أولًا: النظرية الصوِّفية عن الأخلاق
هناك مشكلتان علينا مناقشتهما في دراستنا للعلاقة بين التصوف
والأخلاق. الأولى تتعلَّق بالمشكلة الرئيسية في الأخلاق الفلسفية،
وهي الإجابة عن السؤال: ما مصدر الحقوق والواجبات الأخلاقية؟ ذلك
لأنَّ دعوى المتصوِّف هي أنه أيًّا ما كانت الحقيقة الجزئية أو
النسبية التي يتضمَّنها مذهب المنفعة العامة، أو مذهب اللذة، أو
المذهب الحدسي في الأخلاق، أو مذهب الواجب، فإن المصدر النهائي
للقيمة الأخلاقية يكمن في التصوف نفسه. وكلمات مثل «المصدر»،
و«الأساس» هي في هذا السياق مجازية وملتبسة الدلالة؛ فهي قد تُشير
إلى المصدر السيكولوجي، كما هي الحال في النظريات التي تضع مصدر
القيم الأخلاقية، في الانفعالات، والرغبة، والنفور، وتفضيل شيء على
شيء … إلخ، أو قد تُشير إلى المبرر المنطقي، كما هي الحال في
محاولة كانط اشتقاق الأخلاق من المنطق. وعلى أيَّة حال، فالنظرية
الصوفية في الأخلاق تستخدم كلمة «مصدر» بالمعنى السيكولوجي.
وتؤكِّد أن التجربة الصوفية هي ذلك الجانب من التجربة البشرية
الذي تنبع منه المشاعر الأخلاقية. والتجربة هي أيضًا المُبرِّر
للقيم الأخلاقية، وهو ليس تبريرًا تجريبيًّا، بل منطقيًّا؛ ذلك
لأنَّ القيم الأخلاقية هي دلالة ما مرُّوا بتجربته على أنه الخير
الإنساني الأقصى.
والمشكلة الثانية التي نجد أنفسنا مدعوين لمناقشتها ليست فلسفية
بالمعنى الصحيح على الإطلاق. وربما كانت تاريخية أو اجتماعية. وهي
تُثير السؤال عن التأثير الفعلي للتصوُّف في الحياة الخيرة. أهو
يجعل الناس أكثر أخلاقًا أو أقل، أكثر نشاطًا في تقديم المساعدة
لإخوانهم من البشر في حب، أو يجعلهم أقل؟ أهو يعمل كباعث للحياة
النبيلة أم إنه لا يصلح أساسًا إلَّا كباب للهروب من مسئوليات
الحياة؟ وعلى الرغم من أن هذا السؤال ليس فلسفيًّا بالمعنى
الدقيق لهذه الكلمة، فهو مع ذلك لا يُمكن تجاهله، إذا ما أردنا
تقدير قيمة التصوف كعنصر في الثقافة الإنسانية. فلا شك أن له
علاقة — على الأقل غير مباشرة — بالإجابة التي سنقدِّمها عن السؤال
الأول الخاص بمصدر القيمة الأخلاقية؛ إذ يصعب قبول الزعم بأن
التصوف هو مصدر الأخلاق، إذا وجدنا أن تأثيره، من الناحية
العملية، في الحياة البشرية ليس تأثيرًا أخلاقيًّا. وسوف أناقش
هاتين المشكلتين بهذا الترتيب.
أساس النظرية الصوفية عن الأخلاق هو أن انفصال الذوات الفردية
يؤدي إلى الأنانية، التي هي مصدر الصراع، والجشع، والطمع،
والأنانية، والعدوان، والكراهية، والقسوة، والخبث، وغيرها من
الشرور والرذائل الأخلاقية. وهذا الانفصال يتم استبعاده في الوعي
الصوفي الذي تُلغى فيه جميع التمييزات. والمقابل الانفعالي الحتمي
لانفصال الذوات هو العداوة الأساسية التي تؤدي إلى «حرب الكل ضد
الكل»، التي أشار إليها هوبز. والمقابل الانفعالي الطبيعي للوعي
الصوفي هو أنه لا يوجد في الواقع الذي يعتقد الصوفي أنه
يُدركه، انفصال للأنا عن الأنت، ولا انفصال للهو عن الأنت؛ فالكل
واحد في الذات الكلية، أعني أن المقابل الانفعالي هو: الحب.
والحب بناءً على هذه النظرية هو الأساس الوحيد، والوصية الوحيدة
للأخلاق.
وطالما أن الغالبية العظمى من البشر لا تعترف بأنها قد بلغت
في أيَّة لحظة من اللحظات مثل هذه التجربة الصوفية، ربما تشكَّكوا
فيها جدًّا، ومع ذلك فأمثال هؤلاء الناس قد يكشفون عن محبة وعدم
أنانية، وقد يعيشون، بصفة عامة، حياة أخلاقية رفيعة، وها هنا نجد
هوة في هذه النظرية. فكيف يُمكن أن يكون مصدر قيمهم الأخلاقية
موجود في التجربة الصوفية، مع أنهم لم يمروا بمثل هذه التجربة
على الإطلاق؟ لا بد للنظرية أن تقول إن مشاعرهم الأخلاقية تنشأ
من تسرب لبعض الإحساس الوصفي الباهت في وعيهم المألوف، وهذا
الإحساس الصوفي كامن عند جميع البشر، ويؤثر في مشاعرهم وحياتهم دون
أن يعرفوه أو يفهموه. وبهذه الطريقة فإن أكثر الناس تخلفًا
وانحطاطًا عندما يكشف في حياته — فيما يتعلَّق بأطفاله وزوجته،
وأصدقائه، على سبيل المثال — عن مشاعر المحبة، والتعاطف، والرقة،
والإرادة الخيرة، فلا بد أن يُقال إن مصدر ذلك كله هو طبيعته
الصوفية، أو الإحساس الصوفي الكامن بداخله، دون أن يُدركه، والذي
ربما يبعد تمامًا عن مستوى سطح الوعي. ولا بد أن يُقال، لكي تكون
النظرية كاملة ومكتفية بنفسها، أنه ما لم يكن ذلك بسبب التصوف،
سواء كان كامنًا أو صريحًا، فلا يُمكن أن يكون هناك شيء اسمه الحب،
أو حتى مجرد الشعور الرقيق، في الحياة الإنسانية، بل ستُصبح الحياة
كما وصفها للأخلاق. ربما كان شوبنهور
١ (من بين البشر جميعًا!) هو الذي عبَّر عن عناصر
ميتافيزيقية جوهرية في النظرية في الفقرة التالية:
«الإنسان الذي … يرتفع بنفسه فوق الأشياء الجزئية، والذي يرى من
خلال تفرد الواقع … يرى أن الاختلافات بين مَن يُنزل العذاب
ومَن يتحمَّله اختلافات ظاهرية فحسب، ولا تتعلَّق بالشيء في ذاته.
فمَن يُنزل العذاب ومَن يتحمَّله هما شخص واحد. لو انفتحت
أعينهما، فمَن يُنزل العذاب، سوف يرى أنه يعيش في كل ما يحمله
العذاب من ألم.»
٢
ولم يكن «شوبنهور» نفسه متصوِّفًا، كما أن حياته الخاصة لم تكن
نموذجًا للفضيلة الأخلاقية، لكن فكره تأثَّر بعمق، بالتصوف
الغربي، كما مثَّله «يعقوب بوهيمي»، كما تأثَّر بالتصوف الشرقي
في الأوبنشاد والبوذية. ويظهر الأثر الكانطي، واضحًا، في الفقرة
السابقة، في استخدامه لتصوُّرات الظاهر والشيء في ذاته. وعلى الرغم
من أن وجهة النظر التي تقول إن عالم الزمان والمكان هو وهم، أو
مجرد مظهر، أو ظاهر فحسب، كثيرًا ما كانت مرتبطة بالتصوف؛ فهي
ليست بالضرورة عنصرًا من مكوناته؛ فمثلًا ليست هذه الفكرة سمة من
سمات التصوف المسيحي الذي يتجه بصفة عامة نحو الواقعية.
