كتيبة الأهوال
(موسيقى عنيفة.)
صوت
:
كان نصرًا مؤزَّرًا يا سعد.
سعد
:
إنما هو من عند الله، يُؤتيه من يشاء من عباده المخلصين.
الصوت
:
لقد كنتُ في المدينة، ورأيتُ أمير المؤمنين، وهو يستقبل أنباءك. لو رأيت فرحتَه يا
سعد، لعَرفتَ ما لفتح الفارسية من أهمية.
سعد
:
فهل بلغ عمر فرارُ الفرس بعد هزيمتهم وقد تشتَّت كلُّ جمعٍ لهم بمدينة؟
الصوت
:
قد بلغه ذاك، وقرَّ به عينًا.
سعد
:
فبماذا جئتَ إذن من المدينة؟
الصوت
:
جئتُ إليك بأمرٍ من عمر.
سعد
:
أعرفه.
الصوت
:
فما هو؟
سعد
:
أن تكفَّ عن الغزو.
الصوت
:
جهلتَه والله يا ابن أبي وقاص.
سعد
:
فهي البشرى إذن.
الصوت
:
لقد فرح عمر بالنصر حتى لقد أمر بفتح المدائن.
سعد
:
الله أكبر. إنه والله الفتح.
الصوت
:
إنه دين الله يُشرِق على الأعاجم.
سعد
:
اللهم إنك أنت العزيز القوي، اللهم إنه دينك، دين الحق، اللهم قد رأيتُ ملائكتك
في المعركة، فرأيتُ هزيمة المسلمين تصبح نصرًا ورأيتُ روحك القدس تهَبُ النصر لعبادك
المسلمين، ويعود العدو مخذولًا. رأى قلبي ملائكتكَ وروحكَ وأكاد وحقِّك أن أقول إن
عَينيَّ شاركتا القلب الرؤية.
الصوت
:
هنيئًا سعد.
سعد
:
كنتُ في القادسية مريضًا، أما اليوم فهلمَّ، هلُم، إلى النصر، أو إلى ما هو خيرٌ
من النصر، إلى الجنة، لبيك اللهم لبيك.
أصوات
:
لبَّيكَ اللهم لبَّيكَ.
(موسيقى.)
الراوية
:
واندفع المسلمون يرددون وراء قائدهم، لبيك اللهم لبيك.
إنهم في طريقهم إلى واحدٍ من الأمرَين كلاهما أعذب من الأمل، وأحلى من الأمنيات وأبهى من الرجاء المحقَّق، إنهم في طريقهم إلى النصر أو الجنة.
إنهم في طريقهم إلى واحدٍ من الأمرَين كلاهما أعذب من الأمل، وأحلى من الأمنيات وأبهى من الرجاء المحقَّق، إنهم في طريقهم إلى النصر أو الجنة.
(موسيقى.)
الصوت
:
إلى أين طريقك يا سعد؟
سعد
:
إلى بهرسير، أفتحها وأخلِّص منها المدائن.
الصوت
:
ولكن بهرسير حصونٌ منيعة، وقلاعٌ شاهقةٌ، فكيف تفتحها؟
سعد
:
وهل أنا من أفتحها؟ إنه الله يا بني، ومتى رأيت الحصون والقلاع تعوق طريقًا
لإرادة الله أن تنفَّذ ولمشيئته أن تتم؟!
الصوت
:
ولكن أخشى أن يتمكَّن منك الأعداء وهم خلف حصونهم بمنجًى منك وأنتَ على مرمى النَّبل
منهم.
سعد
:
يا أخي، قد تعجَّلتَ الأمور وتخوَّفتَ المستقبل ونحن بعدُ لم نطالع الحصون ولم نشهد
القلاع، فاكتم حديثك لا تُخوِّف به الجند حتى نرى في أمرنا وأمر الحصون، ثم ندبِّر لكل
أمر أمرًا. من فوقنا سبحانه يهدي، وإنه لهدًى.
(موسيقى.)
الراوية
:
وبلغ الجند بهرسير وكان يزدجرد كبير الفرس قد احتمى بها، راجيًا أن تقف دونه
القلاع والحصون. وأقام سعد بعسكره أمام بهرسير وقد أمَّن الطريق من خلفه فقد أصبح كل
ما وراءه عربيًّا خالصًا يدين بالإسلام لله وبالطاعة لعمر. ورأى سعد أن يستشير
أصحابه.
