الفصل الخامس
التصوف … والمنطق
أولًا: المفارقات الصوفية
تُنبِّهنا الكتابات الصوفية في جميع أنحاء العالم إلى أنه توجد
علاقة فريدة تمامًا بين التصوف والعقل، ولا يُمكن لأي مزاعم أخرى
للفكر أو التجربة أن يكون لها بالفعل علاقة مماثلة، والعبارة
الشائعة تقول إن التصوف «فوق» العقل. وربما كانت كلمة «فوق»
هنا تحمل معنى القيمة. وهي تُستخدم لأنه يظن أن عالم الصوفي هو
عالم إلهي وليس عالمًا أرضيًّا فحسب.
سوف ننظر في العلاقة بين التصوف والقيم فيما بعد، لكنَّنا في
هذا الفصل لسنا معنيين بهذا الموضوع. ومن ثَم فلا بد أن نتجرد
من «فوقية» التصوف، فما هو فوق «س» هو يقينًا خارج «س» بمعنًى ما.
ومن المحتمل لذلك، أن يكون الاعتقاد هو أن التجربة الصوفية تقع،
بمعنى ما، خارج نطاق العقل. وينشأ ذلك أساسًا من كتابات العالم
الهائلة حول هذا الموضوع. غير أن ذلك حتى الآن غامض جدًّا. ولا
توجد، على ما أعلم، نظرية واضحة عن العلاقة الفعلية بين التصوف
والعقل؛ فالكتابات حول هذا الموضوع ليست سوى خليط من الأفكار
المضطربة التي لم يتجاوز أي منها حدود الاقتراح، فليس ثمة نظرية
محددة. وغرضنا في هذا الفصل هو فحص هذه الاقتراحات المتضاربة،
واستخراج نظرية.
لقد ركزت في الفصول السابقة من هذا الكتاب على طابع المفارقة
الأساسي للوعي الصوفي. ولستُ في حاجة إلَّا أن أُذكِّر القارئ
بمفارقة وحدة الوجود التي تقول إن الله والعالم متحدان وغير
متحدين أو متمايزان في آنٍ معًا. وبمفارقة الإيجابي-السلبي، أو
الخلاء-الملاء، بجوانبه الثلاثة. وأنَّ الواحد أو العقل الكلي
شخص غير شخص، له صفات وليس له صفات، دينامي وساكن في وقت واحد.
وبمفارقة فناء الفردية، عندما أكف عن أن أكون موجودًا. ومع ذلك أظل
في فرديتي، وبالمفارقة التي تقول إن مَن يصل إلى «النرفانا» لا
يكون موجودًا ولا غير موجود. وبمفارقة التجربة الصوفية الانبساطية
التي تقول إن موضوعات الحواس هي واحدة وكثيرة في وقت واحد، وهي
متحدة ومتميزة في آنٍ واحد. وهذه المفارقات لم يدسها المؤلف على
التصوف، بل اكتشفها ووثَّقها توثيقًا كاملًا بدراسة أقوال
المتصوِّفة أنفسهم. وسوف نقول إنَّه على الرغم من أن أحدًا ممنْ
له علاقة بالموضوع يشك في أن أقوال المتصوِّفة هي بمعنًى ما
تنطوي على مفارقة، فإن المؤلِّف قدَّم تأويلًا متطرفًا لهذه
الواقعة بإصراره على أن المفارقات هي تناقضات منطقية صارخة.
وأنه يُمكن تقديم تأويلات أقل عنف بكثير تبرهن على فروض مقنعة
لتوضيح وتفسير وقائع هذه الحالة. وأعتقد أنه من الصواب تمامًا أن
نقول إن تناول المفارقة الصوفية على أنها نفس التناقض الصارخ،
ليست مسألة واضحة أو واقعة لا جدال فيها، بل هي بالأحرى تأويل
ينبغي تبريره.
سوف نبدأ بدراسة النظريات الأقل تطرفًا، التي يُمكن تقديمها لنرى
ماذا يُمكن أن يُقال معها أو عليها؛ فهي محاولات لحل المتناقض أو
التخلص منها، وهناك فيما أعتقد أربع نظريات ممكنة، وهي:
- (١)
نظرية المفارقة البلاغية.
- (٢)
نظرية الوصف الخطأ.
- (٣)
نظرية الوضع المزدوج.
- (٤)
نظرية الالتباس.
ثانيًا: نظرية المفارقة البلاغية
تقول هذه النظرية إن المفارقات هي مجرد مفارقات لفظية، وهي لا
تُفسد الفكر ولا التجربة. إذ يُمكن التعبير عن التجارب نفسها،
والأفكار نفسها، دون أن تفقد مضمونها في لغة تخلو من المفارقة.
فالمفارقة هي حيلة بلاغية هامة، يستخدمها الكاتب في أي مشروع
تمامًا، بغرض كسب التأييد، مُعبِّرًا عن مضمون الفكرة بأسلوب مؤثر،
وهو يُجبر القارئ على أن يتوقَّف ويُفكِّر، وينتبه بجدية إلى
الأفكار التي يُمكن بأسلوب آخر أن يمر عليها سريعًا، ويتركها دون
أن يفهمها سوى نصف فهم؛ فالمفارقة اللغوية أو البلاغية يُمكن أن
يكون لها أيضًا قيمة جمالية إيجابية وجمال شعري. ويحدث ذلك بسبب
أن المفارقة يُمكن أن تتخذ شكل الإيقاع المطَّرد، والتوازن بين
الجمل المتعارضة، بحيث تتبع الواحدة منها الأخرى، بطريقة المقطوعة
الشعرية القديمة، أو بغيرها. انظر مثلًا إلى الأبيات الآتية للشاعر
ت. س. إليوت:
«لكي تصل إلى ما لا تعرفه،
عليك أن تسير في طريق هو طريق الجهل،
لكي تصل إلى ما لست أنت،
عليك أن تسير في طريق تكون فيه لست أنت،
إن الشيء الذي لا تعرفه هو الشيء الوحيد الذي
تعرفه،
ما تملكه هو ما لا تملكه،
وحيثما تكون أنت، فإنَّك لا تكون أنت …»
١
ولا شكَّ أن المفارقة التي يستخدمها «إليوت» هنا هي حيلة
لغوية مؤثرة، لكن حتى هنا يُمكن للمرء أن يتساءل عمَّا إذا كان
ذلك هو كل شيء، فهناك نغمة صوفية في شعر إليوت تُجاوز مجرد
البلاغة.
لكن علينا العودة إلى الاقتراح الذي يقول إن المتصوِّفة
يستخدمون المفارقة، إمَّا لتعزيز الجمال أو الشعر في لغتهم، أو من
أجل الغرض المذكور فيما سبق، وهو جعل القارئ يتوقَّف ويُفكِّر،
لنجد أنه ليس ثمة مبرر على الإطلاق يمنع المتصوِّفة من الحصول
على ميزة الرجوع إلى منابع اللغة لجعل أقوالهم مؤثرة، لكن سوف
أحاول أن أُبيِّن أن هذه النظرية تفشل في تفسير الوقائع.
دعنا ننظر في بعض الأمثلة؛ فنحن نجد في «إيزا أوبنشاد» الفقرة الآتية (وهي التي سبق
أن
اقتبستها جزئيًّا):
«إن ذلك الواحد، وإن كان عديم الحركة، إلَّا أنه أمضى من الذهن،
وهو وإن كان ساكنًا لا يتحرَّك، إلَّا أنه يفوق في سرعته كل العدَّائين،
إنَّه يتحرَّك، ولكنَّه لا يتحرَّك.
إنَّه بعيد ومع ذلك فهو أيضًا قريب.
وهو داخل ذلك كله، وهو أيضًا خارج ذلك كله.»
٢
وليس هناك مبرر للشك في أن التوازن في الجمل المتعارضة كما هي
الحال في القول بأنه «يتحرَّك، ولكنه لا يتحرَّك» فيها متعة،
والرائي يستمتع بها لأثرها الجمالي على الرائي الذي كان في الأصل
مسئولًا عنها، لكن أهذا هو كل شيء؟
ربما سألنا السؤال نفسه عن الفقرة الآتية من «لاو-تسو» التي
يتحدَّث فيها عن «التاو
Tao».
٣
«عندما تنظر إليه، فإنَّك لا تستطيع أن تراه،
فهو يُسمِّي: ما لا شكل له.
وعندما تُصغي إليه، فإنَّك لا تسمعه،
فهو يُسمَّى ما لا صوت له.
عندما تُحاول أن تدركه. فإنك لا تستطيع أن تُمسك
به،
فهو يُسمَّى الخفي …
إنَّه عالٍ، لكنَّه لا يُضيء،
إنَّه أسفل، لكنَّه ليس مظلمًا،
إنَّه يمتد إلى ما لا نهاية.
