التصوف … واللغة
أولًا: طرح المشكلة
ثانيًا: التجليات العلمية المزعومة
يزعم المتصوِّفة، كقاعدة، أن لهم تجربة انطوائية مع الواحد، أمَّا التجربة الانبساطية فهم يزعمون واحدية الأشياء الخارجية أو يزعمون الاثنين معًا. وهم، بصفة عامة، يحصرون أنفسهم في هذين النوعين من التجارب، لكن يحدث أحيانًا أن يزعم المتصوِّف أنه تحدث له تجليات صوفية عن حقيقة القضايا العلمية أو المعرفة بصفة عامة. وربما قدَّموا هذا المبرر أو ذاك لعجزهم عن إخبارنا بهذه التجليات، أو قد لا يُقدِّمون مبررًا على الإطلاق. ومن المطلوب مناقشة هذه الحالات هنا، وأن نحسم الأمر بصددها. وسوف نجد كل مبرر للاعتذار على صياغة هذه المزاعم، ومن ثَم نستبعدها من دراستنا للتصوف.
ثالثًا: نظريات الحس المشترك
إن فحص الوثائق الرئيسية في الكتابات الصوفية العالمية لن تترك شكًّا عند أي قارئ حساس بأنَّ التجربة الصوفية المزعومة التي لا يمكن وصفها، لا يمكن تفسيرها عن طريق أيَّة مبادئ سيكولوجية مما ينطبق على وعينا اليومي المألوف. إذ يؤمن المتصوِّفة أن النوع الخاص من الوعي لديهم ليس مختلفًا، لكنه نسبي من حيث الدرجة فحسب، عن الوعي المألوف. وطالما أنهم وحدهم الذين يملكون هذين النوعين من الوعي (الوعي المألوف، والوعي الصوفي)، فهم وحدهم في وضع يمكنهم من المعرفة. والواقع أنه ليس من المستحيل أن يكونوا مخطئين بصدد تجاربهم، لكن من المحتمل أكثر أن يكمن الخطأ عند أولئك الذين يرفضون أمثال هذه التجارب؛ لأنهم عاجزون عن الإيمان بأنه يمكن أن يوجد شيء لا يستطيعون هم أنفسهم رؤيته أو فهمه. ولو كان المتصوِّفة على صواب في نوع الوعي الخاص عندهم، فلا بد أن يكون في هذه الحالة من ذلك النوع الذي لا يمكن أن يُفهم بمصطلحات الوعي المشترك المألوف أو مقولاته؛ لأنه لا يوجد بينهما أي خاصية مشتركة سوى واقعة أنهما وعي. ومن ثَم فمن المرجح أن تكون المشكلة مع اللغة هي مسألة اختلاف بين نوعين من الوعي. ومن المحتمل ألَّا تعود إلى أي سبب من تلك الأسباب التي تجعل من الصعب علينا أحيانًا أن نصوغ مشاعرنا وتجارب الحياة اليومية في كلمات. كما أنه لا يمكن تفسيرها بمصطلحات علم النفس المألوفة.
ولكن هناك، كما هي الحال، دائمًا، مع رجل الشارع الذي لديه قصور في الخيال، ويعجز عن الإيمان بأي شيء يجاوز نطاق تجربته الخاصة، فإنه سوف يبذل ما يستطيع من جهد لكي يجذب التجربة الصوفية إلى أسفل، إلى مستواه الخاص. وعلى نحو ما يُحاول بكل حيلة منطقية ممكنة أن يرد المفارقات الصوفية إلى المستوى الشائع، فكذلك سيحاول هنا أن يتخلَّص من المشكلة الصوفية مع اللغة بردها إلى صعوبة شائعة ومعروفة جدًّا، مع كلمات كتلك التي يفهمها كل إنسان ويخبرها جيدًا، وقد تكون النتيجة عددًا من نظريات الحس المشترك. سوف نسوق نموذجَين لها هنا. ومن الممكن أن يكون هناك عدد كبير منها.
نظرية الانفعال
الانفعالات روَّاغة وأكثر إبهامًّا وأقل تحديدًا من البنى التصورية للفكر، عندما تكون هذه الأخيرة واضحة ومتميزة. ومن هنا كانت الكلمات التي تتلاءم مع الانفعالات زهيدة جدًّا، لكن هناك فوق ذلك كله واقعة أخرى عن الانفعالات وهنا مكانها المناسب: وهي أنه كلما كانت الانفعالات أعمق، صعب التعبير عنها، ومن هنا فإن «تنسون» يتحدَّث عن «الأفكار التي كثيرًا ما تقبع في أغوار الدموع». وربما كان يقصد المشاعر أكثر من الأفكار بالمعنى الضيق للأفكار التصورية. ولا شك أنه إذا كانت أعمق من الدموع؛ فهي أعمق بالنسبة للكلمات. إنَّنا نتحدَّث عن مشاعرنا السطحية بحرية، لكن عندما تهتز أعماق الشخصية البشرية، فإنَّنا نخلد إلى الصمت. ونظرية الانفعال التي تتعلَّق بما لا يُمكن وصفه في الجانب الصوفي، لا تفعل شيئًا سوى مدَّ هذه التعليمات السيكولوجية لتُغطِّي حالة الوعي الصوفي، وعندئذٍ يصبح ما لا يُمكن وصفه مسألة درجة. فتجربة السقوط في الحب — لأول مرة — قد تجعل المحب يكف عن الكلام ويلتزم الصمت. والتجارب الصوفية تعمق الغبطة، والفرحة، وأحيانًا الوجد، والغيبة. وربما كانت هناك أيضًا مشاعر الرهبة والإجلال لما هو مقدس في تجربته. ويُفسِّر لنا عمق مشاعره الصعوبات التي يلقاها مع الكلمات.
ليس من الضروري أن نُجادل في أنه لا توجد حقيقة أيًّا كانت في هذه النظرية. أمَّا القول بأنَّ تجارب الصوفية هي انفعالات «أعمق من الكلمات»؛ هو بلا شك سمة يمكن أن تُضاف إلى المتاعب التي يجدها المتصوِّف مع اللغة، لكن ما أجادل من أجله هو أن هذه النظرية إذا ما أُخذت بذاتها، لكانت غير كافية تمامًا، ولا وزن لها في تفسير الجانب الصوفي الذي لا يمكن وصفه.
