ميخائيل نعيمة
(١) الزحافات والعلل: نظرة في الشعر وأوزانه
دع همومك التجارية والسياسية والعائلية يا أخي، وتأبط جراب صبرك واتبعني، تسألني إلى أين؟ ولنفرض إلى جهنم! أوليست جهنم خيرًا من عالم يصابحنا بالقال والقيل، ويعاشينا بالقيل والقال؟ وما قيله إلا هبوط أسعار وارتفاع أسعار، وما قاله إلا انتصار سياسة وإخفاق سياسة. فتأبط جراب صبرك واتبعني، ولا تسَل إلى أين. قد أسلك بك طريقًا وعرًا، وقد أدخل بك أجمة ملتفة الأدغال، وقد أُريك طرف مرج فسيح، وقد أعود بك من حيث انطلقت، كأنك لا رحت ولا جئت، فتمسك بجراب صبرك، فالصبر خير سلاح للمؤمنين، ولنمشِ.
هل سمعت في حياتك يا أخي برجل يدعى أبا عبد الرحمن الخليل بن أحمد البصري الأزدي الفراهيدي؟ لا، إذن فاعلم، وقاك الله أن أبا عبد الرحمن (تغمده الله برحمته ورضوانه) ولد في سنة مائة للهجرة، وتوفي عن خمس وسبعين عامًا، قضاها بالبر والتعبد والتقوى، ووضع علم العروض.
والعروض — رعاك الله — «علم بأصول يعرف بها صحيح أوزان الشعر العربي، وفاسدها، وما يطرأ عليها من الزحافات والعلل.»
و«الزحافات والعلل» أوبئة تنزل بأوزان الشعر العربي، فتحرك ساكنًا، أو تسكِّن متحركًا، وتقضم حرفًا هنا، ومقطعًا هناك. وقد عني بها الخليل عناية خاصة، فأعطى لكل منها اسمًا، ورتبها في أبواب وفصول، هي أكثر عدًّا من خطاياي.
هذا هو أبو عبد الرحمن يا صاحبي، فلنقدس ذكره، ولنجل مقامه، فلولاه لكنا بلا زحافات وعلل، وكيف تكتمل لنا السعادة بدون زحافات وعلل؟ ولولاه لما كان لنا علم العروض، الذي «يُعرف به صحيح أوزان الشعر العربي وفاسدها.» وأنى لنا أن نميز بين ما هو شعر وما ليس شعرًا، ما لم نعرف صحيح الأوزان من فاسدها؟
لقد مات الخليل يا أخي، ومنذ مات الخليل حتى اليوم، ونحن منغمسون في درس الخبن والخبل، والترفيل والتذييل، والنقص والوقص، والقطف والكسف، والخرم والثلم، والقصر والبتر؛ إلى ما هنالك من علل زاحفة، وزحافات معتلة، إلى أن ملكنا بإذن الله ناصية علم العروض، وأصبحنا بمنة الخليل نميز بين «صحيح أوزان الشعر العربي وفاسدها.»
أما أننا في جدنا وراء ناصية العروض، قد أفلتت من يدنا ناصية الشعر. وأننا في جهدنا وراء التمييز بين صحيح أوزان الشعر وفاسدها، قد نسينا الفرق بين ما هو شعر، وما ليس شعرًا، فما ذاك بالأمر الخطير! فالمهم المهم أن نعرف إذا ما نظمنا بيتًا أننا لم نجِز لأنفسنا ما لم يجِزه الخليل، وأننا لم نهتك حرمة قاعدة، ولم نخل بحرف من ناموس، ولم نتجاوز حد تقليد شريف، أو طقس مقدس، فاتكلنا على الله ورحنا ننظم القصائد.
ومن حسنات علم العروض يا رفيقي، أنه كثير البحور، ولكل بحر من بحوره قوارب، يتعذر عليك ركوبه إلا بها، ولكل من تلك القوارب مقاذيف لا تُدار إلا بها، ولكل من تلك المقاذيف حلقات وحنيات ومماسك لا يعرفها إلا غزير الخبرة، وطويل الأناة. لذاك فالملاحة في هذه البحور تقضي اقتحام الأخطار، والمجازفة بالحياة، ولذاك قد حذرنا العاقلون من الإقدام عليها إذ قالوا:
غير أن أبناء الضاد ليسوا ممن يهابون المخاطر، ولا ممن يؤثرون الحياة على الشرف، فكلما تراكمت تلك العقبات في سبيلهم، كلما ازدادت عزائمهم مضاء. وكلما عز الحصول على شرف أثيل، كلما هانت لديهم الأرواح. فما كان منهم إلا أن هجموا على تلك البحور فلجموا أمواجها وامتطوها وراحوا بين شواطئها يهزجون. نعم، هوى بعضهم إلى القاع، فطُمست آثاره. ولكن أكثرهم طاف جميع البحور وعاد سالمًا معافًى.
