ضيف وأبناء
صوت
:
مبارك والله حجُّنا هذا العام يا أسامة.
أسامة
:
مبارك إن شاء الله، فوالله ما تمنَّيت من حياتي حجةً خيرًا من هذه، نحمدك اللهم.
لقد هيأتَ لنا أن نهفو إلى بيتك الكريم على رأسنا ابن عم نبيك.
الصوت
:
وأي عمٍّ من أعمام نبيه! إنه العباس فتى العرب، وسَيْفُهم، وإنه مَن وقَف النبي على
جثته يوم مات يبكيه فيُوغل في البكاء، ثم هو عليه الصلاة والسلام يذكُر الخير الذي
هيِّئ له في الحياة الأخرى، فتمسُّ قلبه خفقةٌ من راحة.
أسامة
:
ثم هو يذكُر بكاءه الذي كان فيعزوه إلى شوقٍ سليمٍ به أن فارقه عمه، فهو إنما
يبكي من الشوق ولا حزن، نعم والله. لقد كان العباس درع النبي وسيفه، صاحبه حين
أشرق الحق على النبي فأُمر بالدعوة.
الصوت
:
لم يكن العباس قد أسلم بعدُ، ولكنه كان حربًا على أعداء النبي، سيفًا عليهم لا
يلين.
أسامة
:
ثم أذن الله فأشرق نور الإسلام في نفس العباس، فكان مجدًا للإسلام، وعزًّا. ذكرنا
العباس — أخي — وفضله وسابقته في الإسلام ونسينا والله فضل هذا الذي يحجُّ بنا في
عامنا هذا.
الصوت
:
أوَمثل هذا يُنسى؟! إنه عبد الله بن العباس، الأصيل ابن الأصيل.
أسامة
:
بل قل أعلم من عرفه العرب وأفقه المسلمين بشئون دينهم. لقد والله رأيتُ الناس
يضربون أكباد الإبل من أقاصي الأرض يسألونه في أمرٍ من أمور دينهم، فإذا هو يتدفَّق
كالجدول العذب، وإذا القوم يعودون، ارتاحت نفوسهم إلى فُتْياه هادئة قلوبهم إلى
علمه.
أسامة
:
مبارك والله حجنا هذا العام يا أخي.
آخر
:
أرى عبد الله يأمرنا بالوقوف.
أسامة
:
فهلُم إليه نُسرع الخطى عساه يريد أمرًا.
(فترة صمت.)
أسامة
:
أوقفنا لشيءٍ يا عبد الله؟
عبد الله
:
بل رأيتُ الليل يهمُّ بقدوم، وأخشى أن يدركنا في مكانٍ وعرٍ، وأرى هنا سهلًا ينبسط
فكأنما هو أهلًا يقولها كريم.
أسامة
:
إننا في طريقنا إلى بيت الله يا عبد الله، وما أحسب الوعر إلا منبسطًا
لنا.
عبد الله
:
إنني والله أحب الحديث الفرحان. هكذا والله يكون المقبل على بيت الله.
أسامة
:
أنتابع سيرنا إذن؟
عبد الله
:
لكَم أُحب يا أخا العرب أن نصل ليل طريقنا بنهاره سراعًا إلى بيتٍ رفعه الله، لتُهدى
إليه قلوبنا، ولكنني أحمل عبء من معي.
أسامة
:
أنت على الحق دائمًا، يا ابن العباس. إنما ولَّاك القوم عليهم، فأنت ترى لهم
الخير، وتثق به.
عبد الله
:
هو ما قلت يا أخي. والآن أريدك أن تصحب بعض الرفاق، وتبحث لنا عن مأكل في هذا
المكان، أو مشرب.
أسامة
:
هلُم يا رفاق، هلُم يا زيد، هلُم يا جابر، هلُم يا …
(موسيقى قصيرة.)
أسامة
:
بحثنا حوالينا فما وجدنا مأكلًا، وإن كُنَّا وجدنا عينًا جاريةً.
عبد الله
:
أتجدون عين الماء ولا تجدون حولها مأكلًا؟!
أسامة
:
إنما هي ساعة غروب روَّح فيها رعيان ونام سامرون.
