أمين مشرق
(١) الداء العياء
ظهرت منذ مدة في مجلة «الهلال» قصيدة «لأمير الشعر» أحمد شوقي بك بعنوان «درة شوقية». ثم رأينا بعد ذلك في أحد أعداد «السائح» مقالًا لميخائيل نعيمة ينتقد فيه تلك القصيدة انتقاد شاعر صميم، ونقاد ماهر، لا تلهيه رنات القوافي، ورقصات الأوزان عن الجد في تطلب المعاني الرزينة. فكان أن تلك «الدرة» — بعد أن تفحصها نعيمة بمكرسكوب شاعريته، ونقر عليها بمطرقة قريحته — لم تكن درة، بل كانت صدفة براقة تصلح للعب الأولاد. أما البالغون المدركون، فلا قيمة لها عندهم.
لا شك أن كثيرين من ذوي الذوق السليم، وأنصار الحرية الأدبية في أميركا ومصر وسوريا، لا يترددون في الانتصار لناقد القصيدة على ناظمها. ولا شك أيضًا في أن ألوفًا من مريدي «أمير الشعر» وتابعيه، يودون لو أُعطي لهم، أن يتخذوا الفضاء صفحة يخطون فيها بدلًا من الشمس علامة سؤال، وبدلًا من القمر علامة تعجب، ويصورون بسائر النجوم والمذنبات هذه العبارة: «من هو هذا النعيمة ليتجرأ على رفع بصره إلى عرش أمير الشعر؟!»
من واجبات الأيام الجواب على هذا السؤال.
أما أنا، أنا الدودة الحقيرة، فلا أتجاسر على المخاطرة بحياتي «ودحش نفسي بين هذين الجبلين» لا، لا، أَحب إليَّ خوض معارك السوم وفردون، من الخوض في هذه المعمعة؛ لذلك عولت على أمر لم يفعله قبلي سوى الحطيئة القائل:
نعم قد عولت على هجو نفسي كما هجا ذاك وجه الخارجي. لكن بيني وبينه فرقًا بعيدًا، أرجو القراء أن لا يتجاهلوه؛ لكيلا يضيع عليهم المقصود من هذه الأسطر، وهو أن زميلي الحطيئة المرحوم هجا وجهه لمجرد اللذة في الهجو، كما يعترف، وأنا إنما أفعل ذلك أولًا حبًّا بقول الحق، وثانيًا التماسًا للنفع العمومي.
كنت في نيويورك يوم وفاة الأسقف رفائيل هواويني، وبما أنني كنت في ذاك الزمان أعد نفسي في طليعة فحول الشعراء، وبما أنه من أولى واجبات الشاعر رثاء من يموت من كبراء قومه؛ دبجت اسمي الكريم في بروغرام حفلة التأبين، ومضيت إلى غرفتي، فأخذت قلمًا وورقة، وجلست أعصر دماغي مدة عشر ساعات، إلى أن أتيت على قصيدة في ثمانية وأربعين بيتًا، أو قل ثمانية وأربعين سهمًا مسمومًا في صدر الشعر الحقيقي، أو ثماني وأربعين دُملة في وجه الأدب السامي الجميل.
تأملوا بهذا المطلع:
انظروا! جئت أسأل القوم ماذا أقول، إن كنت لا أدري ما الذي أقوله، فلماذا وقفت على منبر التأبين، وإن كنت أدري فلماذا سألتهم؟ ثم إذا كان هول المصاب قد أضل جناني وغل لساني، فمن عاد فهدى ذاك الجنان وحل عقدة ذاك اللسان، حتى تمكنت من إلقاء ثمانية وأربعين بيتًا «على فرد نفس»؟
أقسم بكل عزيز أنه عندما طرق مسمعي خبر الوفاة، سررت لعلمي بأن أمامي فرصة أُظهر بها «بلاغتي الشعرية»، أو بالأحرى بلادتي الأدبية.
