رشيد أيوب
(١) أنفس الشعراء
لما بدا البرق في الظلماء ملتهبًا
وراح يطوي فضاء الله واحتجبا
ناديت ربي وطرفي يرقب الشهبا
رباه يا خالق الأكوان وا عجبا
كم تشبه البرق هذا أنفس الشعرا
يا ليل مهلًا ولا تشفق على بصري
فما تعودت فيك النوم من صغري
يا ليل مهما تَطُل لا بد من سهري
حتى يودع طرفي نجمة السحر
تلك التي عشقتها أنفس الشعرا
دعه يغيض بلج الكاس أدمعه
فقد تذكر نائي الدار أربعه
وهات عودك واضربه لنسمعه
لكن توق رعاك الله أضلعه
تلك الأضالع فيها أنفس الشعرا
يا ساكني سفح صنين وكم سفحـ
ـت للصب عين لبلواكم وما برحت
كأنه نازح عنكم وما نزحت
نفس له لسواكم قط ما جنحت
لا والذي عبدته أنفس الشعرا
سل الكمنجة معنى أنَّة الوتر
والريح إن هينمت سلها عن الخبر
والطير إن بكرت تشدو على الشجر
سلها وسل كل روض زاهر عطر
تجبك يا صاح هذي أنفس الشعرا
يا هائمًا بابنة العنقود تطربه
منها الحميَّا وفعل الراح يحسبه
أستغفر الله مما بت تنسبه
للراح إن الذي في الكاس تشربه
يا صاحبي … أنفس الشعرا
طوباك يا ساكنًا في الغابات تؤنسه
إلاهة الشعر والأشباح تحرسه
يضم كل لطيف الروح مجلسه
ملآنة من صفا الأيام أكؤسه
وحوله تتغنى أنفس الشعرا
لله «ناي» سبتنا روح صاحبه
حتى وقفنا حيارى عند واجبه
فصحت والليل زاهٍ من كواكبه
يا نافخ الناي يحدو في مواكبه
بنغمة الناي هامت أنفس الشعرا
يا نسمة في مروج الحب نافحة
حيث الحمائم لا تنفك نائحة
ناشدتك الله إن باكرت سائحة
عند السواقي بجو الروح سابحة
فهينمي تترنح أنفس الشعرا
(٢) الربيع
مرحبًا ذُبنا اشتياقًا يا ربيع
يا خفيف الروح أهلًا مرحبًا
كلما ضاء محياك البديع
هبت الأرض تباهي الكوكبَا
ومشى في سفح أضلاعي صريع
مات لولا ذكر أيام الصبَا
عجبًا تمضي زمانًا وتعود
وربيعي قد مضى لم يرجع
من ترى أنباك أسرار الخلود
فتوفيت الردى لم تصرع
•••
أم هي الأرض التي تبغي البقا
عرفت كيف البقا بالاقتصاد
فأبت عن حكمة أن تنفقا
واكتست ثوب بهاء مورقًا
ما له ما دامت الدنيا نفاد
يا له ثوبًا موشى بالورود
كل عام يرتدي لم ينزع
حبذا لو كان لي منه برود
كنت أرويها إذن من أدمعي
•••
ما أحلى وجهك الصافي الجميل!
رصَّعته بالندى أيدي الدهور
رب نفس سُجنت دهرًا طويل
مثلما يُسجن مصداح الطيور
أصبحت مطلوقة بعد الكبول
تتغذى ريح الموامي والصخور
فهي لم تخلق لترمى بالقيود
لا ولا، قد صُنعت للبرقع
عجبًا في هذه الدنيا النقود
حجبت إحدى النجوم اللمع
يا ربيع الأرض يا نعم الدوا
لنفوس ما لها إلا الهموم
حيثما تنشر منها ما انطوى
وتذريه إذا مر النسيم
ويح أهل العشق أرباب الهوى
خلقوا في الكون كي يرعوا النجوم
قُسمت أرزاقهم قبل المهود
وقفوا في كل دار بلقع
حفظوا للناس في الدنيا العهود
إنما حفظهم لم ينفع
•••
عطِّري يا زهر أذيال الرياح
إن سرت فوق الرياض القشب
أو دعيها كلما لاح الصباح
أرجا يغني به عن كتبي
غربة أمست حياتي وانتزاح
ومناجاة ورعي الشهب
فإذا ما لاح للصبح عمود
بعد ليل كغراب أبقع
قلت في نفسي وللنوم صدود
أو حتى غربة في مضجعي؟!
•••
إنا لولا ذكر أيام الصبا
قلت يا نفسي إذا شئت اذهبي
غير أني كلما هبت صبا
أنعشت قلبي بذكر طيب
لا أبالي إن حللت المغربا
طالما شمس المنى لم تغرب
فحياة المرء في هذا الوجود
رغبة النفس وعت أو لم تعِ
وبكائي للأولى طي اللحود
كعزائي بالأولى باتوا معي
(٣) الدرويش
دعته الأماني فخلى الربوع
وسار وفي النفس شيء كثير
وفي الصدر بين حنايا الضلوع
لنيل الأماني فؤاد كبير
فحث المطايا وخاض البحار
ومرت ليالٍ وكرَّت سنون
ولم يرجع
وألقى عصاه وحط الرحال
بأرض الأشاوس والأشبل
تنم عليه فعال الرجال
كما نمت الريح بالمندل
وراح يغني بصفو الزمان
غناء البلابل فوق الغصون
على مسمعي
فمرت سعود، وجاءت نحوس
«وقد نصل الدهر صبغ الشباب»
فعلل نفسًا رمتها البئوس
ببحر هموم علاه الضباب
أيا نفس، صبرًا لحكم القضا!
ويا نفس مهما دهتك الشجون
فلا تجزعي
فما بال نفسي بنت الخلود
تخاف الخلود وتأبى الذهاب!
وقلبي الخفوق عراه الجمود
أيخشى التراب ابن هذا التراب!
وبات المسافر في حيرة
بمعنى الحياة وسر المنون
ولم يهجع
أيا جيرة الحي، أين الطريق؟
فإني ضللت عن المنزل
لقد كان لي في حماكم رفيق
من المهد في الزمن الأول
فغضوا العيون وفيها الدموع
فحار فؤادي بتلك العيون
وفي الأدمع
وقالوا: رأينا شريدًا يجول
بعيدًا عن الناس في معزل
يبيت الليالي يؤم الطلول
ويبكي على عهده الأول
فقلنا: دعوه عراه جنو
ن ومرت ليالٍ وكرَّت سنون
ولم يرجع