ونحن نُلاحظ في المقام الأول أن التجربة الصوفية ليست مجرد انفعال، ولا هي حتى انفعال أساسي. إن عنصرها الرئيسي هو شيء يُشبه الإدراك أكثر من الانفعال، رغم أن الصوفي سوف يشعر أيضًا أن كلمة «الإدراك» ليست هي الكلمة الصحيحة. والعنصر الأساسي الذي يُشبه الإدراك في التجربة هو إدراك الوحدة التي لا تمايز فيها واختلاف. والنغمة المؤثرة التي يحملها هذا الإدراك معه، عند عظماء المتصوِّفة، هادئة ومتزنة أكثر من أن تكون نغمة انفعالية. ويمكن ترتيب المتصوِّفة جميعًا ابتداءً من أصحاب الانفعالات المتطرفة من أمثال القديسة تريزا، وسوزو، إلى النوع الهادئ الرزين من أمثال «إيكهارت»، و«بوذا». ولا بد أن نتذكَّر أن «إيكهارت» يرى أن «الإشباع المعقول هو عملية روحية خالصة تظل فيها القمة العليا للروح غير متأثرة بحالة الوجد». وأنَّ «العواصف الانفعالية لطبيعتنا الفزيقية لم تعد تهز قمة الروح». ومع ذلك فقد وجد كل من «إيكهارت» و«بوذا» أنَّ الوعي الصوفي لا يُمكن وصفه. ويُسمَّى الوعي الصوفي في حالة البوذية «بالنرفانا»، وهم يصورونها دائمًا على أنها تجاوز التعبير. وتظهرنا هذه الملاحظات على أن نظرية الانفعال تعتمد على الإسراف في تأكيد دور الانفعال في الوعي الصوفي. ولا تُلقي بالًا ولا التفاتًا — أو التقليل جدًّا من الالتفات — إلى جوانبه الأخرى.
لكن ليست هذه هي النقطة الرئيسية التي أود أن أسوقها ضد هذه النظرية؛ فمن المهم أكثر أن نؤكِّد أن وزن التراث الصوفي كله يتجه ضد النظرية، كما أنه يدعم النظرة التي تقول إن هنا صعوبة منطقية، لا صعوبة انفعالية فحسب، وهي التي تمنع الصوفي من التعبير الحر عن تجربته في كلمات. إنَّها الرؤية نفسها وليس الانفعالات المصاحبة لها؛ فهذه الرؤية هي التي لا يُمكن التعبير عنها. ومن الصعب، بالطبع، أن نوثق أو أن نبرهن في فقرة أو أن نقول كلمة «عن وزن التراث الصوفي كله»، لكن كتابنا الحالي بأسره هو وثيقة على ذلك — أو على الأقل — على الوعي الصوفي الأساسي الذي لا يمكن قياسه أو مقارنته بالوعي المألوف، واستحالة رد الأول إلى الثاني. ويُشكِّل ذلك من حيث الأساس جذور مشكلة المتصوِّف مع اللغة. أمَّا بالنسبة للباقي فليس في استطاعة المرء سوى أن يغامر ويؤكِّد أن مَن ترضيه نظرية الانفعال، ولا يشعر بداخله بشيء من الضيق: إمَّا أنه يجهل كتابات المتصوِّفة. أو إذا كان على علم جيد بها، فلا بد أن تنقصه البصيرة والحساسية.
نظرية العمى الروحي
لقد قيل إن استحالة نقل التجربة الصوفية إلى شخص لم يكن لديه قط مثل هذه التجربة تُشبه استحالة نقل طبيعة اللون إلى شخص وُلِد أعمى، ومن هنا كان الشخص غير الصوفي هو أعمى من الناحية الروحية. وهذا هو السبب في أن الرجل الروحي أو المتصوِّف لا يستطيع أن ينقل تجاربه إلى غير المتصوِّف. وتلك هي قضية ما يُمكن وصفه أو التعبير عنه.
- الاعتراض الأول: واقعة أن فكرة اللون لا يمكن نقلها في كلمات إلى شخص ضرير لم يرَ اللون قط، هذه الواقعة ليست سوى حالة جزئية لمبدأ عام في المذهب التجريبي الذي أعلنه ديفيد هيوم؛ فمن المستحيل «تشكيل فكرة» عن انطباع أو كيفٍ بسيط ما لم يمر الشخص أولًا بتجربته. وينطبق المبدأ، بالطبع، لا فقط على الألوان، وإنَّما على أي نوع من التجربة، حسِّية أو غير حسِّية. ومن هنا فإنَّه، بغير شك، ينطبق على التجربة الصوفية. ولكن القول نفسه بأنه ينطبق بالمثل على أي نوع من التجربة يجعله لا يصلح لتفسير التجربة الصوفية التي تفوق الوصف، لكن إذا كان ذلك هو كل ما تعنيه كلمة ما لا يُمكن وصفه، لكان معنى ذلك أن كل أنواع التجارب — الألوان، والروائح، والطعوم، والأصوات — ستكون بنفس الطريقة مِمَّا لا يُمكن وصفه، لكن التجربة الصوفية التي تفوق الوصف، يفهمها بوضوح أولئك الذين يتحدَّثون عنها على أن لها خصائص فريدة لا يملكها إلَّا على هذا النوع من التجربة ولا يشاركها فيها الأنواع الأخرى. وإلَّا فلن يكون هناك معنى على الإطلاق للقول بأنَّ التجربة الصوفية تفوق الوصف، فلا أحد يقول إن تجارب الألوان لا يمكن وصفها فقط لأن الكلمات لا يمكن أن تنقل هذه التجارب إلى الرجل الأعمى.
