عفو الملك
أبو القاسم
:
هو الحب يا سامية يترقرق في دماء الكريم، فتزداد كرمًا. ويتسرَّب إلى نفس الخبيث
فتكرم، هو الحب ذلك الجمال تعتذر به الدنيا عن شرورها، هو الحب بغيره لا حياة
وبإجدابه لا مياه، هو الحب.
سامية
:
حسبك أبا قاسم، منذ متى اتخذت الشعر صناعة؟ إن ما تهيئ نفسك له من مُلك وجاه وما
يتطلبه هذا المكان من قسوة وقوة لا يتفق وما تنساب به اليوم من شِعرٍ يكاد
ينتظم.
أبو القاسم
:
إنما السلطان عاطفةٌ وعقلٌ، إن فقدتُ واحدةً منهما فلستُ بالحكم خليقًا.
سامية
:
غبتَ عنِّي اليوم كثيرًا، في أي العنصرَين شغلك؛ أهي العاطفة، أم هو العقل؟
أبو القاسم
:
والله لا أدري كيف أجيب؛ فقد كان كلاهما منذ اليوم شاغلي.
سامية
(غاضبة)
:
ويلك أبا القاسم، أعاطفة ولا أراك، فلمن؟
أبو القاسم
(في ضحكة مسرورة)
:
لرجلٍ ورب الكعبة، لرجل.
سامية
(مستمرة في غضبها)
:
أكذا؟ فمن؟
أبو القاسم
:
قصدني اليوم ابن إسماعيل.
سامية
:
ابن القاضي المتوفَّى؟
أبو القاسم
:
أجل هو.
سامية
:
ماذا يريد؟
أبو القاسم
:
فهو يخشى أن يُعيَّن في مكان أبيه غيره، فجاء يرجوني أن أقصد إلى شريكي في
الإمارة وأزكِّيه لديه.
سامية
:
فنعم السعاية، فقد كان أبوه من خير الناس وهو على نسج أبيه ينسج. يُقال عنه إنه
واسع الاطلاع رحب التفكير ولولا بعض الجشَع فيه لامتنعَت سيرته عن الثلب، فما قال
الأمير؟
(موسيقى قطع. في قصر الخليفة.)
خادم بالباب
:
أبو القاسم محمد أمير الدولة الشرقية وابن إسماعيل ابن القاضي المتوفَّى.
الخليفة
:
مرحبًا بالأمير، زَورةٌ كريمة.
أبو القاسم
:
شفيعًا جئتُ إليك.
الخليفة
:
فمرحبًا بالشفيع. أعقوبة فأرفعها أم جائزة فأُنيلها؟
أبو القاسم
:
بل حقٌّ فتُوطِّده.
الخليفة
:
بقيتَ للحق، وأنار الله لنا سبيله.
أبو القاسم
:
ابن إسماعيل.
الخليفة
:
مكانَ أبيه يريد؟
أبو القاسم
:
هو ما حزَرتَ.
الخليفة
:
هو لكَ يا ابن إسماعيل؛ فإنكَ والله قد شفَّعتَ من لا تخيبُ له شفاعة.
ابن إسماعيل
:
أطال الله بقاء الأميرَين.
الخليفة
:
فما ديدنُكَ في القضاء؟
ابن إسماعيل
:
ديدني، ديدني كتابُ عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري يقول آسِ بين الناس في
وجهكَ وعدلكَ ومجلسك.
الخليفة
:
ألا بيَّنتَ لنا ما يقصده رضي الله عنه في قوله آسِ بين الناس في وجهكَ
ومجلسك؟
ابن إسماعيل
:
يريد من قاضيه ألا يبتسم لأحد ويعبس لآخر، وألا يُقرِّب شخصًا ليُبعِد غيره. آسِ بين
الناس في وجهكَ وعدلكَ ومجلسك.
الخليفة
:
وهل أنتَ مستطيعٌ ما تأخذ به نفسك؟
ابن إسماعيل
:
فأنا باذل غاية الجهد.
الخليفة
:
جوابك يدل على الصدق. في وجهك يا ابن إسماعيل وفي مجلسك آس بين الناس في وجهك
وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريفٌ في حَيفِك ولا ييأس ضعيفٌ من عدلك، والحق حق.
ابن إسماعيل
:
نعم أعرفه، فهو قديم.
الخليفة
:
قديم قِدَم الزمن.
ابن إسماعيل
:
إني عليه حفيظ.
الخليفة
:
وأنت بحفظه خليق. أعلنوا ابن إسماعيل قاضيًا للقضاة.
(موسيقى.)
