عبد المسيح حداد
(١) الله يسعده ويبعده
لم يكن من يستطيع من يفهم أصل الخلاف بين إبراهيم الصالح وأخيه فريد، وقد بدأ الخلاف بينهما في أول أسبوع وصل فيه الصغير إلى هذه البلاد. وبعد أن كان إبراهيم يستعد لاستئجار منزل خصوصي، يشتري له أثاثًا جميلًا، ليعيش مع أخيه فريد كعائلة صغيرة، لبث في غرفته المفروشة وطرد أخاه من عنده، فاضطر المسكين، وهو دون السابعة عشرة إلى أن يستأجر غرفة له زرية جدًّا، وأن يعمل كأجير في محل تجاري ليعيش مستقلًّا.
حكى لي فريد الصغير عن خلافه مع أخيه، فقال إنه لا يعلم لماذا كرهه أخوه، ولم يأثم أمامه، ولا أخل باعتباره كأخيه الأكبر، ووليِّ نعمته، ولكنه لسبب بسيط جدًّا، ارتأى إبراهيم أن يفترقا، وأن يعيش كل منهما لنفسه. ومذ منعت اجتماعاتهما معًا، إلا إذا كانا وحدهما، وإذ ذاك يستعمل إبراهيم سلطته على أخيه، فيأمره أمرًا، وينفض طرف سترته بأصابعه علامة أنه هكذا يريده أن يعمل، وإذا أبى فلا يكون مسئولًا.
إن خلاف الأخوين على هذه الصورة أمر غريب جدًّا، فليس بينهما من خطأ ارتكبه أحدهما ضد الآخر، ولا بينهما ما لا يمحى. على أن الاثنين ناجحان بأشغالهما. وإبراهيم رجل يبلغ الخامسة والثلاثين، وقد صار له نحو عشرين سنة يعمل في أميركا، ولما أنهى فريد المدرسة الابتدائية، استقدمه إليه، على أمل أن يفتحا محلًّا تجاريًّا، يكون فيه رئيسًا، وأخوه مديرًا، إلا أن الأمور انتهت بالجفاء بين الاثنين في أول أسبوع لوصول فريد إلى أميركا.
أما فريد فشاب ذكيٌّ، له إلمام بالعلوم، وولع بالمطالعة. قليل الكلام، ولكنه رصين لا يتكلم إلا اللازم الذي يفيد. عكس أخيه الأكبر؛ فإنه كثير الكلام، كثير الدعوى، يتدخل في كل موضوع، ويحشر نفسه في كل مشكل. وقد ولع أيضًا بالمطالعة الصحفية والكتبية، وإنما ولعًا سطحيًّا، فكان يحفظ أسماء أعاظم الرجال من سياسيين وعلماء وفلاسفة وشعراء، فإذا تكلم في اجتماع يُكثر من ذكره تلك الأسماء، فينظر الناس إليه كرجل عليم، في صدره كنوز علم وعرفان. فإذا كان الحديث عن السياسة أسرع، فذكر بسمارك وغلادستون، وقال: فلان قال كذا وكذا، ومن اطلع على كتبه أو ما قاله بسمارك أو غلادستون ليكذبه؟ وإذا كان الحديث عن الشعر، ذكر في الحال المتنبي وأبا العلاء، مع بعض أبيات لكليهما يقولها باللفظ المكسر. ثم يعمق بتاريخ الشعر، فيذكر هوميروس ويتدرج بالأسماء إلى هيكو وموسيه وووو … حتى يسكت الحاضرون، ويعطوه موقف الكلام. ولا يعدم أن يرى منهم إعجابًا بسعة معارفه، ووفرة علومه، حتى صار عندهم مرجعًا لكل أمر، ومضرب المثل في العلم، بكل باب من أبوابه.
ودام هذا معه حتى وصل فريد إلى نيويورك، فصار يحضر مع أخيه بعض الاجتماعات، ويراه راكبًا مركب الشطط بأكثر أحاديثه، فكان يسكت أولًا حياء منه، ولكنه بعد أن أستأنس صار يعترض على غلط أخيه ويصلحه. فكان إبراهيم يحرق الأرم غيظًا، ويلعن الساعة التي وصل فيها أخوه؛ لينزع عنه مقامه كعالم بين الناس.