- الاعتراض الثاني: على هذه النظرية، هو أنها تضع مشكلة الكلمة حاجزًا على الجانب الخطأ في العلاقة بين المتحدِّث والسامع؛ فإذا ما قال الرجل المبصر للشخص الأعمى «هذا الشيء أحمر» فإنَّ الشخص المبصر لا يجد مشكلة في النطق بهذه الكلمات، ولا شيء خطأ فيما يصف، بل قد يكون وصفًا دقيقًا تمامًا، فلا معنى أبدًا للقول بأن تجربة رؤية اللون الأحمر لا يمكن وصفها أو التعبير عنها. فمشكلة فهم معنى ما يُوصف تقع على عاتق المستمع الضرير، لكننا نجد في حالة التجربة الصوفية أن المتصوِّف هو الذي يستشعر كلمة الحاجز، فهو الذي يقول إن التجربة لا يُمكن وصفها أو التفوه بها. ولا شك أن المستمع غير الصوفي يمكن أيضًا أن يواجه هذه الصعوبة، فليس في استطاعته «تشكيل فكرة» عما يُحاول المتصوِّف نقله إليه. والنظرية التي نناقشها تشرح مشكلته، غير أنها ليست هي المشكلة التي كان المفروض أن تُفسِّرها النظرية وهي «عدم القدرة على النطق بالتجربة» الذي يشعر به الصوفي. انظر مرة أخرى إلى ما كتبه «ج. أ. سيمونز»، إنَّه يكره التجربة لأنه يقول «إنَّني لا أستطيع أن أصفها لنفسي. وليس في استطاعتي حتى الآن أن أجد الكلمات لجعلها واضحة.» وعدم وضوح التجربة أو استحالة فهمها هي التي تجعلها لا يمكن وصفها. وأنا على يقين من أن ذلك يضعها على الطريق الصحيح. فعدم إمكان الوصف يُسبِّبه نقص جذري أو قصور في الفهم، أو العقل البشري. وعلينا الآن أن نتابع هذا الخيط.
رابعًا: النظرة القائلة بأن اللغة الصوفية واللغة الدينية رمزية
ما هو معنى كلمات «العقل» و«الفهم» و«التعقل» و«المنطق»، وما هي علاقة الواحد منها بالآخر؟ أعتقد أنه لا اختلاف، ولا فارق بينها، حسب ما وصل إلينا من كتابات المتصوِّفة. فلا فارق بين «العقل» و«الفهم»؛ فهما يُشيران إلى قدرة الذهن على استخدام تصوُّرات مجردة. فهما يعنيان ما كان يقصده كانط «بمملكة التصوُّرات». والظاهر أنه ليس ثمة فارق واضح بين «العقل» و«التعقل»، ولا بين «العقل» و«المنطق». وربما كان من الممكن في بعض الأحيان التمييز بين هذه المصطلحات الأربعة، لكن الكلمات الأربع — بصفة عامة — يُمكن أن تحمل هذا الجانب أو ذاك من استخدام الذهن للتصوُّرات.
النظريات التي علينا فحصها في هذا القسم، تسعى إلى تفسير «ما لا يُمكن وصفه» على أنه يعود إلى عجز الفهم أو العقل على العقل على التعامل مع التجربة الصوفية. والتفسير المعتاد لهذه المسألة يؤكِّد أن التجربة الصوفية تعجز من داخلها على أن تكون تصوُّرية؛ فنحن نمر بتجربتها على نحو مباشر، فيما تقول هذه النظرية، لكن لا يُمكن تجريدها في تصوُّرات، لكن لمَّا كانت كل كلمة في اللغة — باستثناء أسماء الأعلام — هي تصوُّر، فإنَّه ينتج من ذلك أنه حيثما لا تكون التصوُّرات ممكنة، فلا تكون الكلمات ممكنة. ومن هنا فإن التجارب الصوفية، بما أنها لا يُمكن وضعها في تصوُّرات، فإنَّه لا يُمكن كذلك وضعها في ألفاظ. ولهذا السبب فإن «ما لا يُمكن وصفه» ليس مسألة درجة، على نحو ما تفترض، مثلًا، نظرية الانفعال ولكنَّها مُطْلقة، لا يُمكن استئصالها. تلك هي النظرية الشائعة.
لا بد للنظرية أن تُفسِّر لنا لماذا لا يُمكن وضع التجربة الصوفية في تصوُّرات. وقد يكون السبب في حالة التجربة الانطوائية هي الوحدة التي لا اختلاف فيها ولا تمايز، والتي تخلو من كل مضمون تجريبي، فهي خواء لا شكل له. ولا يوجد فيها أي بنود يُمكن تمييزها. لكن التصورات تعتمد على كونها كثرة من البنود التي يُمكن التمييز بينها. ويُلاحظ الذهن التشابهات والاختلافات بينها، ويقوم بترتيب المتشابهات بعضها مع بعض بطرق معينة في نفس الفئة. وفكرة الفئة تصور. ومن هنا فحيثما لا توجد كثرة، فإنَّه لا يُمكن أن تكون هناك تصوُّرات ومن ثَم لا يُمكن أن تكون هناك كلمات.
والنقطة الجوهرية هنا تجعل من الواضح أن التصوُّرات تعتمد على الكثرة، ومن ثَم لا تستطيع أن يكون لها موطئ قدم في تجربة واحدية تمامًا.
- أولًا: لأنَّ الخير الذي عرفوه «عندما نظروا إلى الله كان هائلًا» وغامضًا، حتى إنه يصعب أن يتخذ شكلًا معينًا أمام الفهم.
- ثانيًا: ما حصَّلوه من الله يُضاهي ذات الله نفسه من حيث ضخامته وجلاله. ولا يؤدي إلى أيَّة فكرة ولا أي شكل يُمكن التعبير عنه.