ولا اسم له …
فهو يعود إلى العدم …
أنت تواجهه، لكنَّك لا تستطيع أن ترى جبهته.
أنت تتبعه، لكنَّك لا تستطيع أن ترى طهره …»
٤
هل هذا شعر فقط، وخداع لغوي؟ الواقع أنه أداء شعري لمفارقة
الخلاء-الملاء، فهو بلا شكل، وفارغ، وخواء، ومع ذلك فهو «التاو»
العظيم. واكتمال الحقيقة الواقعية. والنص الذي اقتبسناه من «إيزا
أوبنشاد» هو أداء شعري للجانب الدينامي الساكن من المفارقة نفسها.
ومن ثَم فَلِكي نحسم السؤال عمَّا إذا كان النصان المقتبسان بلاغيَّين
فحسب، فإن ما ينبغي علينا أن نفعله هو أن نفحص مضمون الفكرة في
هذه المفارقة في ذاتها؛ وبغض النظر عن الأداء الشعري الذي قدَّمناه
هنا، نرى، ما إذا كان ينطوي على طابع المفارقة الكامن فيه بصرف
النظر عن الغرض اللغوي الخاص. فهل مثل هذا التناقض ملازم للفكرة،
ولا يُمكن التخلص منه أيًّا ما كانت اللغة التي نستخدمها في عرضه؟
قبل أن نُناقش ذلك، هناك بيتان آخران للشاعر ت. س. إليوت أود أن
أقتبسهما. الأول هو:
«النقطة الثابتة في العالم المتحرك.»
والثاني هو:
«وهكذا سيصبح الظلام نورًا، والثبات رقصًا.»
ويُقدِّم لنا أول هذين البيتين صورة الثبات والسكون في مركز عالم
متدفق. وتخبرنا الجملة الثانية في البيت الثاني أن الساكن هو
الدينامي. وأنَّ الثبات هو الرقص. أمَّا الجملة الأولى في البيت
الثاني فهي تقول نفس ما قالته عبارة «سوزو» عن «الظلام الذي يُصيب
بالدوار». وبعبارة أخرى: البيتان معًا هما تعبيران شعريان مفارقة
الخلاء-الملاء (ولا يهم ما إذا كان إليوت واعيًا بذلك أم
لا).
لقد كان لدينا من قبل، في صفحات مبكرة، الأساس في جميع تأكيدات
المتصوفة الانطوائيين، وهو أنه يوجد نوع من الوعي يخلو من جميع
الموضوعات الجزئية، وفارغ من كل مضمون، ومفارقة الخلاء-الملاء
مستمدة من هذا الوعي، وهي وصْف له. ومِن المستحيل أن نقول إن ذلك
مجرد زخرفة بلاغية؛ لأنه أيًّا ما كانت كلمات الوصف التي تُعبِّر
عنه، شعرًا أو نثرًا، سواء بالمجاز أو اللغة المجردة، فإنَّ
التناقض يظل موجودًا في الوصف، وفي الفكرة ذاتها؛ فالذهن يخلو من
كل مضمون جزئي، أيًّا كان نوعه: الإحساسات، والصور، والأفكار،
والتصور، والقضايا، والاستدلال، والإرادة. وهذا هو الخلاء أو
الخواء. فلا شيء يبقى لكي نعيه. ومع ذلك فهنا ينبثق الوعي الخالص،
الذي ليس وعيًا بشيء ما. وظلام ذلك الوعي الفارغ، هو نور الوعي
الكامل. أو هو الظلام الذي يبعث على الدوار، عند سوزو. وقد يُقال
إنَّه لا بد أن يكون هناك، على الأقل عنصر باقٍ مِن الوعي الطبيعي.
الانفعال أو العاطفة أو أيَّة نغمة مؤثرة، قد يكون هو الحب أو
السكينة. ومن الواضح أن إجابة المتصوِّف ستكون أنَّ جميع ألوان
الجذب والنفور التي كانت تلحق بالإحساسات والصور، والأفكار التي
امَّحت، قد امَّحت معها أيضًا. وأنَّ عنصرًا انفعاليًّا جديدًا تمامًا
من الغبطة قد انبثق ليُصاحب الوعي الخالص. إن ما يوصف في كل ذلك
هو التناقض الذاتي، وليس فقط الكلمات المستخدمة في وصفه.
ويظهر هذا الطابع المتناقض نفسه لما تمَّ وصفه ربما بوضوح أكثر
لو أنَّنا تذكَّرنا أنه يُمكن التعبير عنه من منظور الوحدة
والكثرة. إنَّه الوحدة الخالصة بلا كثرة، لكنَّه في وعينا المألوف
واحد، ووحدة، أو كل لا بد أن يكون وحدة لأشياءس كثيرة؛ فالمنضدة،
مثلًا، هي وحدة أرجل، وقمة المنضدة وأجزاء أخرى؛ فالوحدة الخالصة
بذاتها لا بد أن تكون مستحيلة. أليس ذلك هو نفسه الكل بلا أجزاء؟
ليس من الضروري أن نعرض لقائمة المفارقات الأخرى كلها الخاصة
بالوعي الصوفي لنرى ما إذا كان كل ما قيل عن مفارقة الخلاء-الملاء يصدق عليها كلها. ومع
ذلك فنحن نُعبِّر عن مفارقة وحدة
الوجود بقولنا إن العالم متَّحد مع الواحد، ومتميِّز عنه في آنٍ
معًا. ويظل هذا القول منطويًا على مفارقة بالمثل. ولا يُمكن أن
نعتبره مجرد حيلة أدبية. وهكذا ينضم إلى جميع المفارقات
الأخرى.
ثالثًا: نظرية الوصف الخطأ
يستطيع المرء بالطبع أن يرفض — على أساس التناقضات — الإيمان
بأنَّ للصوفي مثل هذه التجربة التي يقول بها، فنحن لا نشتبه في
أنه يخبرنا باللاحقيقة أو يُنبئنا بالباطل، بل لا بد أن يكون قد
وقع في خطأ ما، فربما أخطأ في وصف تجربته بغير قصْد؛ فهو يقول
إنَّه مرَّ بتجربة الخواء الشامل الذي هو مع ذلك ملاء، وبتجربة
النور الذي هو أيضًا ظلام، لكن أي وصف — مثل كل وصف لأي شيء في أي
مكان — يحتوي على عناصر التأويل، مثلما أنه يستحيل الحصول على
تجربة حسِّية خالصة بغير تأويل، فكذلك يستحيل الحصول على تجربة
صوفية خالصة؛ فأي عبارة تُقال عن هذه التجربة، حتى ولو كانت في
ظاهرها وصفًا خالصًا، سوف تشتمل على تأويلات تصورية. وقد ينتهي ذلك
إلى وصف خطأ. فإذا كان ما مرَّ به الصوفي قد وُصِف على نحو دقيق
وصحيح فربما اختفت التناقضات. دعنا ننظر في هذه النظرية
الممكنة.
في استطاعتنا أن نبدأ، بصفة عامة، بتحديد نوع الدليل الذي يمكن
أن يقنعنا بصحة وصف أي إنسان لأي شيء، نشتبه، لسبب أو لآخر، أنه
وصف خطأ غير متعمد.
دعنا نفترض أن شخصًا ما يروي لنا أنه في مكان معين وزمان
محدد مرَّ بتجربة بصرية وصفها لنا بأنها «س»، ويظهر لنا أنَّ
«س» تجربة مستحيلة أو غير محتملة الحدوث لأي شخص، ونتشكك أن ما
رآه حقًّا هو «ص»، لكنه أخطأ وظنه «س»، فما هي الوسيلة التي
تُقنعنا بأن شكنا في غير محله، وأنَّ ما لاحظه فعلًا هو «س» كما
قال؟ أعتقد أنَّنا لسنا في وضع يمكِّننا من التحقق بأنفسنا من
صحة التجربة، وأنَّ علينا أن نثق في شهادته.
-
أولًا: سوف تصبح تجربة «س» محتملة أكثر إذا ما وجدنا
أن هذا الشخص يقول إنَّه مرَّ بتجربة «س»
مرارًا وليس مرة واحدة فحسب، فإذا كانت التجربة
مألوفة لديه تمامًا، فمن المؤكد أن وصفه لها على
أنها «س» سيكون صحيحًا.
-
ثانيًا: سوف تكون الرواية محتملة أكثر لو أنَّنا وجدنا
أن عددًا كبيرًا من الأشخاص يعلنون أنهم مروا
بتجربة «س»، وكلما ازداد عدد الشهود الذين يصفون
هذه التجربة، كان من المرجح أكثر أن يكون الوصف
صحيحًا.
