أمين الريحاني
إن حاجتنا إلى التهذيب اليوم، لأشد منها إلى السكك الحديدية والتلفونات. إن حاجتنا إلى العلم الصحيح الذي يهذب الأنفس، ويرقي العقول، ويثقف الأخلاق، لأشدُّ منها إلى العلوم اللغوية، والفقهية، واللاهويتة، والخنفشارية، والتهذيب الصحيح ينبغي أن يعم عناصر الأمة بأسرها على السواء، ليأتي بفائدة تذكر للأمة، وعندي أن أشد الويل والبلاء، إنما هو في بيت يعيش تحت سقفه الجاهل والعالم معًا. إن وطننا بهذا البيت أيها الأخوان، وعناصر الأمة فيه كأفراد تنافرت أذواقهم وأخلاقهم، وتعددت صبغاتهم القومية والدينية، وتباينت فيهم درجات المدارك والعلوم، فإذا ارتقى عنصر من عناصر الأمة دون سواه، يلتجئ غالبًا إلى المهاجرة، إذا ظلت العناصر المنحطة واقفة في طريق ترقيه، كالسد في وجه المياه، أما الآية: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً، فالتاريخ لا يشهد على صحتها إلا مرة في الألف؛ لأن الطبيعة لا تسمح أن تكون المعجزات فيها مبتذلة، والغالب المبتذل هو أن الأكثرية إن كانت في المجالس النيابية أو في الطبيعة تتغلب على الأقلية.
على حكومتنا الدستورية إذن أن تنتبه إلى هذا الأمر الخطير، إن كانت ترجو أن ترتقي الأمة وتحيا. على حكومتنا أن تباشر تأسيس المدارس الوطنية العمومية الإجبارية المجانية، المجردة عن كل صبغة دينية، وإن كانت لا تباشر قريبًا، فلا ترجُ يا أخا الحماسة، كبير خير من هذا الانقلاب، ومن هذا الدستور، ومن هذا المجلس النيابي.
أظنك تعلم أيها القارئ العزيز، أن لا غاية لي من الكتابة والخطابة والتأليف، سوى نشر المبادئ الحرة، والتعاليم السديدة في الأمة، وأن من تجرد عن المآرب السياسية، وعن الأغراض الشخصية المادية، يرسل كلمته في الناس، دون أن يراعي خاطر أحد من الناس. منذ خمس سنوات عدت إلى وطني، من العالم الجديد، وحتى الآن ما عرفت من الرؤساء المدنيين والدينيين، إلا من أحب أن يعرفني، أو من جمعتني به التقادير، قضيت هذه المدة كلها بعيدًا عن الرئاسة والسياسة، فبان لي أن في طاقة الإنسان أن يعيش سعيدًا، دون أن يتزلف من السياسيين والأمراء، أو عمال الحكومة والرؤساء، نعم عشت محرومًا هذا الشرف العظيم، فكانت همومي الأدبية ومتاعبي السياسية أقل من هموم سواي من الأدباء.
عسى أن يعذر القراء مني هذه الكلمة الشخصية، فما قلتها إلا لأبني عليها قاعدة عمومية، هي جديرة باعتبار كل من زاول صناعة الكتابة، وأحب أن ينفع الناس بعلمه وأدبه، إن التقرب من العظام، وبالأخص أصحاب السيادة منهم، يفقد الكاتب مزية الحرية والاستقلال؛ هذه هي القاعدة العمومية، التي قلت من أجلها كلمتي الشخصية، تكلمت عن نفسي، وما كنت لأفعل ذلك في غير هذه الأحوال، لأؤكد لكم أيها الإخوان أن الآراء التي أبديها والمبادئ التي أنادي بها، إنما هي ثمرة علم لا يعرف التفريق والتحزب، ولا يفرق بين الجنسيات والأديان.