عبد الله
:
فهلا ذهبتُم إلى هذا المرعى القريب، لعلكم تجدون به راعيًا أو خيمة.
أسامة
:
نفعل يا سيدي.
(موسيقى قصيرة.)
أسامة
:
ها قد بدت لنا خيمة.
آخر
:
وإن بها لنورًا.
آخر
:
يا صاحب الخيمة.
صوت
(سيدة عجوز)
:
لبيكَ يا من ناديتَ.
أسامة
:
السلام عليك يا أم.
السيدة
:
وعليك السلام يا بني، ورحمة الله.
أسامة
:
أعندك طعام نشتريه؟
السيدة
:
أمَّا للبيع فلا، لكن عندي ما يكفيني أنا وأبنائي.
أسامة
:
وأين بنوك؟
السيدة
:
يرعَون قطيعهم، وها قد حان موعد أوبتهم.
أسامة
:
وما أعددتِ لهم؟
السيدة
:
خبزًا.
أسامة
:
أوَليس عندك شيءٌ آخر؟
السيدة
:
لا.
أسامة
:
فنحن ضيفٌ نزلنا على العين، فإن جُدتِ لنا ببعض الخبز حمدنا وإن كُنَّا نُكلِّفكِ من
أمرك عنتًا.
السيدة
:
أمَّا أنا أجود ببعضٍ فلا، وأمَّا الكل فخذوه. هاكم الخبز جميعه.
أسامة
:
تمنعين البعض وتجودين بالكل؟!
السيدة
:
أنا أمنع ما ينال من كرامتي وأمنح ما يرفعني.
(موسيقى.)
صوت
:
السلام عليك يا أماه.
الأم
:
مرحبًا بالأبناء، أين تركتم القطيع؟
الصوت
:
قريبًا ها هنا. نحن جياع يا أماه، فهلُم خبزك هلُم.
الأم
:
لا خبز عندي لكم.
الصوت
:
أغاضبة علينا؟
الأم
:
بل إني أكرمتُكم غاية الإكرام.
الصوت
:
فأنتِ إذن قد صنعت لنا خبيصًا من اللبن والتمر؟
الأم
:
عجبتُ لك! ألا تفكر في غير المأكل؟
الصوت
:
جوعان يا أمي والله جوعان، وأخواي جوعانان، ألسنا كذلك؟
(موسيقى.)
صوتين
:
جياع، جياع.
الأم
:
كلوا الرمال إذن، فليس عندي خبزٌ.
الصوت
:
هو الخبيص إذن.
الأم
:
يا لك من شاعر!
الصوت
:
أقلتِ شاعر؟
الأم
:
شاعرٌ، لا شك، فإن خيالًا ذلك الذي يهيئه لك جوعك، أتأكل أنت الخبيص وأنت في عرض
الصحراء لا تملك موقدًا، بل إنك لتعلم أنني أصنع لك العيش على الرمال
الملتهبة.
الصوت
:
فماذا صنعتِ لنا إذن؟
(موسيقى.)
أسامة
:
هكذا والله يا ابن العباس. لقد أبت المرأة إلا أن تهب لنا كلَّ ما صنعَته من خبز
بنيها. أعطته لنا جميعه، ثم هي لم تسأل من أنتم، فما عَرفَت عَنَّا إلا أننا قوم
طلبنا فأعطت.
عبد الله
:
ولقد أعطت الكثير. إنه قوتها وقوت أبنائها.
أسامة
:
ألا نزورها يا عبد الله؟
عبد الله
:
لكم أتوق إلى هذا، ولكني أخشى أن أزورها، فلا تجد عندها ما تُكرم به ضيفها، فيصيب
خجل لا أحب أن يصيبها ولكن …
أسامة
(مقاطعًا)
:
ندعوها إليك.
عبد الله
:
هكذا والله أحب أن تفعلوا … قولوا لها.
(موسيقى.)
الأم
:
بهذا أيها الأولاد أكرمتكم. لم يكن الخبيص صنعتُه لكم، وإنما صنعتُ لكم أكرومة
ترضي منكم نفوسًا، وإن أغضبَت فيكم بطونًا.
الابن
:
لقد والله أرضيتِ يا أماه. هكذا نحن العرب نجود، فنجود بأنفسنا، وليس بخيلًا من
يجود بنفسه.