أصحيح أن أمين مشرق بكى لفرقة المطران، وهو لم يكن يعرفه، ولا رأى قط وجهه؟ لا أرى أحدًا من سكان الأرض يصدق ذلك. وهب جدلًا أنني بكيت، ألم أبك قبلًا على أعزاء من أهلي ماتوا، ووارى التراب أجسادهم المحبوبة؟! فإن كانت الدموع التي ذرفتها على أولئك الأعزاء غير كافية لتفهمني معنى البكاء، أفتفعل ذلك دمعة أذرفها على رجل غريب عني ومجهول مني؟ سبحان من علمني هذا المنطق.
وهلا تصدقون أن في الأجساد البشرية براكين كبراكين الأرض، اسمعوا:
ومنها:
لو وقف عزرائيل في تلك الساعة عند رأس الميت، وسأل ذلك الجمع الغفير، متطوعًا واحدًا يسلمه نفسه عوضًا عن نفس الأسقف، فمن يتقدم؟ وهل تمتلئ تلك الكنيسة جثثًا، أم تضيق أسواق بروكلن الواسعة بجماهير النساء والرجال، وكلٌّ مطلق ساقيه للريح وفي مقدمتهم هذا الداعي؟
يكفي يكفي، إنني أشفق على القراء من أن أداهمهم ببقية هذه المقيئات، هذه الأقذار المنتنة، هذه الميكروبات السامة. ومن المضحك المبكي أنه على أثر انتهائي من إلقاء تلك القصيدة، تقدم إلي أحد أصحاب الجرائد في نيويورك، طالبًا إياها؛ ليزين بها جيد جريدته، فاعتذرت إليه بلطف «وكبرياء» أن فيها أبياتًا لا تزال برسم التصليح، فلا أتمكن من نشرها حالًا، وكان قصدي أن أتحف بها صديقي صاحب السائح الذي «دحشها في عبه» بعد ذلك بعشر دقائق. ولكن جريدة السائح — في تلك الأيام — كانت تستاهل قصيدتي؛ فإنها ظهرت بعد يومين وجميع صفحاتها مكرسة لوصف تلك الليلة، تحت موضوع «حفلة تذكارية» (هكذا ظهرت أيضًا بقية الجرائد)، وفيها ما فيها من المنظوم والمنثور، وكله ابن عم قصيدتي في البلاغة والرقة.
كاتب هذه السطور، لا يُقصد بها اللوم والتقريع، لكنه كأحد المتعلقين بأذيال الأدب، يملك مقدارًا من غيرة تثيره، وإخلاص يدفعه من حين إلى آخر لإلقاء كلمة أو إبداء ملاحظة، قد تندفع أحيانًا من صدره بعزم القنبلة لطيلة ما يتحملها، وشدة ما يضغط عليها. ذلك لأنه قُدر له كما قُدر لكثيرين سواه، أن يستفيق من «غيبوبة» سداها الإهمال، ولحمتها النسيان، نلقيها على بصائر وقلوب البشر، أوهام الحداثة وأحلام الصبا، فتضعف فيها نباهة الإحساس، وتشوش عليها دقة الشعور والتمييز. استفاق ونظر إلى حياته الأدبية الماضية، كما ينظر من رأس جبل إلى السهل البعيد، فرآها بكل ما فيها من الأقوال والأفعال والأفكار، وبكل ما حوته من الأشواق والأحلام والآمال، وهمًا وضلالًا، ثم نظر إلى رفاقه من أبناء شعبه، متفحصًا مستجليًا مقابلًا، فإذا بالأكثرية — الأكثرية الهائلة منهم — قد نسجت حياتها الأدبية على نفس المنوال، وسارت في نفس الطريق، وجد نفسه مع الألوف المؤلفة، من حملة الأقلام، بيننا يسيرون في موكب التقليد، ناشرين أعلام الجهل، نافخين أبواق الضلال، ضاربين طبول الوهم والادعاء، ظاهرين سيوف الخيلاء والتعصب باسم الأدب؛ ليذبحوا بها شرذمة قليلة من إخوانهم الأبطال، المدافعين على أسوار برج الأدب، ويدكوا ذاك البرج ويمحوا آثاره؛ لذلك يقف الآن في وسط الطريق، ويصرخ في رفاقه صرخة مريرة، أملًا أن يوقفهم عند حدهم صداها القاسي الشديد.
