
نماذج لها بين صوفية المسلمين. وقد يرجع ذلك إلى الحدود الضيقة
لمعرفتي بالتصوف الإسلامي. وربما كان في استطاعة الباحث المتخصص
في الدراسات الإسلامية تقديم مثل هذه النماذج. ومن ناحية أخرى فقد
يكون انطباعي صحيحًا، وهو أن مفهوم الخواء-الملاء لا يوجد
عندهم. وربما يرجع ذلك إلى التأكيد المفرط على شخصية الله القوية
الدينامية في ديانة كبتت النزعة الصوفية نحو الجانب السكوني
اللاشخصي حتى بين المتصوِّفة أنفسهم.
وطالما أنه يوجد في اليهودية نفس التأكيد الموجود في الإسلام،
وطالما أن العنصر الصوفي، في اليهودية، يتضاءل إلى أقصى حد،
فإن المرء قد يتوقَّع ألَّا يجد هنا أيضًا أي شواهد على مفهوم
الخواء-الملاء، وإن كان لا يوجد، في الواقع، الكثير منها. ومع
ذلك فإن نظرية إنْ-سوف
En-Sof
تبدو مشابهة من زوايا كثيرة لعبارات «إيكهارت» و«روز بروك»، ويعتقد
شوليم أن هناك تمييزًا بين
الله على نحو ما هو عليه في ذاته وبين
«إن-سوف» المجهول غير الشخص، وبين الله المشخص في التوراة الذي
هو الله في حالة التجلِّي. ﻓ «إنْ-سوف» يُسمى أيضًا «الله
المتخفي» وهو الذي يُشير إليه تعبير القبلانية بقوله في «أعماق
ذاته يوجد العدم».
٤٨ وفضلًا عن ذلك فإن «إنْ-سوف» الذي هو اللامتناهي،
لا صفات له ولا كيفيات؛ ذلك لأنَّ الصفات الإلهية تنتمي إلى الله
في حالة التجلِّي. إنَّها تنتمي إلى «عوالم النور التي تتجلى فيها
طبيعة «إنْ-سوف» المظلمة».
٤٩ والواقع أن هذه المفاهيم تتحد في النهاية مع اللاهوت
الصوفي عند «إيكهارت» و«روز بروك» إذا ما تغاضَينا عن خلفية التثليث
التي عبَّر بها صوفية المسيحية عن أنفسهم.
سادسًا: كلمة الله
تؤدي التجربة الصوفية الانطوائية، لا محالة، كما رأينا، إلى
تصوُّر الذات الكلية، أو الوحدة المطلقة، أو الواحد، وهو من وجهة
نظرنا تأويل صحيح. علينا الآن أن نتساءل عمَّا إذا كانت الذات
الكلية يُمكن أن تتَّحد على نحو سليم مع الله. إن الصوفية
المؤلِّهة الذين بلغوا تجربة وحدة اللاتمايز، وانبثاق فردياتهم من
تلك الوحدة، يقفزون بلا أدنى ضجة إلى النتيجة التي تقول إنَّهم
مروا بتجربة «الاتحاد بالله». ونحن لا نُناقش هنا استخدام كلمة
«الاتحاد»؛ إذ يبدو من الأهمية أكثر من ذلك أن نتساءل عمَّا إذا
كانت كلمة «الله» كلمة مناسبة. وربما كان السؤال، بمعنًى ما، مجرد
سؤال لفظي. ومع ذلك فمطلوب هنا، بالتأكيد، قدر كبير من الحذر
والحرص. فمن السهل جدًّا، عند هذه النقطة، طالما أنَّنا وافقنا على
تصوُّر الذات الكلية الكونية، أن يسمح المرء لنفسه أن يجرفه تيار
التأكيد واليقين، ربما بتأثير العاطفة، إلى التسليم التام
بالتصوُّرات الدينية أو اللاهوتية المألوفة.
ينبغي على المرء أن يُميِّز بين المعنى الشعبي المألوف لكلمة
«الله» والمعاني الأكثر تحضرًا التي قدَّمها الفلاسفة واللاهوتيون
لهذه الكلمة؛ فالله عند بروفيسور «برود»، شخص بالمعنى الشعبي
الشائع، وهو يعتقد أن الشخص عبارة عن كائن لا بد أن يُفكِّر،
ويشعر، ويُريد، ومثل هذه الحالات الشعورية، لا بد، بمقدار ما تكون
متآنية، أن تمتلك الوحدة التي تدل على أنها حالات لذهن مفرد.
وبمقدار ما تتوالي فإنَّها لا بد أن تمتلك الهوية الشخصية. وربما
قلنا إن بروفيسور «برود» يُعرِّف الشخص بالمعنى الذي يكون عليه
خالد، وزيد، وعمرو أشخاصًا. ولا شك أن ذلك شيء يُشبه ما يتضمَّنه
التصوُّر الشعبي عن الله. لقد قيل إن «تنسون» ذهب إلى أنَّ
الفكرة الشعبية عن الله، هي فكرة الكاهن اللامتناهي. ومن الواضح
أن الله عند هذه الوجهة من النظر موجود زماني. فعلى الرغم من
أنه، كما يُقال، لا يُمكن أن يتغيَّر، فإنَّه غاضب اليوم علينا،
مسرور منَّا غدًا. ولديه في أوقات مختلفة أفكار مختلفة. وهو يضع
خططًا لخلق الكون تمامًا، بنفس المعنى الذي يضع به الموجود البشري
خططًا لبناء منزل، فيما عدا أن الله لا يحتاج إلى مواد ليعمل
بها، فهو يخلق الكون من عدم.
٥٠ ولا يُمكن بالقطع أن تتحد الذات الكلية مع الله بأي
معنى من هذه المعاني؛ لأن الذات الفردية منفصلة عن الذوات الأخرى
بنفس الطريقة التي ينفصل بها زيد، وخالد، وعمرو، بعضهم عن بعض، وهو
ما لا تكنه الذات الكلية على وجه التحديد، لقد انبثقت منها جميع
الذوات الفردية؛ فهي تُمايز نفسها في الأفراد، لكنَّها هي نفسها لا
تتمايز، كما أنها أزلية، بمعنى أنها بغير زمان، ولا يُمكن
تصوُّرها على أنها حالات متتابعة من الشعور، فضلًا عن أنَّ
الواحد هو اللامتناهي، في حين أن الشخص، من حيث إنه شخص منفصل
عن غيره، هو بالضرورة
متناهٍ، حتى على الرغم من أن صفة
«اللاتناهي» تلحق به في العرف الشائع.
وعلى ذلك فإن الاعتراض الرئيسي على التوحيد بين الذات الكلية
وبين الله، هو أن مثل هذا التوحيد، ربما ظن أنه يُشجع أو يوافق
على التصوُّرات الفجة عن الله، التي أشرنا إليها الآن توًّا. ولو
كان في استطاعتنا أن نتجنَّب ذلك، لأمكن إزالة الصعوبة الرئيسية في
استخدام الكلمة، لكن يظل السؤال قائمًا عمَّا إذا كانت الكلمة
مناسبة حتى في استخدام الفلاسفة أو اللاهوتيين لها. ويبدو أنه لا
جدوى من الدخول في مثل هذا البحث؛ لأن آراء اللاهوتيين والفلاسفة
متعددة، ويختلف بعضها عن بعض، على نحو يجعل من غير الممكن مناقشتها
كلها هنا. ومن ثَم فإن علينا أن نحسم المسألة، وسوف أناقش فحسب،
ما إذا كانت الذات الكلية، على نحو ما ناقشناها في القسم السابق،
تمتلك الخصائص أو الصفات التي تبدو لي
الحد الأدنى من الخصائص التي
تعترف أنها عامة وكلية وضرورية إذا ما استخدمنا كلمة «الله»
بطريقة مناسبة. وربما كان مثل هذا العمل يتضمَّن عنصر التعسف في
اختيار مثل هذه الصفات. وهذا أمر لا نستطيع تجنبه:
- أولًا: يبدو أنه من الضروري أن يكون الله موجودًا
حيًّا، واعيًا، وليس شيئًا جامدًا ميتًا لا حياة
فيه، ولا وعي له، مثل كتلة من الخشب، لكن ليس من
الضروري أن يكون شخصًا منفصلًا. وطالما أن الذات
الكلية هي الوعي الخالص، فيبدو لي، من هذه
الزاوية، أنه ليس من غير المناسب أن نطلق عليها
اسم الله.
- ثانيًا: لا بد أن يكون الله هو الغاية التي يسعى إليها
كل طموح روحي؛ إذ عنده يتحقَّق الخلاص الكامل
والسعادة النهائية. والدليل هو أن الاتحاد
الصوفي مع الذات الكلية، بالنسبة لمن بلغوا مثل
هذا الاتحاد، هو الغبطة المطلقة والسلام الكامل
الذي يُجاوز كل فهم، وذلك وصف سليم له.
- ثالثًا: لا بد أن يكون لله خاصية إثارة الشعور بالمقدس
وبالقدسي، وهذا هو بالضبط الخط الفاصل بين ما هو
ديني وما هو دنيوي، ولا أحد يستطيع أن يشك في أنَّ
الاتحاد الصوفي بالواحد له هذه الخاصية.
- رابعًا: لا بد أن نعتقد أن الله هو المصدر النهائي
لجميع القيم، ولكل خير. ونحن لم نُناقش حتى الآن
العلاقة بين التصوف وأحكام القيمة في ميدان
الأخلاق وفي غيره من الميادين. فسوف نُرجئ ذلك إلى
فصل قادم. إذ تزعم الصوفية أن جميع القيم تنبع،
في الواقع، مع تجربتهم. وعلى أيَّة حال، ليس في كل
ما قُلناه حتى الآن عن الذات الكلية ما يتناقض مع
هذا الزعم، وذلك بالطبع يُثير ما يُسمَّى بمشكلة
الشر، لكن لمَّا كانت هذه المشكلة تُثيرها أيَّة
نظرية عن طبيعة الله، فإنَّها لا تُمثِّل اعتراضًا
خاصًّا ضد التوحيد بين الذات الكلية والله.
- خامسًا: هناك خاصية ضرورية لله هي أن نقول عنه إنَّه
مصدر العالم. وإنَّ جميع الأشياء قد صدرت عنه،
وتلك خاصية الله بوصفه خالقًا. وربما كانت أكثر
الصفات أساسية بالنسبة للألوهية. ومن ثَم فهي
تُشكِّل بالنسبة لنا النقطة الحرجة في هذا البحث؛
ذلك لأنَّنا لا نستطيع أن نُطلق الموجود الحي
الواعي الذي هو غاية كل طموحي روحي، والذي هو قدسي
ومقدس، والذي هو مصدر كل خير، أقول إنَّنا لا
نستطيع أن نُطلق على هذا الموجود اسم الله، ما لم
نتصوَّره أيضًا خالقًا للعالم.