سامية
:
وفَّق الله كل ما تسعى له.
أبو القاسم
:
إن دعوةً أنالها من شفتَيك هي التوفيق.
سامية
:
أراكَ عُدتَ للشعر.
أبو القاسم
:
وما تُريدين من زوجٍ يخلو إلى زوجه التي يُحب؟
سامية
:
أريد أن يُكلِّمها في حقيقة ما يشغله. إن الأعداء يتحرَّشون بك من كل جانب،
ويتنمَّرون بملككَ من كل سبيل، وأنت تكتُم ما تنثني عليه، وتُضمر غير ما تُبدي،
فتثيرها في نفسي نارَين؛ إحداهما خوفًا عليك وخشيةً على ملكك، وأخرى غيظًا منك وحنقًا
عليك، ألَّا تشركُني فيما تفعل كأني أصغر عن فهمك وأتفَه عما يشغلُك أو …
أبو القاسم
:
حسبك. وأخمدي النارَين كلتَيهما، فلست والله بمحتملٍ عليك من واحدةٍ منهما بصيصًا مهما
يخفت (ساخرًا من نفسه) أخشى عليك همومًا
فأُثيرها، فيا لي من غبي! الحرب تومئ إليَّ بعينٍ وأتقيها بعيون، ولكنِّي أخاف
الصديق أكثر من العدو. إن بيننا قومًا يأتمرون.
سامية
:
فقرِّب إليك أجدَرهم بالثقة.
أبو القاسم
:
وبمن أثق؟
سامية
:
بمن يُبدي لكَ جفاءً في المظهر ووضوحًا في الرأي.
أبو القاسم
:
فأنا على القلق المبيد، والجمع خاضع.
سامية
:
فالجمعَ فاحذَر.
أبو القاسم
:
وثقتي؟
سامية
:
بالله، بنفسك.
أبو القاسم
:
وأنت؟
سامية
:
ألم أقل لك بنفسك؟ وهل نفسك إلا أنا؟
أبو القاسم
:
نعم أنت هي، ونعمَت نفسًا.
سامية
:
وعشتَ لها.
أبو القاسم
:
معي يا سامية؟
سامية
:
إلى ما بعد الخلود.
أبو القاسم
:
اللهم شُكرانك.
(موسيقى.)
أبو علي
:
هنيئًا لك القضاء يا ابن إسماعيل، كنت مسافَرًا هذا العام فلم أعجل
بالتهنئة.
ابن إسماعيل
:
أحمدُ الله على نعمته، وأشكركَ يا أبا علي.
أبو علي
:
مكانٌ كبير ما نلتَه، لا يرأسُك إلا الأمير.
ابن إسماعيل
:
إن المنصب إن كبرَ عظُم الشاغل.
أبو علي
:
ولكن مكان الدولة ليس بالوطيد، والأعضاء يتنمَّرون من خارج البلاد وداخلها، وأخشى
أن تُحتسب من رجال الأمير الحاكم فتُغضب القادمين بعده، والقضاء عدلٌ وكرامةٌ، وأخشى
أن يهزَّك الحرص فيحيدَ بك عن العدل ويميلَ بك عن الكرامة، وليس كالحرص مُذلٌّ لأعناق
الرجال.
ابن إسماعيل
:
فيمن هذا الكلام يا أبا علي، ما سمعنا أن قاضيًا يميل به الحرص عن العدل أو
الكرامة، وأنا مَنْ تعلم؟
أبو علي
:
لا والله ما علمتُك ظالمًا أبدًا، فلستَ أنت من أعلم عنه ظلمًا، وإذا أنا بيَّنتُ لك
ما أُضمر فأنا مَن يُشفق عليك، فهوِّن عليك ولا تأخذنَّك بنفسك العزة.
ابن إسماعيل
:
حسبتُكَ تعرف عنِّي خُلُقًا قويمًا لا يميل، وكرامةً صلبةً لا تنحني.
أبو علي
:
يظل الخلق قديمًا لا يميل حتى يتولَّى صاحبه السلطان، فإذا الخلق معدوم كالعدم،
وإذا الجشع راكب النفس يطمح بها، وتظل الكرامة صلبة حتى يشوبها الحكم فإذا هي هشَّة
كالدقيق، وإذا الرأس منحنية حتى تبلغ أعماق الأرض. فاحذر الحكم يا بني، احذره
واستعن بالله يعيذك من الشيطان، واعلم أنه الشيطان لم يلبس في كل ما يرتدي أجمل من
الحكم، وأعلم أنه ما استخفى فأوغل في الاستخفاء إلا حين عثَر على السلطان فارتداه
يغري به، فإذا النصر متهالكٌ عليه من كل جانب.