أحب أن أردد بعد هذا التمهيد، كلمتي السابقة عن المدارس الوطنية، وأردفها بكلمة ليست بأقل منها أهمية، وهي «صيحة في وادٍ إن ذهبت اليوم مع الريح تذهب غدًا بالأوتاد.» إن الأمة العثمانية لا تصير حقًّا أمة واحدة متحدة راقية، إلا إذا تأسست في البلاد المدارس الوطنية العثمانية المجانية الإجبارية، وتلقن فيها العلوم أبناء المسلمين، وأبناء الدهريين، وأبناء المسيحيين، وأبناء اليهود معًا. بقي علي أن أقول كلمتي الأخرى: إننا لا نصير أمة راقية حرة بكل معنى الكلمتين، إلا متى صار أدباء المسيحيين وأدباء المسلمين يتباحثون في أي موضوع كان، دينيًّا أو سياسيًّا أو اجتماعيًّا، دون أن يثير ذلك في شعب الملتين غبار الجهل، وسموم التعصب، بل إذا كان لا يحق للمسلم أن ينتقد المسيحيين في شئونهم العمومية الاجتماعية، ولا للمسيحي أن ينتقد المسلمين، فلسنا والله بأمة واحدة، وليس وطننا بذاك الوطن المجيد الجامع، الذي يعبد في هيكله كل أبنائه، على اختلاف المذاهب والعناصر والجنسيات، بل إذا كنا لا نتجرد عن صبغاتنا الدينية، في شئوننا الوطنية والاجتماعية، فحريتنا أيها الناس كلمة مقولة، وإخاؤنا لفظة غير معقولة، والمساواة عندنا قاعدة باطلة مرذولة.
نعم يا سيدي، إذا كان إخواننا المسلمون، لا يساعدوننا في نشر التعاليم الحرة في الأمة، إذا كانوا لا يؤيدون قولًا وفعلًا آراء آباء الحرية والدستور، إذا كانوا لا يرددون صدى أحرار المغرب وعلمائه، ومن ينحو اليوم في الشرق نحوهم من الأحرار الأصفياء والعلماء؛ فعبثًا يحاول أبطال الدستور والحرية تجديد حياة الأمة، والمسلمون العنصر الأساسي في الأمة. وأما انتصار الجيش، فلا مجد عظيم فيه، إن لم يتبعه انتصار في العلم والتهذيب؛ لأن الجيش وإن دمر معاقل الحكومة الاستبدادية، فنصره لا يزيل الجهل الذي أُسست عليه تلك الحكومة، وما زال الجهل سائدًا في الأمة، سيان عندي إن كانت الحكومة فردية استبدادية، أو حرة نيابية، إن لم تباشر الحكومة في تدمير حصون الجهل. إذن يعود الجهل فيدمر حصون الحكومة، ولا يتم لها ذلك إلا في تأسيس المدارس العمومية الوطنية، مجردة عن كل صبغة دينية؛ حيث أولاد المسلمين، والمسيحيين، واليهود، والدهريين، يتلقنون كلهم العلوم على أستاذ مدني واحد، وتحت سقف واحد، ومن كتاب واحد، وعلى طريقة وطنية واحدة. وما هذه ببدعة أنادي بها؛ فإن مكتب الصناعة في هذه المدينة، أسس على هذه الطريقة الوطنية، وحبذا لو أحيته اليوم الحكومة، فيكون مثالًا للمدارس العثمانية العمومية الإجبارية. وعبثًا نحاول توحيد العناصر المتعددة في الأمة، إذا كان التعليم لا يوحد على هذه الطريقة الوطنية الجامعة الحرة.
جلست مرة في قهوة من قهاوي البحر، أتفرج على الناس يسبحون، تأملتهم في تلك الحالة الطبيعية، وقد تجردوا عما يميز البعض منهم عن البعض، وقلت في نفسي: أين المسلم الآن؟ وأين اليهودي؟ وأين الكافر؟ وأين المسيحي؟ رأيتهم يسبحون كلهم في بحر واحد، تحت سماء واحدة، وهم لا يستنكفون من أمواج تلعب حول قلوبهم، كأنها قلب واحد، وتغسل أجسامهم كأنها كلها جسم واحد. فقلت في نفسي: متى يا ترى تصير عقولنا مرنة نشيطة قوية كأجسامنا؟ متى تصير أنفسنا كأمواج هذا البحر، فلا تخضع إلا لناموس واحد، هو ناموس الله؟ أو في الأقل، متى تصير متساهلة كأبداننا، فتسبح في بحر الآداب الواحد، وتحت سماء العلوم الواحدة، دون تنافر ودون شقاق؟
نظرت إلى البحر وأنا جالس في تلك القهوة، فرأيت هناك المدرعات الحربية الأوروبية، ومنها المدرعتان الإفرنسيتان «لاڨريته» و«فكتور هوغو»، فكرهت الإقامة في بلاد لم تزَل تحتاج فيها إلى مثل هذه المظاهرات الكاذبة، وهل كنا نشاهد المدرعات الأوروبية بصفة رسمية في بحرنا لو تأسست عندنا المدارس العمومية الوطنية، منذ ثلاثين سنة، هل كانت تلطخ المذابح تاريخنا، فتلحق بنا وبوطننا العار والشنار، لو وُحِّد منذ ثلاثين سنة التعليم، فنمَت في قلوب العثمانيين عاطفة وطنية شاملة، وانتشر روح التساهل الديني في الأمة؟
لا يا إخوتي، أنا لا أحب أن أرى هذه المدرعات على شطوط بلادنا، أنا لا أحب أن يلتجئ أحد عناصر الأمة إلى دولة أوروبية، أنا لا أحب أن أرى «فكتور هوغو» في بحر بيروت، بل أحب أن أشاهد روح فكتور هوغو متجلية في أرواح أبناء بيروت، لا أحب أن أرى «الحقيقة» على شواطئ سوريا، بل أحب أن أراها في قلوب أبناء سوريا، أحب أن تحمينا المبادئ السديدة، لا المدافع والمدرعات، أحب أن يحمينا العلم الخالص من الغش والتعصب المجرد من كل مصلحة جنسية أو دينية، أحب أن يحمينا الإخاء العثماني، والجند العثماني، والعلم العثماني.