ومرة كان الأخوان في سهرة حافلة، وكان الفونوغراف يشنف أسماع الحاضرين، والكئوس دائرة عليهم، وآخر أسطوانة سمعوها فذهبوا بسحرها، كانت أسطوانة للصلبان ينشد فيها «يا ليل لصب …» فكان بعضهم يعيدها ويعيدها، ويساعده غناء بها، واستشهادًا بمعاني أبياتها الجميلة، حتى وقف عند: «رقد السَّمار وأرَّقه»، فقال في القوم: «من هذا السمار؟»
فأجاب أحدهم، وقال: «أظن أن السَّمار هو الذي يدق المسامير.»
فضحك الكل من جوابه.
وقال ثانٍ: «أظن السمار هو الهر؛ أي السنور، لا بل السنمار.»
وقال ثالث: «لا، بل هو السمرمر الذي يطارد الجراد.»
واختلف القوم على معنى الكلمة، وإبراهيم الصالح يتنحنح، وقد غاب عن الحضور بفكره، ليأتي لهم بمعنى الكلمة لهم، فكان كلامه فصل الخطاب. وأما أخوه الصغير فريد، فكان الحال عنده كالتياترو، فما كان يهدأ من الضحك بكل ما استطاع شدقاه، وبكل ما في رئتيه من القوة.
وأخيرًا صاح صائح، وقال: «عند إبراهيم الصالح، ونتجاسر على تفسير الكلمة، فلنسمعه الآن يحل لنا المشكل.»
وسكت الحاضرون، ووقف الفونغراف، وصاروا كلهم آذانًا مستعدة للسماع، وعيونهم مصوبة على نقطة واحدة هي؛ وجه إبراهيم الصالح.
عندئذ لم يعد لإبراهيم من مهرب، فعار عليه أن لا يحل مشكلة صغيرة كهذه، وهو لم يعوِّدهم ذلك، ففتح فمه أولًا ببطء كلي، وعيناه محملقتان، ووجهه يتطاول، وكان بطرف نظره يحدج أخاه فريدًا، لهذا تلعثم قليلًا، ولما تحنن الله على صبر القوم، خرجت من فِيهِ كلمة «أظن» خمس مرات، وبين كل مرة وأخرى فرصة دقيقتين، حتى أخيرًا فاض بحل المشكل طارحًا عنه التردد المصنَّع، وقال: «إن السَّمار هو السامري، عزول اليهودي، ويظهر أن قائل تلك الأبيات يهودي، فيكون المعنى: أن العدو نام، وهو لم ينَم، بل أرَّقه الألم.»
ويظهر أن فريدًا في تلك الساعة، نسي أن أخاه الأكبر كان المتكلم، ولهذا استعان بكل ما في قدرته على الضحك، حين كان الكل صامتين، وعلى وجوههم سيماء الرصانة، يتوقعون القول الفصل من رب العرفان عندهم، وهذا ما دعا إبراهيم أن يستشيط غيظًا من أخيه، فشتمه، ولولا حرمة الناس لكان ضربه، فانتبه فريد لأمره، وعقب ضحكاته الطويلة عبوسة فجائية، فاستصفح أخاه وأقر بأنه مخطئ، وأنه نسي نفسه لتفاسير القوم كلمة «سمار» البعيدة الصواب.
عندئذ قال له أخوه: «أنت» يا فريد مثل كل ولد يأتي من سوريا مملوء دعوى، ولا تحترم معارف الآخرين، بل تظن أن ما تلقنته في المدرسة هو كل العلم، مع أنه ينقصك تهذيب كثير. والآن «يا عيب الشوم»، دعوتنا نخجل أمام الناس، فقم بنا قم.»
وقد ألح الحاضرون على إبراهيم أن يعدل عن فكره بالرحيل، وأن يهدئ روعه قليلًا، وأن أخاه سيتعلم فيما بعد، فيحسن سلوكه، ويعرف كيف يجالس الناس.
وكان أحد الحاضرين الذين فسروا الكلمة شديد الاستياء من جواب فريد لأخيه؛ بأن تفاسير القوم أضحكته، فخاطبه بملء الاشمئزاز، قائلًا: «وهل عندك تفسير أحسن. أي نعم، نحن لم نتعلم في المدارس مثلك، ولكن لا أظن أن كلامنا يوجب ضحك الناس، إلا إذا كان ضحكك بلا سبب، والضحك بلا سبب من قلة الأدب.»
هنا تبدلت هيأة فريد الصغير، فقال بصوت لطيف، والحيرة آخذة منه مأخذًا: «اعذروني يا إخوان على ما بدر مني؛ فأنا لم أقصد بضحكي الحط من كرامة الذين فسروا كلمة «سمار»؛ بل إن تفاسيرهم جعلتني أضحك؛ لأننا في مجلس سرور، ويجوز فيه لأيٍّ كان أن يضحك.»