ابن إسماعيل
:
لم أركَ كاليوم ناصحًا يوغل في النصح. ألا تعلم أبا علي أن التضحية هي أثقل
الطيبات على النفوس؟
أبو علي
:
أعلم ذلك.
ابن إسماعيل
:
فما بالك إذن؟
أبو علي
:
حبي لك وإشفاقي عليك يُهوِّنان ما تستقبل به نصيحتي وإنني …
(تسمع أصوات ويدخل قوم لا يزيدون عن ثلاثة.)
الأصوات
:
سلامٌ عليكم.
ابن إسماعيل، وأبو علي
:
عليكم سلام الله.
ابن إسماعيل
:
ألا تعرف الصحاب، أبا علي؟ هذا ابن إبراهيم السياسي البارع والمؤرخ الباحث، وهذا
صاحبه سعيد أطول لسانٍ عرفَته البلاد لا ينظر إلا لينتقد. أمَّا هذا الكاتب المبدع
عثمان، وما أظنُّكَ إلا سمعتَ عنه.
أبو علي
:
فمرحبًا بالصحاب، ووددتُ والله أن أُقيم معكم فلا أنصرف، ولكنها مهمةٌ لا بد لي من
الذهاب إليها، فعُذرًا. سلام عليكم.
الجالسون
:
وعليك السلام — أبا علي — عليك السلام.
أبو علي
:
احذره — ابن إسماعيل — احذره.
(يُسمع صوت باب يُغلَق.)
سعيد
:
لم أرَ هذا الرجل، ولكني سمعتُ عنه أنه ثقيل الظل كثير الكلام قليل العمل.
ابن إسماعيل
(كما لو كان أعجبه الكلام ولكنه لا يريد أن يمضي فيه)
:
حسبك حسبك سعيد، أهكذا دون أن تعرفه تسل عليك لسانه؟! فماذا فعل بك؟
سعيد
:
ماذا كان يفعل ها هنا؟
ابن إسماعيل
:
كان يهنئ.
سعيد
:
يُهنئ، بماذا؟
ابن إسماعيل
:
بمنصب القضاء.
أصوات
:
القضاء!
أحدهم
:
أبعد عامٍ من تولِّيكَ له؟!
ابن إسماعيل
:
على رِسلِك. قد كان الرجل مسافرًا.
ابن إبراهيم
:
ومم يُحذِّرك؟
ابن إسماعيل
:
من المنصب.
(يضحك الجميع وتبدو أصواتهم وكأنها تُردِّد كلمتَي من المنصب.)
سعيد
:
ألم أقل لك ثقيل؟ ثقيل، ثقيل ورب الكعبة، ثقيل.
عثمان
:
أرانا نُطيل الحديث فيما لا يُفيد.
سعيد
:
وما الذي يُفيد؟
عثمان
(في سخرية)
:
الذي يُفيد ما نجيء من أجله كل يوم، الذي يُفيد ما تعرفُه يا سعيد.
سعيد
:
حسبنا كلامًا.
ابن إسماعيل
:
ليس بعدُ، أنا لم أُوافِق بعدُ.
سعيد
:
لم توافق، أتستطيع؟ ملك هذه البلاد أجمع، أنت السيد المرموق، ما زلنا بالشعب
وما زلتَ بالعدل حتى أحبَّك وتفانَى في حبك فما تريد، ليس بعدُ، فمتى إذن؟!
ابن إسماعيل
:
تنسَون جميعًا حين يأخذكم الحديث أن أبا القاسم هو الذي منحَني هذا المنصب، وهو
الذي أتاح للشعبِ أن يُحبني، فحقُّه أن أقف إلى جانبه.
ابن إبراهيم
:
ما لنا به؟ إن ملكه قد هوى وبعد أيامٍ قد يكون قد وقع في الأَسْر، وأنتَ لا عمل لك
إلا أن تتولى هذا الملكَ والشعب راضٍ عنك، والغُزاة قَبلوا أن يتركوه لكَ وينسحبوا من
أرض الوطن، فما تُريد؟
ابن إسماعيل
:
أُريد ألا أدفع الدِّية.
سعيد
:
هنا يجب أن نسكُت حرصًا على مصلحة البلاد؛ فإن أبا القاسم إن خرج سيُشعلها نارًا
لا تخمد، وخزانة الدولة يجب ألَّا تكون وقفًا على أشخاص.
عثمان
:
وأنتَ بعدُ لم تفعل معه إلا ما يُرضي الكرامة.