والتصوف عمومًا، يسير مع الواقعية مثلما يسير مع المثالية. ومن
ثَم فعلى الرغم من أن الفقرة السابقة لا تُعبِّر عن أساسيات
النظرية الصوفية الأخلاقية، فلن يضل القارئ إنْ هو افترض أن هذه
النظرة التي تقول إن عالم الحس مجرد ظاهر هي جزء ضروري من
التصوف.
قادنا بحثنا إلى تأكيد أن التجربة الصوفية ليست مجرد ذاتية،
وإنَّما هي تُجاوز الذاتية، فهي اتحاد مع الواحد، أو الذات الكلية،
التي هي أيضًا المصدر الخالق للكون. وإذا كان ذلك تأويلًا صحيحًا
للتجربة — فيما تقول هذه النظرية — تجد مصدرها في التجربة
الصوفية. لو كانت التجربة الصوفية ذاتية فحسب، لأدَّى ذلك إلى
نظرية ذاتية صوفية عن الأخلاق. وما يُسمَّى بالنظرية «الانفعالية»
في الأخلاق تذهب عادةً إلى أن الأخلاق مشتقة من الانفعالات،
وأنَّ الانفعالات ذاتية. ولا شك أنه سيكون من الممكن أن نستبدل
الشعور الصوفي أو التجربة الصوفية بالانفعال في مثل هذه النظرية.
وقد تكون للقيم الأخلاقية مصدرها في العناصر الصوفية في الطبيعة
البشرية. وهذا الجزء الصوفي من الطبيعة البشرية قد يكون ذاتيًّا
فحسب، لكن لم يكن، بالقطع، وجهة نظر عظماء الصوفية، ولا وجهة النظر
التي نوصي بها هنا. إن القيم الأخلاقية — فيما تقول النظرية التي
سوف أعرضها هنا — تنشأ من التجربة الصوفية، وهذه التجربة نفسها
نجد مصدرها في الواحد، أو في الذات الكلية، التي هي أساس العالم.
ومن ثَم فجزء من النظرية يقول بأنَّ القيمة الأخلاقية ليست شيئًا
بشريًّا فحسب، وإنَّما هي تعكس طبيعة الكون وتتأسَّس في هذه
الطبيعة، لهذا فإن النظرة المألوفة للمذهب الطبيعي التي تقول
إن العالم غير البشري مُحايد بالنسبة للقيم، أو هو لا يكترث بها،
نظرة ترفضها النظرية الصوفية.
الفعل الأخلاقي، أو الغيري، يمكن أحيانًا أن يبدو، وقد دفع إليه
الإحساس بالواجب، أو مبدأ الواجب، وليس الشعور بالتعاطف أو الحب،
نحو أولئك الذين يوجه إليهم. لقد امتدح كانط الإحساس بالواجب على
أنه المصدر الأصيل للأخلاق. ويهمنا ذلك لأنه يتعارض مع ما
تُكافح النظرية الصوفية من أجله، وهو القول بأنَّ الباعث على الفعل
الأخلاقي هو التعاطف أو مشاعر الحب. غير أن وجهة نظر كانط، في
رأينا، خاطئة؛ إذ أيًّا ما كان تفكير كانط، فسوف يبدو أن الإحساس
بالواجب يضرب بجذوره على نحو مطلق في مشاعر التعاطف؛ فالرجل
الحسَّاس سوف يشعر بتعاطف شديد نحو عذاب أولئك القريبين منه أو
المحيطين به أو الذين ينتمون إلى بيئته على نحو مباشر، لا سيما
أولئك الذين يوجدون أثناء حضوره المادي، لكن من الوقائع
السيكولوجية البسيطة، أنه حتى عند أفضل الناس، فإن هذه المشاعر
الانفعالية تتناقض نسبيًّا مع بُعد أولئك الذين يعانون العذاب. وفي
حالة التخطيط لإصلاح اجتماعي واسع، كإلغاء الرق مثلًا، أو إنشاء
مؤسسة عالمية تستهدف مناهضة الحرب، فإن مُنشئ هذه الأنشطة، أو
مَن يدعمها، لا يُمكن أن يرى رأي العين ألوان العذاب عند الآلاف
من، أو حتى ملايين الأفراد الغائبين والذين يبعدون مسافات طويلة
عنه. ومن ثَم فليست المشاعر الشخصية للتعاطف مستحيلة، وبالتالي
فلا بد للمرء أن يعمل بناءً على مبدأ مُستمَد من الواجب، وهو
المبدأ الذي يجعله يُعامل جميع الأفراد، حتى أولئك الذين لا
يعرفهم كما لو كان يشعر بحب شخصي نحوهم. والمبدأ هو امتداد
عقلي للشعور الذي قد يكون سببه هو أن العقل كلي ومستقل عن القرب
أو البعد، في حين أن الشعور جزئي ومحلي؛ فالرجل الذي يكون قلبه
من البرود والصلابة، لدرجة أنه يعجز عن التعاطف لأي موجود حسَّاس
في العالم، الرجل الذي يعجز عن الحب — لو كان هناك مثل هذا الرجل —
لن يكون لديه أبدًا إحساس بالواجب تجاه الغير الذي سحر كانط. وهذا
الإحساس بالواجب تجاه الآخرين يضرب بجذوره في الحب الأصيل،
والتعاطف الأصيل، وهو صورة عقلية وغير مباشرة له.
قد تكون واقعة مُسلَّم بها أن الحب والرأفة مشاعر هي جزء من،
أو مُصاحب ضروري، ومباشر للتجربة الصوفية. وأنَّ الحب يفيض من هذا
المصدر إلى قلوب الناس، ليتحكَّم في سلوكهم. غير أن ذلك في حد
ذاته لا يكفي لإقامة النظرية الصوفية عن الأخلاق؛ لأن هذه
النظرية تتطلَّب أن نُبيِّن لا فقط أن الحب يفيض من الوعي
الصوفي، بل إن ذلك الوعي هو المصدر الوحيد الذي يفيض منه الحب
إلى العالم. وإذا ما كان التصوف سيكون هو أساس الأخلاق، فإنَّه
سيكون عندئذٍ ينبوع الحب الوحيد، الذي هو مبدأ الأخلاق، ولا بد أن
يكون موجودًا في التجربة الصوفية. ولا يكفي أن نُبيِّن فقط أنَّ
التصوف هو أحد المصادر المتعدِّدة التي يأتي منها الحب إلى قلوب
الناس؛ إذ لو صحَّ ذلك لكان من الممكن أن يوجد الحب، والسلوك
الأخلاقي، والمبادئ الأخلاقية، حتى إذا لم يكن هناك تصوُّف على
الإطلاق.
والقول بأنه لا يوجد حب في العالم على الإطلاق لا يكمن مصدره
في التصوف، قولٌ — فيما يبدو — مستحيل، لكنَّه مع ذلك ضروري
للنظرية. غير أن المرء إذا ما أحبَّ أطفاله، أو أصدقاءه، فإنَّ
مشاعر المحبة تنشأ، فيما يبدو، على نحو طبيعي تمامًا في الموجودات
البشرية، بمن في ذلك أولئك الذين لم يدركوا بالتأكيد، في طبيعتهم
الخاصة، أيَّة عناصر صوفية، وفضلًا عن ذلك، فحتى الحيوانات تشعر
بالحب نحو صغارها، وتسلك سلوكًا غيريًّا نحوها. وسوف يكون ضربًا من
الخيال الأحمق أن ننسب مشاعر الحصان أو الكلب إلى التصوف! ومع
هذا فلم يكن ذلك يبدو حمقًا في نظر «أفلاطون»، فهناك فقرات هامة في
كتاباته توحي بأنَّ
كل شهوة،
وكل رغبة، من أي نوع، ولأي شيء، هي
عنده ظاهرة صوفية؛ فهو في محاورة «الجمهورية» يتحدَّث بغير شك عن
هذه الحالة في الموجودات البشرية فحسب، ويذهب إلى أن الخير، أو
الخير الأقصى
Summum Bonum هو ذلك
الذي «يوجد عند كل نفس بوصفه الغاية من كل سلوكها، ويشع في وجودها
على نحو مبهم، لكنَّه يرتبك ويعجز عن إدراك طبيعتها»،
٣ وهو في محاورة «المأدبة» يضع هذه الكلمات على لسان
«ديونيما» التي تسأل: «ما هو سبب الحب، يا سقراط، والرغبة المرافقة
له؟ ألم تر كيف تكون جميع الحيوانات، والطيور، بل والوحوش أيضًا،
في رغبتها للإنجاب تكون في حالة كرب، وصراع عنيف عندما تُصاب بعدوى
الحب؟ لماذا تكون لدى الحيوانات هذه المشاعر الطاغية؟ [ذلك بسبب]
أن الحب هو حب ما هو خالد … إذ تسعى الطبيعة الفانية بقدر
الإمكان إلى الدوام والخلود، ولا يتحقَّق ذلك إلَّا في النسل؛
لأنَّ النسل باستمرار يخلف وراءه وجودًا جديدًا يحل محل الجيل
القديم …»
٤ فمصدر كل شهوة — سواء في الإنسان أو الحيوان — هو
التعطُش لما هو خالد، وما هو خير، إلى
الواحد. وإذا ما أراد القارئ
أن يفترض أن أفلاطون انغمس في فكرة خيالية، أو هي تحليق لخياله
الحي، فله أن يفعل ذلك، لكن ذلك ليس هو التأويل الذي يأخذ به مؤلف
هذا الكتاب. صحيح أنه ليس من المؤكَّد ما إذا كان أفلاطون
متصوِّفًا، بمعنى أنه مرَّ مرورًا مباشرًا بالتجربة الصوفية.