ومن ميزات الذين يخوضون بحور الشعر يا أخي، ويعودون سالمين، أنهم يكتسبون حنوًّا خارقًا على الإنسانية بأسرها، لا سيما علينا نحن أبناء اليابسة، فلا يعودون إلينا فارغي اليد (وإن عادوا فارغي الرأس والقلب) بل يتبارون إلى مشاطرتنا، كل ما اكتشفوه وعرفوه بشأن الملاحة في البحور الشعرية، فيقدمون إلينا ذلك لا نتفًا نتفًا، بل يجمعونه بين دفتي كتاب يدعونه «ديوانًا»، ويرفعونه إلينا؛ ليرفعونا به إليهم.
فلنمجد الملاحين يا أخي، أولئك الذين يحسنون الملاحة في بحور الشعر، والذين يرتقون في سلمه فلا تُزل بهم قدم؛ إذ لا يعجمون معربة، ولا يعربون معجمة! لنمجد العروض وأبناء العروض.
هل اعتراك يا أخي الملل؟ فعليك بحراب صبرك، إذ إننا في مسلك وعر، وإن شاء ربك سنقطعه سالمين.
تسألني ما إذا كنت أتهكم، أو أعني ما أقول؟ لا، وتربة الخليل، لست متهكمًا؛ فلعروض الخليل فضل علي كبير.
ولأصحابنا الملاحين فضل أكبر. أقول إن لهم فضلًا أكبر؛ لأن الخليل يوم جمع ما كان في زمانه من أوزان الشعر، وبوَّبها وحدد ما «يطرأ عليها من الزحافات والعلل» لم يقصد سوى الخير، ولم يتوخَ إلا خدمة لغة عزيزة عليه. أما الذين جاءوا بعد الخليل قتقيدوا بزحافاته وعلله ألفًا ومائتي سنة، فإياهم أسدي جزيل شكري؛ لأنهم بمباراتهم في معرفة «صحيح أوزان الشعر وفاسدها»، قد أتقنوا الأوزان وأهملوا الشعر. وبإهمالهم الشعر نبهوني إليه، وقد ينبهنا عدم وجود الشيء إلى الشيء، أسرع مما ينبهنا إليه وجوده.
لنقف يا أخي بتخشع أمام شبح من قال:
ولنبحث أمام ضريح من شرب «على ذكر الحبيب مدامة» فسكر بها «من قبل أن تخلق الكرم.»
ولنجل النار التي كانت تتأجج في صدر من نظر الأعمى إلى أدبه، وأسمعت كلماته من به صمم.
فهؤلاء، وقليل ممن راودت أرواحهم أحلام من عالم أعلى لجبابرة، وإن تقيدوا بقيود الخليل، فهم أكبر منه ومن عروضه. فلنمر من أمامهم صامتين، ولنتابع السير إلى حيث الدواوين الحافلة بصحيح أوزان الشعر، الناطقة بألف لسان بفضل الخليل، المرددة بألف قافية شكر الزحافات والعلل، الناظرة بألف عين، لا إلى جمال الحياة، بل إلى جمال الألفاظ والمقاطع، المصغية بألف أذن، لا إلى نبضات القلوب وخطوات الأفكار، بل إلى يد تصفق استحسانًا ولسان يثرثر بالمديح. إن هذه الدواوين يا أخي، لأفصح ما كُتب في الشعر وعنه؛ لأنها محشوة بما ليس شعرًا؛ لذلك كلما بلاك الله بواحد منها، تتوق نفسك إلى نقيضه؛ أي تتوق إلى الشعر؛ ولذاك قلت إنها أفصح ما كُتب في الشعر وعنه.
مهلًا يا أخي، ولا تكن لجوجًا، ولا تسلني أن أحدد لك الشعر؛ فالشعر غير محدود، ولا يحيط به إدراكًا إلا أصحاب دواويننا المكرمون، فقد قام بينهم حديثًا جهبذ، جمع في مقالة واحدة ١٧٧ تعريفًا للشعر عن ألسنة كثيرة — من ابن خلدون إلى ميخائيل رستم! ومن أرسطوطاليس إلى جورج ساند — فعليك بديوانه.