ولا يدور السؤال، بالطبع حول ما إذا كانت الصوفية «في الشرق أو في الغرب»
يعتقدون أن الوحدة التي لا تمايز فيها
ولا اختلاف، والتي يمرون بتجربتها هي
الخالق؛ لأن ذلك أمر لا
شكَّ فيه. فالواقعة المحض التي تقول إن متصوِّفة المسيحية
يُطلقون على هذه الوحدة اسم «
الله» تشهد بإيمانهم بالخلق والإبداع،
ما دام ذلك متضمنًا في معنى الكلمة، وهم كثيرًا ما يستخدمون،
صراحة، كلمة «
الخالق» كما مروا بتجربته، لكن من الممكن، منطقيًّا،
أن يكون ذلك مجرد نظرية عقلية تقوم على نوع ما من العملية
الاستدلالية ولا تضرب بجذورها في التجربة الصوفية على الإطلاق.
ومن ثَم فإن مشكلة الحقيقة تدور حول ما إذا كان الإيمان هو وصف
حقيقي أو أصيل للتجربة الصوفية. والسؤال عمَّا «إذا كان ما مرُّوا
بتجربته هو الخالق»، يعني «ما إذا كانوا قد مرُّوا
بإبداعه؟»
والجواب إنَّما يوجد في فقرات مثل تلك الفقرات التي اقتبسناها من
قبل «سوزوكي»، و«أوروبندو»، و«إيكهارت»، و«لاو-تسو»، والتي تقول
إن الوحدة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف إنَّما تدرك على أنها
تتمايز في ذاتها. صحيح أن كلمة «تدرك» التي تعني بصراحة التجربة
المباشرة كشيء متميِّز عن النظرية العقلية، لا تستخدم إلا في النص
الذي اقتبسناه من أوروبندو. غير أن الشعور في الفقرات الثلاث
الأخرى يُعطي إحساسًا قويًّا أنها تدوينات لتجارب شخصية.
الذات الكلية، هي، إذن،
الخالق: ويعتمد إبداعه على تمايزه
الذاتي؛ فاللامتمايز يمايز
ذاته. والتمايز، والانقسام، والتحقُّق
الفعلي، ليست أشياء تأتيه من الخارج،
وإنَّما هي أفعاله الخاصة
نفسها. وهذه الأفعال ليست زمانية، وإنَّما هي بلا زمان، إنَّها فعل
أزلي، أو نشاط أبدي. وهي بما هي كذلك ليست عملية
تغير، طالما أنَّ
التغير يعني الانتقال الزمني من حالة إلى حالة أخرى. وإن قيل لنا
إن الفعل اللازماني الذي ليس تغيرًا هو تعبير متناقض، فليس في
استطاعتنا إلَّا أن نقول إنَّنا نتوقع المفارقة هنا. وفي استطاعتنا
أن نُذكِّر القارئ أن «ن. م» مرَّ بتجربة رؤية شيء أمامه
«يُحلِّق بلا حركة» وهو ما يُمكن أن نصفه بأنه بغير شك، فعل بغير زمان.
٥١ ومن المعقول أن نزعم أن هذه التجربة تظهرنا على
أن الفكرة ليست مجرد نتيجة لجدل عقيم من اللاهوتيين.
في استطاعتنا إذن أن نقول إن الذات الكلية أو الواحد، تحمل صفة
الخالق للعالم، وهي صفة مطلوبة إذا كان من المناسب أن نُطلق عليها
اسم الله. كما أنها تحمل أيضًا الصفات الأربع المطلوبة الأخرى
كما سبق أن رأينا. وبالتالي نستطيع أن نُطلق عليها اسم الله دون أي
إساءة في استعمال اللغة.
ومع ذلك ففي استطاعتنا أن نقول الشيء الكثير مِن تجنُّب استخدام
الكلمة كلما أمكن ذلك، وأن نستخدم بدلًا منها عبارات مثل الواحد،
والذات الكلية، … إلخ، وحين يفعل المرء ذلك فإنَّه يتجنَّب
التداعيات الخرافية والفجة التي لا بد أن تلحق باستخدام كلمة الله.
ولا شك أن هذا هو السبب في أن الكُتَّاب المحدثين الذين وصفوا
تجاربهم الصوفية من أمثال «تنسون» و«كويستلر» و«سيمونز» تجنَّبوها.
واستخدموا لغة محايدة من الناحية اللاهوتية. ومع ذلك فسوف تكون
مجرد حذلقة لو أنَّنا رفضنا استخدامها عندما تلوح الفرصة المناسبة
لذلك، كما هي الحال، مثلًا، عندما يُناقش المرء بصفة خاصة تجارب
المتصوِّفة أو نظرياتهم في الديانات المؤلهة الثلاث؛ إذ من الطبيعي
أن نميل إلى استخدام مفرداتهم اللغوية، ففي أمثال هذه الحالات
سيكون أمرًا مصطنعًا جدًّا ألَّا نفعل ذلك. وسوف أحاول تنظيم ما
أقوم به على ضوء هذه الاعتبارات، على الرغم من أنه يصعب أن
نتوقَّع حالة من الاتساق الكامل.
لا بد لنا، بالطبع، أن نتذكَّر أن نفس الأسئلة تُثار حول
العبارات التي تُقال عن الله، كما سبق أن رأينا أنها تُثار حول
العبارات التي تُقال عن الذات الكلية. وعلينا أن نسأل في كل حالة
عن وضع أمثال هذه التأكيدات. ولمَّا كانت الذات الكلية، لا هي
موضوعية ولا هي ذاتية، فإنَّها ليست هي الله. وإذا ما قُلنا إنَّ
«هناك ذاتًا كلية» أو أن «هناك إلهًا»، فإن علينا أن نسأل عن
معنى كلمة «هناك» طالما أنها لا تعني كلمة «يوجد». ويعود بنا ذلك
إلى مشكلة الوضع التي لمسناها بإيجاز في الأقسام السابقة.
سابعًا: نظرية الوجود الخالص ذاته
لو أن البحث قادنا إلى الظن بأنَّ التجربة الصوفية موضوعية،
فلا بد أن يكون لنا الحق في هذه الحالة أن نقول إن العبارات التي
تدور حول الذات الكلية عبارات «صادقة»، وأنَّ الذات الكلية
«موجودة». أمَّا لو أنَّنا انتهينا إلى أن التجربة الصوفية
ذاتية، فسوف يكون لنا الحق في هذه الحالة أن نقول إن العبارات
التي تدور حول الذات الكلية هي عبارات «كاذبة»، وأنَّ الذات الكلية
«غير موجودة»، لكن طالما أنَّنا انتهينا إلى أن الذات الكلية لا
هي موضوعية ولا هي ذاتية، فإن علينا أن نقول إن الذات الكلية
لا هي موجودة، ولا هي غير موجودة، وأن العبارات التي تُقال عنها
لا هي صادقة ولا هي كاذبة. وما لم يكن لدينا الاستعداد لقبول
الإجابة الزائفة التي قال بها الوضعيون الأُول، والتي تقول إنَّ
أمثال هذه العبارات لا هي صادقة ولا كاذبة، وإنَّما هي لا معنى
لها. فضلًا عن أنها عبارات ميتافيزيقة، فإن علينا أن نُحاول
البحث عن منظور جديد.
وسوف أُناقش في هذا القسم — وفي القسم التالي — حلَّين للمشكلة،
أوصى بهما الأسلاف، ويُمكن أن نُسمِّيهما على التوالي: «نظرية
الوجود ذاته»، و«نظرية الحقيقة الشعرية». ولا يُمكن، في رأيي، قبول
أي منهما، لكنَّهما معًا كانتا مؤثرتَين إلى حد أنَّنا لا نستطيع أن
نتجاهلهما. لقد أدركت نظرية الوجود الخالص ذاته، على النحو الصحيح،
أن الحقيقية التي تقول إن الموجود الأول لا يُمكن أن يوجد،
بالمعنى الذي نقول فيه إن البقرة موجودة، فهو ليس موجودًا
جزئيًّا، أو شيئًا بين أشياء أخرى، وبعبارة أخرى إنَّه ليس
موضوعيًّا. كما أنها تُصر، في الوقت ذاته، وهي على حق في ذلك،
أنه لا يُمكن إزاحته كما لو كان خيالًا، أو خرافة، أو وهمًا، أو
قصة خيالية. وبعبارة أخرى إنَّه ليس ذاتيًّا. ومن ثَم فهي تذهب
إلى أن الله، رغم أنه ليس موجودًا جزئيًّا، فإنَّه الوجود
الخالص ذاته. والوجود في ذاته، كالبياض في ذاته، كالمثال عند
أفلاطون أو الصورة عند أرسطو هو كلي. وكما أن البياض هو العنصر
المشترك بين جميع الأشياء البيضاء، فكذلك الوجود هو العنصر المشترك
بين جميع الموجودات. ويُمكن فهم كليهما بطريقة أفلاطون على أنه
موجود في العقل الإلهي قبل الأشياء Ante
Rem. أو بطريقة أرسطو على أنه «وجود طبيعي
في الأشياء In Re» وفي ظني أن
ذلك لا أهمية له، فلا فرق بين الاثنين، رغم أن أولئك الذين
يؤكدون هذه النظرية يُفضِّلون، عادة، فيما يبدو، طريقة
أرسطو.
وهذه النظرية، في اعتقادي، ينبغي رفضها بحسم. ويُمكن أن نُثير
الاعتراض الذي يقول إن نظرية الكليات بأسرها، بأي معنًى غير
أنها تصورات ذاتية، عرضة للنقاش والجدل، طالما أن الوقائع
التجريبية التي تسعى إلى تفسيرها يُمكن شرحها كذلك عن طريق نظرية المتشابهات.
٥٢ وفي استطاعتنا، من أجل البرهان الذي نسعى لعرضه أن
نتحدث كما لو كانت نظرية الكليات حقيقة مقبولة. وفي استطاعتنا،
إذن أن ننقد نظرية الوجود الخالص ذاته على النحو التالي: لا شك
أن هناك أفكارًا عن البياض، والإنسانية، أو البشرية، وأفكارًا عن
المثلثات، وعن ثلاثي الشكل؛ ذلك لأنَّ هناك عنصرًا مشتركًا في جميع
الأشياء البيضاء. وعنصرًا مشتركًا بين جميع البشر، وعنصرًا مشتركًا
في جميع المثلثات، لكن ليس ثمة فكرة أو صورة
للوجود؛ لأنه لا
يوجد شيء مشترك بين جميع الموجودات، بل هناك فحسب موجودات جزئية،
وليس الوجود الكلي الخالص.