رغم أن هناك مبرِّرًا على الأقل للارتياب في ذلك، فمن المؤكد
أن مذهبه الفلسفي عبارة عن خليط غريب من الأفكار العقلية
والصوفية. وفي الفقرات التي اقتبسناها من محاورتَي «الجمهورية»،
و«المأدبة» كان الشعور الصوفي هو الغالب.
ومهما بدت هذه الأفكار أمام القارئ خرافية، فإن النظرية
الصوفية عن الأخلاق، تضطر، منطقيًّا، إلى اتخاذ موقف التأكيد على
أن الحب (رغم أنه ليس من الضروري أن يكون كذلك أنواع الرغبة
الأخرى) سواءٌ عند الإنسان أو الحيوان، ينشأ من التجربة الصوفية،
سواء كانت علنية أو ضمنية. وبذلك لا تستطيع النظرية الصوفية أن
تؤكِّد نفسها إلَّا بافتراض أن التجربة الصوفية كامنة في جميع
الموجودات الحية، لكنَّها مطمورة، بعمق، في اللاشعور عند معظم
البشر وجميع الحيوانات، وهي تُلقي بآثارها على عتبة الوعي في صورة
مشاعر التعاطف والحب. وعندما نتحدَّث عن الحب أو التعاطف مع موجود
حي آخر، فإن ذلك يعني أنَّني أشعر بهذه المشاعر، كأن أُعاني
مثلًا عندما يُعاني، وأفرح عندما يفرح. وسوف تزعم النظرية الصوفية
أن هذه الظاهرة، تحطيم أولي وجزئي للحواجز والسدود التي تفصل
الذوات الفردية، وإذا ما اكتمل هذا التحطيم، فسوف يؤدي إلى هوية
فعلية بين «الأنا»، و«الهو». وهكذا يكون الحب هو تلمس الطريق على
نحو اختفاء الفردية في الذات الكلية، الذي هو جزء من ماهية
التصوف. إنَّنا لا نتعرَّف على مشاعر الحب عندنا على أنها
صوفية؛ لأن تجربة اتحاد جميع الذوات المنفصلة في ذات كونية
واحدة يخفى على معظمنا في هاوية اللاوعي، فالتجربة الموحِّدة توجد
مطمورة على عمق عظيم تحت عتبة الوعي عند بعض الناس أكثر من بعضهم
الآخر، في الشخصيات المادية والأنانية عنها عند الشخصيات الغيرية
والمثالية. ولا بد لهذا الافتراض أن يذهب أيضًا إلى أنها تكون
مدفونة عن الحيوان، على نحو يُجاوز كل احتمال لظهورها إلى النور.
ما دمنا لم نُقدِّم أي مبرر أو دليل أو حجة، حتى الآن، للإيمان
بما سوف يبدو اقتراحات متطرفة، فدعنا الآن ننظر فيما إذا كان هناك
أي مبرر قوي لافتراض أن الوعي الصوفي لا بد أن يكون كامنًا في
جميع الموجودات؟ سوف أحاول أولًا: أن أبيِّن أن ذلك صحيح — سواء
صراحة أو ضمنًا — في اعتقاد جميع المتصوِّفة. وسوف أحاول أن
أُبيِّن ثانيًا: أن هناك أُسس نظرية قوية تدعم هذا الاعتقاد. وفي
استطاعتنا أن نبدأ بإلقاء لمحة موجزة على المصادر المسيحية،
والهندوسية، والبوذية.
ما نُسمِّيه بالوعي الصوفي هو نفسه ما تُسميه «بوذية المهايانا»
بأسماء شتى، مثل: «طبيعة بوذا»، «ماهية العقل»، «رحم التاثاجرتا»،
٥ … إلخ. وماهية العقل — وهو المصطلح الذي استخدمه
«سيرنجاما سوترا» — كما تعني العبارة نفسها — ما هو مشترك بين جميع
العقول، أو العقل بما هو كذلك بمعزل عن تميِّزه في العقول الفردية.
وتؤكِّد «السوترا» أن «هذه الماهية الخالصة للعقل» «نحن
نتصوَّرها على أنها … «المخزن» أو العقل الكلي!»
٦ وهي توصف بأنها «خالصة» لأنها خالية من كل مضمون
تجريبي، ومن ثَم متحدة في هوية واحدة مع الأنا الخالص أو الوعي
الخالص، الذي عرفنا في مكان آخر أنه موجود عندنا جميعًا. وفضلًا
عن ذلك فإن النظرية البوذية تسير مع هذه النظرة إلى نتيجتها
المنطقية باتساق صارم لا يستثني ذهن الحيوان؛ لأن ما هو ماهية
الوعي سوف يكون جوهريًّا لكل وعي، سواء عند الإنسان أو الحيوان،
فالقط لديه كذلك طبيعة بوذا؛ لأن طبيعة بوذا ليست سوى تلك الوحدة
الخالصة التي لا تمايز فيها ولا اختلاف، والتي تُجاوز كل كثرة، وهي
ماهية النوع الانطوائي من الوعي الصوفي أينما وجد. إن وعي القط
هو «وحدة»، ومن ثم فهو — إن استطاع «أن يمحو كل كثرة» — يتخلَّص
من كل مضمون تجريبي، وما يتبقى لن يكون سوى وحدة خالصة التي هي
طبيعة بوذا.
هناك نظرية في الفكر الهندوسي تقول إن الوعي الصوفي موجود،
بطريقة كامنة، فينا جميعًا، وهو يظهر — وهذه النظرية تظهر كموضوع
رئيسي في «الأوبنشاد» — في القول بأنَّ الذات الفردية تتحد في هوية
واحدة مع الذات الكلية. فنحن لا نُصبح متحدين في هوية واحدة مع
براهمان في تجربة الاستنارة؛ فنحن الآن، وقد كنَّا باستمرار —
متحدين في هوية واحدة مع براهمان، غير أن وعينا العقلي، الحس
المألوف، لا يدرك هذه الهوية، فما يحدث في تجربة الاستنارة هي
الحقيقة. وبعبارة أخرى: إنَّنا نتحقَّق بالفعل مِمَّا كان باستمرار
كامنًا في طبيعتنا.
فهل في استطاعتنا أن نتعقَّب مثل هذه الفكرة في التصوف
المسيحي؟ إنَّنا نستطيع — إن لم أكن مخطئًا — أن نتعرَّف عليها،
بوضوح تام، عند «إيكهارت» في نظريته عن «قمة الروح» أو ذروتها،
فهذه القمة أو الذروة التي يُسمِّيها «إيكهارت» أيضًا «محور»
و«ماهية» الروح، و«الومضة الإلهية»، لا توجد عند المتصوِّفة وحدهم،
بل عند البشر جميعًا. وهي تتحد في هوية واحدة مع ماهية العقل، أو
مع طبيعة بوذا في «مدرسة الهمايانا». فما يُنجزه الصوفي — فيما
يقوله إيكهارت — يعتمد على دخوله إلى أعماق روحه بعد أن يتخلَّص من
كثرة الإحساسات، والصور، والأفكار وغيرها من المضامين التجريبية.