أما أنا فلا اطلاعي واسع لهذا الحد، ولا صبري طويل بهذا المقدار، فلنعدل عن تحديد الشعر وتعريفه. وذاك لا يمنعنا من أن نتكلم في الشعر، فتعال نتبادل الخواطر والنظرات.
هل ضحكت يا أخي في حياتك؟ وهل بكيت؟ هل ساورت أفكارك شكوك، أم سرحت في صدرك آمال، أم عصرت قلبك خيبة، أم مزق نفسك ألم؟ هل طرقت أذنك نغمة فطربت بها روحك، أم رأت عينك مشهدًا فاهتز له كيانك؟ إذن لا شك تفهمني، لو سكبت أمامك دموعي، وكشفت لك صدري، وحدثتك عن آلامي وآمالي، ووصفت لك نغمة أطربتني، أو مشهدًا هزني. وأنا بدوري أفهمك، وكلانا يفهم الغير.
ولو كان لك من سبيل إلى ترجمة عواطفك وأفكارك، بالصينية أو الهندية أو اليابانية أو الألمانية، لفهمك الصيني والهندي والياباني والألماني كذلك. فما هو السر في ذلك؟ ما السر في أن روحك، وهي في دمشق أو القاهرة، تستطيع أن توصل أنَّاتها وتهاليلها إلى روح في أقاصي شمال الأرض وجنوبها، أو شرقها وغربها؟
السر يا صاحبي في أن نفسك ونفسي ونفس بطرس وأحمد؛ كلها تستقي من مورد واحد، وذاك المورد هو الحياة، وإن شئت فقل النفس الجامعة أو الله. فالحياة وإن تعددت مظاهرها، وتنوعت أزياؤها، هي هي، وجوهرها واحد لا يتغير، غير أن ما نستقيه من هذا المورد، يتنوع بمقدار الظمأ الداخلي فينا، فبعضنا إذا ما شرب من المرارة غب غب الجمال، بينا يمتصها الآخر مص العليل للدواء. وبعضنا إذا ما هزته نغمة رفعته إلى الجو، بينا يسمعها الآخر فينتفض قليلًا «كالدوري» ويعود يبحث في الروث عن شعيرة يلتقطها.
إن الحياة يا صاحبي تعرض مشاهدها علي وعليك، لكنك قد ترى مشهدًا لا أراه أنا، وإن أكن مفتح العينين. بل قد أنظر وإياك إلى مشهد واحد، فترى فيه أشياء لا أراها، وتسمع ما لا أسمعه. هكذا قد أمر بدودة تدب على الأرض فأدوسها، أو أحول وجهي عنها، وأمشي في سبيلي. وتمر بها أنت فتقف مراقبًا حركاتها، ثم ترفعها بيدك، وتدرسها مليًّا، ثم تضعها من يدك وتنطلق، وفي رأسك قد تجمهرت أشباح، وأمام عينيك قد مشت رسوم، وفي أذنيك قد دوت أصوات. ولا يعتم أن تنتظم تلك الأشباح، وتندمج تلك الرسوم، وتتألف تلك الأصوات في قصيدة أو مقالة، أطالعها أنا، فأشعر كأن أشباحها تجمهرت في رأسي، ورسومها مشت أمام عيني، وأصواتها رنت في أذني. لقد مررت وإياك في مثل هذه الحالة بمورد من موارد الحياة، فشربت منه قطرة؛ حيث شربت قطرات، وفيَّ من الظمأ ما فيك. غير أني ما كنت أشعر بظمئي إلى أن سمعتك تصف لي ظمأك، وكيف ارتويت.
أنا وأنت غريبان، نحنُّ إلى وطن واحد، وفيَّ ما فيك من الحنين. غير أن حنيني أبكم أصم، وحنينك ناطق ومجنح؛ لذاك إذا سمعت حنينك متكلمًا تحرك حنيني وتكلم؛ لأنه قد وجد في حنينك لسانًا له.
أنا وأنت حائران في أمور كثيرة، وحيرتي قد تغلغلت بين أفكاري وتمددت، حتى لم أعد أعرف في ما أنا حائر. لكن حيرتك نصب عينيك، فإذا ما صورتها لي تصورت أمامي حيرتي.