قد يكون هؤلاء القوم المتهوسون بأجمعهم، غير قابلين صلاحًا؛ لأنهم لم يخلقوا ليكونوا من أهل الأدب، وقد يكون بينهم فئة قليلة أو كثيرة ممن وهبتهم الطبيعة شيئًا من المقدرة الأدبية، لكنها لا تزال محجوبة، لأنهم لم يستفيقوا بعد من «غيبوبتهم»، ولم يتفحصوا شئونهم بعيون الإخلاص، التي لا يشوبها غرض. فلمثل هذه الفئة لا لغيرها نوجه هذه السطور؛ علها تقع منهم على عاطفة خدَّرها الوهم فتُنبهها، أو فكرة أعماها التقليد فتهديها. ولجميع من يفهم العربية أقول: إن الداء الذي أكل لحم لغتكم ونخر عظمها، هو داء مزدوج، داء المبالغة، وداء الألفاظ.
(٢) المبالغة
مما يخفف ثقل اللوم عن عواتق حملة الأقلام بيننا، ويكسر من حدة قلم الناقد الملتهبة، أمر حقيقي فينا كالحياة، ثابت كالزمان، وهو قواعد الأدب الموروثة.
لو سمعنا أحد شعراء هذا العصر، يرثي إسكافًا من أقربائه مات بين النعال والأحذية قائلًا: إن الفضل مات بموته، والعلم هد ركنه، والأدب أمسى يتيمًا. ويتعجب كيف أن النجوم لم تنظم حدادًا، والدهر لم يقف حائرًا. أو لو قرأنا شعرًا لآخر يمدح فيه أنور باشا وحصانه الأدهم، بقوله: إن صهيله «في قلب أوروبا له ترديد.» أو لو سمعنا عاشقًا ينشد:
وسألنا الشعراء الثلاثة: لماذا كل هذا الغلو؟ لضحكوا منا، ولا شك مشفقين لجهلنا، ثم أخرج أولهم من تحت إبطه كتاب علم المعاني والبيان، وأظهر الثاني ديوان المتنبي أو الفارض، وفتح الثالث كتاب نهج البلاغة. وقدموها إلينا، وقد لاحت ابتسامة الانتصار على ثغورهم، ولسان حالهم يقول: «تعلموا هنا قواعد البلاغة وحدود البيان، وبعدئذ لا تحتاجون إلى سؤال.»
هؤلاء القوم ويا للأسف معذورون بعض العذر. كيف لا، وكل ما تعلموه منذ أصبحوا يتهاجون الكلمات يبتدئ ﺑ «حدثنا سهيل بن عباد قال»، وينتهي بشرح المعلقات السبع؟ أيُلام التلميذ على حفظ مسائله؟ أوَليس طبيعيًّا أن تنمو النبتة معوجة إذا ربطناها إلى حائط معوج؟ وهل الذنب ذنب الأرض أنها لا تعطي قمحًا إذا زرعناها قطربًا؟
لكن دعونا الآن من الذنب والمذنب، وتعالوا نبسط أمامنا تلك القواعد والحدود، التي أورثنا إياها صاحب نهج البلاغة، وصاحب البيان وأمثالهما؛ لنجرِ عليها ونتمسك بها في مزالق الشعر ومهاوي النثر. فهل ذاك صحيح أن:
«أعذب الشعر أكذبه»؟
الشعر والنثر كلام.
ونتيجة الكلام التفاهم.
ونتيجة التفاهم التأثير.
وأبلغ تأثير في الكلام الصادق.