وينتج من ذلك — رغم أن إيكهارت لم يقل ذلك بوضوح — أن كل
إنسان يستطيع أن يُنجز الوعي الصوفي لو أنه استطاع فقط أن
يتخلَّص مِمَّا لديه من كثرة المضامين التجريبية. وهذا القول
يُرادف قولنا إن التجربة الصوفية كامنة في جميع الموجودات
البشرية. ولا يُمكن أن نتوقَّع بالطبع من الرجل المسيحي في العصر
الوسيط أن يمد النظرية إلى مملكة الحيوان، طالما أن اعتقاده
بأنَّ الإنسان خلقٌ خاصٌّ «لله» بعيدًا عن الحيوان، سوف يمنعه من
ذلك. ولم تتأثَّر البوذية، بالطبع، على الإطلاق بهذا
الإيمان.
وهكذا فإن وجهة النظر التي تقول إنَّنا مضطرون لاعتناق النظرية
الصوفية، أعني أن الوعي الصوفي كامن، على الأقل، عند جميع البشر،
هو ما يقوله متصوِّفة الشرق باستمرار وبغير تحفظ، وهو أيضًا ما
تتضمَّنه معتقدات معظم متصوِّفة المسيحية المتفلسفين. وما علينا
بيانه الآن هو أن هناك مبررات تاريخية قوية للإيمان بأنَّ هذه
النظرية صحيحة. والواقع أن ذلك ينتج مما سبق أن ذكرناه، أعني
أن الوعي الصوفي الانطوائي ليس سوى إبراز الأنا الخالص، أو
الوحدة الخالصة، إلى النور، وهو الذي يكمن خلف كل وعي. وإذا كان
ذلك كذلك، فلا بد أن تكون التجربة الصوفية، بالضرورة، كامنة في
جميع الموجودات الذي يملكون مركزًا موحدًا للوعي. والواقع أن أي
وعي حسي عادي يتضمَّن وحدة لعناصر كثيرة ومنفصلة. إنَّ
الإحساسات، والصور، … إلخ موجودة معًا في وحدة وعي واحد.
والتجربة الصوفية هي ببساطة التحقق الفعلي للوحدة بعد اختفاء
التعدد، ويصدق ذلك تمامًا على القط أو القرد بقدر ما يصدق على
الإنسان. ذلك يعني أنه يعني أنه لا بد أن يكون للحيوان أيضًا
وعي يجمع التعدد في وحدة.
قد يسأل سائل: ما الدليل التجريبي الذي يُمكن أن نسوقه لدعم
القضية التي تقول «إن الوعي الصوفي كامن في ذهن الحيوان»؟ يبدو
لي أنه على الرغم من أن الدعم التجريبي طفيف، فهو مع ذلك ليس
منعدمًا تمامًا. فربما انحدر «ألبرت أينشتين» من أسلاف تشبه
القردة. فلا بد أن يفترض المرء أنه مهما يكن الموجود في العقل
البشري، فقد تطوَّر من عقول أسلافنا من الحيوان بعمليات تطورية
طبيعية. وبهذا المعنى فإن عبقرية «أينشتين» العلمية والرياضية
كانت كامنة في عقل الحيوان. وما يصدق على «أينشتين» سوف يصدق كذلك
على «بوذا»، و«القديسة تريزا»، و«إيكهارت». وقد كانت «طبيعة بوذا»
كامنة في الحيوان لنفس السبب البسيط الذي يجعل بوذا نفسه قد انحدر
من الحيوان.
تستهدف هذه المناقشة إلى إظهار أن من الممكن تأكيد أن الحب،
والمحبة، والتعاطف، يُمكن أن يكون مصدرها كامنًا في الوعي الصوفي
حتى عند أولئك الناس الذين لا يدركون وجود أي نوع من الوعي في
أنفسهم أو عند الآخرين. وأنه حتى الحب عند الحيوان قد يكون له
المصدر ذاته، لكن ما وصلت إليه مناقشتنا حتى هذه اللحظة لم يظهر —
ما رأيناه ضروريًّا للنظرية — أن الوعي الصوفي هو المصدر الوحيد
الممكن. وباختصار، لا يُمكن أن يكون هناك حب في الكون يُمكن أن
ينشأ عن أي مصدر آخر.
الشيء الوحيد الذي يُمكن أن نقوله في هذا الموضوع هو، على ما
أعتقد، أن النظرية الصوفية عن الأخلاق، ليست في وضع أسوأ، من هذه
الزاوية، من أيَّة نظرية أخرى عن الأخلاق. والمشكلة التي ينبغي أن
تواجهها النظرية الصوفية ليست سوى القول بأنَّ النظرية لا بد ألَّا
تُقدِّم فقط تفسيرًا لنفسها متسقًا ذاتيًّا، والحجج التي تُقال
لصالحها فحسب، بل لا بد أيضًا — لو كنَّا سنقبلها على أنها حقيقة
معروفة — أن تدحض جميع النظريات المنافسة؛ إذ لا بد أن تُبيِّن
أن كل ما قالته النظريات الأخرى قد فشل في تحديد الموضع الذي صدر
عنه الإلزام الخلقي، لكن المطلب ذاته يُمكن أن يُطلب من أي نظرية.
والطريقة الوحيدة التي يُمكن أن يُحاول بها المرء تلبية هذا
المطلب، هو دحض جميع النظريات الأخرى دحضًا نظريًّا. وسيكون من
الخُلف المحال أن نشرع في هذه المهمة هنا، طالما أن ذلك سوف
يتضمَّن كتابة بحث عام عن الأخلاق. ونتيجة هذه الملاحظات هي أنَّ
النظرية الصوفية، كغيرها من النظريات المعارضة، لا بد أن يُنظر
إليها على أنها افتراض بين افتراضات أخرى. ومن ثَم فهي لا يُمكن
أن تبلغ مبلغ اليقين. وقد يكون للصوفي إحساسه الخاص باليقين
الذاتي، لكن الفيلسوف الذي ليس متصوِّفًا لا يستطيع أن يُشاركه في
ذلك. إذ لا بد أن تبقى النظرية بالنسبة له مجرد افتراض. وربما زعم
المرء، في النهاية، أن النظرية الصوفية، تستعيد للأخلاق مرة
أخرى، الأساس الذي كان قد ضاع، على الأقل في الغرب، لعدة قرون،
للنظرة الدينية إلى العالم.
لم أُحاول أن أُبيِّن أثناء هذه المناقشة أن النظرية الصوفية
صادقة، لكني حاولت فحسب أن أوضح، إلى حد ما، ما هي هذه النظرية،
وماذا تعني، وما الذي تتضمَّنه، وما هي الصعوبات التي تواجهها؟
وسوف نرى أن هذه الصعوبات ضخمة جدًّا، وتُشكِّل بالتأكيد مصدر
توتر عظيم في إمكان الإيمان بها، وأنَّ ذلك لا يستتبع أن ترفضها.
وربما أنجزنا في هذا النقاش ما هو أكثر من التوضيح المحض. فهذا
الجانب من النظرية الذي يؤكِّد أن الحب والشفقة أو الرحمة، هما
أجزاء بالفعل من الوعي الصوفي ينبغي قبولها على أنها صحيحة، ما
دام أصحاب هذا الوعي قد قالوا بها. وينتج من ذلك أن الحب يفيض
منها إلى العالم، ويكون مصدرًا للسلوك الأخلاقي. وسوف ينتج ذلك،
حتى لو رفضنا قبول أفكار النظرية المتعلقة بإمكان الوعي عند
الحيوان. وقد تركنا هذا النقاش، على الأقل، مع التأكيد بأنَّ الوعي
الصوفي يجب أن يكون، بالنسبة لأصحابه، باعثًا قويًّا، ودافعًا نحو
الأخلاق، ومن ثم نحو السلوك الاجتماعي.