-
ثالثًا: سوف يزداد هذا الترجيح لو عرفنا أن الدليل
يأتي من جميع أنحاء العالم، وأنَّ الشهود من
أمريكا، وأوروبا، والهند، والصين، واليابان،
والعرب، وفارس …إلخ، وأنَّ الجميع يتفقون أنهم
مروا بتجربة من الصواب أن توصف بأنها «س» وليس
«ص».
-
رابعًا: وأخيرًا إذا كانت هناك درجة عالية من الاستقلال النسبي
بين جماعات الشهود في مختلف البلاد، حتى إن
الاتفاق في أوصافهم لا يُمكن تفسيره بافتراض
أنهم نسخوا من بعضهم البعض بغير عناية. أو
أنهم استعاروا لغة بعضهم الوصفية أو أنهم
أفسدتهم أخطاء بعضهم البعض. عندئذٍ سوف نميل بالطبع
إلى أن وصف «س» لا بد أن يكون صحيحًا.
من السهل أن نرى أن شروط الإثبات هذه تنطبق واحدًا إثر الآخر
على أوصاف التجربة الصوفية؛ فوصفها بأنها وعي خالص يخلو من كل
مضمون. ومع ذلك فهو ملاء وثراء مشكوك فيه لأنه ينطوي على
مفارقة. غير أن وصفها على هذا النحو لا يعتمد على شهادة شخص واحد
ادعى المرور بهذه التجربة ذات مرة. بل إن هناك عددًا هائلًا
مروا بها، وأنَّ الكثير منهم مرَّ بها في أوقات متكررة من حياتهم.
وثانيًا فإن هذا الوصف نفسه الذي ينطوي على تناقض يأتي من ثقافات
رفيعة في جميع أنحاء العالم. وأخيرًا فهناك درجة كبيرة من
الاستقلال بين جماعات الشهود بعضهم وبعض، وقد يتوقع المرء أنَّ
المتصوِّفة داخل الثقافة المسيحية الأوروبية، قد أثَّر الواحد منهم
في لغة الآخر، فربما استعار «روز بروك» جُمَلًا وصفية من
«إيكهارت»، والقديس يوحنا خادم الصليب من القديسة تريزا. ومن
الطبيعي أن يظن المرء أن مَن قدَّموا الأوبنشاد إلى العالم قد
أثَّر بعضهم في بعض، وأنَّ عباراتهم الوصفية قد اتجهت إلى أن تصبح
تراثًا.
لكن كيف يمكن لنا تفسير ذلك عندما يتفق «إيكهارت»، و«روز بروك»،
في أوصافهم مع الأوبنشاد، طالما أن هاتين المجموعتين مستقلة
الواحدة عن الأخرى، وبلا اتصال، ولم تسمع الواحدة منهما أبدًا عن
الأخرى. ومع ذلك فلغة «الماندوكا أوبنشاد» في وصفها للوعي
الموحِّد، تتحد في لغتها، في الأعم الأغلب، مع اللغة التي يصف بها
«روز بروك» و«إيكهارت»، الوعي بالوحدة التي لا تمايز فيها ولا
اختلاف. وكيف يمكن للمرء أن يُفسِّر بالتأثير المتبادل واقعة أنَّ
العدم الفارغ للوعي الخالص كما وصفه متصوِّفة المسيحية متحد في
معناه مع الخواء عند بوذية المهايانا؟ هذان مثلان فحسب لإثبات
الاستقلال لصوفية العالم الواحد عن الآخر. ويمكن أن تتعدد الأمثلة.
لكن يكفي ما قلناه لتوضيح الموقف ضد افتراض الوصف الخطأ.
هناك مع ذلك نقطة أبعد يمكن إضافتها. لقد تناولت كمثال مفارقة
الخلاء-الملاء، لكن يمكن تدعيم الحدة ببيان أنها تنطبق بالمثل
على مفارقات صوفية أخرى عظيمة. فمثلًا مفارقة فناء الفردية الذي
تختفي فيه «الأنا» وتظل باقية في آنٍ معًا، رواها عدد من الشهود
المستقلين لا حصر له، في جميع العصور والثقافات. وقُل مثل ذلك في
مفارقات الشخص واللاشخص، والطابع الدينامي الساكن للذات الكلية،
رغم أن هذه المفارقات بالطبع تشتمل على جانبي مفارقة الخواء.
أمَّا مفارقة الهوية في الاختلاف للأشياء الخارجية في التجربة
الصوفية الانبساطية قد وصفها كذلك شهود مستقلون في ثقافات
كثيرة.
أنتهي من ذلك إلى أنه لا بد أن نرفض نظرية الوصف الخطأ. ومع
ذلك فلا ينبغي أن نقتنع بأنَّ الموقف ضد هذه النظرية يرقى إلى
مستوى الدحض الكامل لها. إذ يبدو من الإنصاف أن نقول إنَّه على
الرغم من أن نظرية الوصف الخطأ تظل افتراضًا ممكنًا دائمًا أن
نجده عند بعض أنصار النظرية، فإن الموقف ضدها يبدو قويًّا بما
فيه الكفاية ليظهر مع درجة عالية من الترجيح أنه كاذب، وأنه
ينبغي علينا أن نقبل الأوصاف الأساسية لتجربة المتصوِّفة على
أنها أوصاف صحيحة.
رابعًا: نظرية الوضع المزدوج
وصف الشيء الواحد بأنه، في وقت واحد، مربع ودائرة؛ تناقض.
غير أن التناقض يزول لو بيَّنا أن المحمول «مربع»، والمحمول
«دائرة»، إنما يصفان في الواقع، شيئين مختلفين أو جانبين مختلفين
لشيء واحد. ومن الطبيعي أن نقول إن الإجراء نفسه يمكن استخدامه
لحل التناقضات الظاهرية في المفارقات الصوفية، فمثلًا في مفارقة
الخواء-الملاء، فربما كان المحمولان، الخواء والملاء، بدلًا من
أن يوضعا، ببساطة، في شيء واحد، يوجدان في الواقع في موضع مزدوج؛
أحدهما في شيء والآخر في شيء آخر. ولو صحَّ ذلك لاختفى
التناقض.
ما يبدو لأول وهلة أنه حجة قوية لصالح هذه النظرية هو أن
المتصوِّفة أنفسهم يمكن أن تقتبس منهم ما يدل على أنهم يفضلونها.
غير أن التمحيص الدقيق لهذه الحجة يُبدِّد قوتها؛ فمحاولات
«إيكهارت» و«سنكارا» لوضع الخواء في كائن مُعيَّن، والملاء في كائن
آخر، سبق أن ناقشناها بالفعل في الفصل الثالث، القسم الخامس. فقد
وضع إيكهارت الخواء الخالص في الألوهية، والملاء في الله. أمَّا
سنكارا فقد وضع الخواء في «براهمان» الأعلى، والملاء في «براهمان»
الأدنى، وقد رأينا في قسم مبكر كيف ولماذا فشلت هذه المحاولات.
وليس من الضروري أن نعرض لهذه المسألة بالتفصيل مرة أخرى. وربما
ذكَّرنا القارئ باختصار بالنقاط الرئيسية. ينساق المتصوِّفة بضغط
داخلي قوي إلى مفارقات تامة، وهي ليست ناتجة عن الفكر أو العقل. بل
هي بالأحرى نتيجة للإلهام، لكن بما أنهم هم أنفسهم رجال عاقلون
يستخدمون المنطق في حياتهم اليومية، وفي تجاربهم المألوفة،
ويُطبِّقون قوانين المنطق المعروفة، فربما حيَّرتهم، بل أذهلهم
بشدة مرورهم بهذه التجارب التي تنطوي على مفارقة أساسية، وخرجت على
أسنتهم في عبارات متناقضة. فتصوفهم، يدفعهم إلى المفارقة، في الوقت
الذي تدفعهم فيه طبيعتهم المنطقية إلى التفسيرات المنطقية. ولهذا
تراهم يتأرجحون بين الاثنين. ويصدق ذلك بصفة خاصة على الغرب؛ لأن
الجانب العلمي والمنطقي من الشخصية البشرية يطغى في الثقافة
الغربية على الجانب الصوفي، لكن العكس هو الصحيح في الشرق؛ فالمنطق
هناك يميل إلى الضعف والتصوف إلى القوة. مع ذلك فحتى في الشرق،
فإن الإحساس المنطقي في حالات خاصة، مثل حالة «سنكارا»، يجعل
الكاتب الصوفي يلجأ إلى افتراض الموضع المزدوج. وحتى في الغرب، كما
هي الحال عند «إيكهارت»، رغم تنبيهه لهذا الافتراض في بعض أقواله،
فإنَّه يرفضه في أقوال أخرى. وهكذا نجد أن المتصوِّفة، في الشرق
والغرب، يُمكن أن نقتبسهم في جانبَي الحجة معًا، وعلينا أن نستخدم
حكمنا الخاص، ونُشكِّل تأويلاتنا الخاصة. ولقد قدَّمتُ في قسم سابق
مبرراتي لتأكيد أن هذه الحيلة المنطقية لا يُمكن أن تُبدِّد
التناقض الكامن في مفارقة الخواء-الملاء. ولن أكرر هنا ما سبق أن
ذكرته.