سعد
:
أشيروا عليَّ الأمر. أنهاجم أم ننتظر؟
صوت
:
الرأي إليك.
سعد
:
وأنا أُداوِله بينكم.
صوت
:
أرى أن نقيم حتى يرتاح الجنود.
آخر
:
وأرى أن الحصون قويةٌ ولا بد لنا أن نختبرها.
سعد
:
ولكن نفوس الجند، إلى الحرب، فلو أننا توكَّلنا على الله وهجمنا وهم في نشوة
النصر وفي زهرة الفرح أدركنا العدو.
آخر
:
ولكن العدو منيع.
سعد
:
إنه منيعٌ بحصونه، ولكنه ضعيفٌ منهارٌ في داخله. إن نفوس العدو هزيمةٌ كسيرة لا
تُطيق أن تُقاوم إذا نحن شدَدْنا عليهم.
آخر
:
إن زهوة النصر يا سعدُ سلاح ذو حدَّين. أخشى أن ينبعث الجند إلى الحرب فلا يُلقون
إلى الحرص بالًا.
آخر
:
فإذا هُزموا فقدوا إيمانهم، وهو سلاحهم.
سعد
:
أرى العقل في قولكم.
آخر
:
ونحن هنا آمنون.
سعد
:
ولكنني أخشى أن يطول بنا المقام، فإن بهرسير لن تكون محاصرةً إذا نحن أقمنا هنا،
فإنهم سيُمدُّونها من وراء نهر الدجلة بالزاد من العراق وفارس، ولن ينتهي هذا الزاد
أبدًا.
الصوت
:
إذن ننتظر ولا تخف على جنودنا، فهم إن بقوا هنا على مرأًى من القلاع والحصون ازداد
شوقهم كل يومٍ أن يَروا ما وراءها.
سعد
:
أجمعوا الجند إذن.
(موسيقى.)
سعد
:
نحن مقيمون هنا، وقد ترك لكم الأعاجم أرضهم فازرعوها، وهنيئًا لكم خراجها غير
باغين ولا ظالمين.
أصوات
:
القلاع، القلاع.
سعد
:
لقد استشرتُ فأُشرت، نقيم هنا ماكثين، يحيط بنا الأمن والرخاء حتى أرى رأيي وآمر
أمري، وإني وإياكم مع النصر والجنة على موعدٍ لا نُخلَفه.
(موسيقى.)
الراوية
:
كان هذا يزدجرد في بهرسير، أسد محطَّم البراثن واهن القوى حبيس ذلَّة وهزيمة
وانكسار، يستشير فلا يجد من يشير، ويسأل فلا يهفو إلى مجيب، فهو بين الحَيْرة
والخذلان.
يزدجرد
:
فهم إذن مقيمون إقامة غير نازح.
صوت
:
وما يخيفهم يا مولاي والبلاد من خلفهم بلادهم؟
يزدجرد
:
ولكننا نحن من أمامهم، ألا نثير فيهم نبضةً من خوفٍ أو خلجةً من خشية؟
صوت
:
أتحسب هذه السهام الفرادى التي نرسلها تُخيف منهم آمنًا، أو تُحرك
ساكنًا؟!
يزدجرد
:
ومالها لا تفعل؟
صوت
:
لقد نصبوا لنا المنجنيق، فكل سهمٍ منَّا تقابله رميةٌ من المنجنيق، وجنودنا في
خوفٍ ذاعرٍ وجنودهم في فرحٍ غامرٍ، وجنودنا يذكرون هزيمة القادسية وجنودهم يذكرون
النصر.
يزدجرد
:
فهي النهاية.
الصوت
:
أو بداية النهاية.
يزدجرد
:
بل لن يكون هذا والنار المقدسة، لأرسلنَّ إليهم الجند الكثيف، تطالعهم بالهول
والعذاب، أم حسبوا أننا نضعف عنهم، أو نهون؟ إلى الحرب.
(موسيقى عنيفة.)