- ثالثًا: ولهذا السبب يقعون في البكم؛ لأن الحقيقة المختبئة التي وجدوها في الله، والسر الذي عثروا عليه، لا يُمكن وصفه أو التفوه به.»٦
هذه الفقرة مختلطة ومشوشة جدًّا. ما دام السبب الثاني المزعوم لا يفعل شيئًا سوى تكرار السبب الأول، والأسباب الثلاثة يُمكن لأغراض عملية أن ترتد إلى سببين. الأول هو ضخامة التجربة وجلالها، لكن لو وضعت الفخامة والجلال على أنها الأسباب الوحيدة «لِما لا يُمكن وصفه»، فلا بد أن يشجع ذلك النظرة التي تقول إن ما لا يُمكن وصفه المزعوم ليس سوى مبالغة المقصود منها التعبير عن انفعالات صاحب التجربة. إن الضخامة — مثل الضآلة — يسهل جدًّا التعبير عنها؛ فمن السهل أن نصف في كلمات بلايين الأميال سهولة وصفنا للبوصة. أمَّا الجليل، فهو بمقدار ما يختلف عن العظيم، قد يعوق المرء عن التنفس حتى ينعقد لسانه فلا يستطيع أن يتحدَّث أو قد يبدو كما تقول العبارة «أروع كثيرًا من الكلمات»، لكنَّه ليس بأي معنًى دقيقًا وغير قابل لأن يوصف عن طريق اللغة. والعثور على اللغة المناسبة للجليل هو أحد المهام الخاصة بالشاعر، والقول بأن غير الشعراء لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك، لا يجعله فوق الوصف أو لا يُمكن التفوه به، لكن لو نظرنا مرة أخرى في عبارة «إيكهارت»، لرأينا ظهور فكرة أكثر عمقًا، فهو يُخبرنا أن «الرؤية لا يُمكن أن تتخذ شكلًا مُعيَّنًا أمام الفهم»، «ولا تؤدي إلى أيَّة فكرة أو شكل يُمكن التعبير عنه»، إنَّها لا شكل لها، أو هي تفتقر إلى الشكل المعين الذي يُقال هنا إنَّه يجعل التجربة لا توصف. وما دامت التجربة هي الخواء الفارغ، وبلا مضمون محدد، فليس ثمة أشكال محددة يُمكن أن تُناسب التصوُّر. وما لا شكل له هو نفسه الفراغ أو الخواء. فهو «ليس هذا، ولا ذاك». وما دام كل تصوُّر أو كلمة يفسر «هذا» التي تتميَّز عن «ذاك»، فليس ثمة كلمات أو تصوُّرات ممكنة. وهكذا نجد أن «إيكهارت» بدوره يدعم نظرية عدم إمكان صياغة تصوُّرات.
نظرية ديونسيوس
لقد أراد «ديونسيوس» التعبير عن علو الله ولتجاوزه لجميع الكلمات بالاستخدام المستمر لكلمة «أعلى» أو «فوق»؛ فالله لا هو موجود ولا هو غير موجود، وإنَّما هو أعلى من الموجود. ولا هو واحد ولا وحدة، بل هو الواحد الأعلى أو الوحدة العليا. وليس ممتازًا لأنه فوق الامتياز، وليس مقدسًا، وإنَّما هو فوق التقديس. غير أن «الموجود الأعلى» هو في النهاية كلمة. وإذا كان الله فوق كل الكلمات، فلا بد أن يُقال عنه إنَّه «فوق» «ما هو فوق الامتياز» … وهكذا إلى ما لا نهاية.
- (١)
ما المبرر الذي يجعلنا نقول إن الله سبب جميع الأشياء؟ إذا كانت كلمة «السبب» تعني حرفيًّا نظرية تناقض نفسها، ما دامت كلمة «السبب» لا بد أن تكون مِمَّا لا يُمكن تطبيقه على الله كأي كلمة أخرى، لكن إذا كانت كلمة «السبب» كغيرها من الكلمات الأخرى، أعني إذا كان من الممكن أن تنطبق على تجليات الله لا على الله نفسه، فإنَّها عندما تُستخدم عن الله فلا بد أن تعني أن الله هو سبب «السببية» التي تظهر في العالم، لكنَّها عندئذٍ لا يُمكن أن تعني أنه هو نفسه سبب «السببية»، وإنَّما هو فحسب سبب، «سبب السببية» … وهكذا إلى ما لا نهاية.
- (٢)
إذا كانت «س» سبب «ص»، وإذا كان ﻟ «ص» كيف مُعيَّن هو «ق»، فإن ذلك لا يُقدِّم أي مُبرِّر لتسمية «س» «ق»، ولا حتى على سبيل الرمز؛ فمثلًا، لا معنى لتطبيق كلمة «سائل» على النار؛ لأن النار تُسبِّب سيولة قطعة الشمع. ولن يجعل مثل هذا الاستخدام معقولًا أو ذا معنًى أن نقول إن النار هي الوجود الوحيد الذي سُمِّي «سائلًا» على سبيل الرمز.
- (٣) نظرية ديونسيوس تجعل «عدم إمكان الوصف» لله، لا يُمكن وصفه على نحو مطلق. ولو أنَّنا فعلنا ذلك فلا يُمكن أبدًا أن نُبرِّر استخدام أيَّة لغة، سواء كانت الكلمات إيجابية أو سلبية. وسواء استخدمت بالمعنى الحرفي أو الرمزي. إن نظرية اللغة الرمزية لا تُساعد ديونسيوس، فلا ينبغي استخدام أيَّة كلمة مهما تكن. ولا ينبغي أن نُسمِّي التجربة الصوفية: لا «تجربة» ولا «صوفية»، ولا «فوق الوصف». ولا ينبغي علينا أن نقول إنَّها «ليست هذا، ولا ذاك»؛ لأن كلمة «إنَّها» لا تنطبق عليها. باختصار لا بد أن تكون «مِمَّا لا يُمكن معرفته» بالنسبة لنا، لا فقط بهذا المعنى النسبي الذي تحدَّث فيه هربرت سنبسر١٠ — صوابًا أم خطأ — عن قوة لا يُمكن معرفتها. وفكرة «ما لا يُمكن معرفته» يُمكن أن تكون نسبية فحسب؛ لأنها تعني أننا نعرف شيئًا عنه: إنه مثلًا موجود، وإنه قوة، أمَّا خصائصه الأخرى فهي تُجاوز إدراكنا تمامًا. أمَّا «ما لا يُمكن وصفه»، المطلق، كما وضعه ديونسيوس، فلا بد أن يعني أن شيئًا ما نُسمِّيه «ما لا يُمكن وصفه» يقع خارج وعينًا تمامًا، بمعنى أن الله ربما كان خارج وعي الحيوان. وقد يكون من المقبول أن نفترض أن الله «لا يُمكن معرفته» مطلقًا بالنسبة للحيوان. ولا يُمكن للحيوان أن يعتقد «أنَّ الله لا يُمكن معرفته بالنسبة لي». إن الموجود الواعي بالله، أو على الأقل الواعي بمعنى ما يُمكن أن ينسبه إلى كلمة الله، هو وحده الذي يستطيع أن يقول «الله لا يُمكن معرفته بالنسبة لي.»