ثانيًا: التصوف والحياة الخيِّرة عمليًّا
أشرتُ في الفقرة الثانية من هذا الفصل إلى أن هناك مشكلتين
تحتاجان إلى المناقشة في دراستنا للعلاقة بين التصوف والأخلاق.
وكانت المشكلة الأولى هي النظرية الصوفية عن الأخلاق. ولقد قلتُ في
هذه المشكلة ما استطعت قوله. أمَّا المشكلة الثانية فهي السؤال
التاريخي والاجتماعي في الأثر الذي يتركه التصوف بالفعل في
الحياة الطيبة أو الخيِّرة. أو هو يتجه حقًّا إلى جعل الناس أفضل؟
ولقد ذكرت أنه على الرغم من أنها ليست مشكلة فلسفية بالمعنى
الدقيق لهذه الكلمة، فإنَّنا لو أجبنا عنها بالنفي، أي لو بيَّنا
مثلًا، أن التصوف، يُحبط، بدلًا من أن يدفع، السلوك الأخلاقي،
فلا مندوحة عن أن ينعكس ذلك بالأثر الضار على الزعم النظري الذي
يقول إن التصوف هو مصدر الأخلاق. وأنتقل الآن، من ثَم، إلى
هذه المشكلة الثانية.
ربما كان أكثر الاتهامات الأخلاقية شيوعًا ضد التصوف، هو أنه
من الناحية العملية هروب من الواجبات العملية للحياة إلى ضرب من
الوجد الانفعالي للغبطة، أو هو من ثَم نوع من الأنانية يُستمتع به
لذاته. والتجربة الصوفية — من هذه الوجهة من النظر — لا يسعى
إليها المتصوِّف إلَّا من أجل ما تجلبه معها من مشاعر السلام،
والغبطة، والفرحة. وينغمس الصوفي في مياه الانفعالات اللذيذة، وليس
ذلك سوى فرار من الحياة، ومن الأعمال المُلِّحة في العالم. وقد
يقول المتعمقون في علم النفس إن ما يُحاول المتصوِّف «حقًّا» أن
يقوم به هو الارتداد إلى رحم الأم الدافئ. وأنا هنا أُحاول أن أضع
النقد في أقوى ألفاظ ممكنة، وربما بالغت فيه، حتى إنَّك لن تجد
أحدًا مِمَّن لهم أدنى اهتمام بتاريخ التصوف يوافق عليه، لكن
سواء عبَّرنا عن النقد بلغة قوية أو ضعيفة، فإن جوهره، بدرجة
كبيرة أو صغيرة، هو أن الصوفي يسعى إلى خلاصه الخاص، وسعادته،
بطريقة أنانية، في حين يُعاني غيره من الناس دون أن يُقدِّم لهم يد
العون.
ولقد كان من الشائع توجيه مثل هذا النوع من الاتهام إلى التصوف
الهندي بصفة خاصة؛ إذ يذهب الناقد الغربي عادةً إلى أنَّ
المتصوِّفة المسيحيين قد كرَّسوا جهدهم للسعي إلى رفاهية الناس
بطريقة غير أنانية، في حين أن المتصوِّفة الهنود لا يفعلون ذلك؛
فالحضارة الهندية، كما يزعمون، قد اتجهت بصفة عامة إلى التعرُّف
على حق المتصوِّف في اعتزال الحياة العملية في الغابات أو في أي
مكان يشاء، ولا يُكرِّس نفسه إلَّا إلى الوجد في تأملاته. وكثيرًا
ما يُقال إن هناك رابطة بين هذه النزعة، والواقعة التاريخية التي
تقول إن الحضارة الهندية — إلى أن وقعت تحت تأثير الغرب — كانت
راكدة، وأنَّ المثل الأعلى لتخفيف البؤس عن طريق الإصلاح الاجتماعي
لم يضرب بجذوره في العقل الهندي.
ومن الصعب جدًّا تقييم اتهامات غامضة من هذا القبيل التي توجِّه
إلى حضارة كاملة، تقييمًا موضوعيًّا ونزيهًا، لكني سوف أسوق
ملاحظات قليلة حول هذا الموضوع. لا بد لنا أن نلاحظ
أولًا أنه
كان من عادة المتصوِّف الهندي باستمرار أن يُحاول نقل الشعلة من
رجل إلى رجل، من خلال المُعلِّم الروحي، أو الأشرم
Ashram،
٧ وهو بذلك يسعى إلى إظهار طريق الخلاص الذي وجده أمام
الآخرين. فهو يعلم ما يتصوُّر أنه الحياة الطيبة أو الخيِّرة.
ولا يُمكن أن نُسمِّي هذا النشاط
أنانية.
وعلينا أن نلاحظ ثانيًا أن الرجل الهندي يتجه إلى البحث عن
مجموعة من القيم، مختلفة عن قيم الرجل الغربي، فللحياة الروحية
عنده قيمة أعلى بكثير من مجرد إشباع الحاجات المادية، أو حتى من
تخفيف ألوان العذاب المادي. ومن ثَم فإن نقل شعلة الحياة
الروحية إلى غيره من الناس هو السلوك الغيري الأعلى، الذي يستطيع
المتصوِّف الهندي أن يقوم به. وأخيرًا: هناك اختلاف في الفلسفات
الأساسية بطريقة أخرى. فالناس في الغرب يعتقدون أن من الممكن،
نظريًّا، إزالة أو على الأقل تخفيف البؤس المادي من خلال تخطيط
للإصلاح الاجتماعي. غير أن «بوذا» علَّم الناس أن العذاب
مُلازم للحياة، ولا يُمكن إزالته عن طريق أي سلوك، بالغًا ما بلغ
انفصال الفرد عن غيره من الناس؛ فالعذاب هو نتيجة للتناهي، ومن
ثَم لا يُمكن التخلص منه عن طريق الموجودات البشرية. والطريق
الوحيد للتخلُّص من التناهي، هو مد الشخصية حتى تلتحم مع
اللامتناهي. ولقد وافق العقل الهندي، بصفة عامة، على ما يقوله
بوذا، ومن هنا لم يكن لديه سوى إيمان ضئيل، في الماضي، في خطة
الإصلاح الاجتماعي. ومع ذلك، فعلى الرغم من أن «بوذا» كان على
حق، في اعتقاده أن البؤس ملازم للتناهي، ومن ثَم لا يُمكن
التخلص منه تمامًا، بينما يبقى التناهي، قائمًا، فقد بيَّن لنا
التاريخ أنه يُمكن التخفيف منه أو تلطيفه، وأنَّ ذلك جدير
بالاعتبار. وهذا هو المُبرِّر العقلي لخطط الإصلاح، والسلوك الغيري
بصفة عامة. ولقد أدركتْ الهند في يومنا الراهن هذه الحقيقة.
وهكذا نجد أن «برود» الحضارة الهندية في الماضي نحو الإصلاح
الاجتماعي، والمثل الأعلى في مساعدة الفقراء والتعساء، لا يرجع كله
— كما يعتقد النُّقَّاد الغربيون — إلى قسوة الفؤاد، والافتقار إلى
الحب، بل يرجع أساسًا إلى معتقداتها الفلسفية. وهذا أيضًا ما
تُبرهن عليه واقعة أن «بوذا» لم يعظ فحسب بالحب الكلي والشفقة
العامة بالنسبة لجميع الموجودات، بل مارسه بالفعل، ومع ذلك فقد
عبَّر عنه في حياته على المستوى الروحي تمامًا تقريبًا، وليس على
المستوى المادي. وسر «غاندي» من ناحية أخرى يُشبه سر «بوذا» — رغم
إلهامه الأساسي — من حيث إنه أتى من المستوى الروحي — ومن هذه
الزاوية ظلَّ هنديًّا لحمًا ودمًا — ومع ذلك فقد أدرك أن تخفيف
المعاناة والعذاب، وليس القضاء عليهما، هو ما يُمكن عمله على
المستوى المادي، ويُمكن إنجازه عن طريق السلوك الاجتماعي والسياسي.