وهذا يُرادف قولنا إن الوجود ليس محمولًا بالمعنى الذي يكون
فيه صفة الأبيض، والبشرى، والشكل الثلاثي، محمولات. وهذه الوجهة من
النظر تُنسب عادة، وبحق، إلى كانط. غير أن «ديفيد هيوم» عرض نفس
هذه الوجهة من النظر قبل كانط، وبرهن عليها بوضوح أكثر. وينبغي
ألَّا ندع أنفسنا يختلط عليها الأمر من واقعة أن هيوم استخدم
كلمة «الوجود الفعلي
Existence»
٥٣ بدلًا من كلمة «الوجود الخالص
Being» التي استخدمها كانط؛
لأنَّ ديفيد هيوم في هذا السياق يعني بكلمة «الوجود الفعلي» ما
يعنيه كانط بالضبط بكلمة «الوجود العام».
٥٤ ولقد ساق هيوم حجته على النحو التالي: «فكرة الوجود
الفعلي … هي نفسها فكرة ما نتصوَّر أنه موجود … وهذه الفكرة إذا
ما لحقت بفكرة أي شيء فإنَّها لا تضيف إليها شيئًا. فأيًّا ما كان
ما نتصوره، فإننا نتصور أنه موجود. وأي فكرة شئنا تشكيلها
فهي فكرة لموجود ما، وأي فكرة عن موجود ما هي فكرة أردنا أن نُشكِّلها».
٥٥
من سوء الطالع أن هيوم استخدم هنا كلمة «الوجود الفعلي»، ولهذا
فإنَّنا سوف نعود إلى مصطلح كانط عن الوجود العام أو الخاص، ونتابع
حجتنا بهذا المصطلح. والنقطة الهامة عند هيوم هي إذن هذه: لو
أنَّني تساءلت عن معلومات عن شيء لا أعرف عنه شيئًا في الوقت
الحاضر وقيل لي إن «الشيء أبيض» فإنَّني في هذه الحالة أكون قد
عرفتُ شيئًا عنه لم أكن أعرفه من قَبل وهو المحمول «أبيض». وقل
الشيء نفسه عن الشكل الثلاثي وعن صفة البشرية. فتطبيق هذه الكلمات
على شيء ما يعني تقديم معلومات عنه، لكنِّي لو قلتُ إن «الشيء
موجود»، فإن هذه العبارة لا تُقدِّم لي أية معلومات على
الإطلاق، ما دامت لا تقول شيئًا سوى أن «الشيء هو الشيء»، أو
أن «هذا الموجود موجود». وإذا ما نظرنا إلى قطعة مربعة من السكر،
فإنَّنا قد نتساءل عن خصائصها، وقد نُجيب عندئذٍ أنها «بيضاء،
صلبة، مربعة، حلوة … إلخ»، لكنَّا لا نستطيع أن نُضيف خاصية أخرى
هي أنها موجودة؛ لأن الوجود ليس خاصية متميِّزة عن صفة بيضاء،
وصلبة … إلخ، يُمكن أن تُضاف إلى قطعة السكر.
الخطأ في افتراض أن الوجود محمول، ومن ثَم الخطأ في النظرية
التي تقول إن الموجود الأول هو «
الوجود الخالص ذاته» يأتي من
الخلط بين
الوجود العام، والوجود الفعلي، حيث تستخدم كلمة الوجود
الفعلي بالمعنى الذي تقول إن النمر موجود، لكن القنطورس غير موجود؛
٥٦ لأنَّك حين تقول إن النمر موجود بهذا المعنى فإنَّك
تُقدِّم معلومات عنه، وهي أنه جزء من النظام الطبيعي أو من عالم
الزمان والمكان، وأنَّ له وجودًا موضوعيًّا، في حين أن القنطورس
ليس كذلك. وعلى ذلك فالوجود الفعلي، وما ليس وجودًا فعليًّا يصلح
محمولات، في حين أن الوجود العام لا يصلح أن يكون محمولًا؛ فجميع
الموجودات الفعلية لها عنصر مشترك، هو أن لها مكانًا وزمانًا في
شبكة الأشياء التي نُسمِّيها بالنظام الطبيعي.
نظرية الوجود الخالص ذاته لا تؤكِّد، بالطبع، أن الله هو
الوجود الفعلي ذاته، وإنَّما هو الوجود العام أو الخالص ذاته. ولا
شك أن الوجود الفعلي ذاته كلي، وأنه هو العنصر المشترك بين
جميع الأشياء في النظام الطبيعي الموضوعي، أي إنَّه عضو في ذلك
النظام، وهو ما لا تملكه الأشياء المتخيلة، والأحلام، والهلوسات،
والهذيان … إلخ. والنظرية التي نُناقشها لا تعني القول بأنَّ الله
عنصر مشترك بين جميع الأشياء الطبيعية، وأنه سيكون له معنى،
طالما أن الوجود الفعلي يصلح أن يكون محمولًا، فالنظرية توحِّد
بين الله والوجود الخالص أو العام، لكن ليس ثمة مثل هذا العنصر
المشترك، الذي تشارك فيه جميع الأشياء، ومن هنا كانت النظرية
كاذبة.
ثامنًا: نظرية الحقيقة الشعرية
هذه النظرية، مثلها مثل نظرية الوجود الخالص أو العام ذاته، قد
أدركت على نحو سليم أن الوجود الأول لا هو موضوعي ولا هو ذاتي،
أو بعبارة أخرى، فإن العبارات التي تُقال عنه لا هي صادقة ولا هي
كاذبة بالمعنى المألوف لهاتين الكلمتين، لكنَّها تؤكِّد أن هناك
معنى آخر «للحقيقة» وهذه الحقيقة يمتلك الشعر ناصيتها — وربما صور
أخرى من الفن — وأنَّ الدين والتصوف يمتلكان مثل هذا النوع من
الحقيقة. ويُمكن أن نُسمِّي الحقيقة بالمعنى المألوف باسم الحقيقة
العلمية، أو الحقيقة العقلية. ويُمكن أن نُسمِّي هذا النوع الجديد
باسم «الحقيقة الشعرية»، فما هو معيارها، وما الذي يُميِّزها عن
الحقيقة العقلية …؟
يُقال أحيانًا إن الشعر، وغيره من الفنون، يُمكن أن يُعبِّر عن
«استبصارات» و«حدوس» حول طبيعة الأشياء، فهل هذا ما تعنيه عبارة
«الحقيقة الشعرية»؟ غير أن الحديث عن تعبيرات لمثل هذه الحدوس
يلفت الانتباه إلى واقعة أن أذهانًا معينة، ومنها عقول الشعراء،
كثيرًا ما تبدو وهي تمتلك القدرة على إدراك الحقيقة على نحو مباشر
وفوري وبدون توسط مرهق من التفكير الاستدلالي. وهذه القدرة هي التي
تُسمى عادة بالحدس. والقول بأنها موجودة قول صحيح، لا عند
الشعراء فحسب، بل عند العلماء، والرياضيين، والفلاسفة العظام، وعند
معظم الموجودات البشرية بقدر ما. وربما أكَّد ذلك وجود طرق مختلفة
للوصول إلى الحقيقة (الطريق الحدسي) غير تلك التي يُمارسها عمومًا
العلماء وغيرهم، (طريق الاستدلال بالسير خطوة خطوة) لكن ذلك لا
علاقة له إطلاقًا بوجود أنواع متميزة من الحقيقة مختلفة عن النوع
العلمي. وذلك، من ثَم، لا أهمية له بالنسبة للنقطة التي
نناقشها.
من المحتمل إذا كان هناك نوع خاص من الحقيقة تُسمَّى بالحقيقة
الشعرية لا بد أن تكون موجودة، على أيَّة حال، في الشعر، وهو
المكان الذي سوف نبحث عنها فيها وفي ذهننا اكتشاف معاييرها،
والطريقة التي تختلف بها عن الحقيقة العقلية. ولا بد أن نكون على
حذر بالنسبة لعينات الشعر التي نختارها ونحن نُحاول اكتشاف الحقيقة
الشعرية منها فلا نفحص، مثلًا، القصائد الدينية أو الصوفية وحدها.
فمثلًا الأبيات الآتية للشاعر شللي:
«الواحد يبقى، أمَّا الكثير فيتغيَّر ويزول،
نور السماء يشع دائمًا، أمَّا ظلال الأرض فهي
تُذوى،
الحياة مثل القبة الزجاجية متعددة الألوان،
تلطخ شعاع الأزل الأبيض.»
يُمكن أن يُقال إنَّها تُعبِّر عن خصائص الفكرة الصوفية. وقل مثل
ذلك في أبيات الشاعر «وردز ورث» التي اقتبسناها فيما سبق، والتي
تؤكِّد:
«حركة الروح التي تدفع
جميع الأشياء المفكرة، وجميع الموضوعات من كل
فكر،
وتدور حول جميع الأشياء.»
ذلك أنَّنا لو قلنا إن حقيقة الأفكار الدينية والصوفية هي
حقيقة شعرية، وإن الحقيقة الشعرية هي من نوع الحقيقة التي
تُعبِّر عنها القصائد الدينية والصوفية، فسوف نكون في خطر الوقوع
في دور منطقي أو حلقة مفرغة. فإذا كان هناك مثل هذه الحقيقة
الشعرية فلا بد أن يمتلكها الشعر بما هو كذلك، أعني كل أنواع
الشعر، أو على الأقل كل شعر جيد، وأصيل، وعظيم. ومن ثَم فسوف توجد
في الشعر الدنيوي، وأنا أعني به الشعر الذي لا تكون موضوعاته دينية
من أي نوع. وإنَّما تدور قصائده حول الحياة والأحداث اليومية.
فلنأخذ إذن أمثلة قليلة بطريقة عشوائية، من فقرات مشهورة لبعض
الشعراء الكبار، مُحاولين اكتشاف أين تكمن الحقيقة الشعرية
فيها.
من الواضح، بادئ ذي بدء، أن هناك قصائد عظيمة كثيرة تُعبِّر عن
حقائق علمية أو فلسفية، وأنه كان في نية مؤلفيها أن يفعلوا ذلك.
لقد اقتبس «وايتهد» مثلًا، من قصيدة تنسون «في الذكرى» البيت
الآتي:
«لقد همستْ قائلة إن النجوم تدور بطريقة عمياء.»
ويلاحظ أن مشكلة المذهب الآلي هي التي كانت تفتنه [يقصد
تنسون]. «وهذا البيت يضع بقوة المشكلة الفلسفية كلها التي
تتضمَّنها القصيدة. فكل جُزيء يدور بطريقة عمياء. ولمَّا كان الجسم
البشري يتألَّف من جُزيئات، فإن هذا الجسم يدور بطريقة عمياء.