وهذا النقد يُشكِّل، بالطبع، مشكلة تبدو في ظاهرها بغير حل، لا بالنسبة لديونسيوس فقط، بل بالنسبة لأيَّة نظرية تتحدَّث عمَّا لا يُمكن وصفه على أنه مطلق. وسوف نلتقي بها مرة أخرى.
نظرية المجاز أو الاستعارة
- أولًا: تُناقض نفسها؛ لأنها تفترض أن «س» ربما كانت مجازًا لشيء عن ماهية الله أو لتجربة الصوفية التي لا يُمكن صياغتها في تصوُّرات. والمجاز يتضمَّن التشابه، لكن حيثما كون هناك مجاز يكون هناك تصوُّر ممكن؛ ﻓ «س» يُمكن أن تكون مجازًا ﻟ «ص»، إذا كانت «س» تُشبه «ص» بطريقة ما، لكنَّ الشيئين المتشابهين يُمكن وضعهما في فئة واحدة بسبب التشابه. ومن ثَم فقولك إن «س» مجاز لشيء في ماهية الله، يعني أنَّك تقول إن هذا الشيء يُمكن أن يُصاغ في تصوُّرات.
- ثانيًا: لا يكون للغة المجازية معنى ولا مبرر، إلا إذا كان يُمكن ترجمتها، نظريًّا على الأقل، إلى لغة حرفية. أو إذا كان الشيء أو التجربة التي يُفترض أن المجاز يرمز لها، توجد أمام الذهن كتمثُّل، سواء وجدت كلمة لها أم لا. وبعبارة أخرى إن استخدام المجاز — أيًّا ما كان فهمنا له — لا بد أن يعرف مقدَّمًا ما الذي يعنيه ما ترمز له؛ فالمجاز لا يُمكن أن يعمل إلا لاستحضار ما يعرفه بالفعل، أو ما مرَّ بتجربته — أمام الذهن — فهو لا يُمكن أن يُنتج معرفة أو تجربة لم تكن عنده من قبل. فإذا ما استخدم «أ» مجازًا ﻟ «ب»، فلا بد أن يكون «أ» و«ب» معًا حاضرين أمام الذهن، وكذلك التشابه بينهما الذي هو أساس المجاز، وإذا لم يكن الأمر كذلك فسوف يكون عندنا ما يُسمَّى عادة «المجاز الذي لا معنى له». ونحن نلقي بشروط المجاز الذي له معنى بوضوح، فيما يُسمِّيه الصوفي بالخواء أو الفراغ باسم «الظلام» أو «الصحراء»؛ لأنه لا فقط أن تصوُّرات وصور «الظلام» و«الصحراء» معروفة جيدًا، بل لأنَّ المقصود بالخواء معروف أيضًا. وهكذا نجد أن اللفظين — المجاز ومعناه — حاضران أمام الذهن.
خامسًا: اقتراحات نحو نظرية جديدة
تحطَّمت جميع النظريات ولم نجد حلًّا لمشكلتنا. ولهذا فسوف أُحاول أن أقترح نظرية جديدة، وأنا على وعي عميق بمدى هذه المهمة من تهور وطيش. وما أُطلقت عليه نظريات الحس المشترك، ليست جديرة، في رأيي، بأي احترام فهي تبدو لي مهمة أناس إمَّا على علم ضئيل بموضوع التصوف. أو إذا ما كانوا على معرفة جيدة به، فإنَّهم يفتقرون إلى البصيرة والحساسية، لكن النظرية التي تقول إن لغة التصوف رمزية، التي فرقنا بين صورتين منها، فهي مسألة مختلفة تمامًا، فهي تسند ظهرها إلى حمل ثقيل من التراث وسلطة الثقات، إنَّها نتاج لتفكير أناس إمَّا أنهم كانوا هم أنفسهم متصوِّفة، أو كانوا على الأقل «منقوعين» في الكتابات الصوفية، فأصبحوا حساسين بعمق لِما فيه من فتنة وسحر. ومن هنا كان دعاة هذه النظرية من بين الأسماء اللامعة في تاريخ الفكر الصوفي الغربي. وهي ترتد في العالم الغربي، على الأقل، حتى أفلوطين، ومنه صُعدًا عبر ديونسيوس إلى العالم الحديث. ومع ذلك فإنَّه يبدو أن الاعتراضات التي أثرناها ضدها ليس لها جواب، ولا رد عليها. ومن هنا فليس أمامنا سوى أن نتخلَّى عنها، ونُحاول أن نجد حلًّا آخر.