لكن سواء أقبلت هذه النظرة أم لا في الحالة الخاصة بالمفارقة،
فمن المهم أن نعرف أن نظرية الموضع المزدوج، تتحطَّم تمامًا إذا
ما حاولنا تطبيقها على المفارقات الصوفية الأخرى. قد يبدو لأول
وهلة أنه من المقبول، على الأقل، أن نذهب إلى أن الجانب الشخصي
الدينامي الكيفي من الوعي الصوفي إنَّما يكون موضعه هو براهمان
الأدنى أو الله، لكن لا سبيل لإمكان أن يشرع المرء في تطبيق مثل
هذه النظرية على مفارقة وحدة الوجود: العالم متحد مع الله ومتميِّز
عنه في وقت واحد. فكيف يُمكن لنا أن نفصل الهوية عن الاختلاف،
ونضع الهوية في الله، والاختلاف في العالم أو العكس؟ إن ما
يكون لدينا في هذه الحالة ليس هو صفات متعارضة، بل علاقات أو خصائص
للعلاقات تحتاج إلى كائنَين مرتبطَين؛ فالهوية تعني هوية «س» مع «ص»،
والاختلاف يعني اختلاف «س» عن «ص»؛ فالعلامة، مثل الكيف، لا يُمكن
أن توضع في شيء واحد فحسب. ومن هنا فليس ثمة إمكان للقول بأن
افتراض الموضع المزدوج يُمكن أن ينطبق على مفارقة وحدة
الوجود.
وكذلك يستحيل تطبيق هذه النظرية على مفارقة فناء الفردية؛
ﻓ «الأنا» تتوقَّف عن الوجود وتواصل الوجود في وقت واحد. ولا معنى
لقولنا إن هناك فردين: واحد يتوقَّف عن الوجود، والآخر يواصل
الوجود.
خامسًا: نظرية الالتباس
تذهب هذه النظرية إلى أن التناقضات الظاهرة ترجع إلى استخدام
لفظ واحد بمعنيَين مختلفَين، وعندما نُبيِّن ذلك يختفي التناقص.
فالقول بأنَّ «س» هي «ص»، ولا «ص» في وقت واحد، هو في ظاهره
تناقض، لكن قد يكون لكلمة «ص» معنيان مختلفان، وتكون «س» هي «ص»
بمعنى، وليست «ص» بمعنًى آخر.
لا يوجد كاتب، فيما أعلم، ممن كتبوا في التصوف، حاول تطبيق هذا
الحل على المفارقات التي ذكرناها، ولا اقترح معاني مختلفة للكلمات
الخاصة لحل هذه المفارقات. ولو أردنا أن نُعطي هذه النظرية فرصة
كاملة، فإن الطريقة الوحيدة هي أن نقوم بالتفصيلات بأنفسنا،
وبالتالي نُعِد الذخيرة التي نواجه بها الخصم والناقد المنتظر.
لكني لا أستطيع أن أُساعده في هذا الموضوع مهما بذلتُ من جهد. وكل
ما أستطيع أن أُقدِّمه هو الاقتراح بأن كلمتي «العدم»،
و«التلاشي» تُستخدمان كمترادفَين للخواء في الكتابات الصوفية،
ويُمكن استخدامهما بمعنيين، ويُمكن أن يفيد ذلك في مفارقة الخواء-الملاء. ويستخدم «العدم»
في هذه المفارقة بمعنى مطلق، ليعني
السلبية الشاملة أو اللاموجود. أمَّا مصطلح التلاشي الذي يُستخدم
في الوعي الصوفي، فربما كان له معنى نسبيًّا فحسب. فهو يعني «لا
شيء» بالنسبة للعقل، أي إنه يعني أن التجربة التي يمر بها
الصوفي لا يُمكن أن تُفهم عن طريق العقل التصوُّري. أمَّا من حيث
هي تجربة، فهي بالطبع، تجربة إيجابية. ومن ثَم فعندما تكون
أمامنا قضية تقول «إن الوعي الصوفي هو في وقت واحد شيء ولا
شيء»، فليس ثمة تناقض بها؛ لأنها تعني أن الوعي الصوفي هو «شيء
ما» أمام التجربة، لكنَّه «لا شيء» أمام العقل. فنحن نمر بتجربته،
لكن لا نستطيع أن نُكوِّن عنه تصوُّرًا عقليًّا.
إن القول بأنَّ العقل أو الفهم لا يُمكن أن ينفذ بتاتًا إلى
الوعي الصوفي، هو قول مؤكد وضعته الكتابات عن هذا الموضوع، ويُمكن
التعبير عنه أحيانًا باستخدام عبارة مثل «لا شيء بالنسبة للعقل».
وسوف نُناقش ذلك في الفصل القادم، لكن يُمكن أن نقول الآن إنَّه لو
صحَّ أن التجربة الصوفية يُمكن أن تكون لا شيء بالنسبة للعقل،
فإنَّنا نستطيع مع ذلك أن نقول إنَّه ليس بهذا المعنى النسبي
تستخدم كلمة لا شيء في المفارقة. ويُمكن أن نعرف ذلك لو سألنا ما
الذي يصفه العدم أو الخواء بالفعل في المفارقة؛ لأننا نصل إلى
الخواء بتفريغ الوعي من كل مضمون؛ من الإحساسات، والصور، والأفكار … إلخ، بحيث لا تكون
هناك كثرة. إنَّه غياب جميع الموضوعات
والكيانات، بعبارة أخرى إنه اللاكيان الشامل. وهكذا، فعلى الرغم
من أنه قد يكون صوابًا أن هناك معنيين لكلمة «العدم» في
الكتابات الصوفية؛ الأول مطلق، والآخر نسبي. ولا يظهر المعنى
النسبي في المفارقة، ومن ثَم لا يوجد فيها التباس في
الدلالة.
وهكذا نجد أن هذه المحاولة لحل مفارقة الخواء-الملاء عن طريق
نظرية التباس الدلالة تنهار. أمَّا في بقية المفارقات فأنا لا
أستطيع أن أعرف كيف يُمكن لمحاولة تطبيق النظرية حتى إن تبدأ: كيف
يُمكن، مثلًا، أن تحل مفارقة وحدة الوجود بهذه الطريقة؟ فهل
العبارات التي تقول «العالم متحد مع الله»، «والعالم متميِّز عنه،
أي إنَّه ليس متحدًا مع الله» تُستخدم فيها كلمات واحدة؛ بمعنى
مُعيَّن في العبارة الأولى، وبمعنى آخر في العبارة الثانية؟ إنَّني
لا أرى هنا موطئ قدم لإجابة مقبولة عن هذا السؤال. ومن ثَم فإن
محاولة هذه النظرية لا يُمكن حتى إن تبدأ. وسوف نجد أن الشيء
نفسه يصدق على مفارقة فناء الفردية؛ فأنا أكف عن أن أكون فردًا،
ومع ذلك أظل هذا الفرد. فما هي الكلمة هنا التي يُمكن أن نُطبِّق
عليها نظرية ازدواج المعنى؟
قد يقول قائل — بصدد مفارقة وحدة الوجود: إن الله والعالم
متحدان في جانب، متمايزان في جانب؛ كالدائرتين التي تقطع الواحدة
منهما الأخرى، فليس ذلك بالضبط هو مثال الكلمة الواحدة التي
تُستخدم بمعنيَين، لكن يُمكن كذلك أن تقف عند هذا الحد. فالدائرتان
نوعان من الأشكال الحسِّية التي تقتحم نفسها على وعينا، وبالتالي
تضللنا، عندما يقول بعض اللاهوتيين: إن الله محايث ومفارق في
وقت واحد. إن هذه الصورة خُلف محال
Absurd؛ لأنها تتضمن أجزاء
مكانية أو زمانية لله. والنقطة الهامة أن نُلاحظ أن التجربة
الصوفية رفضتها، وهي مصدر وحدة الوجود؛ فهي التجربة بأنَّ جميع
الأشياء؛ أوراق الحشائش، والأحجار، والأشجار، واحدة. فالتصوف
الانبساطي لم يرد الواحد في جانب منه في الأشياء، وفي جانب منه
خارجها. بل رأى الأضداد التي تنطوي على مفارقة، على نحو ما بيَّنا
في دراستنا لهذا النوع من التصوف. يقول «ن. م»: «ليس عندي أدنى
شك في أنَّني رأيت الله، أعني أنَّني رأيتُ كل ما يُمكن أن يُرى،
ومع ذلك فقد تحوَّل إلى العالم الذي أراه كل يوم.»