أما إبراهيم فظل واقفًا يشد بذراع أخيه، ليخرج من تلك الجلسة، لئلا يحدث ما يكدره أكثر. ولكن رجلًا متقدمًا في السن أعجبه منطق فريد، فنهض باسمًا، وتقدم إلى إبراهيم سائلًا إياه أن يعود إلى مكانه؛ لمحو أثر الخلاف، خوفًا على خاطر الصغير القادم من البلاد؛ فقد شعر بنفسه أن فريدًا انكسر خاطره، فاضطر إبراهيم إلى الجلوس، وعاد الرجل المتقدم في السن فقال لفريد: «يا فريد لا تزعل يا ابني، لا بأس عليك، مسألة صغيرة، لا تستحي فكل الحاضرين إخوان. أي يا ابني، اقعد، وقل لنا الآن كيف تفسر سمار، لنضحك نحن عليك، كما أنت ضحكت علينا.»
فضحك القوم سلفًا على فريد، ما عدا إبراهيم، الذي كان السم يغلي في قلبه، ولكنه لم يجسر أن يعترض، ولما رأى فريد أن الحاضرين سري عنهم، تبسم وقال: «إن كلمة سُمار جمع سمير، والسمير هو الذي يسهر الليل، فيكون معنى الشاعر أن الساهرين ناموا، إلا هو، فقد حرمه النوم ألمٌ يعذبه.»
فضحك ذلك المتقدم في السن ضحكة كبيرة، وقال: «أي والله الآن أخذنا ثأرنا منك.» وضحك لضحكته الحاضرون إلا إبراهيم، الذي نهض في الحال يريد الذهاب مع أخيه، بداعي أن السهرة طالت.
تلك السهرة لم ينَم فريد مع أخيه، ومنذ تلك السهرة، لم يعد يضم الأخوين اجتماع، وعندما يسأل إبراهيم عن سلوك أخيه، يهز رأسه ويتنهد قائلًا: «ما أحد اشترى البلوى لنفسه مثلي؛ فقد كنت بلا هم فجئت بأخي ليزيد سروري، فكان أنه حرمني الراحة، ولكن أميركا واسعة، فالله يسعده ويبعده.»
(٢) في بيت الميت
عندما مات طانيوس المر، ظل بيت الفقيد مقصد المعزين أسبوعًا كاملًا، ليل نهار، وقد خيف أن يكون بلاء أهل الفقيد من كثرة المعزين أكثر من فقدهم المرحوم، ولكن هي العادة السورية في هذه الأحوال تأخذ مأخذها، وهو التقليد يجري مجراه، ولو تقطعت القلوب وتفتت الأكباد وتحطم إناء الصبر، أهل الميت يسمعون تعازي من أفواه المعزين، كأنها أمثولات تعلمها قائلوها من جملة الصلوات التي تقال كل يوم. وإني أنا كاتب هذه الحكاية أشعر بكل ما فيَّ من العواطف مع الفاقدين، ليس على من يفقد، بل على جلادتهم في استماع فلسفة التعازي.
إلا أنه من نعم المولى؛ أن الاصطلاح في التعزية أن يكون وقتها قصيرًا جدًّا، فالمعزي يبقي قبعته بيده، وإذا كان في الشتاء يظل لابسًا سترته العليا. وما الداعي إلى هذا الاختصار ميل من القوم إلى التخفيف عن أهل الميت، بل كثرة القادمين، حتى يضيق عنهم المكان، وإذ ذاك يخرج فوج ليعطي مكانًا للفوج القادم جديدًا.
أما أهل الميت، فجلوس بلا حراك، وآذان بلا ألسنة، وعيون تنظر أحضانها، وشفاه تتمتم كلمتين لكل قادم وكل مودع، وهما: «ورأسك سالم» جوابًا على التحية في التعزية لدى الدخول والخروج، وهي: «عوضنا الله بسلامة رءوسكم.» والمرحوم طانيوس المر كنت أعرفه معرفة خارجية، فلم أزره في بيته بحياته، ولكن صديقي بطرس كرواني جذبني جذبًا؛ لنأخذ خاطر أهل الفقيد، قائلًا لي إن التعزية واجبة على كل عارف، ولا فرق، نسيبًا كان أم صديقًا أم من المعارف.