وهذا ما يفهمه، ليس غاندي وحده، بل الهند بصفة عامة. وهذه الحقيقة
التي يُمكن أن نجد أكمل تعبير عنها في حياة غاندي نفسه، لا بد من
النظر عليها على أنها واحدة من الأمثلة التي تدعو إلى التفاؤل في
سبيل الوصول إلى مُركَّب من فلسفات، وقيم، الشرق والغرب، وهو ما
ينبغي علينا جميعًا أن نسعى إليه. والحجم الهائل لغاندي يعود، في
جانب منه، إلى محاولته أن يجمع في شخصيته، كل ما هو عظيم، ونبيل،
وقوي، في الشرق والغرب معًا.
ربما كان «بوذا» هو الشخصية المثالية للمتصوِّف الهندي. صحيح
أنه ترك أسرته في شبابه وراح يبحث عن الاستنارة في عزلة، لكن
لاحظ أنه عندما بلغ الاستنارة، لم يظل في عزلته في الغابة
ليستمتع بغبطته، لكنَّه على العكس، عاد إلى عالم البشر ليؤسس
ديانته، ولينشر في الناس جميعًا طريق الخلاص. وظلَّ لأربعين سنة،
أو أكثر، في وعي «النرفانا» الذي بلغه، ومع ذلك عاش وسلك في عالم
الزمان والمكان، ولهذا فقد كتب «أوربندو» يقول «كان من الممكن
لبوذا أن يبلغ مرحلة النرفانا، ويعمل مع ذلك بقوة في العالم،
بطريقة لا شخصية في وعيه الباطني، أمَّا في سلوكه فهو شخصية بالغة
القوة، يُمكن أن نعرفها، ونعرف النتائج التي أحدثتها في العالم.»
٨
ومع ذلك، فربما كان من الخطأ أن تنكر أن هناك بعض الحقيقة في
المقابلة بين القبول السلبي للشرور الاجتماعية في التاريخ الماضي
للهند، والكفاح الإيجابي ضدها في الغرب، أو الذي قام به الغرب على
الأقل في العصور الحديثة، لكن كيف يُمكن أن نُبيِّن أن اللوم في
ذلك يقع على عاتق التصوف الهندي؟ إن الاحتمال الأكثر ترجيحًا
هو أن المناخ كان السبب الرئيسي؛ فالحر القائظ يؤدي إلى الخمول
والسلبية، بينما الطقس البارد يبعث على النشاط. والافتراضان معًا —
القول بأنَّ التصوف هو السبب، والقول بأنَّ الطقس هو السبب —
ربما كانا إسرافًا في التبسيط؛ فليس هناك ما يُسمَّى السبب في
خصائص مجتمع بأسره، أو ديانة بأسرها، ففي أمثال هذه الحالات، لا بد
أن يكون هناك تجمع هائل من الأسباب المشروطة. ومن الخُلف المُحال
أن نلتقط عاملًا واحدًا في الحضارة الهندية، وننسب إليه أمراض
الأمة كلها.
لقد سقنا حالة «بوذا» كمثال بوصفه الرجل الذي صبَّ في الخدمة
النشطة للجنس البشري، تلك الشفقة والرحمة التي تلقاها كجزء من
تجربة الاستنارة. والمثل الأعلى للقديس في بوذية المهايانا هو
«بوذا المنتظر»، وهو الشخص الذي بلغ مرحلة الاستنارة، واكتسب الحق
في ألَّا يولد من جديد، بل أن ينتقل بعد الموت إلى النرفانا
الأخيرة، ومع ذلك فهو يتنازل عامدًا عن هذا الحق. ويعود مرة ومرة
إلى التناسخ من جديد لكي يُساعد تلك الأرواح المتخلفة في طريق
الخلاص. وربما اعتقدنا أن النذر الذي نذره بوذا المنتظر، بألَّا
يدخل أبدًا مرحلة النرفانا الأخيرة حتى تدخلها قبله جميع
الموجودات الأخرى، نشتم منه رائحة مسرحية، كما لو كان يريد أن يجعل
من عدم أنانيته دراما. ومع ذلك فليس في استطاعتنا أن نقول إنَّ
المثل الأعلى هنا ليس الهروب الأناني، أو الفرار من الواجبات
العملية. بل على العكس إنَّه المثل الأعلى نفسه الموجود عند
متصوِّفة المسيحية، أعني الاستمتاع بالغبظة الصوفية، لا كغاية في
ذاتها، بل بغرض أن تنصب ثمارها في خدمة الحب للجنس البشري. وذلك هو
المثل الأعلى في بوذية المهايانا. أمَّا إلى أي حد طبَّق البوذيون
والمسيحيون ما يعظون به، عمليًّا، فتلك، بالطبع، مسألة
أخرى.
لكن ربما كانت صيحة الحيادية الأخلاقية هي التي يُثيرها
النقَّاد الغربيون ضد المُثل العليا الهندوسية أكثر من متصوِّفة
البوذية. ويبدو أن جذور السؤال هي ما إذا كان يُنظر إلى الغبطة
والسلام في الوعي الصوفي كغاية في ذاتهما، بحيث يُمكن للصوفي الذي
يبلغهما أن يستريح على اعتبار أنه وصل إلى الهدف النهائي. أو
أنه يعتقد أن التجربة هي أساسًا وسيلة لخدمة المحبة النشطة.
يُقابل «بروفيسور زينر» في كتابه «التصوف المقدس والدنس» من هذه
الزاوية بين متصوِّفة التأليه في الغرب — مسيحيين ومسلمين — وبين
«سنكارا»؛ إذ أن «سنكارا» — فيما يقول — مع «براهمان» ينبغي أن
يستريح فيها بوصفها غايته.
ومن المؤكَّد أن هناك بعض الحقيقة في هذه المقابلة؛ فقد مال
متصوِّفة الهندوسية إلى أن يكونوا أعلى، روحيًّا وتأمليًّا، من
متصوِّفة الغرب، لكنَّهم يفتقرون إلى الحمية الأخلاقية الموجودة
عند الأخيرين. وخطر البقاء، بطريقة أنانية، في التأمُّل الصوفي،
تعرف عليه متصوِّفة المسيحية، بوضوح أكثر مِمَّا فعل متصوِّفة
الفيدانتا، أو الأفرع الأخرى من التصوف الهندوسي. فقد كتب
إيكهارت مثلًا يقول:
«ما يناله الشخص في التأمُّل لا بد أن يسكبه في
الحب،
فإذا ما مرَّ المرء بتجربة الغيبة التي مرَّ بها القديس
بولس،
وإذا ما عرف أن شخصًا يحتاج إليه في شيء ما،
فأنا أعتقد أن من الأفضل كثيرًا، أن يترك
الغيبة
بدافع الحب، وأن يُلبِّي حاجة المحتاج.
إن من الأفضل أن تشعر بالجوع من أن ترى حتى رؤى القديس بولس.»
٩
وكتب في فقرة أخرى يقول:
«إن مَن يبعدون عن «المشاعر» وعن «التجارب العظيمة»، ويرغبون
فقط في هذا الجانب السار: فإن ذلك يعني أنهم يريدون أنفسهم،
ولا شيء أكثر من ذلك.»
١٠
ولقد عبَّر «روز بروك» عن اليقين نفسه بأنَّ التجربة الصوفية
العليا لا بد أن تفيض بالحب الذي يسري منها إلى العالم. كتب يقول:
«الإنسان الذي أرسله الله ليهبط من الأعالي … وهو يمتلك
تربة ثرية سمحة، مستمدة من ثراء الله: لا بد لهذا الإنسان
أن يبذل نفسه باستمرار من أجل أولئك الذين يحتاجون إليه …
وبذلك يمتلك الحياة الكلية؛ لأنه على استعداد كذلك
للتأمُّل والفعل، وأن يصل إلى الكمال فيهما معًا …»
١١
وتُعلمنا العبارة الأخيرة من هذه الفقرة «لروز بروك» درسًا
هامًّا؛ فعلى الرغم أن غبطة الوعي الصوفي إذا ما أُخذت بمفردها
مفصولة عن ثمارها في السلوك ليست غاية في ذاتها، ومعالجتها على هذا
الأساس هو الخطأ الذي أخذه بروفيسور «زينر» على «سنكارا»، فإنَّ
ثمارها في السلوك ينبغي ألَّا تُعامل أيضًا على أساس أنها غاية
في ذاتها، بحيث يكون الوعي الصوفي مجرد وسيلة إليها. فما هو غاية
في ذاته فحسب هو الحياة الكاملة أو «الخير الأقصى
Summum Bonum»، أمَّا الموقف
الشامل للوعي الصوفي فإنَّه ينسكب في خدمة المحبة للجنس البشري.