تسألني: وما القصد من هذه الأمثال كلها؟ إن قصدي يا صاحبي أن أقول: بأن عواطفنا وأفكارنا مشتركة؛ لأن مصدرها واحد، وهو النفس.
وإن في الواحد منَّا ما في الآخر من العواطف والأفكار، لكنها قد تكون مستيقظة في بعضنا، غافلة في الآخر. وإن هذه العواطف والأفكار، وإن استيقظت في بعضنا، قد تكون خرساء. وإنها في بعضنا مستيقظة وناطقة. وإن العواطف والأفكار إذا ما استيقظت ونطقت بنفسها بعبارة جميلة التركيب موسيقية الرنة، كان ما تنطق به شعرًا. وإن من استيقظت عواطفه وأفكاره، وتمكن من أن يلفظها بعبارة جميلة التركيب، موسيقية الرنة، كان شاعرًا.
وإذ إن العواطف والأفكار، هي كل ما نعرفه من مظاهر النفس، فالشعر إذن هو لغة النفس.
والشاعر هو ترجمان النفس.
هذا ما أعرفه يا أخي عن الشعر والشاعر، فلنعد إلى الزحافات والعلل.
لقد وضع الناس الشعر أوزانًا، مثلما وضعوا طقوسًا للصلاة والعبادة. فكما أنهم يتأنقون في زخرفة معابدهم؛ لتأتي «لائقة» بجبروت معبودهم. هكذا يتأنقون في تركيب لغة النفس؛ لتأتي «لائقة» بالنفس. وكما أن الله لا يحفل بالمعابد وزخرفتها، بل بالصلاة الخارجة من أعماق القلب. هكذا النفس لا تحفل بالأوزان والقوافي، بل بدقة ترجمة عواطفها وأفكارها.
أتذكر يا أخي قول الناصري: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي هناك أكون في وسطهم.» ولم يحدد ابن مريم مكانًا معلومًا لعبادته؛ فقد يجتمع اثنان باسمه على رأس جبل، أو في جوف وادٍ، أو على ظهر باخرة، أو في قهوة، أو في منجم للفحم، ويكون هو بينهم. والشعر يقول: حينما تفاهمت نفسان أو ثلاث باسمي، هناك أكون في وسطهن.
فلا الأوزان ولا القوافي من ضرورة الشعر، كما أن المعابد والطقوس ليست من ضرورة الصلاة والعبادة. فرب عبارة منثورة جميلة التنسيق، موسيقية الرنة، كان فيها من الشعر أكثر مما في قصيدة من مائة بيت بمائة قافية. ورب صلاة خارجة من قلب منكسر، فوق رمال الصحراء، أدركت غايتها، وذهبت كصرخة في واد صلوات خارجة من مئات من الأفواه، بين مئات من القناديل والشموع، تحت سقوف مرصعة وقبب مزركشة.
غير أن القصد الأولى من طقوس العبادة، لم يكن إلا شريفًا؛ لاعتقاد الناس أن الله لا يجيب صلاة إلا إذا ارتفعت إليه مع دخان محرقة، ولا يقبل محرقة إلا إذا تقدمت إليه بطريقة معلومة وبعبارات منتخبة. وكذاك القصد من أوزان الشعر؛ فقد رأى الأقدمون أن الشعر، وهو لغة النفس، لا يليق بها ما لم يكن مقيدًا بأوزان؛ إذ وجدوا أن الأوزان تساعد على تنسيق الجُمل وتوازنها، وفي التوازن سر من أسرار الجمال.
إن طقوس العبادة — على اختلاف أنواعها — جميلة، لمن يفهم سر رموزها، وليس من طقس إلا يرمز إلى فكر. لكن من طبيعة الجمهور أن ينظر إلى ظواهر الأمور، كما لو كانت هي جواهر الأمور. فالجمهور لا يفكر، بل يقبل الأشياء كما هي؛ لذلك فالرموز تحل عنده محل ما ترمز إليه؛ ولذلك ترى الديانات أصبحت مجموعة طقوس وعوائد، فالذي تمكَّن من حفظ كل تلك الطقوس والتقاليد، تأهل لأن يكون كاهنًا أو شيخًا أو قسيسًا.