ابن إسماعيل
:
دعِ الكرامةَ جانبًا بربك — عثمان.
ابن إبراهيم
:
بل يتمسَّك بها.
سعيد
:
يا ابن إبراهيم، دعِ النقاش؛ فإنها دولة.
ابن إسماعيل
:
اسمع سعيد، أنا لا أقوم بهذا الأمر وحدي.
سعيد
:
اقبل المبدأ أوَّلًا.
ابن إسماعيل
:
تشتركون معي في الحكم.
سعيد
:
منذ متى كان هذا؟ متى سمعتَ عن حكمٍ يشترك فيه أربعة؟!
ابن إسماعيل
:
سمعتُ أو لم أسمع، إذا قبلتُم قبلتَ، وإذا أبيتُم أبيتُ.
عثمان
:
فما تقول ابن إبراهيم؟
ابن إبراهيم
:
فما تقول أنت عثمان؟
سعيد
:
فهل أمامنا غير ما ترون؟ نقبل.
ابن إبراهيم
:
على شرط.
ابن إسماعيل
:
بغير شرطٍ.
ابن إبراهيم
:
لا بد منه ابن إسماعيل، لا بد أن تكون عميد الجماعة؟
سعيد
:
وليكن.
عثمان
:
لا بد أن يكون.
ابن إسماعيل
:
عميد الجماعة وأمري إلى الله، اللهم اغفر.
(موسيقى.)
سامية
:
ما لكَ مطرقًا هكذا؟! لقد شاء الله فانفكَّ أَسْرك، ولقيتَ الراحة والهدوء بعد أن
أزورَّ الدهر عنك، وقد عهدتُك ثابتًا كالجبل قويًّا كالقوة، فانفُض عن نفسك ما تريد
أن تُحمِّلها إياه، وقف كما كنتَ تقف، فإنه والله الخير الذي لا نعرفه. اصحُ يا رجل.
أبو القاسم
:
ويحك سامية! ما لكِ تُكثرين الكلام! ألا أوجزتِ فسألتِ عمَّا يشغلني؟
سامية
:
وفيمَ كان الكلام إذن؟! حسبتك تفهم الإشارة. حسنًا، فما يشغلُك؟
أبو القاسم
:
عرفتُ اليوم أخبارًا ما حسبتُ أنني سأعرفها أبدًا. أتدرين من كان يتآمر مع أعدائي
ومن الذي ألقى بي في السجن؟ إنه ابن إسماعيل القاضي الذي جعلته أنا قاضيًا.
أتدرين أنهم طلَبوا إليه أن يدفَع من الخزانة العامة ثمن خروجي من السجن فأبى.
سامية
:
لعله حديثٌ كاذبٌ.
أبو القاسم
:
لقد قصد إليَّ اليوم واحدٌ ممن تآمروا معه، وهمس إليَّ بهذا الحديث، لأحميَه؛ فقد
ثارت الدولة على ابن إسماعيل وخانَه من تعاهدوا معه، وهو اليوم في حيرة أمره لا يدري
ماذا يفعل.
سامية
:
ما لنا وله؟
أبو القاسم
:
بروحي أنت يا سامية. إنه لولاكِ لما خرجتُ إلى الدنيا، ضحيتِ بكل أموالكِ لينفرج عني
باب السجن، بحياتي أنت. ألا ما أهونَ حياتي في سبيلك! غبيٌّ ذلك الذي يفتدي حبيبه
بحياته، إنه كمن يفتدي حياته بحياته، ولكن ما حيلتي إزاءك؟ لا أملك غير هذه الأنفاس
الملتهبة بالحب، إن شئتِ أُخمدها إن كان في إخمادها نفعٌ. حدِّثيني يا سامية ماذا أفعل
لأُرضيكِ، ماذا؟
سامية
:
ماذا جرى لك أبا القاسم؟ أتُهينني أم تُراني لست جديرة بما فعلت وما الذي فعلت؟
أنفقت في سبيلك كل ما أملك. ألا ما أهونَ ما أملكُ في سبيل نظرة إليكَ! أتُهينني أبا
القاسم؟ عد إلى رشدٍ منك ولا تعُد إلى هذا الحديث، أن تفعل ما يُرضيني، بل إن شئتَ أن
تُثيرني وتؤلمني فعِدْني ألَّا تعود لهذا الحديث مرةً أخرى. ألا تَعِد؟
أبو القاسم
:
وعدُ حرٍّ تعبدتُه، فهو تبيعك لا يَزوَر عن إشارة لكِ ولا يحيد عن أمرٍ تأمرين.