الأم
:
هكذا أُحب أن أسمعكَ يا بني.
الابن
:
لعلكِ لم تسألي القوم من هم ومن أين وإلى أين.
الأم
:
ما كنتُ لأفعل هذا يا بني.
الابن
:
وما الضير يا أماه؟
الأم
:
لعلهم كرامٌ مشاهير في العرب، فيظنون أنني إنما أجيب ما يطلبون طمعًا في خيرٍ
منهم أو تقربًا لأسمائهم.
الابن
:
فإن كانوا فقراء مهازيل؟
الأم
:
فقد وجبَت الصدقة إذن.
صوت
(أسامة يأتي من الخارج)
:
يا صاحبة المعروف.
الأم
:
إياي تقصد يا صاحب الصوت؟
أسامة
:
السلام عليكِ ورحمة الله.
الأم
:
مرحبًا بالضيف. هؤلاء أولادي وقد عادوا من المرعى.
أسامة
:
أهلًا بأولاد الكريمة. ما أرى إلا أننا حرمناكم طعامكم منذ الليلة.
الابن
:
هنيئًا لكم أيها الضيوف.
أسامة
:
قَدِمنا ورجاؤنا أن تجيبوا لنا رجاء.
الأم
:
إن كان في الطوق.
أسامة
:
إننا قومٌ من المدينة خرجنا نريد الحج، وعلى رأسنا علمٌ من أعلام الإسلام، قصصتُ
عليه ما كان من برك بنا، فأراد أن يراك ويرى أولادك.
الأم
:
ومن صاحبكم؟
أسامة
:
عبد الله بن العباس.
الأم
:
وربك هذا الشرف الأعلى، هلُم بنا.
(موسيقى.)
عبد الله
:
مرحبًا بالكرام.
الأم
:
مرحى بك، ابن العباس.
عبد الله
:
ممن أنت يا خالة؟
الأم
:
من بني كلب.
عبد الله
:
وكيف حالك؟
الأم
:
آكل الخبز، وقد صنعتُه على الحجر بغير موقدٍ، ثم أنا لا أكثر، وأشرب الماء من عينٍ
صافيةٍ فإذا نفسي في الصفاء كالماء، وإذا بي أنام والهموم لا تعرف إليَّ
سبيلًا.
عبد الله
:
الحمد لله. أعرفتِ فيما طلبتُ أن أراك؟
الأم
:
لا والله. إنما قيل لي عبد الله بن العباس، فحثَثتُ إليك الخطى، ويسبقني الشوق إلى
رؤية ابن عم رسول الله، وأعلم العرب، وأفقه الناس بالدين الحق.
عبد الله
:
إنما أردتُ أن أُكرم إكرامك وأُكافئك عليه.
الأم
:
والله لو كان ما فعلته معروفًا فما كنتُ لآخذ عنه بدلًا، فكيف وهو شيءٌ يجب أن
يشارك الناس بعضهم بعضًا فيه.
عبد الله
:
وماذا فعلتِ لبنيكِ حين عادوا جياعًا؟
الأم
:
يا ابن العباس. لقد عظُمَت عندك خبزتي حتى أكثرتَ فيها الكلام. أشغل فكرك عن هذا
فإنه يفسد المروءة.
عبد الله
:
وأنتم أيها البنون.
الابن
:
لبيك.
عبد الله
:
أُحب أن أساعدكَ بالمال.
الابن
:
نحن نعيش على الكفاف، فوجِّه مالك إلى من لا عيش له.
الأم
:
بُوركتَ يا فتى.
عبد الله
:
بُوركتم جميعًا.
المذيع
:
وأبى الابن، وعزفَت المرأة أن يصيبها خير لقاء واجبٍ يؤدونه، خُلقٌ عربي أشم يعلو
فيصعد إلى السماء، وهناك يلقى المكافأة والجزاء. قوم يبتكرون المكرمات وأعينهم لا
ترنو لغير الله، فما لنا لا ننظر لغير الأرض، وما لنا نبتغي النفع العاجل على غير
عملٍ نقدمه، وما لنا نبخل حتى لنكاد نخنق أنفسنا بأيدينا! لو أننا نظرنا التاريخ.
(موسيقى.)