الراوية
:
وأمر يزدجرد بالجنود أن تكتب وبالجيش أن يستعد، وبذل جهد اليائس وما هو بالقليل،
وسعد وصحبه يُعدُّون لهم، فهم مقيمون يستقبلون السهام باسمين، فإن عنَّ لهم أن يردُّوها
قذائف لاهبة حتى كان اليوم.
صوت
:
يا سعد، أرى عسكر الفرس يخرجون عند الظهيرة من قلاعهم، فيرمون السهام، ثم يدلفون
إلى عسكرهم آمنين.
سعد
:
وما تريد منهم؟
الصوت
:
نقتلهم.
سعد
:
سبحانه، يجعل من يشاء قائدًا ويجعل من يشاء جنديًّا، وهيهاتَ أن يصعد المرء إلا
بعقله.
الصوت
:
أراك تسخر مني؟
سعد
:
وما لي لا أفعل؟ وإلا فبربك قل لي أي فائدةٍ تجنيها من قتل خمسة أو عشرة من الجنود
ما يلبث غيرهم أن يخرج إلينا.
الصوت
:
وماذا تريد أن تفعل؟
سعد
:
لو أنكَ استدرجتَ هؤلاء الرماة فجعلتهم … لا، أنت لا تستطيع، عليَّ بأبي محجن
الثقفي.
الصوت
:
يا أبا محجن.
أبو محجن
:
لبيك.
سعد
:
تعالَ يا أبا محجن، فلقد والله صرتَ قريبًا إلى نفسي منذ رأيتُك على البلقاء، ومنذ
رأيتك تتوب إلى الله فلا تشرب الخمر.
أبو محجن
:
يا ابن أبي وقاص، لقد اقتلعت من نفسي حبَّ الخمر لما رأيتُها تقيدني فلا أقاتل
وإخواني فوق خيولهم يجاهدون في سبيل الله، فأقسمتُ لا أذوقها، ورضي الله عن زوجك فقد
فكَّت عني قيودي التي وضعتَها وهيَّأَت لي أن أخوض المعركة.
سعد
:
إذن فاسمع، إذا خرج بعض الأعاجم فاستدرجهم حتى يحسبوا أنهم سيفوزون بك أسيرًا.
اجعل صحبك يختفون في مكانٍ تعيِّنه لهم واستدرج الأعاجم إليه، ثم أحط به أنت، ومن معك
وهاتِهم لي أَسْرى، ولا تقتلهم. إني أريدهم أَسْرى.
الراوية
:
وعند الظهيرة خرج بعض الأعاجم يُلقون السهام، فبدا لهم أبو محجن منفردًا وقد وضع
على نفسه أنفس الثياب، فطمعوا فيه، وحين رآهم تصنَّع الخوف وصار يلتفت يمنةً ويسرةً كمن
يريد أن يرى مخرجًا. ثم خرج وأظهر لهم أنه يعرج في عدوه، فازداد طمعهم فيه، فلحقوا
به، حتى إذا بلغوا المكان الذي اختفى فيه أصحاب الثقفي صاح أبو محجن.
أبو محجن
:
الله أكبر.
الراوية
:
فإذا الأعاجم …
صوت
:
أَسْرى جئناك يا أمير الجيش فارفق بنا.
سعد
:
إني رفيقٌ بكم، ولكن أخبروني ماذا يفعل ملككم؟
الصوت
:
حائر في أمره، مذهول، لا يدري كيف يُساوِركم.
سعد
(في حدة)
:
اصدُق أيها الرجل، اصدُق أو قتلتُك.
الصوت
(في خوف)
:
إنه يا سيدي قابع في داره.
سعد
:
بل أنت كاذب.
الصوت
:
بل صادق يا سيدي.
سعد
:
اصدُقني وإلا قتلتُك.
الصوت
:
إنه لا يفعل شيئًا.
سعد
:
وهل يمكن أن أعقل هذا؟ ماذا ينتظر؟ لا بد أنه يُجهِّز الآن جيشًا، وقد أمر بكم
أن تخرجوا كل يوم، حتى نُلهى بكم فلا نفكِّر في التهيؤ له إن هو نفر إلينا.
الصوت
(في دهشةٍ)
:
كيف يدخل الإنسان دينكم؟!
سعد
:
قل أشهد ألا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا رسول الله.