٥
لقد ناقشت، حتى الآن، عدة نظريات، تشترك كلها في أنها محاولات
لإظهار أنه لا توجد مفارقات حقيقية، بمعنى التناقضات المنطقية،
في التجربة الصوفية. ولقد تحطَّمت كلها. ولمَّا كُنت لا أعرف
نظرية أخرى يُمكن أن يسعى الناقد عن طريقها بيان أن المفارقات
يُمكن أن يكون لها حل عقلي، وأنَّ التناقضات التي تُشير إليها
ليس لها حل منطقي، فما الذي ينبغي علينا أن نتوقَّعه بعد ذلك؟
لقد كان لدى الصوفية، دائمًا، في جميع العصور، وفي جميع البلاد،
اتفاق واحد على التأكيد بأنَّ تجاربهم هي «فوق العقل» أو «خارج
العقل»، فما الذي يُمكن أن نتخيَّله عن معنى هذه العبارات؟ فهل
نفترض أنهم لا يعنون حقًّا ما يقولون، وأنهم يُبالغون بغرض
التأثير، وأنَّ هذه الأحاديث ينبغي ألَّا تؤخذ مأخذ الجد؟ ولم تكن
مناقشات الفصل الحالي سوى محاولات لبيان أنهم يعنون ما يقولون،
وأنَّ ما قالوه صحيح. أمَّا القول بأن تجاربهم تُجاوز العقل، أو
هي فوق العقل، فإن ذلك يعني ببساطة أنها تُجاوز المنطق أو فوق
المنطق. وليس في استطاعتنا أن نرفض هذه الشهادة، ما لم نرفض
التصوف كله على أنه نصب وغش. ومن الواضح أن جميع أولئك الذين
كانت لهم تجارب صوفية يشعرون أن هناك معنًى ما في هذه التجارب
الفريدة تمامًا، والتي لا تُشبه أي نوع من التجربة الحسِّية
المشتركة، والتي لا يُمكن مقارنتها بالتجربة الحسِّية المشتركة
الخاصة بعالم الزمان والمكان. وكل مَن وصل إلى الوعي الصوفي؛ فقد
وصل إلى منطقة تخرج تمامًا عن نطاق الوعي اليومي وتُجاوزه. ومن
ثَم فلا ينبغي أن تفهم أو يحكم عليها بمعايير أو مقاييس هذا الوعي
اليومي. ومن الواضح تمامًا أن المتصوِّفة يشعرون بذلك. غير أنَّ
جميع المحاولات التي بُذلت لبيان أن المفارقات الصوفية يُمكن
التخلص منها بواسطة بعض الحيل المنطقية أو اللغوية، ليست سوى
مُحاولات متنوعة لرد الوعي الصوفي إلى الحس المشترك وإزالة طابعه
الفريد، وردَّه إلى مستوى تجارب الحياة اليومية. ولا عيب في الحس
المشترك، أو في تجارب الحياة اليومية. وهكذا لا يُمكن أن نسير في
هذين الطريقين معًا، فليس في استطاعتنا أن نؤمن بأنَّ الوعي الصوفي
فريد، ويختلف من حيث النوع عن الوعي العادي، وأنه في الوقت ذاته
لا شيء فيه يُمكن أن «يرد إلى الوعي المألوف».
سادسًا: اعتراض
لكنَّ هناك اعتراضًا أساسيًّا يُمكن أن يُثار عند هذه النقطة، فقد
يسأل سائل: كيف يُمكن أن يكون من الممكن مناقشة التصوف مناقشة
عقلية ومنطقية، على نحو ما تُحاول أن تفعل، إذا كان التصوف نفسه
مليئًا بالمتناقضات؟ المفروض أن هذا الكتاب هو تحليل وفحص
منطقي لأقوال المتصوِّفة، فكيف يُمكن أن يكون للكتاب معنى في مثل
هذه الظروف؟ أليس التسليم أو التأكيد بأن هذه الأقوال هي مفارقات
منطقية يجعل بحثنا كله بغير معنًى؟
ربما لاحظ المرء، في المقام الأول، أن مثل هذا الاعتراض لا
يُثار أبدًا ضد المحاولات التي تُبذل لمناقشة مفارقات زينون
Zeno٦ مناقشة عقلية، التي شغلت انتباه الفلاسفة لألفين من
السنين. أكانت جميع هذه المناقشات بغير معنًى؟ قد يُجيب المعترض
بقوله إن هدف تلك المناقشات الفلسفية كان باستمرار بيان أن
مفارقات زينون المزعومة ليست تناقضات منطقية حقيقية. ومن ثَم
يُمكن حلها منطقيًّا، غير أن السؤال عن النتيجة التي كان
يأمل
الفلاسفة الوصول إليها من الفحص المنطقي لهذه المفارقات — أي
السؤال عن دوافعهم — لا علاقة له بالموضوع. فإذا كانوا مدفوعين
بالفحص المنطقي الدقيق إلى النتيجة التي تقول إن زينون كان على
حق في اعتقاده أن تجربة الحركة هي تجربة متناقضة ذاتيًّا.
فهل يجعل ذلك فحصهم المنطقي الدقيق، أقل منطقية؟ إنَّهم يصلون إلى
نتيجتهم بالمناقشة المنطقية، وهذه المناقشة لا يُمكن أن تكون على
أي نحو بغير معنى.
وهذا الرد — الذي هو إلى حد ما حجة شخصية
Ad
Hominem٧ — لا يوضِّح في الواقع هذا اللغز، وقد يسأل سائل: كيف
يُمكن أن نسير في مناقشة فلسفية من المُسلَّم به أن موضوعها غير
منطقي ومتناقض، سواء أكان مفارقات التصوف أو مفارقات زينون؟ يبدو
للمؤلف أن الإجابة هي أن كل جانب من المفارقة — إذا ما دُرس
بذاته — يُمكن أن يكون قضية عقلية أو منطقية، وسوف تكون قابلة
للفحص والتحليل المنطقي. وسوف يكون من الممكن أن تستخرج منها أيَّة
مضامين ممكنة كامنة فيها. ويُمكن أن نتناول كلًّا من جانبَي
المفارقة، كل جانب على حدة، ونُعالجه على هذا النحو. وبالطبع
فإنَّنا لن نتخلَّص أبدًا بهذه الطريقة من المفارقة. فالقضايا التي
تلزم من القول بأنَّ «أ هي ب» سوف تتناقض مع القضايا التي تلزم عن
القول بأنَّ «أ ليست ب»، لكن إذا كانت النتيجة التي علينا أن
نستخلصها في النهاية هي أن نفس التجارب البشرية — سواءٌ أكانت
تجربة الحركة أو تجربة
الواحد — تنطوي بالفعل على مفارقة، وأن
الطابع المنطقي، بالتالي، ليس جزءًا من الطبيعة الكلية والنهائية
للعالم، هذه تبدو لي حقائق هامة وواضحة ينبغي أن نعرفها، وفضلًا عن
ذلك فإن هذه النتيجة نفسها هي نتيجة منطقية وعقلية تمامًا،
فالقضية التي تقول إن «س» متناقضة ذاتيًّا وغير عقلية، ليست هي
نفسها تناقضًا ذاتيًّا، ولا هي قضية غير عقلية.
سوف يقول بعض المناطقة والخبراء في نظرية المعنى إن كل مَن
يؤكِّد القضية «أ هي ب، وأ ليست ب» لا يقول في الواقع شيئًا،
طالما أن النصف الأول من القضية ينفي النصف الثاني؛ فهو في
البداية يقول شيئًا، وفي النهاية يُدير ظهره له، وتكون النتيجة
أنه لا يقول شيئًا، ومن ثَم فإن القضية المركَّبة التي تقول
إن «أ هي ب، وأ ليست ب»، لا معنى لها. وأنا أرفض هذا الاتهام
تمامًا، على اعتبار أنه يقوم على خطأ منطقي واضح، بغض النظر عن
واقعة أن بعض الفلاسفة المعاصرين يقعون في هذا الخطأ بانتظام.
ويكمن الخطأ في الخلط بين مسألة الحقيقة ومسألة المعنى. والنظرة
الصحيحة هي أن قوانين المنطق تتعلَّق بالحقيقة، ولا علاقة لها
بالمعنى؛ فما يؤكِّده قانون التناقض هو أن القضيتين اللتين
تُناقض الواحدة منهما الأخرى لا يُمكن أن تكونا صادقتين معًا وفي
وقت واحد، بل لا بد أن تكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة؛ ففي
المجال الذي ينطبق فيه المنطق على الجملة المركبة «أ هو ب، وأ
ليست ب» تكون قضية كاذبة، وهذه النتيجة تدحض وجهة النظر القائلة
بأن الجملة المركبة لا معنى لها بالمعنى الاصطلاحي لكلمة
«اللامعنى»؛ لأن الجملة التي لا معنى لها، لا هي صادقة ولا
كاذبة. ومن ثَم فلو كانت الجملة كاذبة فمن الطبيعي أن يكون لها في
الحال معنى.