ومن ثم فليست هناك مسئولية فردية عن أفعال هذا الجسم.»
٥٧ وبعبارة أخرى: إن ما يُقرِّره هذا البيت من وجهة
النظر الآلية عن الطبيعة. وهذا هو ما يُقال إنَّه فتن تنسون، وما
يُحاول «وايتهد» أن يُقدِّم تصحيحًا في فلسفته عن الكائن الحي. غير
أن النظرة الآلية التي يُعبِّر عنها «تنسون» في هذا البيت هي
حقيقة علمية أو فلسفية، أو هي لا حقيقة أو نصف حقيقة، لكنَّها ليست
حقيقة شعرية. فأين، أو ما هو النوع الخاص من «الحقيقة الشعرية»
التي لا بد أن تكون متضمَّنة في القصيدة — طبقًا لوجهة النظر التي
نناقشها —
بالإضافة إلى الحقيقة العقلية، فلا بد أن يكون هناك،
فيما يبدو، نوعان مختلفان تمامًا من الحقيقة في نفس هذا البيت من
الشعر. ومن الواضح يقينًا، أن ما تضيفه الصورة الشعرية إلى
العظام العارية المشكلة الفلسفية الخاصة بالمذهب الآلي ليست نوعًا
آخر من الحقيقة، بل عمقًا للشعور البشري، وجمالًا من التعبير
اللغوي المجازي.
غير أن القصيدة التي تُثير مشكلة الحرية البشرية، هي، بالطبع،
حالة خاصة؛ فمعظم القصائد لا تتضمَّن إشارة فلسفية خاصة، بل تُعالج
أمور الحياة اليومية ببساطة أكثر، لكنَّها إذا ما كانت قصائد
عظيمة، فلا بد أن تحتوي كل واحدة منها على نوع خاص من الحقيقة
الشعرية لو كان هناك مثل هذه الحقيقة. ومن ثَم فمن الإنصاف أن
نسأل مَن يؤيد هذه النظرية؛ أين توجد، وما هي، هذه الحقيقة
الشعرية في الأبيات التي وضعها «مارلو
Marlow» على لسان «دكتور
فاوست» عندما رأى شبح «هلن الطروادية»:
«أهذا هو الوجه الذي من أجله انطلقت ألف سفينة،
وأحرقت أبراج اليوم
Ilium
العالية؟!»
٥٨
أو في أبيات كوليردج:
«القمر السيَّار يذهب بعيدًا في السماء،
دون أن يستقر في مكان،
وهو يسبح برقة،
يرافقه نجم أو نجمان …»
أو في أبيات «كيتس
Keats»:
«لقد اختفوا: نعم منذ عصور طويلة مضت،
لقد تلاشى المُحبَّان وسط العاصفة.»
أو في أبيات «روسيتي
Rosseti»:
«كان رداؤها منزوعًا من الحوافي حتى الأهداب،
فلم تعد تزيِّنه الزهور المطرزة،
بل وردة بيضاء هدية من السيدة مريم.
لقد بلي من الطقوس الدينية،
أمَّا شعرها المسدل خلف ظهرها،
فقد كان أصفر اللون كسنبلة القمح الناضجة.»
أو أبيات «براوننج
Browning»:
«من لم يدر ظهره قط، بل سار إلى الأمام منتفخ
الصدر،
لن تحطمه أبدًا سحب الشك …»
أو أبيات سوينبرن
Swinburne:
«حتى النهار الحزين …
يشق طريقه بأمان إلى البحر …»
كل مجموعة من هذه الأبيات تُقرِّر واقعة أو حقيقة بسيطة إلى أقصى
حد، وإذا ما أردنا أن نُدمِّر الشعر بأن نعزله عن صورته الشعرية
عبَّرنا عنها بكلمات نثرية عادية باردة تمامًا. فمثلًا أبيات
سوينبرن تُخبرنا بأنه حتى الشيوخ المتعبين يموتون في النهاية.
وتقول أبيات كيتيس إن اثنين من المحبين ضاعا وسط العاصفة. وتقول
لنا أبيات كوليردج إن القمر والنجوم تسبح في السماء بغير توقُّف.
ويتحدَّث روسيتي عن الفتاة التي ترتدي زيًّا بطريقة معينة. وتحمل
هذه الوقائع الباردة معلومة أو حقيقة من النوع العلمي، وما يضفيه
الشعر إليها هو لغة الإيقاع أو اللحن، أو المجاز العيني الحي،
بدلًا من التجريدات، فتنة الجمال والعاطفة. فليس ثمة نوع جديد أو
خاص من الحقيقة. إن معظم الشعر (على نحو ما كان يتميَّز في
الماضي عنه الآن) كان يتألَّف من أبسط وأوضح الحقائق البشرية مع
العواطف التي نشأ عنها؛ مثل حتمية الموت وكآبته، جمال المناظر
الطبيعية، القدرة على الحب والصداقة، حب الوالدين والأطفال،
الأحداث المأساوية في الحياة، وأيضًا ما فيها من ملهاة ضئيلة. ولو
أنَّنا نظرنا، بدلًا من ذلك، إلى الشعر في يومنا الراهن، وما فيه
من صعوبة واعتام لا حدَّ له، فما سوف نجده هو جهد ينشد الأفكار
العقلية الخفية وغير العادية، لكنَّه لا ينشد الحقيقة «الشعرية» من
أي نوع. وأنا أتحدى إنسان يكتشف في شعر «جون دون J.
Doone» الجميل أي شيء سوى أفكار عقلية
تُصاحبها نغمة مناسبة من الشعور تتجسَّد في كلمات وصور
بارعة.
لكن قد تكون هناك نسخة خاصة من نظرية الحقيقة الشعرية، وضعها
مفكرون معنيون تُخرجنا من هذه الصعوبات، وتضعنا على الطريق الصحيح.
ومن هنا فلن أُشير إلَّا إلى نسختين فقط من النظريتين اللتين
أعرفهما بالمصادفة؛
الأولى هي نظرية بروفيسور «فيلب ويلرايث
Philip Wheelwright» التي
عرضها في كتابه المجتمع «الينبوع المُضيء»، حيث يذهب إلى أن هناك
طريقتين فحسب لاستخدام اللغة، إحداهما كما يقول: «يُمكن أن تُسمى
اللغة التعبيرية، أو
لغة الأعماق، وهدف من أهدافي … سيكون التمييز
بين طبيعة هذه اللغة وإمكاناتها عن طبيعة وإمكانات اللغة الحرفية،
أو كما أُسمِّيها أحيانًا على سبيل الاختصار:
لغة الاختزال، أو لغة
العلم»، ثم يُضيف «إن لغة الأعماق تتمثَّل في الدين، وفي
الشعر، وفي الأسطورة». وهو يؤكِّد أن القضية المركزية في كتابه
هي «أنَّ الأقوال الدينية، والشعرية، والأسطورية، في أحسن أحوالها
تعني شيئًا ما، تضفي نوعًا من الإشارة الموضوعية. رغم أنه لا
الموضوعية ولا منهج الإشارة هما من نفس نوع لغة العلم»،
٥٩ وأنا أعتقد أن المؤلف — بزعمه أن الأقوال الدينية
والشعرية تحمل نوعًا من «الإشارة الموضوعية» التي تختلف عن
الإشارات الموضوعية للعبارات العلمية — فإنَّه يعرض علينا نسخة من
نظرية «الحقيقة الشعرية».
وقد يعجب المرء من عدم وجود أي خلط هنا بين مفهومين للغة، أو
طريقتين في استخدام اللغة، يُعبِّران معًا عن نفس الحقيقة، وعن
مفهوم نوعين مختلفين من الحقيقة، لكنَّا قد نتغافل عن ذلك. وقد
يعجب المرء أيضًا مما إذا لم يكن من سوء الطالع أن يتحدَّث ويلرايث
عن الأقوال الشعرية والدينية باعتبارها تُشكِّل وعيًا خاصًّا من
«الإشارة الموضوعية»؛ لأن ذلك يتضمَّن، فيما يبدو، وجود
موضوع
ما، ونوعًا من التطابق بينة وبين الفكرة التي تُعبِّر عنها. ومثل
هذا التطابق هو علامة خاصة عن معلومة أو حقيقة علمية، لكن ذلك
أيضًا لا أهمية له إذا كان المؤلف ينتهي إلى تقديم تفسير معقول
ومترابط عمَّا هو خاص بنوع الحقيقة الدينية والشعرية. ولقد خصَّص
فصلًا كاملًا لهذه المشكلة قُرب نهاية الكتاب، جعل عنوانه «الحقيقة
والجملة التعبيرية». وما قاله في هذا الفصل يُمكن أن نُلخِّصه على
النحو التالي: العنصر التقريري في الجملة هو حقيقتها بالمعنى
العلمي لهذا المصطلح، غير أن الجملة التعبيرية — رغم أنها
تتضمَّن عنصرًا تقريريًّا — فإنَّها تجاوز ذلك العنصر بأن تمزج به
عناصر انفعالية وعاطفية ووعظية «تنصهر كلها في بوتقة واحدة».
٦٠ وقد يكون ذلك صحيحًا لكنَّه يفشل تمامًا في أن يُفسِّر
لنا كيف تُشكِّل العناصر المضافة الانفعالية والعاطفية والوعظية —
وغيرها من العناصر غير التقريرية — نوعًا من الحقيقة غير
التقريرية، أو نوعًا من «الإشارة الموضوعية»، ومن ثَم فإنَّ
ويلرايث لم يُقدم — في رأيي — نظرية مترابطة، ولا حتى واضحة، عن
نوع الحقيقة التي تختلف عن الحقيقة العلمية. وتسليمه بأنَّ ما
تضيفه الصور الشعرية إلى الحقيقة التقريرية للقصيدة هو «عناصر
انفعالية أو عاطفية، ووعظية»، ينفي بدلًا من أن يدعم نظرية الحقيقة
الشعرية. ويتفق مع وجهة نظري أن ما تضيفه الصور الشعرية هو
الانفعال والعاطفة، وجمال المجاز واللغة … إلخ، لكنَّها لا تُضيف
نوعًا جديدًا من الحقيقة.