الصوت
:
فأنا أشهد ألا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا رسول الله، فما يدرك ما أدركتَ إلا
الملهمون. أنت صادقٌ أيها الأمير، إنه يُجهِّز لكم جيشًا.
سعد
:
باركك الله أيها الرجل، إذن فاسمع، سأرى بلاءك في الحرب، فإن رأيتُ حسن إسلامك
جعلتك عينًا لي على الفرس تأتيني بأخبارهم.
الصوت
:
أشهد أني أسلمتُ غير مرغمٍ ولا مضطرٍّ، وأشهد أني صادقٌ.
(موسيقى عنيفة.)
الراوية
:
وخرج جيش يزدجرد وقد خُيِّل لقواده أنهم سيجدون المسلمين لاهين عنهم في شغل
بالنعيم الذي هيَّأه الله لهم، ولكن راعهم أن جند العرب واقفون لهم بكل مرصادٍ
يدفعون عن إيمانهم بالروح رخيصةً في سبيل الله (قعقعة سيوف) وما هو إلا ارتداد
البصر حتى ارتد جنود الأعاجم يحملون الهزيمة المنكرة وثاب جنود الإسلام يحيط بهم
جلال النصر. وكانت أنباء القتال تصل إلى يزدجرد لحظةً بلحظة وقتيلًا بقتيل، حتى إذا
تمَّتْ له الهزيمة عاد إلى شيريه.
يزدجرد
:
ماذا أفعل؟
صوت
:
أصبحنا لا ندري.
يزدجرد
:
وهل كنتَ تدري؟! ما هؤلاء العرب؟! ما سيوفهم؟! ما خيولهم؟ إنهم هزال يركبون
العجاف. ضعاف في نعالهم، عفاة في مظهرهم، ثم يوقعون بنا الهزائم التوالي فلا نُفيق
من هزيمة حتى نُلقى إلى أخرى.
الصوت
:
لقد وصفتَ يا مولاي فصدقتَ، ولكن لم تصف إلا ما ترى العين منهم، وما أراك تعمَّقتَ
إلى ما في أعمالهم من عظمة الروح. إن أجسامهم الهزيلة تحمل إيمان الدنيا أجمع.
إنهم يؤمنون يا مولاي أنْ لا إله إلا الله ونؤمن نحن ألا إله إلا النار، ويؤمنون يا
مولاي أن مُحَمَّدًا رسول الله ونؤمن نحن أنه لا ملكَ إلا أنت. إنه الإيمان يا
مولاي ما نُحاربه.
يزدجرد
:
أراك صادقًا. بقي سهمٌ أخير لا أملك غيره. إني مرسلٌ لهم رسولًا.
(موسيقى.)
صوت
:
رسولٌ من يزدجرد ملك الفرس يطلب لقاءك يا سعد.
سعد
:
دعه يدخل. لعله جاء يعرض خيرًا.
الرسول
:
السلام عليكم قائد العرب.
سعد
:
السلام على رسول الأعاجم.
الرسول
:
يعرض مولاي الصلح.
سعد
:
وكيف يتم؟
الرسول
:
أن يترك لكَ ما فتحتَه من أرض فارس، فهي خالصةٌ لكم وتترك له ما لم تفتحه.
سعد
:
إن البلاد التي فتحناها لم تعُد له حتى يملك أن يتركها أو لا يتركها. أما البلاد
التي لم نغزُها فنحن لا نريد بها شرًّا، وما ضَرَّها — يا أخا الفرس — لو أنها قالت
أشهد ألا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا رسول الله فنتركها وشأنها.
الرسول
:
أرى في قولك رفضًا لما يعرض مولاي.
سعد
:
إني إنما جئتُ لأعرض عليكم الإسلام، فإن قبلتموه فأنتم مثلنا، لكم ما لنا وعليكم
ما علينا، فإن أبيتم فادفعوا الجزية حتى يشرح الله قلوبكم للإسلام.
الرسول
:
فإن أبينا؟
سعد
:
ويل لكم من الثالثة يا أخا الفرس. إنها ما علمتم من الحرب المندلعة تأكلكم كهشيمٍ
سرت به النار. لا تختاروا الثالثة يا أخا الفرس، فإنها الدمار والوبال.