(١) الكنيسة والجامع١
لم أرَ بين سائر أماكن العبادة التي أعرفها (وقد حملت نفسي المنسحقة وركبتي التعبتين إلى هياكل عديدة) أفضل من الجامع، وما أدراك ما الجامع! هو المكان الذي يؤثر علي بديموقراطيته أكثر من سواه، لما فيه من شواعرها المتنوعة، فليس في الجامع ما يداهن الأغنياء، أو يكسر قلوب الفقراء، أو يرد ثقيلي الأحمال، أو يغفل الورعين. وليست بشاشة الجامع بمقاعده المزدوجة، ولا رغبة الناس فيه لصدقاته، والخدمة التي تقام فيه نهار الجمعة مأخوذة من القرآن، ولهذا لا تحرف ولا تبدل، بل هي دائمًا لحن من البلاغة، تعشقه الأسماع، فيحدث خشوعًا في القلوب لدى اتجاه الأفكار نحو العلاء.
الجامع كبير، يسع عادة جماعة الخطباء، حتى والعابدين النوام، ويبقى بعد ذلك فراغ لا يحد، فالمنبر لا يكون أبدًا قريبًا من الزوايا الساحرة الشكل، التي تُظل جماعة المسلمين ونفوسهم، وهم على اختلاف طبقاتهم، يجتمعون للصلاة تحت سقف واحد، فتجد بينهم درويشًا متمتعًا، وشحاذًا أعمى، وحمالًا منهوك القوى، وأعرابيًّا عليه غبار البرية البعيدة، وكلهم يؤمون الجامع، بتمام ورع وخشوع، طلبًا للراحة بعد العناء، أو لإغماض عيونهم لغفوة قصيرة، فبعضهم يسجدون أمام المحراب، وآخرون يتمددون على الرخام البارد، تحت الأروقة، حين يكون شيخ جليل، أو أمير عريق في النسب راكعًا على سجادة عجمية ثمينة، يخر ساجدًا ثم ينهض قائمًا في صلاته.
هنا درويش يتمتم قائلًا: بسم الله الرحمن الرحيم، ويعد خرزات سبحته، إلى أن تصل نفسه درجة الغيبوبة.
وهناك فقير يتثاءب، متبعًا تثاؤبه بقوله: يا الله يا كريم، ويخر مكبًّا على وجهه، وهناك بدويٌّ ممدد تحت الرواق كأنه جثة هامدة، وليس من ملحد أو جاهل يتعدى على أحد المصلين أو يعكر عليهم …
الجامع ميناء، يرتاح إليه الشحاذ والأمير، وهيكل يضم المؤمنين، وناد يقبِّل أولاد الله على السواء. هو حيث يعثر المنبزذ على حجر يسند إليه رأسه، فتكتنفه رهبة القبة الواسعة، التي تعلوه، وما يتخلل سكينة ذلك المكان الرهيب إلا كلمات: يا الله، يا كريم، التي تدفعها الصدور وقتًا فآخر.
ولو أن الجامع قائم في سوق النحاسين، لندر وصول صوت إليه من الخارج، يؤذي رهبة المكان وسكينته، وإن النفس فيه لتخشع من هذا السكون، فتدعو الجسد، ويسبح العقل في العلويات، فينبه النفس بلا صنوج ولا أجراس، بلا آلة موسيقية، ولا جوق مغنين، بلا رسوم ولا تماثيل، ولكن بأضواء الإيمان الدائمة، التي لا تطفأ تندفع النفس لتجد سبيلًا لها من خلال السكون الفائق الوصف، والرهبة التي لا تحد، إلى العزة الإلهية، إلى الإله الواحد، إلى الله.