وتلك هي، فيما يقول «روز بروك»: «الحياة الكلية، التي يكون فيها
على استعداد كذلك للتأمُّل والفعل، ليصل إلى الكمال فيهما معًا …»
إن معالجة الاستنارة كمجرد وسيلة لغاية هي الفعل مِمَّا يؤدي في
النهاية إلى معالجة الأشياء المادية على أنها أعلى من الأمور
الروحية، ومن ثَم يؤدي إلى مجموعة من القيم الزائفة. إن حياة
الروحي ينبغي ألَّا تنحط إلى مستوى الوسيلة المحض للرفاهية المادية
أو للنجاح الدنيوي.
القوة الأخلاقية لمتصوِّفة المسيحية هي بالتأكيد أكثر روعة من
الحياة الأخلاقية عند متصِّوفة الهندوسية أو أي متصوِّفة آخرين في
العالم. وها هنا تكمن القوة العظيمة للتصوُّف المسيحي، التي لا
تكمن في العمق النظري الخالص، ولا في العمق الروحي الخالص. ويبدو
لي أن علينا أن نمنح غصن الزيتون لمتصوِّفة الهند، وربما
لمتصوِّفة الشرق بصفة عامة. والسؤال: أكانت الأنشطة الأخلاقية
والاجتماعية عند متصوِّفة المسيحية قيمة عملية كبيرة بالنسبة
لإخوانهم من البشر؟ الإجابة موضع شك. لقد قضت «القديسة تريزا»
حياتها في تأسيس الأديرة وإصلاحها، لكن ليس من المنتظر أن ينظر
المُصلح الاجتماعي الحديث والمحب للبشر إلى ذلك على أنه عمل
رائع. مع أن هذا النوع من الأنشطة كان بغير شك هو تصوُّر العصور
الوسطى لأعلى فضيلة مسيحية. وإن كان علينا أن نضع العصر في
اعتبارنا.
غير أن الأهمية الحقيقية تُصبح غامضة بسبب نزاع المتعصبين بين
الشرق والغرب، أو بين ثقافة وأخرى. ولو أنَّنا تأمَّلنا الموضوع
العام للحياة الروحية أو للتصوُّف، والسلوك الاجتماعي، فإن
السؤال الهام هو ما إذا كان التصوف بما هو كذلك، أينما وجد،
يُشكِّل بالضرورة وبطبيعته نزعة هروبية: أي طريقة للاستمتاع
الأناني بالغبطة، في الوقت الذي يتجنَّب فيه واجباته نحو إخوانه من
البشر؟ ولقد أظهرتنا المناقشة السابقة على ما في ذلك من تشويه
للحقيقة. صحيح أن الشخص الذي يمر بتجربة صوفية. يُمكن أن
يُعالجها كوسيلة للمتعة الأنانية. ولا شك أن ذلك كثيرًا ما يحدث.
لكن ذلك ليس سوى سوء فهم للتصوُّف، وليس جزءًا من طبيعته الجوهرية.
وربما كان هناك سوء فهم لخصائص أي مثل أعلى، وربما صورة تحط منه.
فمثلًا حكم الغوغاء هو خاصية الشر الذي تميل إلى تشويه صورة المثل
العليا للديمقراطية، ويميل المثقفون إلى الانحطاط إلى مستوى
الحذلقة. ويسقط الدين في الكهانة، لكن من الأهمية القصوى أن نفهم
أنه لا يوجد مثل أعلى يحكم عليه من سوء استخدامه أو فهمه، بل
بالأحرى من الطبيعة الملازمة له؛ فطبيعة الديمقراطية، أو مثلها
الأعلى، ليس حكم الغوغاء. والمثل الأعلى للمثقفين ليس هو الحذلقة.
والمثل الأعلى للدين ليس هو الكهانة. وكذلك المثل الأعلى للتصوُّف
ليس هو النزعة الهروبية. وربما كان في استطاعتنا أن نستخدم هنا
فكرة الإغراء المستمر. فلا شكَّ أن الإغراء المستمر للصوفي هو
الاستمتاع بتجارب الوجد لذاتها، والانغماس فيما أسماه القديس يوحنا
حامل الصليب «الفهم الروحي»، لكن ينبغي ألَّا ننحو باللائمة على
المثل الأعلى نفسه، بسبب الابتعاد عنه، بل على ألوان الفشل والنقص
في الطبيعة البشرية. فالقول بأنَّ المسيحيين يفعلون الشر، إنَّما
يرجع أساسًا إلى أنهم موجودات بشرية غير معصومة من الخطأ. وإذا
ارتكب المتصوِّفة إثمًا، فذلك أيضًا بسبب أنهم بشر، ومن ثَم
فالنزعة الجوهرية للتصوُّف تنحو نحو الحياة الأخلاقية، والحياة
الاجتماعية، وحياة السلوك الغيري، وليس الفرار من هذه
الأمور.
غير أن سؤالنا الأصلي كان: هل ينحو التصوف بالفعل نحو جعل
حياة الناس أفضل أم لا؟ وقد يعترض معترض بقوله إنَّنا دافعنا فقط
عن المثل الأعلى للتصوُّف، لكنَّا لم نجب عن السؤال حول النتائج
التاريخية الفعلية. غير أنه يبدو لي أن ذلك سؤال لا غناء ولا
نفع في الإجابة عنه، مثله مثل السؤال الموازي له: هل كانت للدين
آثار طيبة في العالم أم لا — بمقدار ما يتميَّز الدين عن التصوف
— أم كان ضارًا أكثر منه نافعًا؟ أولئك الذين لا يؤمنون بحقيقة
أي دين، كالشاكِّ وغير المؤمنين، يميلون إلى القول بأن الدين لم
يجعل حياة الناس أفضل مِمَّا هم عليه أخلاقيًّا، بل إنَّه في
الواقع أضرَّهم. أمَّا المؤمنون بالدين، فيأخذون بوجهة النظر
المضادة. ولم يتأسَّس رأي من الرأيين — في اعتقادي — على مسح
شامل غير متحيِّز للوقائع. بل هما معًا قد تأسَّسا على الميول
والأفكار المتصوَّرة مقدمًا للدفاع أو الهجوم على الدين. وهناك
لذلك مبرر قوي؛ فالوقائع التجريبية للتاريخ معقدة لدرجة أن خيوط
الميول الخيِّرة أو الشريرة، لا يُمكن فكها من التشابك الهائل
للأحداث. ولا بد أن نقول الشيء نفسه عن التصوف؛ فأولئك الذين
يكرهونه سينظرون إليه نظرة سيئة، على أنه نزعة هروبية، أو أنَّنا
لا نجد له آثارًا طيبة أو قليلًا منها، أمَّا أولئك الذين
يُفضِّلونه فسيقولون إنَّه يجعل الناس أفضل؛ فقد أصبح بعضهم قديسين
مِمَّن كانت لهم آثار طيبة لا حصر لها، كما أن التصوف أدخل
طموحات نبيلة تسرَّبت إلى جميع الحضارات. وليس لديَّ ميل للانخراط
في هذه المعركة من الأحكام المبسترة. ولن أُشير إلَّا إلى واقعة
أن التصوف في ماهيته ينطوي على الحب، الذي هو دافعه المطلق
لجميع الأعمال الخيِّرة. وأنَّ نزعته، من ثَم، لا بد أن تكون نحو
الخير، مهما لطَّخت هذه النزعة المثالية من شرور، وضعف وحماقات
الطبيعة البشرية.