الرسول
:
سأُبلغ رفضك إلى مولاي.
سعد
:
أَبلِغه، وإني هنا، لن أريم.
صوت
(الفارس الذي أسلم)
:
لم ينتظر عودة رسوله يا أمير الجيش.
سعد
:
ماذا؟
صوت
:
ألم يُرسِل لك رسولًا؟
سعد
:
بلى. لقد تركني الساعة.
الصوت
:
ولكن يزدجرد لم ينتظر أن يعود الرسول، بل جمع من ماله ما خفَّ حملًا وغلا ثمنًا،
ونهج طريقه إلى حلوان هاربًا.
سعد
:
وجنوده؟
الصوت
:
حيارى ذاهلين. حطَّم هربُ الملك نفوسهم، فهم لا يدرون ما هم فاعلون، أيحاربون؟
وفي سبيل مَنْ حربهم؟ أم يخضعون؟ فما شأن أولادهم وذويهم؟
سعد
(في فرح)
:
الله أكبر، الله أكبر. لقد فتحتُ لكم بهرسير. لقد فُتح لكم طريق المدائن، إلى
الحصون أيها المسلمون، إلى الحصون، الله أكبر.
أصوات
(في قوة)
:
الله أكبر.
الراوية
:
الله أكبر ما طلع الفجر وما غاب النهار. لقد فُتحَت لكم بهرسير، ومنها الطريق إلى
المدائن عاصمة الفرس وفلك الحضارة. وقد كانت بهرسير واقعة على ضفة الدجلة، يفصلها
النهر الصاخب عن المدائن، وكان هناك جسر يصل بين المدينتَين، ولم يعبأ جنود الإسلام
بالليل الزاحف، ولم يعبئوا بالجهد الذي بذلوه ليدخلوا إلى بهرسير، وإنما أخذوا
طريقهم إلى الفرات (صوت هدير أمواج يظل ملازمًا
للمشهد) ولكن …
صوت
:
لقد حطَّم الفرس الجسر.
آخر
:
وأخذوا السفن إلى الضفة الأخرى.
آخر
:
وها هم جنودهم أولاء يقفون على الضفة الأخرى وبيدهم سلاحهم يلمع في سواد
الليل.
آخر
:
ولكن انظر.
آخر
:
ماذا؟
آخر
:
إن القمر يبدو.
سعد
:
ويل لكم من الثالثة يا أخا الفرس. إنها ما علمتم.
آخر
:
وما في ذلك؟
آخر
:
القمر يطلع، فانظر أمامك. أترى؟
آخر
(في دهشة)
:
الله أكبر.
آخر
:
قصر الجلال. هذه الأسطورة التي تحقَّقتْ. هذا الحلم الذي أصبح واقعًا. الله أكبر
الله أكبر. إنه أبيض كسرى، أعظم قصر عرفَته الحضارة، شاهق إلى أبراج السماء،
عريضٌ يسد الأرض، إليه أيها المسلمون إليه.
آخر
:
إليه، إليه (في تخاذل) ولكن كيف السبيل إليه،
والنهر عميقٌ متباعد الشطآن هادر الأمواج، صخابه لا يهدأ له مجرى، يجرف فلا يبقى،
يندفع فهو لا يراعي ولا يضعف؟
سعد
:
أجل، فإنه الساعة في ذروة تدفُّقه، فهو ينبع من أذربيجان ونحن في فصل ذوبان
الثلوج فالماء موَّار بها، والدفاع عنيف الانطلاق.
صوت
:
انتهى بنا الفتح إلى هنا.
سعد
:
لا كان ذلك اليوم. والله لو كان ألف نهرٍ وألف بحرٍ ليبلغن الإسلام إلى الفرس
وعلى أيديكم أيها الجنود.
(موسيقى.)
الراوية
:
وفرح جنود يزدجرد أن وقف المسلمون حيارى أمام نهرهم متدافع اللجج جارف الدفاع،
وخُيِّل إليهم — خاب فألهم — أنه قد آن لهم أن يرتاحوا بعض اليوم، فيقول
قائلهم:
صوت
:
لقد آن لهؤلاء العرب أن يجدوا شيئًا يمنعهم.