دخلت ذات يوم جامعًا في إحدى القرى؛ لأستريح، وقد خلعت حذائي عند الباب متأملًا بهذا التقليد الحكيم؛ لأن لذلك دواعي روحية وحسية، فإنه إذا كان من الدناسة أن تدخل بيت الله وحذاءك في قدميك، فكم بالحري إذا لطخت سجاد الجامع الثمين بأوحال الطريق وغبارها؟ ناهيك أني خلعت حذائي امتثالًا للعادة، ولأنه كان مضيفًا على قدميَّ أوحال، وأخال كثيرين يرتاحون إلى هذا التقليد، ويجدون به فرحًا كما شعرت.
ولم يكن يدخل الجامع سوى مصلين، رجل وقور طاعن في السن في إحدى الزوايا، وشحاذ قريب من العراء جامد في الزاوية الأخرى. أما أنا فقد جلست على حصير تحت رواق، مسندًا ظهري إلى عامود ممددًا ساقي، وكنت إذ ذاك كأني في منزلي. إن الراحة والاسترخاء من أصول التعبد الحقيقي، وهما مما تجد في الجامع في كل ساعة من ساعات النهار، وفي كل ساعة من ساعات الليل، ولقد صليت كما أحببت، وخرجت مع رفيقي في الصلاة وأخوي بتسبيح الله. أما الشحاذ فكان حمالًا، وقد ترك حِمله عند الباب، وإذ تعذر عليه رفعه أسرع الشيخ المهاب لمعونته، مشمِّرًا كُميه الحريرين عن ساعديه، مبتدئًا بقوله: «بسم الله.» وانحنى الحمال تحت حِمله الثقيل، وقد تشنَّجت رقبته بالحبل المشدود حول رأسه، ثم خطا متناقلًا، ولكن خطوات ثابتة بقوة الله، والتفت الشيخ إلي وقال لي مشتبهًا: أأنت مسلم؟ فأجبته، وأنا أشد حذائي، ولكني أعبد الله وأكرم النبي، عندئذ دعاني لمناولة الغذاء على مائدته؛ فإن الغرباء الذين يلتقون في الجامع يصبحون إخوانًا.
ذكرني هذا بزورتي لمدينة نيويورك، محجة أميركا، حيث ذهبت للصلاة في كنيسة الأغنياء، وهي بناية أنيقة صغيرة خشبية، يدل ظاهرها على أنها هيكل للعبادة المسيحية، وتاريخها يرجع إلى جيل؛ إذ رُكِّبت تركيبًا لا بناء، أبعد أن أتى بأخشابها من إنجلترا، وبراغيها الأول أيضًا، إلا أن نوافذها ذات الزجاج الملون المشوش الوضع، الخالية مما يستدعي النظر، أو ما ينبه المخيلة جديدة وصحيحة، ولكنها سخيفة مطلية بطلاء يقربها من شكل العاديات، أو أسطورات التاريخ القديم، وأخالها مصنوعة في أميركا. أما أثمانها فتكال بالذهب ككل شيء تافه في هذه البلاد العجيبة، وقد لاحت لي نافذة منها تثمن بألف ريال، مهداة إلى الكنيسة من مدام «مثرية»، وأخرى أثمن منها من المستر «غني». أوليس من الغضاضة أن نذكر أسماء حقيقية في ميدان سخاء كهذا؟ إني لأعجب كيف أن أولئك المسئولين عن تشويه حيطان الكنيسة الخشبية، لم يتستروا استحياء. أقول «تشويه» عن قصد وروية، فإني لا أطيق رؤية شبابيك ملونة الزجاجات، على حائط خشبي رقيق، عليه شارة هندسية خارجية، تشوه جماله وتمنع انعكاس نور الشمس عليه.
إلا أن الإحسان لا يعيش في الظل، بل ينفخ ببوقه على السطوح في رائعة النهار فيها: أيها البوق النحاسي، إني لم أسمع صدى رناتك في تلك الجوامع المملوءة هواء نقيًّا، في ذلك الشرق الهادئ.