امرأة تحنو على جثة وحيدها ناثرة دموع قلبها بصمت، وأخرى تتباكى معها مولولة، معولة، متفجعة بصراخ يصم الآذان. تجثو مع الأولى، وقد تسرب حزنها الصامت إلى قلوبنا لصدقه. وندير ظهورنا إلى الأخرى متأففين، وقد نم عويلها عن حزنها الكاذب. ينظر يسوع الناصري إلى مُسَلِّمه يهوذا الأسخريوطي، ويسأله بسكون ولطف: «يا صاحب لماذا جئت؟» فتفعل هذه العبارة البسيطة المختصرة في نفوسنا أكثر بألف ألف مرة من ألف ألف خطاب، لألف محامٍ شهير، في ألف عصر. شحاذان يقول لنا أولهما: «أنا جائع» ويسكت، فنتحنن عليه ونطعمه. والثاني يتلو علينا موعظة يسوع على الجبل، باكيًا بدموع راحيل، متوجعًا كتوجع الخنسا؛ فنلوي عنه كارهين مشمئزين.
عرفت رجلًا ذا لسان ماهر بتنميق الكلام، وله طرق خصوصية في اللهجة، وإشارات رشيقة، وحركات، وغمزات تغري السامع للإصغاء، وتترك لعبارات المتكلم رنة لطيفة ناعمة، يتهادى صداها إلى حين طويل، وله فصاحة في اللفظ، وإحاطة بالوصف قلما يجاريه بهما ممثل أو خطيب، إذا عرضت في حديثه بصلة، مثلًا يصورها للسامعين مفصلًا شكلها ولونها ووزنها ورائحتها وطعمها، حتى يكادوا أن يشعروا برائحة البصل في أنوفهم وبطعمه على ألسنتهم، ومع كل ذلك لم يكن أحد يصغي إليه إلا إذا أراد الضحك والتسلية. وبقيت جاهلًا السبب، إلى أن اجتمعت به مرة، وجعل يحدثني عن بقرة عجيبة، واصفًا إياها وصفًا دقيقًا جميلًا، حتى كدت أراها أمامي. وكل ذلك الوصف لم يكن إلا كمقدمة لخبر عجيب، وهو أنهم كانوا يطعمون تلك البقرة أقة من الأرز صباحًا، ويحلبونها في المساء «سطل رز بحليب بسكر ومازهر»، عندئذ عرفت السر الذي يمنع القوم من الإصغاء لذلك المِلسان، وهو على ما هو من الفصاحة وطيب الحديث، عرفت أن جميع حسناته المنطيقية، لم تكن لتعادل سيئة واحدة فيه، وهي المبالغة.
لذلك الكذاب من الإخوان بيننا ألف شاعر وكاتب وخطيب.
ولبقرته العجيبة ألف شبه من بقر القصائد والمقامات والروايات، التي حليبها «رز بحليب بسكر ومازهر.»
ناظم «في قلب أوروبا له ترديد» كذاب كمصنف قصة البقرة، هذا يجرب أن يقنعنا ويقنع علماء التشريح بأن الأرز الذي كانت البقرة تأكله لم يكن ليسقط في معدتها، بل كان يتحول رأسًا إلى ضرعها، وهناك يمتزج باللبن فتطبخهما حرارة الدم! وذاك لا يخجل أن يصف لنا حصانًا لأنور، إذا صهل في الأستانة، رددت صدى صهيله وادي السين في فرنسا، وغابات هيدبارك في لندن! أما الأول فلا يصغي إليه أحد. وأما الثاني، ويا للعجب العجاب، فيتهافت عليه الصحافيون لينعم عليهم بقصائده، ويلتف حوله ألف رهط ورهط من «شعراء» أمثاله، يهنئونه بفوزه العظيم في معترك الأوزان والقوافي، ويحييه العَوام في الأسواق هامسين فيما بينهم: «هو ذا الشاعر المجيد فلان.»
إننا والله لنحار في السبب الذي جعل واضعي قواعد الأدب عندنا أن يحسبوا الكذب من أول شروط البلاغة، وهم أعلام الأدب والعرفان.
فإن الآداب الدينية والمدنية تنهى عن الكذب.
وإن العقل السليم لا يقبله.