آخر
(في سخرية)
:
فلنَرَ إذن ماذا تفعل خيولهم العجفاء، أو سيوفهم تلك الوامضة في نهرنا
الثائر.
آخر
:
رعاك الله يا دجل، كنتَ لنا خصبًا وريًّا، وأنتَ لنا اليوم حصن وأمن.
آخر
:
لقد وقفوا صاغرين.
آخر
:
وسيظلون واقفين.
(قهقهةٌ عالية تنتهي بصوت سعد.)
سعد
:
أيها الجند، إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه منه، وقد أبديتُ
من الرأي أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصُركم الدنيا، إلا أني قد عزمتُ على
قطع هذا البحر إليهم.
الراوية
:
ماذا؟! ماذا يقول سعد، أيقطع البحر إلى الفرس؟! بغير جسر، وبغير سفن! والبحر
مَوَّار العباب، الدجلة في القمة من تدفعه، لعلَّنا أخطأنا، لعله لا يعني ما يقول.
لك الله يا سعد، وكيف يمُكن أن تعبر الدجلة؟
سعد
:
على الخيل.
الراوية
(في دهشة)
:
على الخيل؟!
سعد
:
على الخيل. أريد منكم كتيبةً تخوض هذا النهر على الخيل. من يفعلها؟
صوت
:
أنا.
سعد
:
عاصم بن عمر. انتدب معك ستمائة ممن تعرف بأسهم.
صوت
:
أنا.
آخر
:
أنا.
آخر
:
أنا.
الراوية
:
وانتدب عاصم الستمائة، ثم اختار منهم ستين فارسًا تقدَّمهم إلى حافة النهر وهو يقول:
عاصم
:
من هذه المياه تخاف؟ بسم الله الرحمن الرحيم وَمَا
كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا
مُؤَجَّلًا. الله أكبر.
الراوية
:
وعلى الضفة الأخرى، وقف الفُرس لا يُصدِّقون عيونهم، حتى إذا رأَوا أمواج النهر قد
صارت خيلًا، ورأَوا الأمر حقيقةً واقعةً لا وهمٌ ولا هو خيال تصايحوا.
أحدهم
:
إنهم من الجن.
آخر
:
ليسوا من البشر.
آخر
:
إنهم مجانين.
آخر
:
نلقاهم في النهر.
آخر
:
القَهُم أنت.
الراوية
:
وفرَّ أكثر جنود الفرس طريقهم إلى أبيض كسرى، ليستقبلوا يه الفاتحين، فما أصبحوا
يأملون في شيء أن يقف دون العرب، ولكنَّ بعضًا منهم ينزل إلى النهر، ليقاتلوا عاصمًا
وصحابه، ولكن عاصمًا يقول لمن معه:
عاصم
:
الرماح، الرماح، وتوخَّوا عيون خيولهم.
الراوية
:
فيعود الفرس أدراجهم يُحيط بهم الهول والفزع ويعبُر عاصم النهر في كتيبة الأهوال
التي انتدَبها ويتبعه مِن بعدُ الستمائة، ثم تنزل جيوش المسلمين جميعها إلى النهر
الثائر، والذي كان يظنُّه أصحابه ثائرًا لهم، فإذا هو ثائرٌ عليهم، فإنما هو يجري
بأمر الله، وما كان له أن يقف دون جنود الله، فهو لهم مجراه. وينتقل الجيش العربي
جميعه إلى الضفة الأخرى لا يفقد الجيش منهم أحدًا، بل ولا يفقد أحدٌ منهم
شيئًا.
صوت
:
بل فقدتُ أنا، نعم فقدتُ وعاءً من الخشب.
آخر
:
ها هو. لقد وجدتُه سابحًا بجانبي في النهر.
الراوية
:
ألم أقل إن أحدًا لم يفقد شيئًا. ودخل المسلمون المدائن. ثم دخلوا إلى أبيض كسرى. لا،
لا أحد يستطيع أن يصف ما رأَوه. ولم يجد سعد شيئًا يفعله إلا أن يصلي لله
شكرًا صلاة الفتح ثماني ركعات بتسليمةٍ واحدةٍ، ولم يجد سعد شيئًا يقوله إلا قوله عز
وجل: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ *
وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا
فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ
السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا
مُنْظَرِينَ صدق الله العظيم.