النصر المبين
الراوية
:
من الأمجاد، من الأشعَّة الأُولى لنور الإسلام، من هذه الشواهق تعلو فلا يَلحَق بها
نظر، وتسمو فلا يهفو إليها فكرٌ، وإنما هي تَهدي فنُهدى، وتُبيِّن فنسير، وتُضيء فنرشد،
من القمم الباسقات للآباء والأجداد وقف عندهم التاريخ العربي خاشعًا في إجلال، ووقف
دونهم التاريخ الغربي صاغرًا في ذلةٍ، من العرب الأوَّلين، خلص إلينا تاريخهم
نقيًّا نقاء إيمانهم بالله، رفيعًا رفعة اعتناقهم للمبدأ. حاول المؤرخون أن ينالوا
من تاريخهم، ولكن الأدلة تكاثَرتْ عليهم وانثالَت إليهم الحُجج إرسالًا، ولم يملكوا إلا
الذهول والحَيْرة، ولم يملكوا إلا الاعتراف أنه الحق.
(موسيقى.)
صوت
:
نراكم أيها العرب قد انسقتُم وراء محنٍ لا تعلمون فكرة، ولا تنظرون إلى تاريخ
الأنبياء لتعرفوا إن كان دينكم هذا على حقٍّ أم هو يسوق القول بغير حُجةٍ ولا
برهان.
آخر
:
بل نراكم أنتم أيها اليهود منذ حل محمدٌ بالمدينة لا تسكتون عن الإيقاع بيننا،
وإثارة الشكوك في نفوسنا، وقد كان أَوْلى بكم وأنتم أصحاب كتابٍ يدعو إلى التوحيد أن
تنضمُّوا إلى دعوة محمد وتُؤيِّدوها.
الأول
:
لقد كُنَّا والله خليقين بما تقول، ولكننا نرى أمورًا تجعل الشك في نفوسنا يغلب
اليقين.
الثاني
:
وماذا ترون؟
الأول
:
نرى مُحَمَّدًا.
(موسيقى.)
الثاني
:
يقول اليهود يا رسول الله إنك هاجرت إلى المدينة ولم تتركها، وإن الأنبياء جميعهم
ذهبوا إلى بيت المقدس، ويقولون إنه جديرٌ بك أن تذهب إلى المسجد الأقصى لتكون من
الأنبياء. فقال رسول الله: قُلْ لِلهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ
الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً
إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ (صدق الله العظيم) صدق الله العظيم
أيها اليهودي.
الراوية
:
ومضت سنواتٌ يزيد مضيُّها شوق المسلمين إلى قبلتهم، ومَشرِق الوحي على نبيهم، وقد
أصبح الحنين في نفوس المهاجرين لاعجًا متوثِّبًا إلى ملاعب صباهم، ومعاهد شبابهم،
ومدارج الآمال الباكرة لحياتهم. وأحسَّ النبي بلواعج أصحابه فإذا هو يدخل عليهم وقد
اجتمعَت كثرتُهم في المسجد، فيُلقي إليهم سلامًا فرحًا مستبشرًا.
أصوات
:
وعليكم السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
الراوية
:
ويقول النبي: «لقد أذن الله لكم أن تدخلوا المسجد الحرام إن شاء الله آمنين
محلِّقين رءوسكم ومقصِّرين لا تخافون.»
صوت
:
سبحان الله!
آخر
:
الله أكبر.
آخر
:
الحمد لله.
آخر
:
محاربين ندخل المسجد الحرام يا رسول الله.
الراوية
:
ويقول النبي: «أذِّنوا في الناس بالحج.»
آخر
:
متى يا رسول الله؟
الراوية
:
ويقول النبي: «في ذي القعدة إن شاء الله.»
صوت
:
في ذي القعدة يا رسول الله؟ في الشهر الحرام إذن.
آخر
:
فلا حرب إذن ولا سلاح.
آخر
:
سلامًا ندخلها بإذن الله.
الراوية
:
وخرج المسلمون حول النبي، وقد علموا أنه ما يريد إلا سلامًا، إنما هي زيارة لبيت
الله الحرام، وما إن بلغوا الحُلَيفة حتى أحرم محمد، فأحرموا معه، وأصبح واضحًا أن
مُحَمَّدًا إنما ينشُر السلام، فإن المُحرِم لا يبغي عدوانًا، ولكنَّ من المشركين
فرسانًا أبَوا أن يفهموا الوضوح، وما بعجيبٍ عليهم الزيغ، فهم أنفسهم من عمُوا عن
الإسلام. يجتمع جمعُهم — هان جمعهم — ويقول قائلهم، ذل قائلهم:
صوت
:
ها قد أقبل محمد يغزوكُم في دياركم بعد أن دحَرَكُم حول الخندق.
صوت
:
وهل محمد بحاجةٍ إلى أن يتشبَّه بالأنبياء في هذه التوافه؟
الثاني
:
يقولون إنه ما دام المسلمون يجعلون المسجد الأقصى قبلتهم، فلا بد لمحمد أن يُهاجر
إلى المسجد الأقصى، فيجعل من المدينة وسطًا في هجرته بين مكة والمسجد
الأقصى.
الراوية
:
وسأل النبي ذلك المتحدث: ألم تفهم ما يرمي إليه هذا اليهودي؟
اليهودي
:
فهمتُه يا رسول الله، إنه يريد أن يشعلها فتنةً بيننا.
الراوية
:
وكان ذلك هو ما أراده اليهود، ولكن هيهات! إنهم يمكرون ويمكر الله، وإن ربَّك
لأشد مكرًا.
(موسيقى.)
الثاني
:
اسمع أيها اليهودي، لقد دحض الله فتنتك.
اليهودي الأول
:
وكيف أيها المسلم؟
الثاني
:
لقد أنزل الله آياته عزَّ شأنه، فجعل الكعبة هي قبلتنا. اسمع ما يقول: «بسم الله
الرحمن الرحيم» قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ.
اليهودي
:
فقبلتُكُم الكعبة إذن؟
الثاني
:
إنها قبلتنا.
اليهودي
:
وهكذا يميل …
(موسيقى.)
الثاني
:
ويقول: يا رسول الله، وهكذا يميل بكم محمد من قبلة إلى قبلة وأنتم وراءه، لا
تدرون لماذا كان المسجد الأقصى قبلتكم؟ ولماذا أصبحَت الكعبة قبلتكم؟ ألا تسألون؟
ألا تفهمون؟!
الراوية
:
وقال النبي لمن يحادثه: «وفهمتَ ما يرمي إليه؟»
الثاني
:
فهمتُه يا رسول الله، وهل يُريد إلا الوقيعة والفتنة؟
الراوية
:
وكان ذلك هو ما أراده اليهود، ولكن هيهات. إنهم يمكرون ويمكر الله، وإن ربك لأشد
مكرًا.
(موسيقى.)
الثاني
:
لقد جاءك الجواب أيها اليهودي. قد جاءك الجواب.
اليهودي
:
وأين هو؟
الثاني
:
اسمع: «بسم الله الرحمن الرحيم» سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ
النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ.
(موسيقى.)
آخر
:
والله لئن دخل مكة اليوم فهيهات، هيهات لكم أن يخرج بعدها أبدًا.
آخر
:
واللاتِ لا يدخلها أبدًا.
آخر
:
يقولون إنهم يريدون أن يدخلها مسالمًا فلا عدوان، ولا وقائع.
آخر
:
أفننتظر إذن أن يدخل مكة، ثم ننظر إن كان يريد سلامًا أم حربًا؟
آخر
:
إذن فهو عارُ الأبد وخزيُ الدهور.
آخر
:
بل إننا نخشى أن يكون محمدٌ يُضمِر بنا المكر والخديعة.
آخر
:
والله يُخيَّل إليَّ أنه يُضمِر السلم حقًّا؛ فقد علمتُ أنه دعا العرب من غير المسلمين
إلى الزيارة معه.
آخر
:
وأين السلام في هذا؟
الأول
:
إن من ينوي الحربَ لا يدعو إليها إلا الذين يثق في إخلاصهم.
آخر
:
إنه قد أحرم.
الأول
:
لأخشى أن يكون السلاحُ في ثياب إحرامه.
آخر
:
أخالُكَ واهمًا.
الأول
:
إننا لن نسمح لمحمد أن يطأ مكة.
آخر
:
فنُجهِّز جيشًا ونلتقي بمحمد.
الأول
:
إن الجيش مُعَد، فها أنت ذا ترى شباب قريشٍ مجتمعًا إليكَ منذ عَلِم أن محمدًا في طريقه
إلينا.
آخر
:
فمن نُولِّي عليه؟
الأول
:
جبَّار الحروب وعمادها.
آخر
:
أخالد بن الوليد تريد؟
الأول
:
إياهُ أردتُ.
آخر
:
أرى خالدًا يتسمَّع أنباء محمدٍ في تشوُّق، وكأني به يكاد يؤمن بالدين الجديد.
الأول
:
أراك محقًّا فيما تقول، فلو أننا عقدنا لعكرمة بن أبي جهل معه حمدنا العقبة،
ووثقنا أننا سنواجه مُحَمَّدًا بقوةٍ شديدة.
آخر
:
الرأي رأيك، هو ما قلت.
الأول
:
فليكن خالد إذن وعكرمة بن أبي جهل هما قائدا الجيش.
(موسيقى.)
الراوية
:
وسار جيش الكفار حتى بلغ ذا طوى وأقام عسكره هناك، أمَّا محمد فقد سار بجيشه حتى
بلغ عسفان، وهناك لقيه رجلٌ من بني كعب.
(موسيقى.)
الراوية
:
فسأله رسولُ الله عن أخبار مكة.
صوت
:
قد سمعَت بمسيرك، فخرجوا وقد لبسوا جلود النمور ونزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا
تدخلها عليهم أبدًا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قدَّموها إلى كراع الغميم.
الراوية
:
فقال رسول الله: «يا ويح قريش، لقد أهلكَتْهُم الحرب، ماذا عليهم لو خلُّوا بيني
وبين سائر العرب؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهَرني الله عليهم دخلوا
في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا، وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فوالله لا
أزال أُجاهد على الذي بعثَني الله به حتى يُظهِره الله أو تنفرد هذه السالفة.»
صوت
:
أعناقنا فداك يا رسول الله.
آخر
:
مُرنا فنحن نفاذُ أمرك، وتحقيقُ كلمتك.
آخر
:
أنُحارب يا رسول الله؟
آخر
:
إن شئتَ يا رسول الله حاربنا، إلا أن لي رأيًا، أتأذن لي أن أقوله؟
الراوية
:
قال النبي: «قُله».
آخر
:
إنهم يعلمون أننا لم نخرج لحرب، فنحن على غير عُدَّة وسلاح، وإنهم — يا فداك أبي —
يبذلون غاية الجهد ليشتبكوا معنا في حرب، فلو أننا هيَّأنا لهم هذه الفرصة …
آخر
:
نعم، إنك محق، لو تهيَّأتْ لهم الفرصة وانتصروا في حربهم الظالمة هذه لراحوا يتشدَّقون
بنصرهم بين العرب.
الآخر
:
إنهم لم يُرسلوا خالدًا وعكرمة إلا ليبدوا سبيلًا إلى حرب هم لا يعلمون أننا لم
نُعِد لها.
آخر
:
إننا لنحمل سيوفنا، وإيماننا، فهلُم بنا هلُم. ولن نُتعِب خالدًا ولا عكرمة في بدء
الحرب. سنكون البادئين؛ فإنهم هم المعتدون.
آخر
:
فداك يا رسول الله فداك، وما الإعداد للحرب غير السيف، وهو بيدنا، وغير الإيمان،
وهو أرسخ في قلوبنا من شُم الجبال.
آخر
:
لقد أردنا سلامًا وأرادوا هم حربًا، فهلمَّ إليها؛ فإنما النصر من عند الله،
وإننا نحن … نحن أتباع الله.