لقد سلَّمنا في صفحات سابقة أن نظرية الانفعال — رغم أنها ليست مقنعة كتفسير نهائي لهذا الموضوع — لا تخلو من عنصر من الحقيقة. فقد يكون كل مَن يمر بتجربة الغبطة أو الفرحة — ربما لأول مرة — وكذلك السلام الذي يُجاوز كل فهم، الذي يجلبه الوعي الصوفي، قد يجعله للحظة غير قادر على الكلام بسبب عمق الانفعال. ولا شك أن هذه الحالة هي، في بعض الأحيان، جزء مِمَّا يكون في ذهنه، عندما يقول إن ما مرَّ بتجربته يجاوز جميع الكلمات، لكن ذلك لا يجعلنا نفترض أنها تصل إلى جذور الموضوع، أو أنها تستوعب كل ما يُمكن أن يُقال عنه؛ إذ من الواضح أن المطلوب هو ضرب من التفسير الجذري الأشد عمقًا، الذي يذهب إلى صراع الصوفي من الكلمات، يرجع في النهاية إلى نوع من الصعوبة المنطقية، ولا يرجع إلى قدر ضخم من الانفعال. إن الاتفاق بين المتصوِّفة الذين عبَّروا عن أنفسهم في هذا الموضوع هو أن ما أسموه، بطرق مختلفة، بالفهم، أو العقل، أو التعقل، عاجز عن تناول التجربة الصوفية، وذلك هو ما يكن في جذور متاعبهم مع الكلمات؛ فالعقل هو الذي شكَّل اللغة وصاغها كوسيلة تُحقِّق له أغراضًا خاصة، وقد تكون هذه العبارات صادقة، لكنَّها غامضة أكثر مما ينبغي، وغير دقيقة أكثر مما ينبغي، لتُشكِّل تفسيرًا فلسفيًّا لِما لا يُمكن وصفه. وما علينا أن نكتشفه هو: ما الذي يوجد بالضبط في طبيعة الفهم يُسبِّب مشكلة الكلمات؟
في استطاعتنا أن نرى كيف أن النظرية التي تقول إن اللغة الصوفية هي باستمرار رمزية، ولم تكن قط حرفية، قد نشأت من محاولة الإجابة عن هذا السؤال. والفهم هو ما أطلق عليه كانط اسم «ملكة التصوُّرات»، على الرغم من أن كلمة «ملكة» عفا عليها الزمان، فإن ما قاله كانط هو أساسًا صحيح. والواقع أن التفكير والاستدلال، والفهم، كأمور متميِّزة عن الإدراك المباشر، تعتمد على استخدام التصوُّرات. ومن ثَم كان من الطبيعي جدًّا أن نفترض أنَّ القضية التي تقول إن الفهم عاجز من داخله عن التعامل مع التجارب الصوفية، ترادف القضية التي تقول إن التصوُّرات لا تستطيع أن تتعامل معها. وهذه بدورها، فيما يبدو، ترادف القول بأنَّ هذه التجارب لا يُمكن أن تُصاغ في تصوُّرات. ولمَّا كانت جميع الكلمات — باستثناء أسماء الأعلام — تُعبِّر عن تصوُّرات، فإنه ينتج من ذلك أن جميع الكلمات لا يُمكن أن تنطبق على التجارب الصوفية. وطالما أن الكلمات، لهذا السبب، التي يستخدمها المتصوِّفة لا يُمكن أن تكون وصفًا حرفيًّا، فلا بد أن تكون رمزية. ويبدو أنَّ ذلك كله نتائج طبيعية لما سبق أن ذكرناه. غير أن هذا الخط الذي نسير فيه لمواجهة المشكلة، يؤدي لسوء الطالع، إلى مأزق لا أمل في الخروج منه.
ومع ذلك فهنا رأي آخر يقول إن الطريقة التي يعمل بها الفهم هي التي تسبب الصعوبة في استخدام الكلمات، ومن هنا فإن مشكلتنا هي: ما الذي يوجد في الفهم — إلى جانب الواقعة المحض أنه ملكة التصوُّرات — يجعله يُحدث في المتصوِّف إحساسًا عارمًا بالمشكلة مع اللغة، وشعورًا بأنَّ الكلمات التي يستخدمها بالفعل لن تنجح أبدًا في التعبير عمَّا يريد أن يقوله؟
- أولًا: هناك مشكلة ما إذا كان من الممكن استخدام الكلمات أثناء التجربة الصوفية.
- ثانيًا: هناك مشكلة ما إذا كان من الممكن استخدام الكلمات بعد التجربة الصوفية عندما يذكرها المتصوِّف. لقد قام «أفلوطين» بالتفرقة الصحيحة، ووضع، في الواقع بإيجاز ما اعتقد أنه الحل الصحيح. يقول: «في هذا الإدراك ليس لدينا القدرة ولا الوقت لأن نقول أي شيء عنه، لكنَّا نستطيع بعد ذلك أن نتعقله.»١٢ وبعبارة أخرى إنَّنا لا نستطيع التحدُّث عنه عندما يكون لدينا، ولكنَّا نستطيع بعد ذلك. وليس علينا سوى تنقيح هذه النظرية بتمامها من غير حذف أو اختصار.
من الواضح أن ذلك ليس القصة كلها. فهي فيما يبدو، تتضمَّن أنه بعد التجربة لا توجد هناك صعوبة على الإطلاق في الحديث عنها، وأن التجربة عندئذٍ ليست «مما لا يُمكن وصفه» بأي معنًى. غير أن الكتابات كلها في موضوع التصوف توضِّح لنا أن المتصوِّفة يجدون بالفعل صعوبة كبرى في وصف، بل حتى في تذكُّر التجربة، ويميلون إلى القول بأنها لا يُمكن أن توصف. علينا الآن أن نتجه نحو حل هذه المشكلة الجديدة.
ومن هنا حتى نهاية الفصل، عندما أتحدَّث عن «التجربة الصوفية»، فلا بد أن يعرف القارئ أنَّني أتحدَّث عن التجربة الصوفية التي يتذكَّرها الصوفي.
دعنا نُحاول تقديم الافتراض الذي يقول إن استخدام الصوفي للغة يُشبه استخدام أي شخص آخر؛ فهو كثيرًا ما يستخدم كلمات هي أوصاف صحيحة ودقيقة. وهو بالطبع كثيرًا ما يستعين على ذلك باستخدام المجاز، غير أن ذلك هو ما يفعله كل مَن يستخدم اللغة من الناس، وهذا الاقتراح لا يمنع بالطبع من إمكان وقوعه في الخطأ فكثيرًا ما يُخطئ في أنواع شتى من العبارات. ومن هذه الزاوية أيضًا علينا أن نفترض أنه مثل الآخرين من الناس الذين قد يكونون جادين ومخلصين في نواياهم، لكن سوف يُطرح سؤال بالطبع، على أساس هذا الافتراض، هو: ما الذي يُصبح «لا يُمكن وصفه» بعد ذلك؟ ألسنا بذلك ننكره تمامًا؟ إن مشكلتنا هي تفسير الصعوبة التي يجدها الصوفي في اللغة، وليس إنكار وجود أيَّة صعوبة، ولكن هذه الأسئلة هي بالطبع حاسمة. ولن أقول الآن سوى أنَّني لا أُنكر لا وجود صعوبة مع اللغة عند الصوفي ولا جديَّتها، بل سوف أقترح بعد قليل تفسيرًا جديدًا لها، وإن كنتُ سوف أرجئ هذا التفسير لحظة؛ لأني أريد في البداية أن أُعيد فحص اللغة الفعلية التي يستخدمها الصوفي من هذه الوجهة الجديدة من النظر. إنَّنا قد نتعلَّم شيئًا من النظر إلى نوع العبارات والكلمات التي يستخدمها. ومن هذه الوجهة من النظر سوف أعود إلى بعض الاقتباسات التي تصف التجارب الصوفية التي سقناها في الفصل الثاني.