وهناك
نسخة أخرى يُقدِّمها بروفيسور «آرنولد توينبي» من نظرية
الحقيقة الشعرية في كتابه «منظور مؤرخ إلى الدين» فهو يؤكِّد أنَّ
هناك تمييزًا بين وجهين للحقيقة لا يُمكن أن يتمركزا في وحدة
بواسطة ملكات الذهن البشري الناقصة. فهناك عضوان في النفس البشرية:
السطح الإرادي الواعي، والهوة اللاشعورية الانفعالية، ولكل عضو من
هذين العضوين طريقته في النظر إلى، والنفاذ في، الزجاج المظلم الذي
يحجب
الحقيقة الواقعية Reality
العين الداخلية للإنسان، وهو حين يحجبها فإنَّه يكشف عنها على نحو
مبهم: ومن ثَم فإن كلتا الطريقتين من الإدراك الناقص تدعي
أنها عثرت على «الحقيقة»، غير أن صفات الوجهين المختلفين من
الحقيقة الكامنة الموحدة، مختلفة قدر اختلاف العضوين في النفس
البشرية التي تتلقى هذه «الأضواء المنكسرة»،
٦١ «والحقيقة التي تدركها النفس اللاواعية تجد التعبير
الطبيعي عنها في الشعر، أمَّا الحقيقة التي يدركها العقل فإنَّها
تجد التعبير الطبيعي عنها في العلم».
٦٢
يصعب جدًّا أن نستخلص جوهر هذه النظرية من الركام الهائل من
المجاز الذي تمَّ التعبير عنها فيه، لكن الفترة التي اقتبسناها
تعتمد، فيما يبدو، على التفرقة بين الظاهر والحقيقة التي وجدناها
عند كانط، والفلسفات التي خرجت منه. وربما غامرنا في الشرح فقلنا
إنَّه لا يوجد عند «توينبي» سوى حقيقة واحدة
Reality يُدركها عضوان
مختلفان: العقل واللاشعور يمثلان مظهرين مختلفين للذهن. لقد عرفنا
في فصل سابق أن هذه الحقيقة هي «حضور روحي»، وأنها هي، في
الواقع، «المطلق».
٦٣ وربما كان في استطاعة المرء أن يفترض أن هذه الحقيقة
«في ذاتها» لا بد أن تكون مما لا يُمكن معرفته، ما دام كل وجه من
وجهي الحقيقة ليس سوى ظاهر فحسب مشروط بالعضو الذي لا يُدركه. ولا
بد للمرء أن يفترض في هذه الحالة أن «توينبي» عندما أطلق عليها
اسم «الحضور الروحي» قد ابتعد لسبب ما عن الجهل النزيه بالحقيقة
الواقعية …
Reality الذي تتطلبه
النظرية، وأظهر تعاطفًا مع الوجه الذي يُدركه اللاشعور. ولنا الحق،
على أيَّة حال، أن نسأل عمَّا إذا يكون واضحًا ومعقولًا أمامنا،
أمَّا إذا كان لا يُمكن تفسيره تفسيرًا عقليًّا، فإنَّه
يظهر
أمامنا على الأقل، بحيث إنَّنا سوف نستطيع في المستقبل أن نعرفه
عندما نراه. ولكي يكون واضحًا ومعقولًا فإن علينا أن نُقدِّم له
تعريفًا ومعايير. والمُطالبة بأن يحدث ذلك على نحو تام ونهائي،
يعني المطالبة بنظرية كاملة وتامة، وهي نظرية من غير المعقول أن
نتوقَّعها، لكن لا بد أن تكون هناك على الأقل مُحاولة لذلك لتطابق
التحليلات والمحاولات لتقديم النظريات من طبيعة الحقيقة بالمعنى
العلمي والتي قام بها الفلاسفة وعلماء المنطق، إلَّا أن بروفيسور
«توينبي» لم يبدأ حتى بمثل هذه المحاولة لتقديم نظرية واضحة
ومعقولة.
وربما كان الجواب من وجهة نظره هو أنه في حالة النظرية لا
يُمكن تقديم نوع من الحقيقة غير العقلية أو البحث عنها، غير أنَّ
الحقيقة في الشعر لا بد، في هذه الحالة، أن تظهر في حالات جزئية؛
إذ ينبغي علينا أن يكون في استطاعتنا أن نقرأ قصيدة الشعر وأن نرى
فيها الحقيقة. ويُعيدنا ذلك إلى الموقف السابق الذي وصفناه في
بداية هذا القسم. والذي اقتبسنا فيه أبياتًا من شعر «تنسون»،
و«مارلو»، و«كوليردج»، و«كيتس»، و«روسيتي»، و«بروننج»، و«سوينبرن»،
وكنَّا شغوفين لاكتشاف الحقيقة التي تتضمَّنها عن «المطلق». وربما
كنتُ رقيق الحس جدًّا بالنسبة لخاصية الشعر — مثل غيري — لكني لستُ
أعمى تمامًا بالنسبة لها، ولستُ محافظًا على القديم تمامًا. ومع
ذلك فأنا لا أستطيع أن أجد هذه الحقيقة. والواقع أنَّني وجدتُ بعض
العظام العارية لحقيقة واقعية محض — وهي التي أطلق عليها «ويلرايث»
اسم العنصر التقريري — وإلى جانبها فتنة عاطفية عالية ونبيلة،
وجمالًا فنيًّا، وخاصية صوتية رائعة للغة موسيقية، وما إلى ذلك.
وهذا كل شيء.
لو صحَّت نسبة «توينبي» من نظرية الحقيقة الشعرية، فلا بد أن
يكون هناك توازي بين مظهرين
لحقيقة واحدة، حتى إن كل عبارة علمية
عن الحقيقة لا بد أن تكون من الممكن أن يُقابلها عبارة شعرية عن
الحقيقة والعكس. والواقع أنه لا ينتج من النظرية أنه لا بد أن
يكون الذهن البشري قادرًا على إدراك وجهي الحقيقة. وقد تكون هناك
نقاط عمياء في كلا العضوين، لكن لا بد للمرء أن يتوقَّع، على
الأقل، أنه في بعض الحالات سيكون من الممكن ملاحظة التطابق بين
الحقيقة الشعرية والحقيقة العقلية، وأن نقوم بترجمة إحداهما إلى
الأخرى. ومن المؤكَّد أن بروفيسور «توينبي» يُقدِّم نماذج لأمثال
تلك الترجمات. كتب يقول: «إن العقل الجاف يُدوِّن بسرعة خاطفة،
مثلًا، السلوك القذر في حرب الملوك البربرية
٦٤ عن طريق اللاشعور، ثم يترجمها إلى شعر بطولي …» وهو
يُخبرنا أن «التمسك بالإنجيل المسيحي في العقائد هو مثل آخر
لمحاولة ترجمة حقيقة اللاشعور إلى مصطلحات الحقيقة الفعلية».
٦٥ وإنَّه لمن عجب أن تكون الحقيقة نفسها قذرة في ترجمة،
بطولية في ترجمة أخرى، لكن بغض النظر عن ذلك، فلا يظهر ما إذا كانت
ملحمة «هوميروس» تُقدِّم نوعًا مختلفًا من الحقيقة، أو وجهًا
مختلفًا لنفس الحقيقة، إذا ما قورنت «بالتدوينات الجافة للسلوك
القذر … إلخ». ولا بد أن يبدو واضحًا أنه، كما أن أبيات «كيتس»
التي اقتبسناها فيما سبق تُقدِّم بالضبط نفس حقيقة «التدوين
الجاف»، وهي التي تروي بوضوح عن حبيبَين ضاعا وسط العاصفة، وأنَّ ما
أضافه الشاعر هو نوع آخر من الحقيقة، وإن كان خيالًا حيًّا ولغة
إيقاعية، وفتنة عاطفية؛ فكذلك تعالج قصائد هوميروس السلوك البربري
لحرب الملوك بالطريقة نفسها دون أن تُضيف إلى وجهي الحقيقة حقيقة
جديدة، بل فقط عناصر خيالية وعاطفية مماثلة.
إنَّنا نعرف من تجربة الحياة اليومية أن الحادثة الواحدة
يرويها ملاحظون بطرق مختلفة تمامًا، تبعًا لأمزجتهم المختلفة؛ فقد
يُركِّز شخص على جانب الدعابة فيها، فيجعلها تبدو كوميدية، بينما
يُركِّز آخر على جانب المأساة ويكتبها من هذه الزاوية، وقد تحمل
الحادثة العادية، في وقت واحد، عناصر من الجمال والقبح، والنبالة
والقذارة. وقد يُركِّز ذهن على هذا العنصر، بينما يُركِّز ذهن آخر
على عنصر آخر. وكل راوٍ يُخبرنا بالحقيقة وبجانب من الحقيقة. وليس
علينا أن نُقدِّم نظرية ميتافيزيقية منمَّقة عن نوعين من الحقيقة
لتفسير ذلك. فهل هناك أي شيء أكثر من ذلك في الروايتين المختلفتين
لحرب طروادة التي يُشير إليها بروفيسور توينبي؟
ويبدو أن «هتلر» من هذه الزاوية يُعبِّر عن بطولة رومانسية
وتألقًا في أي حرب، في حين أنَّ نَصيرَ السلامِ الذي دخل السجن من أجل
آرائه لا يرى في نفس هذه الحرب سوى بربرية وأمور مقززة. وهذا يوازي
تمامًا الروايتين عن حرب طروادة التي يُشير إليهما «توينبي»، لكن
لا أحد يعتقد أنه من الضروري أن يفترض نوعين من الحقيقة لتفسير
ردود الفعل بالنسبة «لهتلر» ونصير السلام.
والنتيجة التي أنتهي إليها هي أن نظرية الحقيقة الشعرية، سواء
في نسخة «ويلرايث» أو توينبي أو أي صورة أخرى؛ ينبغي رفضها.
تاسعًا: وضع الذات الكلية
الوجود الذي يصفه المتصوِّفة بأنه الواحد، أو الذات الكلية، أو
الخواء-الملاء، أو الله، ينبغي اعتباره الحقيقة الواقعية
Reality بثلاثة معانٍ؛ فهو
يتجاوز أي ذات فردية، ويستقل عنها، حتى إنه لا يُمكن أن يُقال
عنها إنَّها ذاتية، فلها قيمة قصوى وخير أقصى. وهي المصدر المبدع
الخالق للعالم. ومع ذلك فهي ليست موضوعية. ويُثير ذلك مشكلتين
رئيسيتين؛ الأولى هي أنه طالما أنها ليست ذاتية ولا موضوعية
فما هو «الوضع» الذي نُحدِّده لها، وما هو «وضع» العبارات التي
تُقال عنها مثل «إنَّها موجودة»، وإنَّها بلا زمان، وإنَّها أزلية
… إلخ. والثانية هي أنه إذا لم تكن موضوعية، ولا توجد وجودًا
فعليًّا، فبأي معنى تكون السبب الأول لعالم موضوعي موجود بالفعل؟
إنَّنا لا نحتاج إلى أن نُناقش بتفصيل أكثر من ذلك، في هذه المرحلة
سماتها، مثل: قيمتها القصوى، وأنها خالقة؛ ففي هذا القسم سوف
نفحص مشكلة «الوضع» أكثر من ذلك.