وهكذا كان، ذهبنا وكان حضرة صديقي أبرع مني في الكلام، فقد دخلت إلى بيت الميت، وأنا كالجنين في عالم التقاليد، فقد هممت بإلقاء التحية التي أقولها في كل الأوقات، إلا أن صديقي بطرس رفع كفه ووضعه على فمي، فجعلني أبلع «نهاركم سعيد»، ثم همس بأذني أن أقول: «الله يعوضنا بسلامتكم»، فقلت، وجلست، كأني من أهل الميت، على ما وصفت وأزيدهم بعدم التمتمة؛ لأن المسألة لا تعنيني، وبنظر الأشباح من كل جهة؛ لأن حضني كان مملوءًا بسترتي المطوية، وفوقها قبعتي، وقد احمر وجهي خجلًا؛ لأني كنت الوحيد النازع عنه سترته.
بعد سكوت خمس دقائق، فتح بطرس فاه بالكلام، فقال: «قبل أن مات إسكندر الكبير عرف أن آخرته قد اقتربت، وأن أمه ستحزن عليه حزنًا عميقًا، فدعاها إليه قبل موته وقال لها: وصيتي إليك يا أماه أن تأدبي مأدبة بعد موتي، وتدعي إليها كل الناس، وعندما يجلسون إلى المائدة قولي لهم: إن من لم يذُق حزنًا على حبيب له، فليمد يده ويأكل. وهكذا كان. فبعد وفاته أدبت مأدبة، ودعت إليها جميع الناس، ولما جلسوا إلى المائدة قالت لهم ما أوصاها ابنها إسكندر أن تقوله، فلم يمد أحد يده للطعام؛ فعرفت إذ ذاك أن كأس الموت دائرة على الجميع، ولهذا تعزت في مصابها الجلل.»
سمعت هذه الموعظة، فكبر قائلها بعيني، وقلت في نفسي: يا ضيعان ما تعلمته في المدارس، والله إن بطرس فاقني بأسلوبه المعزي، وقال أحسن موعظة تقال في محلها، وكأني نسيت نفسي أني موجود في هيكل الصمت، فقلت لرفيقي: «أحسنت والله بهذه التعزية، إنها لحكمة منزلة.»
أما الحاضرون، ولم يكونوا كثارًا؛ لأن زيارتنا لأهل الميت كانت بعد أسبوع، وقد بدأت حركة التعزية تقل، فقد سمعوا الموعظة الجميلة، كأنهم لم يسمعوا شيئًا البتة، وقد عجبت لأمرهم، فقلت في نفسي: لعلهم طمطمانيون، لم يفهموا معنى الذي قيل أمامهم.
ولم يكَد ينهي بطرس كلماته الدرية، حتى وافى البيت فوج مؤلف من ثلاثة رجال. ولأن المكان واسع والزوار قليلون، بقينا في أماكننا، بل بقي بطرس جالسًا، واضطررت أن لا أتحرك؛ لأنه هو الزنبرك لهذه الزيارة.
ولما جلس القادمون جديدًا، فتح أحدهم فاه بالكلام، وفيما هو يهم ليتكلم حزنت على نفسي، وقلت: يا الله؛ ما أجهلني! فإني لا أفهم شيئًا من العادات والتقاليد، ولم أُمرن نفسي على الكلام اللازم في كل حين. أما المتكلم فبدأ بقوله: «هذا حال الدنيا، الموت محتم على كل الناس، لا مهرب منه، كان إسكندر الكبير قد فتح الدنيا بأسرها، وهو في الثلاثين من عمره …»
وفيما هو يخبرنا عن الإسكندر، قلت في نفسي موعظة ثانية تأتينا، وقد حتمت عليَّ أن أقصد المكتبة العمومية بعد هذه الزيارة؛ لأطالع حياة ذلك الرجل العظيم، الذي كل تاريخه مواعظ لازمة للبشر في حالات المصائب، وقد تحولت إلى إصغاء تام؛ لأسمع المتكلم، فلا تفوتني الموعظة الثانية، ولكن شد ما كان فشلي عندما سمعت منه نفس الموعظة التي أخبرها بطرس، ولهذا استأت في داخلي أيما استياء.