ومما يستحق الملاحظة أيضًا، تلك المقاعد الكنائسية المربعة الزوايا، التي تستطيع أن تضع مكانها عدة كراسي بين ذات مساند وهرازة، وهي مركبة بطريقة تجعل أربابها يجلسون وجهًا لوجه، كأنهم جالسون في بهو. أولئك هم أغنياء أميركا الذين يتربعون في أبهائهم الكنائسية، ولماذا يا ترى يجزأ مكان العبادة إلى مقاطعات؟ ولِمَ لا تكون الكنسية كالجامع الفسيح المطلوق للهواء النقي، لا ضرائب عليه، تؤمه وتبقي ما تشاء من الوقت حينما تشاء؟
إن المقاعد الكنائسية تسبب صلاة طويلة، وضريبة مرسومة، وضغطًا على حرية الفرد. ولقد ترغب في أن تذهب إلى الكنيسة لقضاء خمس دقائق لتنبه روحانيٍّ، فتقضي خمس ساعات، إذ تُحصر في المقعد، وغالبًا إما تعكر على الآخرين أو يعكر عليك الآخرون ما يجول في مخيلتك.
ولقد علمت أن مقاعد كنيسة نيويورك لا تباع، ولا تُؤجر، ولا تُعرض للمصليين، ولكنها تُقتنى اقتناء، فكأنها ملك لصاحب، أو عرش لرب، يتحول بالإرث من أب إلى ابنه، فلا يستطيع الغريب أن يدخل بيت الله للصلاة، إلا إذا أراد أن يقف عند الباب بفارغ صبره، وإن حصوله على خلاص لنفسه، لأسهل من حصوله على مقعد ليريح ركبتيه من عناء الوقوف.
أما أنا فقد جلست على مقعد مضيفي، وأخال مضيفي حصل عليه بالقوة؛ لأن جلدة كتاب الترانيم تحمل اسمًا غير اسمه، وهم اسم إحدى العائلات العريقة، المتسلسلة من عائلات إنكلترا القديمة، وقد طرأت على هذا المقعد تقلبات عديدة، بتنقله من يد صاحب إلى آخر، حتى لم يبق من فراغ قليل على جلدة كتاب الترانيم لوضع اسم جديد.
يقاسي الأغنياء قليلًا من إجحاف يسببه غناهم، فعنهم قال مؤسس الديانة المسيحية نفسه أشياء مؤلمة، وقد حرم عليهم دخول السماء بمثل ضربه، فوا الحالة هذه لا يجب أن يعدموا الحق، بأن يجعلوا لأنفسهم سماوات أخرى على الأرض، في كنيسة صغيرة، حيث يستطيعون أن يناجوا ربهم دون مقاوم أو معكر. ها هنا أولئك الأغنياء المساكين، يحبسون أنفسهم ردحًا قصيرًا، ولا حق لأحد من سائر سكان الغرباء، أن يتطفل عليهم بدقائقهم المكرسة للعبادة، فهم يستوون جالسين في متكآتهم، برزانة وتأنق، يرنمون النشيد المائة والسادس والسبعين، أو المزمور الواحد والخمسين، خاشعين، يستوعبون الإيمان بكل مسامعهم، وشاعرين بسلام داخلهم، وسلام مع العالم، ومع الله.
وهذه حال الواعظ، الذي لا يلقي عليهم من المنبر شيئًا من أمثال الناصري — عن الغني والعازر — أو عن الجمل وثقب الإبرة، إن هذا المحترم يراعي شعوريته وأميالهم.
ليغفر لي الله ما ذكرته هنا؛ فقد أتيت الكنسية لأصلي لا لأغالط. وأما أولئك الذين قد يكونون المسببين لي هذا التغيير العقلي السيئ من قريب وبعيد، وحاضر أو غائب، فأنا أبتهل إلى الله أن يغفر لهم ويرحمهم.
انتهت الصلاة، ولكن القِسم الجوهري منها لم ينتهِ، بل سيقام في الزقاق الضيق أمام الكنيسة؛ حيث شرذمة من البوليس، يهتمون بحركة العربات الذاهبة والآتية، حينذاك يتقدم قطار سيارات متعددة الألوان والأشكال، متألقة، يحف بها الحشم، وعلى دفتها سائقون بهيئاتهم المتشامخة، وتظهر العربات المتلألئة تجرها الجياد المطهمات، فيثب منها الغلمان المرتدون أثوابهم الخاصة، ليفتحوا أو يقفلوا أبواب العربات.
غوغاء غرور … ضجيج … تصلف، معرض مدهش لإظهار أبهة وفخفخة، فتعال معي يا أخي المسيحي؛ تعال معي إلى الجامع.