ولو نظرت الآن يا صاحبي إلى أوزان الشعر، وجدت أن حكايتنا معها هي حكايتنا مع طقوس العبادة. إن القصد الأساسي من الوزن هو التناسق والتوازن في التعبير عن العواطف والأفكار، ولا شك أن الأوزان نشأت نشوءًا طبيعيًّا، وكان سبب ظهورها ميل الشاعر إلى تلحين عواطفه وأفكاره. والكلام المتوازن المقاطع، أسهل للتلحين من الكلام الذي لا توازن بين مقاطعه، من حيث الطول والقصر؛ لذاك لحق الوزن بالشعر ونما معه نموًّا طبيعيًّا، فكان يتكيف بالشعر ولا يتكيف الشعر به. هكذا نما الشعر العربي ونمت أوزانه. وما زال الوزن لاحقًا والشعر سابقًا، إلى أن قيض الله لأبي عبد الرحمن أن جمع كل ما توصل إليه من الأوزان، فبوَّبها وحددها، وجعل لكل منها قواعد، ولكل قاعدة جوازات، وللجوازات جوازات، إلخ.
منذ ذلك الحين يا أخي أخذ الوزن يتغلب رويدًا رويدًا على الشعر، إلى أن أصبح الشعر لاحقًا والوزن سابقًا. وأصبح كل من قدر أن يتغلب على عروض الخليل بأوزانها وزحافاتها وعللها أهلًا لأن يدعى شاعرًا. وذاك راجع إلى ما قلته عن طقوس العادة، بأن الجمهور من طبيعته أن ينظر إلى ظواهر الأمور، كما لو كانت هي جواهر الأمور.
لو نظرت يا أخي إلى ما جمعناه منذ نيف وألف سنة، لوجدته — مع استثناء قليل منه — معرضًا للأبحر الشعرية، بين طويلها وبسيطها وكاملها وخفيفها، إلخ، مع ما «يطرأ عليها من الزحافات والعلل.»
لا تضحك، فالموقف موقف بكاء لا ضحك، أمِن المضحكات أن تدفن ألف سنة من حياتنا الأدبية بالزحافات والعلل؟
العروض لم تسِئ إلى شعرنا فقط، بل قد أساءت إلى أدبنا بنوع عام، فبتقديمها الوزن على الشعر قد جعلت الشعر في نظر الجمهور صناعة، إذا أحاط الطالب بكل تفاصيلها أصبح شاعرًا! وإذ إن للشاعر منذ بدء التاريخ مقامًا رفيعًا بين قومه، أصبح كل طالب شهرة يلجأ إلى العروض كإلى أقرب الموارد، وبذاك انصرفت أكثر مواهبنا إلى قرض الشعر، فأفقنا اليوم ولا روايات عندنا، ولا مسارح، ولا علوم ولا اكتشافات، ولا اختراعات. ولا شك أن كثيرين ممن انصرفوا إلى النظم حبًّا بالشهرة، لو انصرفوا إلى غيره من أبواب الكتابة والدرس لجاءوا معاصريهم وجاءونا بنفع كبير. ناهيك عن أن درس علم العروض يستغرق وقتًا طويلًا، فقل معي: وا لهف قلباه على عقول أحداث لا تزال تصارع العروض على مقاعد المدرسة.
لقد بلغ منا الولع بالعروض درجة أصبحنا معها لا ننطق إلا شعرًا «وأعني نظمًا»، حتى قواعد نحونا أبينا أن نلقنها لأحداثنا إلا منظومة! هاك ألفية ابن مالك، وهاك «نار القرى»، بل قد نظمنا الحساب والجبر والجغرافية والطب والفلك، ولِمَ لا؟
وأصبحنا نتراسل نظمًا، ونتصافح نظمًا ونشرب الخمر نظمًا، ونأكل الكبة نظمًا، ونعمِّد أولادنا نظمًا، ونزوجهم نظمًا، ونستقبل أصدقاءنا نظمًا، ونودعهم نظمًا، ونهنئهم بعيد أو بمركز أو بمولود نظمًا، إلى أن لم يبقَ في حياتنا ما ليس منظومًا سوى عواطفنا وأفكارنا! وعندما دانت لنا العروض، وأتتنا زحافاتها وعللها صاغرة، رحنا نكتشف طرقًا جديدة نظهر بها مقدرتنا «النظمية»، فاهتدينا إلى التواريخ الشعرية، فصرنا إذا مات صديقنا «حاتم منصور» لا نكتفي بأن نشق عليه الجيوب، ونستمطر السحاب، ونقرح المآقي، ونشتَم الموت، ونعاتب الدهر، ونواري الشمس والقمر في التراب، بل نحفر على حجر فوق رأسه تاريخ موته بأحرف منظومة لا بأرقام بسيطة:
فانقلب الشاعر بهلوانًا، وأصبح الشعر ضربًا من الحلج والجمر، والمشي على الأسلاك، والانتصاب على الرأس، ورفع الأثقال بالأسنان، ولف الرجلين حول العنق، إلى ما هنالك من الحركات التي تجيدها القردة أيما إجادة. من ذلك الألغاز الشعرية، وحل الألغاز، والمنظومات التي بعض مفرداتها أو كلها منقطة، وبعضها أو كلها مهملة، أو حرف منقط فيها يليه حرف مهمل، والتشطير والتسميط والتخميس، إلخ.
ومن المضحكات المبكيات يا صاحبي، أن مثل هذه الحركات البهلوانية كانت ولا تزال تُعرض في سوق آدابنا «كشعر»، وأربابها كانوا ولا يزالون في مقدمة الشعراء عندنا، والشعر براء منها ومنهم، فعلى مَن اللوم؟
أي يا أخي؛ إنك لمُحق في قولك بأن ليس كل شعرنا من هذا القبيل، بل أبواب الشعر عندنا كثيرة وواسعة، فمنها الغزل والنسيب، ومنها المديح والهجاء، ومنها العتاب والرثاء، والفخر والخمر. لكن هذه الأبواب يا أخي، قد أصبحت كذلك معرضًا للعروض والقوافي، لا للشعر.
لقد كان البدوي يتصبب على الأطلال والدمن، وينادي الربوع والركبان، إذا نظر إلى القمر رأى وجه حبيبته فيه، أو إلى الظبي رأى عنقها في عنقه، وفي عينيه عينيها. ونحن لا نزال نتصبب على الأطلال والدمن، ولا أطلال عندنا ولا دمن، وننادي الركب ولا ركب نناديه، وقَل ممن يقرض العروض في أيامنا من رأى في حياته ظبيًا فالتًا …
وإذا هزتنا الحماسة طعنًا بالهندواني واليماني، ونحن لم نطعن في حياتنا ضبًّا، ولو بسكين صغيرة.
وإذا مدحنا لم نجد بدًّا من وضع من نمدحه فوق الشمس والقمر:
وإذا رثينا لا نجد سبيلًا لرثاء الفقيد إلا بذم الأحياء:
فالموت لم يخترك ولم يخترني بعد يا أخي، فلا أنا ولا أنت من الجياد، ولا هذه الملايين التي تصبح على وجه الأرض وتمسي. بل الجود كل الجود تحت التراب، ولا يمشي فوق التراب سوى كل زنيم خسيس …!
أي لحق ما تقول، فليس كل ما ينظمه شعراؤنا من هذا النوع، لا سيما شعراء اليوم؛ فقد أخذوا يفتشون عن مصادر جديدة يستقون منها الإلهام. ويحضرني الآن بعض منها: الطيارات الكهربائية، الغازات المسممة، التلفون، الفونغراف، كرة الرِّجل أو «الفوتبول»، الاستقلال، حدائق الحيوانات، الديمقراطية، الاشتراكية، إلخ، إلخ. نعم نعم، هم ينظمون اليوم في مثل هذه المواضيع، وفي ذلك شاهد على أنهم سائرون مع العصر، لا وراءه؛ لذلك يدعونهم «عصريين»، اعتبر ذلك أيضًا في دواوينهم، أوَلَا ترى كيف يتفننون اليوم في طبعها؟
لقد كان واحدهم سابقًا، يكتفي بنشر ديوانه مبوبًا تبويبًا محكمًا، أو مرتبًا حسب أحرف الهجاء. أما اليوم فتأخذ الديوان، وتجد فيه عدا عن القصائد الشائقة العصرية رسومًا، لا تترك عندك من شك في عبقرية الناظم. هناك رسمه وهو في العاشرة، ثم رسمه وهو في العشرين، ثم في الثلاثين، ثم رسم زوجته وأولاده، ورسم بيته، ورسوم أصحابه الذين رثاهم، ورسوم أقربائه الذين هنَّاهم إما بمولود أو بمعمود أو بزفاف أو بعودة بعد غيبة.