وأن لا رقة فيه، والرقة من خصائص الشعر.
وأنه لا منطق يدعمه، والمنطق ركن الشعر والنثر.
وأنه لا قبل له على النقد والتمحيص، وكلاهما من أول أعمال الأدب.
وأن لا فلسفة فيه، والفلسفة روح الآداب على الإطلاق.
وأنه يظهر الأمور بغير حقيقتها، وأقصى غايات الأدب الحقيقة.
الكذب خداع، والأدب صدق.
الكذب عجز، والأدب مقدرة.
الكذب جبن، والأدب بسالة.
لو وقفت ومادح حصان أنور بحضرة مجلس أدبي، ليعطي كل منا حسابًا عما قاله، فهل أستطيع أن أدغم بشيء من البرهان قولي في قصيدتي السابقة: «لو يفتدي حكم الإله رايتنا …» إلخ. ألا يكون عندي في تلك الدقيقة «السكوت من ذهب»؟ وهل يتمكن رفيقي من إقناع سائليه بكل ما له من الفصاحة والشهرة، بإمكانية ترديد صهيل ذاك الحصان في قلب أوروبا، أم يطرق صامتًا ويؤمن بمرارة أن «حبل الكذب قصير؟»
كلانا كذاب، كلانا قائل ما لم يؤمن به عقله، ولم يشعر به قلبه، وشبيه بنا من قال:
يريد الناظر إيهامنا، وإيهام التي يدَّعي حبها، بأنه يُقَبِّل الحجر البارد الأصم إكرامًا لمشابهته قلبها. هذه هي كذبة فاضحة، لا هي تصدقها، ولا نحن، ولا هو نفسه؛ لأنه لم يشعر قط بعاطفة في قلبه تدفعه لتقبيل الحجر. ولكان كلامه أوقع في النفس، لو اعترف بأنه يأخذ مطرقة، ويكسر بها ذاك الحجر القاسي كقلبها تشفيًّا وحنقًا.
ثم ما هو الجمال في تشبيه قساوة القلب بالحجر.
أفي ذلك رقة شعرية، أم ضخامة حجرية! وهلا كان كلامه أدعى للتصديق وأقرب للشعور الرقيق، لو قال:
لكن شعراءنا لا تستميلهم الرقة، التي هي مجلى الضعف، ولا يستهويهم إلا ما كان قويًّا صلبًا، هائلًا كالجبل والصخر والصحراء والبحر والجوزاء والدهر؛ ذلك لأن حماستهم الفطرية، وفطرتهم العربية، لا تطربان إلا لصليل السيوف، وهتاف الألوف، وصهيل الخيول، وارتجاج الطبول، واكتساح المعالي، واكتساب المكارم، وتشييد المفاخر، ولا ميل لهم ولا وقت ليلتفتوا إلى أشواق وميول وشواعر واهية كالظلال، ضعيفة كتنفس الأطفال، متحركة في أعماق القلب، أو إلى فكرة صغيرة ناقصة مبهمة، تدب في خلايا الرأس دبيب العنكبوت في كهف مظلم مقفر.