وفضلًا عن ذلك، فإذا كانت «أ هي ب»، جملة لها معنى، وإذا كانت
جملة «أ ليست ب» لها معنى كذلك، فمن المستحيل أن تكون «واو» العطف
التي تربط بينهما هي التي تجعل الارتباط بين جملتين ذات معنًى؛ بغير معنًى.
إذا ما قلنا عبارة «أ غزير الشعر»، وإن «أ بغير شعر»، فلا
يُمكن الزعم بأنَّ «أ غزير الشعر» لا معنى لها؛ لأنها تُقرِّر
واقعة. ويصدق الشيء نفسه على عبارة «أ بغير شعر». ومن ثَم فإن
المفارقة تؤكد جُمَلًا واقعية؛ فهي تقول شيئين، ومن ثَم فلا يُمكن
أن نزعم أنها «لا تقول شيئًا»، ولا ينبغي أن تضللنا الكلمات
المجازية؛ مثل «ينفي» و«يدير ظهره». وقائل هذه المفارقة لا يدير
ظهره (أو ينفي) النصف الأول، بل يواصل تأكيده جنبًا إلى جنب مع
النصف الثاني.
سابعًا: اعترافات سابقة بنظرية التناقض
ليست النظرة التي تقول إن المفارقات الصوفية هي تناقضات منطقية
واضحة، ليست من اكتشافنا الخاص، اعترف بها — بدرجات متفاوتة في
الوضوح — في كتابات عدد من الشُّراح السابقين. وفي استطاعتنا هنا
أن نقتبس بعض الأمثلة دون أن ندعي الحصر أو الإحصاء.
ويُمكن للقارئ أن يتذكَّر عبارة «رودولف أوتو» التي سبق أن
اقتبسناها في القسم الخامس من الفصل الثاني، عندما درسنا التصوف
الانبساطي الذي كانت فيه أوراق الحشائش، والأشجار، والأحجار، شيئًا
واحدًا، أعني أن «الأسود لم يعد أسود، ولم يعد الأبيض أبيض؛ بل
أصبح الأسود أبيض، والأبيض أسود؛ فالأضداد تتحد دون أن تكفَّ عن أن
تكون على ما هي عليه في ذاتها». ويتحدَّث «أوتو» عن أقوال إيكهارت
التي تؤكِّد اختفاء جميع التمييزات في
الواحد فيقول:
هذه النتائج في منطق التصوف العجيب، تُسقط القانونَين
الأساسيَّين في المنطق المألوف، وهما: قانون التناقص، والثالث
المرفوع. وإذا كانت الهندسة اللاإقليدية وضعت مسلَّمة التوازن
جانبًا، فكذلك يتغاضى منطق التصوف عن هذين القانونين، فيظهر
«اتحاد الأضداد»، و«هوية الأضداد»، و«التصوُّر الجدلي».
٨
هناك أشياء كثيرة خطأ في هذه الفقرة. فالمفارقة بين التصوف
والهندسات اللاإقليدية خطأ؛ لأن مسلمة التوازن ليست واضحة بذاتها
مثل قوانين المنطق. والأكثر أهمية من ذلك أن من الخطأ — على
الأقل في رأيي — أن نقول إن للتصوُّف منطقًا خاصًّا، يحكمه مبدأ
هوية الأضداد. فلا وجود في الواقع لمثل هذه المنطق. إذ لا يوجد سوى
نوع واحد من المنطق وهو الذي يُناقشه المناطقة. والتصوف عندما
يخرق قوانين، لا يشكل نوعًا جديدًا من المنطق، وإنَّما هو ببساطة
ليس له صبغة منطقية Non-Logical،
أمَّا فكرة وجود منطق أعلى يقوم على أساس هوية الأضداد، فهي ترجع
إلى تأثير هيجل. لقد كان هيجل على حق تمامًا في استبصاره
التاريخي الذي جعله يذهب إلى أن هوية الأضداد ليست متضمَّنة في
التصوف فحسب، بل أيضًا في الكثير من الفلسفة العقلية الماضية، لا سيما وحدة الوجود عند
اسبينوزا، لكنَّه أخطأ خطأً فاحشًا عندما ظن
أن ذلك نوع جديد من المبدأ المنطقي، ثم حاول أن يؤسس عليه
منطقه الأعلى، ولقد أوضحنا ذلك بالفعل في القسم الأول من الفصل
الرابع.
والقيمة الوحيدة للفقرة التي اقتبسناها من «أوتو» هي اعترافه
بالتناقضات المنطقية المتضمنة في مفارقات، لكن ينبغي عليَّ أن
أُشير إلى أنه لا «أوتو»، ولا أي مفكِّر آخر في الموضوع، قد شعر
بإلحاح في متابعة التحدي الواضح للصبغة اللامنطقية للمتصوِّف،
ومضامينه الجادة، وربما الثورية، بصدد المنطق وأسسه بصفة خاصة. لقد
ظلَّ «أوتو» قانعًا بحل هيجل الزائف. غير أنَّنا إذا ما رفضنا هذه
الوجهة من النظر، فسوف تواجهنا معظم المشكلات الجادة. والظاهر
أنه سوف يُصادفنا صدام أساسي بين التصوف والمنطق، فهل يقوم
المنطق بتدمير التصوف، أم يقوم التصوف بتدمير المنطق؟ أم إنَّ
هناك حلًّا ثالثًا ممكنًا يُمكننا من أن نكون مخلصين
للاثنين؟
ويُمكننا أيضًا أن نقتبس من «سوزوكي» بوصفه مفكِّرًا اعترف
بالطابع المتناقض الحقيقي اللامنطقي للتصوُّف. فقد تحدَّث عن
«مشكلة التناقض المنطقي التي إذا عبَّرنا عنها في كلمات كانت وصفًا
لكل تجربة دينية».
٩ ثم كتب أكثر من ذلك:
«عندما نضطر إلى استخدام اللغة عن أشياء هذا العالم [أي العالم
المتعالي] ضلَّت وأنتجت كل أنواع الإعاقة: اجتماع النقيضين،
المفارقات، التناقضات، الخُلف المحال، الشذوذ، التباس الأدلة،
واللامعقول. ولا ينبغي أن تلوم اللغة ذاتها على ذلك. فنحن أنفسنا
الذين نجهل وظيفتها المناسبة، عندما نُحاول تطبيقها على أمور لم
تُخلق لها أبدًا.»
١٠
ولقد كتب «سوزوكي» أيضًا من «براجنا
Prajna» التي يُمكن أن نترجمها
«بالحدس الصوفي» يقول:
«إنَّه يؤكِّد أحيانًا، وينفي أحيانًا ثم يعلن أن «أ ليس أ»، ومن ثَم فهي أ، هذا هو حدس
البراجنا.
١١
ولقد وقع سوزوكي — مثل أوتو — في خطأ الظن بأنَّ للتصوُّف منطقًا
خاصًّا به. غير أن النقطة الهامة هي أنه اعترف بوجود
التناقضات.
ولقد كتب «آرثر كويستلر» في بداية الفصل الذي روى فيه تجربته
الصوفية: «التأملات التي عرضتها حتى الآن لا تزال كلها على المستوى
العقلي … لكن كلَّما تقدما إلى تأمُلات أخرى في الاتجاه الباطني،
سوف تُصبح أكثر تعقيدًا وأشد صعوبة من أن نصوغها في كلمات. كما
أنها سوف يُناقض بعضها بعضًا؛ لأننا سنتحرَّك هنا خلال طبقات
يربطها معًا رباط أشبه «بالأسمنت» هو التناقض …»
١٢ [التشديد من عندي.]
ولا شكَّ أن فكرة الأشياء التي ترتبط معًا برباط التناقض أشبه
«بالأسمنت»، هي مجاز قديم. والنقطة الهامة هي أن من الواضح أنَّ
«كويستلر» يشعر بالتناقض في الكلمات التي اضطر إلى استخدامها ليصف
تجاربه. وعلينا أن نتذكَّر أن ما وصفه هو فناء الفردية الذي
رأينا أنه «واحد من المفارقات الصوفية».
ثامنًا: مضامين فلسفية للمفارقات
ما تظهرنا عليه المفارقات هو أنه على الرغم من أن قوانين
المنطق هي قوانين وعينا المألوف وتجاربنا اليومية، فإنَّه لا ينبغي
تطبيقها على التجربة الصوفية. ومن السهل جدًّا أن نرى لماذا لا
ينطبق عليها المنطق؛ لأن هذه التجربة هي الواحد، وهي الوحدة
التي لا تمايز فيها ولا اختلاف ولا كثرة، ولا يوجد منطق ينطبق على
تجربة لا توجد فيها كثرة. إذ ما هي قوانين المنطق؟ إنَّها طبقًا،
للرأي المعاصر الشائع، ليست سوى قواعد لغوية ودلالات لفظية، وأنا
أرفض هذا الرأي. وأعتقد أنها بالأحرى، القواعد الضرورية للتفكير
في — أو التعامل مع — كثرة من العناصر المنفصلة. فإذا كانت هناك
عناصر كثيرة، مثل أ، ب، ﺟ، … ي، فلا بد لنا من الإبقاء عليها متمايز
بعضها عن بعض. والواقع أن قوانين المنطق هي، ببساطة، تعريف لكلمة
«الكثرة». فماهية أي كثرة تتألَّف من عناصر متمايزة متحدة ذاتيًّا.
لكن لا توجد مثل هذه العناصر المنفصلة في الواحد لنبقيها متمايزة،
ومن ثَم فالمنطق لا يعني شيئًا بالنسبة لها، ولنفس السبب نجد أن
مبادئ المنطق لا تعني شيئًا بالنسبة لها، طالما أنه ليس فيها
عناصر يُمكن أن تُعدَّ. وهذا هو السبب في أن «إيكهارت» يقول «لا
يستطيع أحد أن يضرب بجذور في الأزل دون أن يتخلَّص من مفهوم
العدد». وهكذا نجد أن المنطق والرياضيات يُمكن انطباقهما على
جميع التجارب، والمجالات، والكلمات، حيث توجد كثرة من الموجودات،
لكنَّهما لا ينطبقان على الوحدة الصوفية التي لا تمايز فيها ولا
اختلاف. فالكثير هو ميدان المنطق، أمَّا الواحد فهو ليس كذلك.
ولهذا السبب لا يوجد صدام بين التصوف والمنطق. وهكذا نجد أنَّ
المنطق واللامنطق يشغلان أراضي مختلفة من التجربة.
وجهة النظر التي تقول إن الكثير هو مجال المنطق، أمَّا الواحد
فهو مجال المفارقة، ربما أمكن أن ترد على الاعتراض التالي. فإذا ما
انحصرت المفارقات في الوصف التي لا تمايز فيها ولا اختلاف، وتركت
الكثرة بالمعنى الدقيق للمنطق، فقد يُقال إن الحل الذي نُقدِّمه
يُمكن قبوله، لكن الأمر ليس كذلك؛ ذلك لأنَّ التصوف يؤكد
المفارقات عن عالم الكثرة كما يؤكِّدها عن عالم الواحد سواءً بسواء؛
فمفارقة وحدة الوجود، على سبيل المثال، تؤكِّد أن العالم — الذي
هو عالم الكثرة — هو في آنٍ واحد: متحد مع الله ومتميِّز عنه. ومن
الواضح أن ذلك يؤكد المفارقة عن الكثرة وليس عن الوحدة فحسب. كما
يؤكِّد المتصوِّف الانبساطي عن عالم الكثرة مفارقة أن «أوراق
الحشائش، والأشجار، والأحجار» هي كلها واحد.
وينشأ هذا الاعتراض من أن الانفصال بين الكثرة والوحدة هو مجرد
تجريد. وهناك مرحلة أولى في التصوف الانطوائي نمر فيها بتجربة
الوحدة وحدها ونستبعد الكثرة من الوعي. وتلك هي وجهة نظر
«الماندوكا أوبنشاد». ولم يذهب معظم المتصوِّفة أبعد منها؛ فهم
يمرون «بالنرفانا» التي لا تمايز فيها، تاركين التمايزات خلفهم في
عالم «السمسارا
Samsara».
١٣ ومن هنا كانت «النرفانا» تنطوي على مفارقة، في حين
أن «السمسارا» منطقية. ولا يزال هناك التمايز النهائي الذي ينبغي
إلغاؤه بين «النرفانا» و«السمسارا». ﻓ «النرفانا» أو «السمسارا»،
الله والعالم، هما شيء واحد، أو بالأحرى هما متحدان مع اختلافهما.
وتلك هي نظرة ماديمكيا البوذية،
١٤ وأيضًا بوذية زن (بوذية التأمُّل). أمَّا في التصوف
المسيحي، فمن الواضح أنه يُطلق على هذه المرحلة الأولى اسم
«التأليه» التي بلغتها القديسة تريزا وغيرها. إن الحياة في هذا
العالم، والحياة في العالم الإلهي، متكاملان في وحدة واحدة
دائمة.
على ضوء ذلك سنجد أن عالم التدفق والتغيُّر — عالم الطبيعة، عالم
الزمان والمكان الذي توجد فيه وحدة الحياة غير الصوفية — هو مجرد
تجريد، وهو لا يحتوي إلَّا على نصف عالم المتصوِّف فحسب، فلا نجد
فيه أن الكثير هو الواحد، ولا نجد فيه إلغاء للتمييزات. ومن ثَم
نجد أن قوانين المنطق تفرض فيه نفسها. ومن هنا فإن الحل الذي
اقترحناه بأن تكون الكثرة هي ميدان المنطق، في حين يكون الواحد هو
مجال المفارقات، اقتراح سليم؛ لأننا عندما نقول ذلك فإنَّنا نضع
أقدامنا في عالم الكثرة، ونتحدَّث من وجهة نظر تفصل بين الكثرة
وبين الواحد، وذلك صحيح؛ لأنه من هذا الموقف وحده ينشأ التمييز
بين المنطق واللامنطق، ولا يكون لمشكلتنا، أو للحل الذي قدَّمناه
أي معنًى إلَّا من هذا الموقف وحده.
لكن على الرغم من أنه لا يوجد صدام بين المنطق والمفارقة
الصوفية، فكل منها يشغل أرضًا خاصة به؛ فإن اكتشاف أن هناك
مجالًا للتجربة لا ينطبق عليه المنطق يحمل مضامين ثورية بالنسبة
لنظرية وضع المنطق وأسسه، وبالنسبة للرياضيات كذلك. والواقع أنَّ
المفارقات لا تواصل تهديد المنطق ذاته؛ إذ من المستحيل أن تتأثَّر
مبادؤه؛ فقوانين المنطق الثلاثة تظل على نحو ما كانت عليه دائمًا.
وكل ما في الأمر أن تطبيقاتها أصبحت محدودة فحسب، لكن المفارقات
تواصل تهديد آراء شائعة معينة يعتنقها فلاسفة معاصرون عن طبيعة
المنطق، ولا تنتمي هذه الآراء إلى المنطق، وإنَّما إلى فلسفة
المنطق؛ فهناك مثلًا اعتقاد شائع بين الفلاسفة المعاصرين بأنه لا
يُمكن تصوُّر تجربة تنتهك قوانين المنطق؛ إذ لا بد أن تصدق هذه
القوانين على كل تجربة ممكنة في أي ميدان، أو في أي عالم ممكن.
وهذا الاعتقاد هو الذي بيَّنا الآن أنه خطأ.
ولو أنَّنا تخلَّينا عن هذه النظرة، فسوف تظهر في الحال عدة آراء
أخرى شائعة عن المنطق. لقد قيل لنا، مثلًا، إن قوانين المنطق «لا
تقول شيئًا»، أو «لا تخبرنا بشيء عن العالم» ويرتبط بذلك نظرة تقول
إن قوانين المنطق ليست سوى قواعد لفظية أو لغوية، لكن وجود نوع
لا منطقي من التجربة يرغمنا على الإقلاع عن هذه الآراء، وعلى أن
نقول بالأحرى، إن المبادئ المنطقية تُخبرنا بالفعل بشيء ما من
عالم الحياة اليومية؛ لأنها عبارة عن طرق في التعبير عن طبيعة
الكثرة — طبيعة التجربة المشتركة كشيء متميِّز عن التجربة
الصوفية.