نعم، نعم، إن هذه كلها «لمواضيع عصرية»، والذين ينظمون فيها لا شك «عصريون» سائرون مع العصر لا وراء، وإنما ينقصهم أمر واحد، وذاك أن يسيروا ولو بعض الطريق وراء الشعر، فقد ساروا أجيالًا وراء الزحافات والعلل.
لا بد لنفسي ونفسك يا أخي، وأنفس من ينظمون «عقود» المديح الفارغ والرثاء الشائن والغزل الذي لا غزل فيه، من أن تستفيق يومًا من غيبوبتها الطويلة، حتى أنفس من ينظمون التاريخ ليأتيها يوم تنفتح فيه أعينها، فترى الشمس والفضاء، ولا تستفيق أنفسنا إلا إذا شعرت برعشة الحياة في داخلها؛ لأن الحياة فينا لا خارجًا عنا، وما التأثيرات التي تحدثها فينا الطبيعة أو الحياة الخارجية، إلا منبه لما كمن في داخلنا من العواطف والأفكار، فلولا عواطفنا ولولا أفكارنا، لكان ما ندعوه «الطبيعة» صحيفة بيضاء. إن الحياة إرث مشترك، ولي فيها ما لك، غير أن ما ينتفع به كلانا من هذا الإرث، يتوقف على ما تنبه فيه من العواطف والأفكار؛ لأنها مفتاح إهراء الحياة العجيب، الذي كلما ولجت منه بابًا أدى بك إلى باب سواه.
أي يا أخي، إن عواطفنا وأفكارنا، هي ما استيقظ من الحياة فينا، ومن الغريب أنه كلما تحركت فينا عاطفة أو تململ في داخلنا فكر، تأتيهما ساعة تلفظهما النفس، كما تدفع الحامل الجنين من أحشائها عند اكتمال دور الحمل، كأن النفس لا تعرف ما في داخلها إلا إذا انتصب أمام عينيها. وكما أن الحامل تجهض وتعود فتحمل، كذلك النفس كثيرًا ما تلفظ عواطفها وأفكارها قبل الأوان فتظهر ناقصة مشوهة، لكنها أبدًا تعود فتحمل وتعود فتلد. والنفس التي تولد عواطف جميلة، وأفكار حية ناضجة، هي النفس المستيقظة، النفس الشاعرة، وما تولده مثل هذه النفس، هو الفن، والفن إذا اتخذ الكلام ثوبًا كان شعرًا.
أما النفس التي لا تولد إلا أوزانًا صحيحة وقوافي رنانة، فهي النفس المصابة بالعقم، ولا بد لهذه النفس من أن تتلقح يومًا بجرثومة الحياة، فتجد في داخلها عواطف وأفكارًا، لا أوزانًا وقوافي فقط.
لقد نبهتني يا أخي إلى أمر ما كنت غافلًا عنه، حين قلت لي إن شعراءنا في هذه الأيام قد تعدوا أبواب الشعر القديمة، وإنهم يفتشون عن مواضيع جديدة تجول فيها قرائحهم. فذكرت لك بعض تلك المواضيع، وضحكت منها، وضحكي كان ممزوجًا بالمرارة والأمل؛ أما المرارة فلأن شعراءنا لا يزالون يبحثون عن الشعر في رغوة الحياة وفقاقيعها، وأما الأمل فهو أنهم ببحثهم عن مواضيع جديدة، لا بد من أن يعثروا يومًا على الشعر، فيدركوا أنه لا ينحصر في عشرات من البحور، ولا في ألوف من الأبواب. ففي كل عاطفة باب، وفي كل فكر بحر، بل إن في مظهر واحد من مظاهر العاطفة الواحدة ألف باب وباب، وفي ثنية واحدة من ثنيات الفكر الواحد ألف بحر وبحر. ومتى أدركوا أن مصدر الشعر طي النفس، عكفوا على درس نفسهم، وتفقدوا زواياها وخباياها، حتى إذا ما عثروا هناك على عاطفة ترتعش وفكر يتململ، صاغوا لتلك العاطفة ولذاك الفكر لباسًا من الكلام يليق بهما. وليس من الكلام ما يليق لباسًا للعاطفة الحية، والفكر المستيقظ، إلا ما جمع منه بين تأليف ألوان الرسام، وتناسق أشكال النحات، وتوازن خطوط البناء، وترابط إلحاق الموسيقى.
حينئذ يا أخي تثمر قرائحنا، فيكثر شعرنا، وتقل زحافاتنا وعللنا.