والآن إن لم يعجبكم الحجر فهاكم الحديد:
سكوت، سكوت، لنصمت قليلًا فقد طفح القلب بالتذكارات المؤلمة، وأمسى الكلام مرًّا في الحلق، وحق الإخلاص، وحرمة الأدب أنني كلما توغلت أفكاري في هذه الأنفاق السوداء الوعرة، ينقبض قلبي، وتضيق أنفاسي كأنني مسجون في بيت يحترق. وكلما حاولت الخروج عرض في وجهي ألف حائط يسد عليَّ طريق الخلاص، وكلما أغلقت ورائي مخرجًا انفتح أمامي ألف مدخل، يعيدني إلى غرف اللهيب والدخان، حديث الشجون لا ينقطع، التذكارات المؤلمة لا نهاية لها، جروح النفس لا تندمل سريعًا كجروح اللحم، ولربما ضاقت الفسحة المخصصة لهذه الأسطر في «السائح» عن وسعها؛ لذلك سأدفن القسم الأخير منها في صدري، ولا أخرجه إلا متى ضاق هذا الصدر المسكين مرة أخرى، سأحذف «داء الألفاظ»، وأترك لكم مقالتي مبتورة. لكنني سأقدم لكم عوضًا عنها ما هو أفضل منها، وأود أن تقابلوا بينه وبين من يشتهي أن يطرق قلب حبيبته بمطارق حديدية، فاسمعوا هنا ما يقوله في رواية «نوتردام دي باري» كازيمودو المشوه الأحدب، في قصيدة يخاطب بها فتاة يعبدها، لكنها تحب فتى آخر جميل الصورة، قبيح النفس محبة عمياء:
أيها الكويتبون والشويعرون، أيها المتهوسون الناطحو السحاب برءوسهم الفارغة، أيها المقلدون الكذبة، المفاخرون بحقارة أجدادهم، المرتدون أطمار ماضيهم، المتلاهون بسخافة أمسهم؛ سيروا سيروا على قواعد أدبكم العقيمة الضخمة، طالعوا المعلقات السبع واشرحوها، وتبسطوا، ادفنوا عقولكم المتضخمة في مقامات الحريري والزمخشري والشريشي. استقوا من ينابيع البديع واستزيدوا مِن «طرقت الباب حتى كل متني»، طرقوا القلوب الحديد بمطارقكم الحديدية. تغزلوا بالضلفع والرعبوبة، تباكوا على الطلول الدوارس، غوصوا على درر مجمع البحرين، واجمعوا منها العقود المسجعة كأمثال: «فكشف عن سراويله وأشار إلى غرموله.» ولكن أستحلفكم بكل عزيز أن تدفنوا تلك الجواهر والدرر في صدوركم، فنحن لسنا بحاجة إليها، لماذا تطرحون درركم قدام الخنازير؟ إذا كتبتم مقالة حشوها درر فلا تنشروها في جريدة، وإن هبط الوحي عليكم بقصيدة رنانة ساحرة، فلا تتكرموا بها على مجلة. أنتم قد شبعتم من العلم والمعرفة، فلا حاجة لكم للاستزادة. لكن هناك فئة من لحمكم ودمكم، قد مزق الجوع أحشاءها وأحرق العطش قلوبها، تحننوا عليها، يتحنن الله عليكم. أفسحوا لها الطريق لتبل أفئدتها ببلغة، اتركوا جبران يحدثنا عن «البنفسجة الطموحة» وعن «يوسف الفخري». اخفضوا تهاليلكم برهة، فنسمعه ينشد في سكون الليل: «يا ليل العشاق والشعراء والمنشدين.» قفوا قليلًا ودعونا نراقب ميخائيل نعيمة جاثيًا يبتهل إلى ربه: «واجعل اللهم قلبي واحة تسقي القريب والغريب.» خلُّوا هذه البلابل الغردة وأمثالها تصدح على أغصانها، اتركوا هذه النفوس الحرة الجبارة، تفكك عن نفوسكم الأسيرة سلاسل العبودية والظلام. دعوا هذه النسمات المنعشة، تهب على وجه آدابكم ولغتكم العلية المشرفة على الموت، قبل أن يفوت الأوان، بقية المروءة نستنجد فيكم، فضلات الشرف نستصرخ، ظل النخوة نسترحم، أتسمعون؟ أترحمون؟
والآن ها أنا أختم كلامي، ولكنني على أمل الحصول على ما يرضى منكم بهذا الشأن، سأجعل ختامي حاويًا من الألفاظ ما يلذ لكم ويطيب، ولا أراكم إلا شاكرين لي هذه الهمة، ومراعين عواطفي في المستقبل، كمراعاتي عواطفكم في الحاضر.
كان أحدهم يذكر شعر صفي الدين الحلِّي ويقول: إن لا عيب فيه سوى قلة استعمال الألفاظ الغريبة، فأرسل صفي الدين الحلي إليه بهذه الأبيات: