مقدمة
إن التقديم لكتابٍ أمرٌ في غاية التعقيد للكاتب، وهو أكثر تعقيدًا إذا كان الكاتب يُقدِّم لعملٍ له، ويزداد الأمر سوءًا إذا كان هذا العمل الذي يُقدِّم له عملًا فنيًّا. وقد ظللتُ عمري أعتقد أن الكاتب الذي يُقدِّم لعملٍ فنيٍّ له كأنه يعلن القُرَّاءَ بشيءٍ من شيئَين؛ إمَّا أنه عجز عن قول ما يريد قوله بعمله الفني المجرد، وإمَّا أنه يعلن القارئ بأنه لن يستطيع التغلغل إلى أعماق فنِّه ليصل إلى المعاني العميقة التي يحتويها هذا العمل. ولستُ أدري أي الإعلانَين أكثر سخافةً من صاحبه!
ولكنني مع ذلك أعتقد أن هذا العمل الذي بين يدَيك يحتاج إلى تقديم، فهي المرة الأولى التي ألتقي فيها بك بعملٍ مثل هذا، فهذه تمثيلياتٌ إذاعيةٌ، كتبتُها جميعًا لتُذاع. والتمثيلية الإذاعية — كما تعرف — تعتمد على الأُذن؛ فشأنها شأن الأغنية، النص فيها جزءٌ من العمل وليس العمل كله، فالنص الروائي أو نصُّ القصة القصيرة نصٌّ تكتمل جوانبه بمجرد انتهاء الكاتب منه. أمَّا النص الغنائي والإذاعي فنصٌّ تبدأ مقدماته بانتهاء الكاتب منه، ويظل ينتظره بعد ذلك المخرج أو الملحن، والممثلون أو المغني، ولكن أليس هذا شأن الأعمال الدرامية جميعها؟! وهل هناك ما يمنعكَ أن تقرأ القصيدة الغنائية وتستمتع بها دون اللحن والأداء؟! أو هل هناك ما يمنعكَ من قراءة المسرحية والاستمتاع بها دون الإخراج والتمثيل؟!
بل إن جان بول سارتر يذهب إلى أبعد من هذا، فيُقدِّم إليك في كتابٍ مقروء سيناريو أعدَّه للسينما، وقد قرأتُه أنا واستمتعتُ به غاية الاستمتاع.
ألا ترى معي أن العمل الجيد حبيبٌ إلى النفس مهما يكن الشكل الذي يُقدَّم إليك فيه؟ وأرجوك ألا تعتقد أنني أُزكِّي عملي لديكَ؛ فما أحسستُ بالخوف منك قَدْر خوفي وأنا أُقدِّم إليكَ هذا الكتاب بين يدَيك، ومصادر الخشية كثيرةٌ.
فقد كنت أكتبُ هذه التمثيلياتِ وأنا لا أفكِّر إلا في أُذنك، والأذن لا تمُسك بالكلمة وإنما تسمعها وتلقي بها في سرعةٍ خاطفةٍ إلى العقل الذي ما يلبث أن ينتظر الكلمة التالية، ثم ها أنا ذا أقدِّمها إلى عينَيك الواعية، لتُنعِم فيها النظر، ثم تُنعِم وتعرضها بعد ذلك على عقلكَ في هدوءٍ واطمئنانٍ ودعةٍ، ويروح عقلُكَ يفكِّر فيها لا يشغلُه شيءٌ، ولا بأس عليه أن يقبل الوقوف ويُطيله، وماذا وراءه؟ الكتاب في يده، ويستطيع الكتاب أن ينتظر الأجيال، فأنا هنا ألتقي بك في موقفٍ لم أُعِدَّ نفسي له، وكل ما أتمناه أن أنجو من سخطك لأفوز ببعضٍ من رضائك، أو لأفوز — على الأقل — بالنجاة من السخط.
وأنا أخشى أيضًا من الجملة التي كنتُ أتوخَّى فيها شيئًا من الموسيقى اللفظية لعلها تُرضيك عند السماع، ولا أدري كيف ستستقبلها عند القراءة؟
وأخشى من الانتقالات السريعة التي تعتمد عليها التمثيلية الإذاعية ولم تألَفْها التمثيلية المقروءة.
أشياءُ كثيرةٌ أخشاها، ولكن ألا تحفُّ الخشيةُ بكل تجربةٍ جديدةٍ؟ وإني أُجرِّب معك هذه التجربة. وفي التجربة يجب أن يتكاتف مُقدِّم التجربة مع مستقبليها فماذا عليكَ لو أنك أعنتَني بالصبر تُكافئ به هذه الخشية التي أُحِسُّها منك؟
ولقد شجَّعَني على القيام بهذه التجربة اللغة التي كتبتُ بها هذه التمثيليات؛ فاعتقادي أن النص إذا كان مكتوبًا باللغة العامية يصبح من العسير تقديمه في كتبٍ؛ فإن وجود لغتَين في أدبنا يُضيع على هذا الأدب كثيرًا مما هو جدير بالنشر. فمهما يدافع كُتَّاب العامية عنها فإنهم لم يستطيعوا حتى الآن أن يُقنعوا القارئ أن يقرأ الأدب العامي. لا يستطيع القارئ أن يقرأ العامية؛ فهي مقروءة تصبح بالنسبة إليه لغةً جديدة. ولعل هذا هو السبب في أن كُتَّاب التمثيلية الإذاعية لم يُقبلوا على نشرها.
وقد شجَّعَني على تقديم هذا الكتابِ إليكَ أنني كتبتُ التمثيلياتِ جميعها باللغة العربية، ولن تجد تنافرًا بين الشخصيات واللغة التي يتكلَّمون بها؛ فهم جميعًا يعيشون في أزمانٍ كان الكلام المنطوق فيه عربيًّا خالصًا.
وشجَّعَني أيضًا أنني قُلت في نفسي إن التمثيلية الإذاعية تعتمد على الأُذن وحدها حين يستقبلها المستمع، ثم هو يُهيئ بعقله وخياله المنظر والحركة، فماذا عليه لو أبدَل الأذن بالعين، وأبقى على عقله وخياله في إنشاء المنظر وتأليف الحركة؟ فالقارئ للتمثيلية الإذاعية مؤلِّفٌ مع المؤلف، كما أن المستمع لها يؤلِّف مع المؤلِّف.
لعلكَ أحسستَ من هذه المقدمة أنني أُحاول أن أُشجِّع نفسي على تقديم هذا الكتاب إليك، لا تُكذِّب إحساسك؛ فإن هذا ما أُحاول أن أقوم به، فإن رضيتَ فشكرًا لله، وإن لم، فما عليَّ بأسٌ أنني حاولتُ، وما التوفيق إلا من عند الله.