سامية
:
بل وعدُ حرٍّ هو سيدي، وسيظل سيدي حتى اللقاء.
(تسمع ضربات استئذان على الباب.)
أبو القاسم
:
مَن بالباب؟
صوت
:
عبدُكَ مرجان.
أبو القاسم
:
ادخل (يُسمعُ صوت بابٍ يُفتح) خيرًا مرجان
ماذا؟
مرجان
:
ابن إسماعيل القاضي ببابك حافي القدمَين يلتمس المثول بين يدَيك.
أبو القاسم
:
من؟ ابن إسماعيل؟ عميد الجماعة؟
مرجان
:
هو يا مولاي عميد الجماعة.
(موسيقى.)
أبو القاسم
:
شرفت يا … أيُّ الألفاظ أحبُّ إليك، قاضي القضاة كما أعرفكَ، أم عميد الجماعة كما
تريد أن تكون؟
ابن إسماعيل
:
بل عبدُكَ ابن إسماعيل.
أبو القاسم
(يضحك هادئًا)
:
عجبًا! ماذا؟ أفقدتَ نعالك؟!
ابن إسماعيل
:
بل هي معي، خلعتُها قبل أن أدخل بابك ألتمس الشفاعة.
أبو القاسم
:
ثانيةً، فيم الشفاعة اليوم؟ لقد أصبحتَ أنتَ ممن يُتشفَّع له.
ابن إسماعيل
:
شفاعةٌ منك لدى نفسك، أرجو الصفح.
أبو القاسم
:
ماذا تفعل به؟ إنه اليوم لا يغني عنك شيئًا.
ابن إسماعيل
:
أريح به ضميري ويهدأ ثائري، وأحتمي منك بخيانة الخائن وغدر القريب.
(ابن إسماعيل يبكي.)
أبو القاسم
:
ويحكَ ابن إسماعيل! ماذا بك؟
ابن إسماعيل
:
بي ضميرٌ لا يريحني على جنب، وبي جرحٌ في أغوار القلب من قومٍ مهَّدوا لي طريق
الشر، فإذا خطوتُ به تخلَّوا عني وانتفَضوا عني وألقَوني بين أنياب العدو بلا صديقٍ.
إنه الجُرم الذي اقترفتُه في حقك يُلاحقني، فاعفُ.
أبو القاسم
:
وجئتَ وحدك لا تخشى انتقامي؟!
ابن إسماعيل
:
أنت تنتقم من ملتجئ إليك؟ لا يا مولاي، أنا لا أخشى انتقامك؛ فإنك أكرم من تلك
الخشية، ولكنني أخشى أن تأبى عليَّ الصفح، فهل تأباه؟
أبو القاسم
:
بل هو لك وأنت المشكور. إن التجاءك إليَّ هو أعظم مديح أناله. لقد عرفتَ في نفسي
ما لم أعرف. إن اطمئنانك إلى خلقي وهدوءك إلى كرمي هو أعظم جزاءٍ أناله منك. صفحتُ
عنك يا ابن إسماعيل، فبيتي بيتك.
ابن إسماعيل
:
أنا ما أزال عميد الجماعة، لكن لي رجاء إليك.
أبو القاسم
:
مُر به.
ابن إسماعيل
:
بل رجاء.
(يُسمع صوتُ جسمٍ يُلقى على الأرض.)
أبو القاسم
:
أتُقبِّل قدَمي، ابن إسماعيل؟ أستغفر الله، إنه لا يُسجَد لغير الله.
ابن إسماعيل
:
فاقبل رجائي.
أبو القاسم
:
لستَ في حاجة إلى ما فعلتَ، مُر بما تريد.
ابن إسماعيل
:
اتخذ مني عبدًا لك كمرجان هذا. لا أرجو من دنياي غير ما طلبتُ منك. أَجبه بحق
زوجك، بحق ربك، بحق كرامةٍ لي أبذلها لدى قدمَيك وملكٍ خلفي أتركه، لأكون عبدك،
عبدك لا أريد غيرها. هذه أوراق عبوديتي، فاقبل تُرِحْ نفسي، عبدك يا مولاي
عبدك.
أبو القاسم
:
قم أيها الرجل، بل صديقي مدى الحياة. قم أيها الرجل واحفظ عليك كرامتك. قم أيها
الرجل إن هذا البيت بيتك، فأقم به. قم أيها الرجل.
ابن إسماعيل
:
أقام الله أمرك وشدَّ أَزْرك، وهيَّأ لكَ من لدنه البركات، اللهم اقبل.
الجميع
:
اللهم اقبل.
(موسيقى.)