ينبغي علينا أن نُلاحظ بادئ ذي بدء أنه على الرغم من أنَّنا
وصلنا إلى النتيجة التي تقول إن الواحد لا هو ذاتي ولا هو
موضوعي، من ناحية عن طريق تطبيق مناهج التحليل لمعاني مصطلحات مثل
«الوجود الفعلي»، و«الموضوعية»، و«الذاتية»؛ فإن هذه النتيجة
نفسها يُمكن أن نجدها، أحيانًا، في أقوال المتصوِّفة أنفسهم، وقد
وصلوا إليها بغير شك بطريقة حدسية وليست منطقية. وبيان ذلك سوف
يزودنا بدعم هام في مناقشاتنا.
بعد أن تذكر «الماندوكا أوبنشاد» ثلاث حالات طبيعية للذهن وهي:
حالة اليقظة، وحالة الأحلام، وحالة النوم بلا أحلام، تواصل الحديث
عن حالة رابعة، وهي الحالة الصوفية، فتقول:
«قال الحكيم: أمَّا الحالة الرابعة فهي ليست ذاتية، ولا
تجربة موضوعية، ولا تجربة وسط بين الاثنين … إنَّها
الوعي الموحِّد الخالص …»
٦٦
عندما يقرأ المرء ذلك، فإنَّه يميل إلى الشك فيما إذا كان هناك
أي شيء في الأصل السنسكريتي يُمكن أن تُترجمه على نحو سليم
وعلمي إلى المصطلحين؛ «ذاتي» و«موضوعي». طالما أن هاتين
الكلمتين من كلمات الرطانة المأخوذة من مفردات الفلسفة الأوروبية،
في أواخر القرن التاسع عشر أساسًا. غير أن أيَّة شكوك من هذا
القبيل إنَّما يُسأل عنها الترجمة التي قدَّمها بروفيسور زينر
Zaehner٦٧ وما يأتي هو الأجزاء المناسبة لها. حالة اليقظة تتعرَف
على الأشياء من الخارج … وحالة النوم تتعرَّف على الأشياء من داخل
الفرد … أمَّا الحالة الرابعة فهي لا تتعرَّف على ما هو بالخارج
ولا ما هو بالداخل. ومعنى عبارتي «ما هو بالخارج»، و«ما هو
بالداخل»، يتحدَّد على نحو فريد بتطبيقهما على التوالي على
موضوعات الإدراك الحسي، وعلى موضوعات الأحلام، وهذا هو بالضبط معنى
«الموضوعي» و«الذاتي» على نحو ما نستخدم هذين المصطلحين. ومن ثَم
فترجمة عبارة «الأوبنشاد»: «الحالة الرابعة … لا هي تجربة ذاتية،
ولا هي تجربة موضوعية»، ترجمة صحيحة.
والقول بأنَّ التجربة لا هي ذاتية ولا هي موضوعية متضمن أيضًا
في تصوف «أفلوطين» عندما يقول إنَّها ليست رؤية ولا هي نظر، لكنَّا
ينبغي أن نقول بدلًا من الحديث عن الرؤية والرائي علينا أن نتحدَّث
بصراحة عن الوحدة البسيطة، ثم يضيف أن الناظر «يصبح هو الوحدة
التي لا اختلاف بينها وبين ذاته أو بين أي شيء آخر». فإذا لم توجد
في التجربة أيَّة كثرة على الإطلاق، فلا يُمكن أن تكون هناك
ثنائية بين الذات والموضوع. وبصفة عامة فإن التكرار المُمل في
الأدب الصوفي في كل مكان لتجاوز قسمة الذات والموضوع أصبح مشتركًا
ومألوفًا حتى ليبدو من غير الضروري أن نقتبس نصوصًا جديدة. وذلك
كله يعني أن التجربة لا هي ذاتية، ولا هي موضوعية. وذلك يُرادف
ما يقوله «ديدنسيوس الأريوباغي»
٦٨ عن
الموجود الأعلى من أنه:
«لا ينتمي إلى مقولة الوجود الفعلي، ولا إلى مقولة اللاوجود.»
٦٩
ويتَّضح الشيء نفسه أيضًا في جميع تلك العبارات التي يُردِّدها
المتصوِّفة عن التجربة وعن الموجود الذي يمرون بتجربته من حيث
أنه يُجاوز حدود الزمان والمكان. كتب «إيكهارت» يقول:
«لا شيء يعوق الروح عن معرفة الله كما يعوقها الزمان
والمكان؛ ذلك لأنَّ الزمان والمكان شذرات، في حين أنَّ
الله واحد. ومن ثَم فإذا كانت الروح تريد أن تعرف الله،
فلا بد أن تعرفه فوق الزمان وخارج المكان؛ لأن الله لا
هو هذا ولا ذاك، على نحو ما يتجلَّى الزمان والمكان في
جميع الأشياء.»
٧٠
وتأكيدات الصوفية القائلة بأن الله يُجاوز الزمان والمكان
شائعة ومشتركة بينهم، حتى إن المسألة لا تحتاج إلى وثائق أبعد من
ذلك. وما ينبغي علينا ملاحظته هو أن ذلك يعني أنه لا هو موضوعي
ولا ذاتي، فهو ليس ذاتيًّا طالما أن الذات المتناهية توجد في
زمان. وليس موضوعيًّا طالما أن الموضوعات التي توجد في نظام
الزمان-المكان هي وحدها الموضوعية. وهكذا نجد أنه ليس تأكيدًا
نظريًّا محضًا من مؤلف الكتاب أن الوجود الخالص Being لا هو موضوعي ولا هو
ذاتي، ولا هو موجود بالفعل ولا غير موجود بالفعل، لكنه بالأحرى
القاعدة العامة لإيمان المتصوف، على الرغم من أنه من الصواب أن
نقول إنَّه كثيرًا ما يحدث الوقوع في خطأ عقلي أو لفظي فيختلط ما
يُجاوز الذاتية بالموضوعي، فنتحدَّث عن الواحد أو عن الله على
أنه «يوجد بالفعل».
لقد أوضحنا أن الوحدة التي هي وحدة الأنا الخالص مستقلة عن
الأنا الفردي، وطالما أن تُجاوز جميع الأفراد، فإنَّها كذلك
تُجاوز الزمان الذي يعيش فيه هؤلاء الأفراد؛ فهي ليست الأنا الفردي
«لك» أو «لي» اللذين تصادفا أن يعيشا معًا في السنة الحالية،
وإنَّما هي كذلك أنا جميع الموجودات الواعية في الماضي وفي
المستقبل. وذلك لا يعني، بالطبع، أنها بقيت خلال الزمان، وأنها
واصلت الاستمرار منذ زمان الأفراد والأموات البعيد حتى زمان
الأفراد الذين سوف يولدون في المستقبل البعيد أيضًا، بل هي بالأحرى
تجاوز كل زمان، إنَّها لا زمانية. وهذا هو ما يتضمَّنه المعنى
الأول والأكثر أهمية الذي تكون فيه «حقيقة
Reality»، أعني أنها تجاوز
الذاتية.
هناك اعتبار آخر يجدر بنا أن نذكره، لكنَّه لا يُساعد في الواقع
بأيَّة طريقة في حل مشكلة «الوضع»، بل يظهرنا على أن المشكلة
نفسها والصعوبات نفسها بالضبط تواجه كثيرًا من علماء الرياضة
والفلاسفة العقليين الذين لا يُمكن الشك في أن لديهم أيَّة «مسحة
صوفية». تأمَّل مثلًا مشكلة الكليات
Universals٧١ على نحو ما وصلت إلينا من أفلاطون وأرسطو، تجد أنَّ
كثرة من أصحاب العقول الواقعية والعنيدة من علماء الرياضة، وعلماء
المنطق، ما زالوا حتى يومنا الراهن يقبلون ما سُمِّي اصطلاحًا
بنظرية موضوعية الكليات، ويؤكدون أن الأعداد هي مثال لهذه
الكليات. وإذا تساءلنا ما هو التفسير الذي يقدمونه «لوضع» هذه
الكليات، فسوف نجد أنهم لا يفلتون من المشكلة نفسها، والصعوبات
عينها، التي تواجه المتصوِّف. فالكليات — طبقًا لهذه النظرية — لا
زمان ولا مكان لها، ومن ثم فلا يُمكن أن يُقال إنَّها «توجد
وجودًا فعليًّا أو إنَّها موضوعية». ومع ذلك فطالما أنها ليست
ذاتية فلا بد أن نقول إنَّها تُجاوز الذاتية. فما هو
وضعها إذن؟
وهكذا نجد أن مشكلة فلاسفة الرياضة هؤلاء توازي مشكلة
الصوفية.
في ثلاثينيات أو عشرينيات هذا القرن، كانت البدعة المبتكرة أن
يُقال إن الكليات لا توجد وجودًا فعليًّا Exist وإنَّما هي «توجد وجودًا
ضمنيًّا Subsist» فهي لها «وجود»،
والمفروض أن الوجود جنس، وأن لهذا الجنس نوعين؛ هما «الوجود
الفعلي Existence»، و«الوجود
الضمني Subsistence». فالموضوعات
الفردية توجد وجودًا فعليًّا، في حين أن الكليات توجد وجودًا
ضمنيًّا. ولا تُساعد هذه المصطلحات، بالطبع، في حل مشكلة الوضع،
إنَّها مجرد تسليم بأنَّ الكليات رغم أنها ليست ذاتية، فإنَّها
مع ذلك ليست موضوعية أيضًا، لكن المشكلة التي تتعلَّق بوضعها لا
تجد لها حلًّا باختراع كلمات جديدة. ومن ثَم فليس فلاسفة التصوف
من أصحاب العقول اللينة هم وحدهم الذين يواجهون هذه المشكلة، بل
فلاسفة الرياضة أيضًا من أصحاب العقول العنيدة.
لا بد لنا أن نُبيِّن كذلك أن نفس هذه المشكلة بالضبط تنطوي على
مشكلة الوضع التي تواجه أصحاب الفلسفة المطلقة في تراث الكانطية
الجديدة، بغض النظر عن التفسير الذي يُقدِّمه الفيلسوف للمطلق.