إن المنطق لا ينطبق إلَّا على بعض العوالم الفعلية أو الممكنة
أو على جميع العوالم الممكنة يفترض عادة. ولا يكفي أن نقول إنه
ينطبق على عالم حياتنا اليومية، طالما أنه يُمكن أن ينطبق على
عوالم أخرى أيضًا، بل ينبغي علينا أن نقول إنه سوف ينطبق على أي
عالم توجد فيه كثرة، وسوف توجد الكثرة حيثما يوجد مبدأ التفريد
الذي ينفصل بواسطته شيء ما عن غيره من الأشياء. وأكثر المبادئ التي
نعرفها شيوعًا عن التفريد هما الزمان والمكان، ولهذا فإن المنطق
لا بد أن ينطبق بالضرورة على عالم الزمان والمكان. أو ما أسماه
كانط عالم الظاهر، لكن قد تكون هناك مبادئ أخرى للتفريد مجهولة
لنا. ومن ثَم فقد تكون هناك عوالم أخرى لا يُمكن أن نتصوَّرها،
ينطبق عليها المنطق أيضًا. فعالم المثل عند أفلاطون، لو كان عالمًا
حقيقيًّا، لا بد أن يكون عالمًا ينطبق عليه المنطق أيضًا؛ لأنه
عالم يتألَّف من كثرة من الكليات.
في تصوُّرنا لتعيين الحدود لمجالات المنطق واللامنطق، ربما بقيت
صعوبة واحدة علينا أن نواجهها، صحيح أن تجربة التصوف
الانطوائي هي تجربة لا تمايز فيها ولا اختلاف، ومن ثَم فهي مجال
اللامنطق. غير أن تجربة التصوف الانبساطي هي تجربة الاختلاف
المكاني، حتى ولو كانت لا زمانية. ومن ثَم فسوف يبدو، بناءً على
نظريتنا في المنطق، أنه ينبغي أن ينطبق عليها. غير أن التجربة
التي تقول إن جميع أوراق الحشائش، والأشجار، والأحجار … إلخ،
واحدة، هي مفارقة منطقية، وهي الأصل والمنشأ Fons
et Origo لمفارقة وحدة الوجود بأسرها، وذلك لا
يتسق، فيما يبدو، مع نظريتنا.
ورأيي هو أنه على الرغم من أن المتصوِّف الانبساطي يرى،
بمعنًى ما، عالم الاختلاف المكاني نفسه الذي نراه، فإنه مع ذلك
يرى
خلال عالم الزمان والمكان، عالم الوحدة، أو الواحد الذي يقبع
خلفه ويُجاوزه. وهذا الواحد ليس فيه اختلاف. والواقع أن جميع
المتصوِّفة يذهبون إلى أن
الواحد في التجربة الانبساطية،
متحد
مع الواحد في التجربة الانطوائية، وهذا هو معنى التوحيد الهندي
بين «أتمان»، و«براهمان»، فما هو
ذات في الإنسان، وما هو
ذات الشمس
هما شيء — كما تقول — «ترتيبات أوبنشا».
١٥ ولم يُقدِّم «إيكهارت» نفسه أيَّة تفرقة بين
الواحد
الذي يُدركه في أوراق الحشائش، والأشجار، والأحجار،
والواحد الذي
تمر الروح بتجربته وهي في ذروتها، وإذا صحَّ ذلك فلا بد أن نُميِّز
بين الجانب الحسي الفزيقي من تجربة التصوف الانبساطي، وبين
الوحدة، التي هي وحدها الجزء الصوفي منها، والتي هي لا تمايز فيها
ولا اختلاف، وبعيدة عن المنطق.
وجهة النظر التي عرضتُها في هذا القسم تُشبه من بعض الزوايا بعض
نظريات كانط. ولا بد لنا أن نتذكَّر أنه اعتقد أن المقولات
الاثنتي عشرة التي ذكرها هي جزء من بنية الذهن البشري، وهي بالتالي
تطبع بطابعها كل ما تُدركه، لكنَّها لا توجد في «الشيء في ذاته».
أمَّا نظريتنا فهي مُحايدة فيما يتعلق بوجهة نظر كانط المثالية
إلى التجربة. وهي قد تكون كذلك واقعية. والشيء في ذاته الذي لا
يُمكن لنا معرفته هو أيضًا لا يدخل في نظريتنا. غير أن نظريتنا
ونظرية كانط متشابهتان في جانب هام جدًّا؛ فهما معًا يتضمَّنان
وجهة النظر التي تقول إن المنطق يقتصر في تطبيقه على عالم
الظاهر، أمَّا عالم الحقيقة فهو لا ينطبق عليه؛ فنظرية كانط عن
المقولات التي لا تنطبق على الشيء في ذاته، تستلزم بالقطع القول
بأنَّ قوانين المنطق لا تنطبق عليه؛ ذلك لأن مبادئ المنطق تتحد
مع بعض مقولات كانط؛ لأن مقولات الكم عنده، وهي الوحدة، والكثرة،
والجملة، تُعبِّر، ببساطة، عن طبيعة أي كثرة. وهي من ثَم تُرادف،
في نظرنا، قوانين المنطق. ومن المُمكن أن يُقال الشيء نفسه على
مقولتين أخريين؛ هما السلب والحد. أمَّا المقولات السبع الأخرى،
فليس لها أهمية خاصة بالنسبة لنظريتنا.
ربما كان من المهم أن نُلاحظ أن هذه المناقشة لطبيعة المنطق
مستقلة تمامًا عن مشكلة الموضوعية، والذاتية، وتجاوز الذاتية، وهي
المشكلة الخاصة بالتجربة الصوفية. ويستتبع ذلك أن تكون نتائجنا عن
طبيعة المنطق صحيحة، حتى ولو قيل إن التجربة الصوفية ليست سوى
هلوسة وهذيان؛ ذلك لأن قوانين المنطق تنطبق على أي تجربة
للكثرة، سواء كانت موضوعية أم لا، وهي تنطبق على عالم الأحلام
والهذيان؛ لأن الحلم يتألَّف من كثرة من موضوعات الحلم، ومن ثَم
فموضوع الحلم «أ» يختلف عن موضوع الحلم «ب»، وبالمثل، لو أن
التجربة الصوفية كُتبت على أنها هذيان، فسوف تظل تجربة لا
تمايُز فيها ولا اختلاف، وهي من ثَم لا ينطبق عليها المنطق، ولا بد
أن تكون على هذا النحو التجربة البشرية التي تدحض النظرة القائلة
بأنه لا توجد تجربة — أيًّا كانت — تنتهك قوانين المنطق. وبقية
نتائجنا عن المنطق سوف تتوالى بطريقة آلية.
لقد أوحت إليَّ بهذه الملاحظات فقرات معيَّنة هامة في «رسالة»
هيوم أشار فيها إلى أنه يستحيل أن نتخيل حالة التناقض الذاتي؛
فليس في استطاعة المرء أن يُشكِّل صورة ذهنية على رأس شعر وبغير
شعر في آنٍ واحد. ويعني ذلك أن قوانين المنطق تنطبق على عالم
الخيال. والسبب هو، بالطبع، أن ذلك العالم يتألَّف من كثرة من
الصور. وما ذكره هيوم عن الصور يصدق كذلك على الأحلام، والهلوسة
والهذيان. فسوف يكون من المستحيل أن نرى في الحلم دائرة مربعة. رغم
أن المرء قد يُخطئ ويظن أنه رآها في الحلم ذات مرة.
قد يكون هناك إغراء للفيلسوف الشاكِّ في التصوف أن يُحاول
استخدام طابعه المتناقض للبرهنة على أن التجربة ذاتية. وهذا ما
فعله «زينون الإيلي» بصدد الحركة؛ فقد ذهب إلى القول بأنَّ الحركة
تؤدي إلى تناقض، ومن ثَم فتجربتها عنها ليست سوى وهم. ومن المهم
أن نُلاحظ أن أي حجة من هذا القبيل — سواء كانت بطريقة زينون أو
ناقد التصوف — زائفة تمامًا؛ ذلك لأن الوهم أو الهذيان
المتناقض هو شيء لا يُمكن أن يوجد في أي ذهن على الإطلاق. إن ما
ينتج من النظرة القائلة بأنَّ التجربة الصوفية متناقضة، هو إمَّا
أن مجال التجربة لا ينطبق عليه المنطق، أو أنه لا توجد مثل
هذه التجربة المتناقضة على الإطلاق. والبديل أنها تجربة
لكنَّها ذاتية يستبعدها مبدأ هيوم، وإذا كان «زينون» قد برهن
بالفعل على أن التجربة تتضمَّن تناقضًا، فإن ما ينتج في هذه
الحالة هو إمَّا أن المنطق لا ينطبق عليها، أو أننا ليس لنا
تجربة على الإطلاق في إدراك الحركة. والبديل هو أننا نمر بهذه
التجربة بالفعل، لكنها ذاتية وتُستبعد. وأهمية هذه التجربة،
بالنسبة لأغراض بحثنا، هي أنه إذا ما سلَّمنا ذات مرة بالطابع
المفارق للتجربة الصوفية، فإنَّنا مضطرون أيضًا للتسليم بوجهة
النظر التي نقولها عن المنطق. وهي أن المنطق لا ينطبق على كل
تجربة. والبديل الوحيد في هذه الحالة هو إنكار أن التجربة
تنطوي على مفارقة.