تُخبرنا «الماندوكا أوبنشاد» أن «الوعي الموحد» غير حسِّي، (أي إنَّه يُجاوز الحواس). وأنه وحدة «تُمحى فيها كل كثرة». وهذه العبارات تنطوي، بالطبع، على مفارقة واضحة، ويُمكن للقارئ الشاك أن يفترضها، لكن ليس ذلك هو المهم؛ فنحن نتساءل: ما نوع اللغة المستخدمة؟ فالنقطة الهامة عندي هي أنها لا تُشبه على الإطلاق لغة المجاز أو اللغة الرمزية؛ لأن المجازات والرموز تعتمد، بصفة عامة، على الصور الحسِّية. وفي حين أن اللغة هنا مجردة، و«غير الحسي» هو نفسه تصوُّر مجرد، فهو يفترض مقدمًا تصنيفًا للتجارب إلى تجارب حسِّية وغير حسِّية، وتضع التجربة الصوفية في الفئة الأخيرة. و«الوحدة» هي الأخرى تصور مجرد على أعلى مستوى وليست صورة حسِّية. ولن يعتقد أحد في استخدام كلمة «الوحدة» كمجاز لأي شيء. وتنطبق الملاحظات نفسها على العبارة التي تقول إنَّه في التجربة «تُمحى كل كثرة»، سواءٌ أكان ذلك صوابًا أم خطأً. فمن الواضح أن اللغة التي تُعبِّر عنها تقصد الوصف الحرفي، أو أنها على الأقل لا تُشبه لغة المجاز.
- أولًا: يستحيل تقسيم الأوصاف تقسيمًا حادًّا إلى سلبية وإيجابية، كما تفترض وجهة نظر الناقد. ربما كانت «الفراغ»، و«الخواء»، و«لا تمايز فيها واختلاف»، تحمل الطابع السلبي، لكن تأمَّل الأوصاف التي يُقدِّمها المتصوِّفة لتجربة فناء الفردية، تجد أنهم جميعًا — تقريبًا — يستخدمون عبارات مثل «تفنى»، و«تذوب»، و«تختفي» في اللامتناهي أو فيما هو إلهي. وكلمات «تذوب»، و«تفنى» هي بالطبع مجاز. غير أن اللغة الحرفية للتجربة سوف تقول — كما قال كويستلر بالفعل — إن «الأنا» أو الفردية تكف عن الوجود كذات منفصلة. فإذا قيل إن الكف عن الوجود بالنسبة لشيء ما يُرادف اللاوجود، ومن ثَم فهو سلبي، فلا بد أن ننكر منطق هذا القول؛ فالكف عن الوجود هو عملية إيجابية مثل البدء في الوجود تمامًا. فالموت إيجاب مثل الحياة تمامًا. فالسلب يتضمَّن الإيجاب باستمرار. ويقول المتصوِّفة الانبساطيون، عادة، إن لا شيء يموت، فهل «الموت» حالة إيجابية أو سلبية؟ لا شك أنه يعني «اللاحياة»، غير أن «الحياة» تعني كذلك «اللاموت».
- ثانيًا: الجانب الإيجابي من مفارقة الخلاء-الملاء، كثيرًا ما يوصف بكلمات إيجابية، مثل «الخير»، و«الخير الأقصى»، و«الخالق»، و«المقدس»، و«الإلهي»، أو مترادفاتها. ولا أستطيع أن أجد مبررًا للظن بأن هذه الأوصاف ليست مقصودة حرفيًّا. وكذلك، بالتأكيد، الكلمات المستخدمة لوصف الجانب الانفعالي من التجربة، فكلمات مثل «الغبطة»، و«الفرحة»، و«السعادة»، و«السلام»، إذا ما قيلت لكي تتخطى كل لغة، فإن ذلك لا يعني سوى أن هناك عنصرًا من الحقيقة في نظرية الانفعال التي أشرنا إليها من قبل. قد يُثار شك حول كلمة «الخلَّاق»، فقد نُسلِّم بأنها فكرة إيجابية، لكن قد يكون هناك شك فيما إذا كان المتصوِّفة يزعمون أنها جزء من التجربة، أو ما إذا كان من الممكن أن تكون هناك لغة لتؤكِّدها. ولا بد أن أُذكِّر الناقد بالأمثلة التي قدَّمتُها من قبل (القسم الخامس من الفصل الثاني)، وأن أقتبس مرة أخرى وصف «أوربندو» الذي يقول فيه «أولئك الذين نالوا السلام بداخلهم؛ في استطاعتهم، دائمًا، أن يُدركوا الإشباع الأبدي للطاقة التي تعمل في الكون، وهو ينبع من الصمت». وليس ثمة مبرر على الإطلاق لافتراض أن هذه لغة رمزية.
لا بد لنا الآن أن ننتقل إلى السؤال الحاسم الذي تركناه من قبل بغير إجابة، وهو: إذا ما أكَّدنا أن لغة المتصوِّف، رغم أنها تشمل بالطبع مشاركة لا بأس بها في المجاز، والغموض، والتباس الدلالة … إلخ هي أساسًا وصف حرفي وصحيح لما يمر به من تجارب، فما الذي يُصبح «ما لا يُمكن وصفه»؟ ألا يُمكن أن تكون نظريتنا إلى هذا الحد إنكارًا تامًّا له؟ لا بد أن نُحاول توضيح أن الأمر ليس على هذا النحو؛ فقد تعرَّفنا — على الأقل — على المشكلة وطرحناها على نحو يُبيِّن كيف يُمكن حلها.