عندئذ هَم رفيقي بالنهوض؛ لأنه رأى فوجًا آخر مؤلفًا من قادمين اقتربا من الباب، فكبست على ركبته وهمست في أذنه إني أريد أن أبقى، حتى نخرج كلنا معًا، فسايرني بطرس مضطرًّا، ودخل القادمان فتليا أفشين التعزية وجلسا. وما هي إلا لحظة حتى فتح كبيرهما فاه بالكلام، فسمعته يقول: ما هان علينا موت المرحوم، ولكن أمر الله لا مرد له، هكذا قدر وكان، فسبحان الدائم. يحكى أن إسكندر ذا القرنين شعر بدنو أجله …
هنا تنحنحت قليلًا، فلاحت مني لفتة إلى صديقي بطرس، فرأيته يخط وجهه ابتسامة، ولكن في الحال أدرت وجهي عنه إلى ناحية المتكلم؛ لأسمع حكاية إسكندر ذي القرنين، وبعد سماعي جملتين من حديثه بدأ وجهي يخط ابتسامة عريضة، وللحال خوفًا من أن تنتهي الابتسامة بضحكة، ونحن في هيكل الحزن والخشوع، نهضت ونهض معي رفيقي، فقلت: بالإذن بلا قطع حديث حضرة المتكلم، ونهاركم سعيد جميعًا.
وخرجت وتبعني بطرس، ولما صرنا خارج البيت أمسكني صديقًا مستوقفًا، وقال والسم يقطر من وجهه: ما نفعك ونفع علمك، إذا كنت لا تفهم أن في بيوت أهل الموتى لا يقولون عبارة: «نهاركم سعيد»، وقد أفهمتك عندما دخلنا أن لا تلفظها فبلعتها، فلماذا نسيت هذا الأمر عندما خرجت؟
فقلت له: دعني من عتبك يا بطرس، وأخبرني أين قرأت القصة التي قلتها في بيت الميت؟ فقال إنه سمع جده يرويها في مأتم شيخ القرية. فقلت: وأين قرأها جدك؟ فقال: لا بد أنه سمعها من جده. فقلت له: إذن في مرة ثانية اضبط التاريخ وقل هكذا: «حدثني جدي عن جده عن جده، حتى تصل إلى معاصر لإسكندر الكبير.»
فضحك بطرس وصفح عني، وقال وهو يصافحني، ليأخذ سبيلًا غير سبيلي: اضحك بسرك، فإننا لم نكمل الساعة في بيت المرحوم، وإلا لكنا سمعنا حكاية إسكندر الكبير، لا أقل من عشرين مرة.
فأجبته ولعلني قلت الصواب: «لو كنت موضع أهل الميت لقلت للناس، المرحوم استراح من هذه الدنيا ومن مواعظكم.»
وودعت بطرس وسرت في طريقي، فالتقيت بجماعة عرفت منهم واحدًا. ولما رآني دنا مني مسلِّمًا، وأخبرني أنه ذاهب ليأخذ بخاطر آل المر، فأخبرته أني آتٍ من تعزيتهم، الله يساعدهم، فأعاد: «الله يساعدهم»، وزاد: «ويعينهم»، وقد أخبرته كيف أني دخلت بيت الميت ولم أقل عبارة تعزية أعزي بها المساكين؛ لأني لا أفهم الاصطلاحات، فضحك مني وقال: «أهي مسألة فلسفة، احكِ قصة فيها مغزى، وعَزِّ بها الجماعة.» فقلت: وما عساك أن تحكي أنت؟
فبدأ يخبرني قصة إسكندر ذي القرنين، ولكني قاطعته قائلًا: إني أعرفها، وأشرت له أن يلحق بأصحابه؛ ليعزوا الجماعة وليساعدهم الله — ويعينهم — ويرحمهم.
(٣) رأس الحكمة
الطفل إذا خاف يفزع إلى أمه، كذلك كل ضعيف إذا شعر بخطر محدق به يفزع إلى قويه.
وللنفس كما للجسد مفزعة، وإنما ما لا تُرى كالنفس. وكل شيء صفته من جنسه، فكما أن النفس لا تُرى، كذلك مفزعتها لا تُرى.
عندما تحدق بالمرء المخاطر، تفزع نفسه إلى أمها الخفية، كما يفزع الطفل إلى أمه إذا خاف على مرأى منا.
أما فزع النفس إلى أمها، فيظهر للناس بالخشوع، إذا اشتمل عليهم الخوف من قوة، لا قِبل لهم على مقاومتها جسديًّا. لم أكن منذ سنين لأثق بالخشوع والمتخشعين، وكثيرًا ما أضحكني إبصاري أناسًا جامدين، أمام غير مرئي تخشعوا له بعيون مغربة، وأيادٍ مكتفة، وشفاه متمتمة، إلا أني لم أعد أضحك منهم بعد حادثة عرضت لي، فاكتشفت سر غير المرئي، الذي يقف الناس أمامه مصلين.