ثالثًا: التصوف والدين
الوقائع الجوهرية بصدد علاقة التصوف بالدين، على نحو ما ظهرت
طوال هذا البحث، يُمكن أن نقوم بتلخيصها بإيجاز:
الافتراض الشائع بين الكُتَّاب حول هذا الموضوع هو أن التصوف
ظاهرة دينية، وهُم هنا يضعون في أذهانهم الديانات الغربية، لا سيما
المسيحية. وربما عرَّفوا الوعي الصوفي ببساطة على أنه «اتحاد
بالله». وفي رأيي أن ماهية التجربة الانطوائية هي الوحدة التي
لا تمايز فيها ولا اختلاف، وأنَّ «الاتحاد بالله» ليس سوى تأويل
ممكن لها، لكنَّه في هذه الحالة لا يُمكن أن يُقدِّم كتعريف لها.
وهذه التجربة نفسها يُمكن تأويلها بطريقة غير تأليهية، كما هي
الحال في البوذية. وفضلًا عن ذلك، فلو كان المرء يعني «بالدين» هذا
الدين أو ذاك من ديانات العالم المعروفة، فإنَّنا يُمكن أن نقتبس
«أفلوطين» بوصفه متصوِّفًا لا دينيًّا، طالما أن الخلفية العقلية
التي أُؤَوِّل تجربته الصوفية من خلالها، كانت مذهبًا فلسفيًّا وليست
الدين. ومن ثَم فأول جواب عن السؤال هل التصوف هو أساسًا ظاهرة
دينية، هو بالنفي؛ فهو قد يرتبط بالدين، لكنَّه ليس في حاجة
إليه.
غير أن هناك إجابات مختلفة يُمكن أن تُقدَّم لهذا السؤال بقدر
الطرق المختلفة التي يُمكن للمرء أن يفهم بها كلمة «الدين»، فهي قد
تُشير إلى المشاعر أكثر منها إلى العقائد أو البنية العقلية. وليس
ثمة مبرر لِمَ لا تحدث التجربة الصوفية — لا خالصة في الواقع
تمامًا — بل متحرِّرة بما فيه الكفاية عن أيَّة «معتقدات» دينية
معروفة، لكن لا يزال من الممكن أن يُقال إن هذه التجربة تتضمَّن
الشعور الديني ومشاعر بالقدسي، والإلهي، وما هو مقدس. ويُمكن أن
يُفهم المقدَّس ببساطة على أنه ما يشعر المرء أنه يُمكن أن
يتدنَّس. ومن هنا فأنا لا أستخدم كلمتي «المقدس»، و«الدنس»،
بالمعنى اللاهوتي التقليدي. إن المتصوِّف يُشير باستمرار إلى
اللازمان أو الأزلي، الذي يشعر أيضًا أنه نبيل إلى أقصى حد.
ويتجاوز تمامًا العالم المؤقت: عالم التدفق، والعبث، والإحباط،
والأحزان، وهو يجلب معه السلام الذي يُجاوز كل فهم. ويُمكن له أن
يخبر بذلك كله ويشعر به دون أيَّة معتقدات على الإطلاق. ويُمكن،
بهذا المعنى أن يُنظر إلى التصوف، بحق، على أنه في ماهيته
ديني.
والسؤال عمَّا إذا كان الوعي الصوفي يُفضِّل عقيدة ما، أو ديانة
من ديانات العالم، أكثر من عقيدة أو ديانة أخرى، من السهل أن نُجيب
عنه بأنه لا يفعل ذلك؛ فالصوفي في أي ثقافة، عادة، ما يؤوِّل
تجربته من منظور الدين الذي تربى عليه، لكنَّه إذا كان متحضرًا
بدرجة كافية، فإنَّه يُمكن أن يطرح هذه العقائد الدينية، ويظل
محتفظًا بوعيه الصوفي.
وبدلًا من السؤال عمَّا إذا كان التصوف، هو في جوهره دينيًّا،
يُمكن أن يُطرح السؤال عمَّا إذا كان أي دين هو في جوهره صوفيًّا.
ويُمكن أن نُجيب إجابة معقولة بأنَّ البوذية والصور العليا من
الهندوسية، هي أساسًا صوفية في جوهرها؛ لأن تجربة الاستنارة هي
محورها ومركزها، لكن التصوف — كما لاحظ بروفيسور أ. بيرت — الذي
كان المكوِّن الرئيسي في ديانات الهند، لم يكن سوى تيار صغير في
المسيحية، والإسلام، واليهودية.
١٢ ومن الإنصاف أن نسأل عمَّا إذا كان مؤسس المسيحية
صوفيًّا بالمعنى الدقيق الذي يجعله يملك بداخله وعيًا صوفيًّا،
ويعيش، ويتحدَّث عنه على أنه أساس حياته وتعاليمه، كما فعل بوذا؟
ربما كان «يسوع» متصوِّفًا، لكني لا أستطيع أن أجد أي دليل على
ذلك، فلا شيء منه في الأناجيل الثلاثة، أمَّا إنجيل يوحنا، فإنَّنا
نجد أنه يظهر فيه — في كثير من الأحيان — عبارات معينة عن
الاتحاد بالله، والواحدية مع الله، ونظرًا لوجود دليل سلبي في
الأناجيل الثلاثة الأولى، فليس ثمة ما يُبرِّر الافتراض بأن هذه
العبارات قد نطق بها يسوع التاريخي فعلًا؛ إذ ربما كانت تكشف عن
أن مؤلف إنجيل يوحنا كان رجلًا متصوفًا، أو ربما ليس أكثر من
أنه كان على علم ببعض العبارات الصوفية، لكنَّها لا تقول لنا
شيئًا عن «يسوع».
من الصعب أن نفترض أن «يسوع» لو كان يملك الوعي الصوفي، لكان
قد وضعه في مركز تعاليمه مثلما فعل «بوذا». وإذا تذكَّر المرء أن
اليهودية هي الأقل تصوفًا في ديانات التأليه الثلاث الكبرى — بل في
الواقع في جميع ديانات العالم الكبرى — فإن ذلك يُضيف استحالة
جديدة أن يكون «يسوع» الذي وُلِد وتربى كيهودي، كان متصوفًا. وإذا
لم يكن «يسوع» متصوفًا، فإن ذلك يُفسِّر لنا واقعة أن التصوف
لم يكن سوى تيار صغير في الديانة التي أسَّسها. والواقع أنه لا
يُمكن تفسير القول بأنه كان متصوِّفًا بأي معنى أصيل للكلمة.
وإنَّما جاء التصوف إلى المسيحية المتأخرة نتيجة لتأثرها بمصادر
عن اليونان، وليس في فلسطين.
ونود أن نؤكِّد — بغض النظر عن هذه الوقائع — أن التصوف هو
المصدر النهائي لكل دين، وهو ماهيته. وبين أيدينا مجموعة من
المُشكلات تُشبه تمامًا مجموعة من المُشكلات التي اعترضت النظرية
الصوفية عن الأخلاق. إذ علينا أن نؤكِّد أن الوعي الصوفي كامن
عند جميع البشر، لكنَّه عند معظم الناس مطمور تحت سطح الوعي. وما
إن يُلقَ في الوعي الأعلى بمؤثراته في صورة مشاعر أخلاقية، حتى تظهر
أيضًا آثار هي الأخرى في صورة دوافعَ دينية. وسوف تؤدي هذه الدوافع
بدورها إلى نشأة التركيبات العقلية التي هي العقائد المختلفة. لقد
سبق أن رأينا فيما سبق، في هذا الفصل، ما تواجهه هذه الوجهة من
النظر من صعوبات، وهي صعوبات على درجة كبيرة من الخطورة، رغم
أنها ربما كان يمكن التغلبُ عليها.
والنتيجة العامة فيما يتعلَّق بالعلاقات بين التصوف من ناحية،
وميدان الديانات المنظمة (مسيحية، وبوذية … إلخ) من ناحية أخرى، هي
أن التصوف مستقل عنها، بمعنى أنه يُمكن أن يوجد بدون هذه
الديانات. غير أن التصوف والديانة المنظمة، يميلان إلى
المشاركة والارتباط الواحد منهما بالآخر؛ لأنهما معًا ينظران إلى
آفاق تُجاوز الآفاق الأرضية؛ إلى اللامتناهي، والأزلي، ولأنهما
معًا يشتركان في الانفعالات التي تخص المقدَّس والقدسي.