ما الذي يكمن، إذن، في الفهم يجعله، أو يبدو أنه يجعله، عاجزًا عن الإمساك بالتجربة الصوفية؟ هناك إجابة واحدة محتملة فقط، وهي أن قوانين المنطق هي القواعد الخاصة بعمليات الفهم، لكن قوانين المنطق لا تنطبق على التجربة الصوفية. فهل ذلك هو جذر مشكلة المتصوِّف مع اللغة، لو صحَّ ذلك، فما هي طبيعته على وجه الدقة؟
يعتمد تشكيل التصوُّر على وجود كثرة من «س»، وعلى وجود كثرة من «ص»، ونحن لا نُنكر وجهة نظر عالم المنطق. إنَّه يُمكن أن يكون هناك مصدر لكائن فريد، أو حتى للفئة الفارغة. ومن الصعب سيكولوجيًّا أن تكون هناك هذه الفئات، إذا كانت التصوُّرات لا تُبنى في الأصل على أساس الكثرة في عددها.
- (١)
فعل الفرز (أو ملاحظة الفروق والاختلافات).
- (٢)
فعل تشكيل التصوُّرات (ملاحظة أوجه التشابه).
- (٣)
قواعد تنفيذ هذه الأفعال (أعني قوانين المنطق).
والنتيجة هي أنه يُمكن استخدام التصوُّرات على نحو صحيح، ومع ذلك عدم طاعة قوانين المنطق. وهذا هو ما يفعله المتصوِّف، فإذا ما قال عن تجربته «إنَّها س»، فهي عبارة صحيحة، أعني أنها تطبيق صحيح للتصوُّر «س»، فإذا أضاف بعد ذلك عن نفس التجربة «إنَّها ليست س»، فذلك أيضًا استخدام صحيح للتصوُّر، وما دامت التجربة تنطوي في باطنها، على مفارقة، فإن لها خصائص «س» و«لا س» معًا.
وهو في الواقع مخطئ، فالمفارقة التي نطق بها، وصفت تجربته وصفًا صحيحًا، فاللغة لا تنطوي على مفارقة إلا لأنَّ تجربته تنطوي على مفارقة. وهكذا نجد أن اللغة مرآة تعكس تجربته بطريقة صحيحة. لكنَّه ذكر في بداية تجربته أنها «س»، وفي اللحظة التالية وجد نفسه مضطرًا إلى أن يقول «إنَّها ليست س». ومن هنا فإنَّنا نراه يفترض أن عبارته الأصلية «إنَّها س» كانت خاطئة. وُقل مثل ذلك لو أنه بدأ بقوله «إنَّها ليست س»، ثم قال بعد ذلك «إنَّها س»، فالمفروض أنه كان مخطئًا عندما ذكر عن العبارة الأخير «إنَّها ليست س». وهكذًا أيًّا ما كان ما يقوله، فإنَّه يبدو له غير صحيح، طالما أنه باستمرار يتناقض معه. ومن هنا نراه يلوم اللغة.
ينبغي علينا أن نُلاحظ أن ما نُقدِّمه يُمكن أن نُسمِّيه — بمعنى ما — تفسيرًا سيكولوجيًّا للموضوع؛ فالمتصوِّف في قوله إنَّه لا توجد لغة يُمكن أن تُعبِّر عن تجربته يرتكب خطأ؛ لأنه يُعبِّر عنها في لغة كثيرًا ما تكون جيدة ومؤثرة للغاية. ومن ثَم فإن ما ينبغي عمله هو تفسير كيف وصل إلى ارتكاب هذا الخطأ. والتفسير لا يُمكن إلَّا أن يكون سيكولوجيًّا فقط. والتفسير — باختصار — هو أنه خلط بين ما تنطوي عليه التجربة الصوفية من مفارقة، وبين ما لا يُمكن وصفه. غير أن أساس هذا التفسير السيكولوجي يُكمن، بالطبع، في الصعوبة المنطقية للمفارقات.
وتتضمَّن واقعة الخلط بينهما أنه هو نفسه غير واعٍ بالخطأ الذي ارتكبه، وأنه هو نفسه لا يستطيع أن يُقدِّم تفسيرًا للموضوع الذي نُقدِّمه نحن هنا؛ فهو، في كثير جدًّا من الأحيان، فقير كعالم منطق، وفقير كفيلسوف، وفقير كمحلل. إنَّه لا يعرف جذور متاعبه مع اللغة، إنَّه يشعر — بغموض فحسب — أن شيئًا ما لا بد أن يكون فيما يقول، ويُصيبه ذلك بالارتباك. وما حالتُ أن أقوم به هنا هو محاولة تحليل ما يشعر به بقوة، لكنَّه لا يُرضيه ولا يتَّسق مع ما يقوله عن تجربته.
هناك اعتراض محتمل، يُمكن أن يُثار ضد نظريتنا، علينا أن نُلاحظه بإيجاز ونرد عليه. ألم نُسلِّم بأنه حيثما لا توجد كثرة لا يوجد تصوُّر ينطبق عليها، ومن ثَم لا توجد كلمات؟ لكن نظريتنا تتضمَّن أن هناك كلمات معينة تصف التجربة وصفًا حرفيًّا، ومن ثَم لا بد أن تُعبِّر عن تصوُّرات. وجوابنا هو أن التصوُّرات لا تنشأ إلا عندما يتذكَّر الصوفي تجربته، وليس أثناء مروره بها. والتجارب التي يتذكَّرها كثير من الأشخاص تُشبه بعضها بعضًا، وتُشكِّل فئة تُقابل أنواعًا شتى من التجربة غير الصوفية. ويُفسِّر لنا ذلك لماذا يُنظر إلى كلمات مثل «تجربة»، «ما لا يُمكن وصفه»، و«صوفية»، و«أنها كذا …» و«ما لا يُمكن معرفته» — التي تُثير مشكلة — على أنها يُمكن استخدامها، فهي لا تنطبق عليها إلَّا عندما تُصبح ذكرًى.