كان ذلك في البرية، حيث انفردت بنفسي آمنًا من الوحش والإنسان، بل من الإنس والجان. وما أن اكتنفتني وحشة الخلوة، حتى تلبدت السماء بالغيوم، فاكفهر النهار، وانقلب ظلامًا، وأخذت الرعود تقرقع بملايين ملايين طبولها، وانبثق من الفضاء العالي سهم من نار، وصل أوله لأرض لولبيا من بعيد، ولم يخرج ثمت نصفه من الشفق، فشعرت بخوف لم أكن لأشعر به لو أني وجدت بين نابي جيش معاد، وأنا في ساحة الحرب أعزل. ثم أحسست بأن نفسي كذلك قد خافت، ففزعت إلى أمها في السموات، ولم أدرِ إلا وأنا متخشع أمام ما لا أرى منه إلا الجبروت على ما ندعوه كونًا. فلما ذهب عني الخوف، إذ هدأت الحال، وجدتني في تلك البرية واقفًا أمام غير المرئي، كواحد من الذين ضحكت من وقوفهم جامدين مكتفين متمتمين متخشعين.
إن المرء يدرك عن طريق نفسه سرًّا في المخاطر غريبًا في كيانه؛ إذ تفزع نفسه إلى أصلها العظيم الذي لا يُرى كذاتها، كما تفزع صغار الأفراخ إلى أمهاتها بدافع غريزيٍّ، هو في الحيوان كما هو في الإنسان، حينئذ يخشع الصغير الضعيف، أمام العظيم القوي المنبثق منه، والنفس شيء من «ما لا حد له»، فإذا ما نبهتها المخاطر، ودت الالتحاق بأصلها العظيم فازعة، ودليلنا على ذلك خشوعًا إبان الخطر.
والنفس لا تكلمنا لنفهم منها أصلها وفصلها، ولكنا نعلم أنها إذ تحتك بأسلاكها المرتبطة بها مع الألوهية، نرتجف لقوة ما لا ندركه مما لا يرى، فنخشع مضطرين بقصد أم بغير قصد، خشوع الصغير أمام الكبير.
صعدت يومًا إلى جسر بروكلن؛ لاجتيازه مشيًا على قدمي، فأرى وألمس عظمة وصل إليها العقل البشري المخترع، ولما صرت في منتصفه مددت بصري إلى نصفه أمامي، ثم التفت فمددت بصري إلى نصفه ورائي، فأدهشني بناء عجيب فوق الماء، ينقل شطر المدينة العظمى إلى شطرها الثاني، ولكني ما لبثت حتى شخصت إلى العلاء، فرأيت من النجوم في الفضاء ما لا عد له، فحملتني نفسي على جسر هيولي إلى فوق، حيث ديار أهلها، ولما بان لي ذلك الجسر الهائل قلت في داخلي: «عظيم جسر بروكلن يشيده العقل البشري، ولكن ما هي نسبته لذلك الجسر الهائل، الذي يحمل ملايين ملايين ملايين الأجرام بين سيارات، وثوابت، ويربطها ببعضها بقوة لا ندرك كنهها.»
فسمعت إذ ذاك نفسي تهتف قائلة: تخشع أيها الإنسان أمام ما لا تدركه العقول.
فقلت وقد جمدت، وكتفت ساعدي، وتخشعت: الخشوع أيها النفس، خوف، فهل خُلق الإنسان ليخاف؟
فأجابت نفسي وقالت: بلى الخشوع من الخوف، والخوف من الفكر، والفكر من النفس، والنفس من اللانهاية، التي كل ما تراه أمامك، وفوقك، ووراءك، وتحتك، وما لا تراه بعض بعضها، فإذا احتكت النفس بأسلاك توصلها بأصولها، نبهت الفكر، فتنفس الفكر بالخوف، والخوف بعث الخشوع، والخشوع أمام القوة غير المحدودة، همس الإنسان الصغير في أذن الفضاء العظيم، عن أن المرء قد عرف ما هو في هذا العالم، ومن هو من هذا العالم، ولهذا فهو يفزع إلى ربه كما يفزع الطفل إلى أمه، والضعيف إلى قويه.
إذ ذاك أدركت الحكمة، بقول ذلك الحكيم القائل: «رأس الحكمة مخافة الله.»