فعند شوبنهور، مثلًا، أن المطلق هو الإرادة، لا الإرادة الفردية،
بل الإرادة الكونية. ولمَّا لم تكن إرادة فردية، فإنَّها تُجاوز
الذاتية، ومع ذلك فهي ليس لها وجود موضوعي طالما أنها تقع خارج
الزمان والمكان، وما دام من المفروض أنها ما يكمن خلف كل وجود
موضوعي ويُفسِّره. فما هو إذن الوضع الذي يفترضه شوبنهور لها؟ لم
يخبرنا، على ما أعلم، ومع ذلك فقد كان فيلسوفًا لم يتحقَّق من أن
إرادته الكونية ليس لها وجود فعلي، بالمعنى الذي يكون للأشجار
والأحجار، ومن ثَم فقد ظهرت على يده مشكلة الوضع. ولقد واجه
برادلي، بالطبع، المشكلة نفسها، وقد بيَّن بوضوح أنه تحقَّق منها
عندما فرَّق بين الواقع الحقيقي
Reality الذي نسبه إلى المطلق،
وبين الوجود الفعلي الذي نسبه إلى عالم الظاهر. فليس لعالم الزمان
والمكان واقع حقيقي؛ لأنه ليس سوى ظاهر فحسب، لكنه بالطبع
موجود وجودًا فعليًّا.
ولقد ذهبتُ في كتابي «الزمان والأزل» إلى أن هناك «نوعين» من
النظام في الوجود — النظام الطبيعي وهو نظام الزمان والمكان — ثم
نظام
الأزل، الذي هو نظام
الواحد الصوفي.
٧٢ وذلك تعبير عن المشكلة نفسها التي نُناقشها الآن، وهو
تقسيم سليم من هذه الزاوية، لكنَّه ليس من الصواب أن نتحدَّث عن
الأزلي على أنه نظام. فمن ماهية الطبيعة أن يكون لها نظام، وأن
هذا النظام بالضبط هو ما يُشكِّل موضوعيتها، على نحو ما بيَّنا في
القسم الأول من هذا الفصل. غير أن الأزلي لا يُمكن أن يكون
نظامًا بهذا المعنى، ما دامت الكثرة والتسلسل هي التي يُمكن أن
تُشكِّل النظام. ومن ثَم فإن الحديث المجازي عن نظامين متقاطعين
يُعبِّر بما فيه الكفاية عن مشكلة الوضع، لكنَّه لا يُقدِّم لها
حلًّا. وينبغي علينا أن نقول في النهاية إنَّه ليس ثمة حل من
أي
نوع عقلي، وأنَّ ذلك جزء من المفارقة الصوفية العامة التي تقول
إن الكشف الصوفي يُجاوز العقل.
هناك فقرة في شريعة بالي البوذية،
٧٣ تروي كيف أن مشكلة الوضع هذه نفسها التي نُناقشها
الآن — رغم السياق المختلف والصورة المختلفة — فرضت نفسها على
بوذا. وليس في استطاعتنا أن نفترض أن الكلمات التي قيلت على
لسانه هي
كلماته بنصها، وإنَّما هي تُعبِّر عن روح تعاليمه؛ فقد
سُئل أن يُفسِّر وضع «النرفانا». لقد طلب «ناسك متجوِّل» يُدعى
فاشا
Vacha من بوذا أن يقول له ما
إذا كان القديس البوذي عندما ينتقل بعد الموت إلى «النرفانا»
الأخيرة أيكون موجودًا أو غير موجود؟ هل النرفانا انعدام وملاشاة
أم لا؟ ما هي نظرية بوذا عن ذلك؟ فأجابه بوذا بأنه قد «تخلَّص من
جميع النظريات»، ومن ثَم فهو لا يؤمن بأن القديس موجود في
النرفانا أو غير موجود. وذلك لا يعني أن بوذا كان يجهل وضع
النرفانا، بل يعني أنه من غير الصواب أن نقول إنَّها موجودة
وجودًا فعليًّا، أو أن نقول إنَّها غير موجودة، عندئذٍ أوجز «فاشا»
سؤاله في صورة أخرى هي «
أين» يوجد القدس بعد الموت؟ وجاءه الجواب
وهو أن السؤال على هذا النحو «لا يتناسب مع الحالة». وأخيرًا قال
بوذا إن المعرفة في هذه المسألة «لا نصل إليها عن طريق الاستدلال
المحض»، ولا يُمكن أن يفهمها فهمًا شاملًا إلا أولئك الذين بلغوا
تجربة الاستنارة.
والنرفانا هي التأويل البوذي لما تحدَّث عنه أفلوطين على أنه
الاتحاد مع الواحد، وما ذهبت إليه الفيدانتا من أنه تحقَّق
الهوية مع الذات الكلية، وما أسماه التصوف المسيحي الاتحاد
بالله. ومن ثم فإن مشكلة وضع النرفانا تتحد في هوية واحدة مع
مشكلة وضع الذات الكلية. فما الذي تعلَّمناه، إذن، مَن بوذا؟
تعلمنا ببساطة — كما قال إيكهارت ومعظم المتصوِّفة في جميع
الثقافات في هذه الصيغة اللغوية أو تلك — أن التجربة الصوفية
«تُجاوز الفهم»، أعني أن المشكلات التي تثيرها أمام العقل
الاستدلالي يعجز هذا العقل عن إيجاد حل لها. وهذا هو السبب الذي
جعل بوذا «يتخلَّص من جميع النظريات»؛ لأن كلمة النظرية نفسها
تعني بناءً عقليًّا. وهذا هو السبب أيضًا في أن الفهم الشامل
للموضوع «لا نصل إليه عن طريق الاستدلال المحض». وأخيرًا فإن
سؤال فاشا هل النرفانا موجودة أو غير موجودة، كان الجواب عنه
«أنه لا يتناسب مع الحالة». والسبب هو أن السؤال يفترض قانون
الوسط المرفوع أو المستبعد.
٧٤ أمَّا جواب بوذا فهو يعني أن قوانين المنطق لا تنطبق
على التجربة الصوفية. ويؤكِّد أن هذه التجربة تنطوي على
مفارقة.
ومن هنا فإن الحل الوحيد لمشكلة وضع الذات الكلية، أو المطلق،
أو الواحد، أو الله، أو النرفانا هو أنه ليس ثمة حل. وأنَّ جميع
محاولات العقل المنطقي لفهم هذه الذرى الصوفية لا تؤدي إلا إلى
مفارقة لا حلَّ لها. فمَن يسأل عن حل لا يُدرك ما ينطوي عليه كل
تصوُّف من مفارقة داخلية، فهو يزعم أن الموجود الأول إمَّا أن
يكون هذا أو ذاك، إمَّا أن يكون ذاتيًّا أو موضوعيًّا، موجودًا أو
غير موجود، لكن الموجود الأول تبعًا لما يقوله التصوف كله: «لا
هو هذا ولا ذاك». والصيغة الشهيرة لذلك هي بالطبع صيغة الأوبنشاد
«لا، ولا Neti, Neti»، لكن حتى
كلمات «لا هذا ولا ذاك» ذاتها تتكرَّر بكثرة وبطريقة مستقلة عند
«إيكهارت» في الفقرة التي اقتبسناها فيما سبق. ومن لا تشبعه هذه
الصيغ السلبية، ويسعى إلى حل إيجابي، لا بد أن يقفز هو نفسه فوق
الزمان والمكان، ويمر بتجربة تلك الوحدة. ولا شك أنه سوف يجد
«الحل» عندئذ، إذا ما كنَّا نعني بهذا الحل الفهم النظري. فما الذي
يجده؟ هذا ما لا يُمكن أن يُقال، بل نمر بتجربته فقط.
ولا يُمكن أن يُقال شيء أكثر من ذلك عن السؤال الذي طرحناه في
بداية هذا القسم، إذا كان سؤالًا متميزًا على الإطلاق، وليس السؤال
نفسه وقد تكرَّر بكلمات أخرى. كيف يُمكن لما لا يُمكن أن يُقال
إنَّه موجود، أو موضوعي، أن يكون مصدرًا أو علة أولى لكل ما هو
موجود؟ في اعتقادي أن كل ما نستطيع أن نفعله هو أن نُشير من جديد
إلى فقرات من «سوزوكي»، و«إيكهارت»، و«أوروبندو»، و«لاو-تسو»،
التي يقولون فيها إن كل مَن مرَّ بتجربة الوحدة التي لا تمايز
فيها ولا اختلاف يستطيع أن يدركها وهي تمايز نفسها في الوقت الذي
تبقى فيه مع ذلك بلا تمايز (سوزوكي). أو يستطيع أن يُدرك طاقتها
الخلَّاقة للكون «التي تنبع من الصمت» (أوبندو) … إلخ، وهذا يعني
كما يقول «سوزوكي» «إدراك المسار الأزلي لخلق العالم من العدم». أو
إذا شئنا أن نضع الفكرة نفسها في صيغة عكسية إدراك أن الوحدة
التي ليست موضوعية ولا موجودة هي رغم ذلك العلة الأولى لما هو
موضوعي ولما هو موجود.
على الرغم من أن جميع أنواع التصوف ومذاهب الفكر التي قامت
على أساس التصوف تشهد أنها تنطوي على مفارقة أساسية، فإن
البوذية رغم ذلك، تُبرز جميع المذاهب في تحقُّقها الواضح وإصرارها
العنيد على طابع المفارقة هذا. ومن هنا كانت المفارقات الشهيرة
لبوذية زن Zen، لكن هذا الطابع
الذي ينطوي على مفارقة يظهر بكثرة في الحوار الذي ذكرناه فيما سبق
بين «بوذا» و«فاشا»، وهو الحوار الذي ورد في الكتب المقدسة عند
«بوذية الهنايانا». ويصل المرء إلى المفارقة المطلقة للتصوف في
كتابات بوذية «المهايانا»، وهي المفارقة التي لا بد للمرء أن يقول
إنَّها تُنهي جميع المفارقات. وهي كما يلي: طالما أن النرفانا هي
الحقيقة النهائية، وطالما أن «النرفانا» هي بغير تمايز ولا
اختلاف، أو ثنائيات، كان معنى ذلك أنه لا توجد تفرقة في الحقيقة
النهائية بين «النرفانا» و«اللانرفانا»، وبين الحقيقة واللاحقيقة،
وبين التعاليم واللاتعاليم. ومن هنا كان تصريح «نجارجونا»
التالي:
«لقد أعلن بوذا أن الوجود واللاموجود،
ينبغي رفضهما معًا،
لا على أنه وجود، ولا على أنه لا وجود،
عندئذٍ نتصوَّر النرفانا.
ليس ثمة فارق على الإطلاق
بين النرفانا والسمسارا …»
٧٥
وهناك أيضًا نص شهير في «جوهرة السوترا»، حيث يسأل «بوذا»
شوبتري:
«ماذا نعتقد يا شوربتري هل قدَّمت لك «التاثاجراتا
Tathagrata» أيَّة
تعاليم محدَّدة في نصوصها المقدسة؟»
ويُجيب شوبتري:
«كلَّا أيها المبارك إن التاثاجراتا لم تعطينا أيَّة
تعاليم مُحدَّدة في هذا النص المُقدَّس …»
٧٦
وفي نفس «السوترا» يسأل بوذا:
«ماذا تعتقد يا شوبتري: افرض أن تلميذًا وصل إلى مرحلة
الأراهات Arahat
[الاستنارة الكاملة] فهل يدخل في ذهنه أي تصوُّر تعسفي مثل
«لقد وصلتُ الآن إلى الأراهات؟» …»
وكانت الإجابة:
«كلَّا يا فخر العالم! لأنَّنا إذا تحدَّثنا، بحق، قلنا
إنَّه لا يوجد شيء اسمه الاستنارة الكاملة.»
٧٧
وتروى القصة الآتية:
«أبحر القديسون في المعدية العظيمة (المهايانا) التي
حملتهم من الشاطئ القريب في هذا العالم عبر نهر السمسارا
إلى الشاطئ البعيد الذي توجد فيه النرفانا، وكلَّما أبحروا
ذوى الشاطئ الذي تركوه شيئًا فشيئًا حتى اختفى وسط الضباب.
وفي الوقت ذاته بدأ الشاطئ البعيد يلوح في الأفق. ووصلت
المعدية العظيمة إلى الشاطئ وهبط منها القديسون. ولمَّا
كانوا قد وصلوا الآن إلى النرفانا فلم يعد هناك تمييزات،
ومن ثَم فلم يعد هناك فرق بين النرفانا واللانرفانا، ولا
بين هذا العالم والعالم التالي، ولا بين الشاطئ القريب
والشاطئ البعيد. وليس هناك، ولم يكن ثمة قط، شاطئ قريب
أقلعوا منه، ولم يكن هناك معدية، ولا مسافرون، ولا نرفانا،
ولا قديسون وصلوا إلى النرفانا، فالنرفانا بدورها هي
العدم، هي
الخواء.»
٧٨
وليس معنى هذه المفارقة المطلقة أنه لا توجد «نرفانا»، ولا
موجود أول، ولا ذات كلية. وإنَّما ما تعنيه هو أنه لا يُمكن
للعقل المنطقي أن يُحيط بهذه الأمور أو أن يفهمها. وحتى عندما
نُسمِّيها مفارقات فإنَّنا نُطبِّق عليها مقولة منطقية تُعبِّر
عنها تعبيرًا خاطئًا، وحتى لو قلنا إنَّها «موجودة» فحسب، أو
إنَّها «غير موجودة»، فإن ذلك يعني أن نتفوه بكلمات عابثة عمَّا
لا يُمكن النطق به. وهو ما ينطبق بالطبع على كل ما قيل في هذا
الكتاب!
عاشرًا: حل بديل
لقد سقنا ثلاث حجج تدعيمًا لوجهة نظرنا في أن التجربة الصوفية
تُجاوز الذاتية، لكن أيًّا منها لا يُمكن اعتباره حجة حاسمة —
والواقع أنه لا يوجد حجج حاسمة مع أو ضد أي رأي يُقال في ميدان
التصوف بأسره — ومن ثَم ينبغي علينا أن ننظر ما هو الموقف الذي
نتبناه إذا ما رُفضت الحجج الثلاث التي تُجاوز الذاتية.
لا أستطيع سوى أن أُضفي أهمية لإيماني بأنه كلما كان لدى
المتصوِّفة شعور بالاقتناع القوي — كما هي الحال عند الغالبية
العظمى منهم — بأنَّ التجربة تجعلهم على اتصال بحقيقة واقعية
خارجية، فإن هذا الشعور يُسبِّبه واقعة أنهم جعلوا من تجاوز
الذاتية، شيئًا يمرون بتجربته بالفعل. وذلك يعني أن الغالبية
العظمى من المتصوِّفة الذين مرُّوا بهذه التجربة يعتقدون أنَّ
تجاوزها للذاتية ليس تأويلًا، بل مُعطى يخبرونه على نحو مباشر.
ولو صحَّ ذلك لكان «بوبر» والواحديون الصوفيون، استثناءات، لكن لا
يُمكن أن نُنكر أن الموقف الذي يتخذه هؤلاء يدخل في الموضوع عنصر
الشك.
لو ظن القارئ، إذن، أن الحجج الثلاث لا يُمكن قبولها، فإن
النتيجة التي لا بد من استخلاصها هي، بالطبع، أن التجربة ذاتية
فحسب، غير أن المنظور الذي كتبنا به هذا القسم الحالي هو الإصرار
على أن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد؛ فهناك الكثير مما يُمكن أن
يُقال، ومن المهم أن نُدرك أن الشاكَّ، أو الفيلسوف، صاحب النظرية
الذاتية، ينبغي ألَّا ينتهي من ذلك إلى الاعتقاد بأنه تخلَّص من
التصوف. إنَّه ليس سوى وهم وضلال وخرافة ينبغي إلقاؤه في صناديق
القمامة، لكنا لا بد أن نُسلِّم — سواءٌ أكان التصوف وهمًا
وضلالًا أم لا — أنه كان هامًّا بدرجة كبيرة في تاريخ الفكر
البشري وتطوُّره، ومن ثَم فهو يستحق الدراسة، لكن حتى ذلك، وهو ما
يُسلِّم به معظم الشُّكاك، ليس هو النقطة الرئيسية.
ما ينبغي أن نُصر عليه هو أنه حتى إذا كانت التجربة الصوفية
ذاتية فحسب، فإنَّها لا تزال بالغة الأهمية للحياة البشرية. ولا
يُشير ذلك إلى التاريخ الماضي فحسب، بل إلى مستقبل العالم أيضًا.
وإذا كنَّا سنعالج التصوف على أنه خرافة محض، وأنه إحباط
ينبغي استبعاده واستئصاله — لو أمكن ذلك — فسوف يلحق بالبشرية ضرر
بالغ بل كارثة في الواقع.
لم أتخيَّل أن أي جزء من مهمتي أن أكون واعظًا، لكن من الضروري أن
نقول هنا إنَّه حتى لو كان التصوف ذاتيًّا، فإنَّه مع ذلك طريق
للخلاص، وإنه يجلب معه الغبطة، والبهجة، والسلام. وتلك شهادة
عامة ممن مروا بتجربة التصوف، سواءٌ أكانوا متدينين بأي معنى
متعارف عليه أم لا. وعلى الرغم من أنه يجلب معه «السلام الذي
يفوق كل فهم» فهو ليس وسيلة للفرار من الواقع الجاف وواجبات الحياة
كما يهتم أحيانًا. وسوف أعود إلى هذا الموضوع بتفصيل تام عندما أصل
إلى الفصل الخاص بالتصوف والأخلاق. ويكفي هنا أن نقول إنَّه على
الرغم من أن التصوف يُمكن أن يكون — وقد كان في بعض الأحيان —
قد انحطَّ وأصبح مجرد تجربة استمتاع صاخب من أجل المتعة وحدها،
فإن ذلك ليس جزءًا من جوهره، كما أن عظماء المتصوِّفة كانوا في
الواقع عاملين كبارًا في العالم، كما عرفوا واجباتهم تجاه العالم،
وقدَّموا — على شكل خدمات — ما كانوا يتلقَّونه في
تأملاتهم.
ويُمكن للمرء أن يذكر عن الوعي الصوفي ما قاله اسبينوزا عن
«السكينة الحقة» للروح التي كان يأمل بلوغها عن طريق فلسفته، ففي
مقالة عن «إصلاح العقل» كتب يقول: «بعد أن علَّمتني التجربة أنَّ
البيئة المألوفة للحياة الاجتماعية عبث لا طائل وراءه، وبعد أن
رأيتُ أن لا شيء من موضوعات تخوُّفي يتضمَّن في ذاته خيرًا أو
شرًّا، اللهم إلَّا بمقدار ما يتأثَّر به الذهن، فقد صمَّمت، في
النهاية، أن أبحث فيما إذا كان يُمكن أن يكون خيرًا حقيقيًّا لديه
القدرة على الاتصال، ويستطيع أن يؤثِّر في الذهن فرديًّا، مع
استبعاد كل شيء آخر. عمَّا إذا كان يُمكن، في الواقع، أن يكون هناك
أي شيء يكون اكتشافه وبلوغه يُمكِّنني من الاستمتاع بالسعادة
القصوى المتواصلة التي لا نهاية لها.»
٧٩ ومن بين العناصر الرئيسية التي يُسجِّلها اسبينوزا وسط
«البيئة المحيطة للحياة المألوفة» التي هي «عبث عقيم لا طائل
وراءه»، نراه يُسجِّل الشهرة والثراء. وفي اعتقادي أن كلمات
اسبينوزا هذه تُعدُّ وصفًا دقيقًا للوعي الصوفي الأقصى، لكن ذلك لا
يعني أن الوعي الصوفي هو الذي كان في ذهن اسبينوزا عندما استخدم
هذه اللغة. إذ يبدو أن ما كان في ذهنه، في الواقع هو، بالأحرى،
الحالة العقلية لا الصوفية، لكن ما كان يبحث عنه في حالة الذهن
العقلية الفلسفية إنَّما يوجد، بالفعل، في الوعي الصوفي، الذي ربما
كان يلتمس الطريق إليه.
وأخيرًا: من الممكن أن اتجاه التطوُّر البشري في ملايين السنين
القادمة — إذا بقي الجنس البشري — سوف يكون نحو انتشار التجربة
الصوفية لمعظم الناس، بدلًا من أن يمتلكها قلَّة نادرة من الأفراد
كما هو الحال الآن. فمِن الممكن، باختصار، أن يكون الإنسان الأعلى
في المستقبل رجلًا متصوفًا.
وهكذا فإن النتيجة التي تقول إن التجربة الصوفية ذاتية
فحسب، لا ينبغي أبدًا النظر إليها على أنها تُدمِّر قيمته، ولا
بد أن يكون ذلك واضحًا أمام الفيلسوف على أساس آخر. إذ عليه فقط أن
يتذكَّر كم عدد التجارب الذاتية الشائعة ذات القيمة بصفة عامة،
فالفيلسوف الذي يعتقد أن القيم الأخلاقية والجمالية ذاتية —
لأنها تضرب بجذورها في العواطف والانفعالات والاتجاهات — لا
يُريد بذلك أن يقول إن هذه القيم لا قيمة لها، أو أنَّنا ينبغي
أن نخلف وراءنا الأخلاق والفن، على اعتبار أنها خرافات! وينبغي
أن يكون واضحًا أن الشيء نفسه يصدق على قيم التجربة
الصوفية.