الراوية
:
ولكن رسول الله رأى أنه لو خرج عن سياسة السلم التي أعدَّ لها إلى سياسة الحرب
التي يجهد الكفار على أن يريدوه عليها، لو فعل لأتاح لكفار قريشٍ فرصةً يُشيعون بها
بين العرب أن مُحَمَّدًا حارب في الأشهر الحرم، وأنه حارب عند البيت الحرام وهو بعدُ
لا يضمن النصر، فإن يكن المسلمون حوله يفيض بهم الإيمان، إلَّا أن أبناء قريش أيضًا
إذا حاربوا اليوم فإنما هم يحاربون عن شرفهم أجمع، تعتلج في نفوسهم أحقاد الأمس يوم
هُزموا عند الخندق، وذلة اليوم في مهاجمة محمد لهم وهم في أحضان مكة، وخشية الغد،
إذا دخل محمد مكة عليهم عنوةً فهم إذن في هوانٍ مُقيمٍ، قدَّر عليه الصلاة والسلام
هذا جميعه، فأزمع على أن يظل على سلمه الذي أراده لنفسه، فلا يميل إلى الحرب التي
يريده عليها الكفار، فهو يقول: «من رجلٌ يخرج بنا عن طريق غير طريقهم التي هم
بها؟»
صوت
:
إني يا رسول الله أعرف طريقًا.
آخر
:
إنها طريقٌ شاقَّة تلك التي تقصد إليها.
آخر
:
أي شاقٍّ يا أخا العرب؟ إننا أبناء صحراء، لا يشُق علينا طريق.
(موسيقى.)
الراوية
:
وسار المسلمون في طريقٍ يتلوَّى بين الشعاب، وقد جهد المسلمون حتى بلغوا عند منقطع
الوادي، ثم مالوا منه إلى أيمنه فبلغوا ثنيَّة المراد مَهبِط الحديبية، من أسفل مكة.
وما رأى جيشُ الكفار هذا حتى رجعوا إلى مكة ليُدافِعوا عنها إذا أراد المسلمون دخولها،
وكان النبي على ناقته القصواء فما إن بلغَت الحديبية حتى برَكَت.
صوت
:
لقد جَهدَت يا رسول الله، أجهدَها طُولُ الطريق ووعورتُه.
الراوية
:
فقال النبي: «إنما حبسها حابسُ الفيلِ عن مكة.»
آخر
:
حابس الفيل؟!
آخر
:
نعم يا أخي، حابس الفيل الذي منع أبرهة أن يهدم الكعبة. ألا تعرف أن الفيلة
يومذاك لم تستطع أن تمَسَّ الكعبة بسوء على الرغم من تحريض راكبيها لها؟!
آخر
:
فذاك إذن حابس الفيل.
آخر
:
إنه هو، وِقاءُ مكة، وحِصْن الكعبة.
الراوية
:
وقال النبي (معلنًا السلم): «لا تدعوني قريش إلى خطةٍ يسألونني فيها صلة الرحمة
إلَّا أعطيتُهم إياها.» انزلوا هذا المكان.
صوت
:
ولكننا يا رسول الله في مكانٍ لا ماء ولا ري، ولا هو يصلُح لمقام.
الراوية
:
فأخرج عليه الصلاة والسلام سهمًا من كنانته، وقال لأحد مرافقيه: انزل في بئرٍ من هذه
الآبار التي حولَنا واضرب فيها بسهمي هذا.
صوت
:
ولكنها آبارٌ جفَّت يا رسول الله.
الراوية
:
فقال النبي: فانزل.
الصوت
:
أمرك يا رسول الله.
الراوية
:
ونزل الرجل وضرب السهم.
أصوات
:
الماء، الماء، الري، الري، الله أكبر، صلى الله على محمد.
(موسيقى.)
الراوية
:
واجتمع كفار قريش يتفاوضون الأمر بينهم حتى وافاهم بديل بن ورقاء، وكان يُلمُّ
بجيوش المسلمين، فابتدَروه سائلين:
صوت
:
هيه بديل.
الصوت
:
فما مجيئهم؟
بديل
:
زيارةُ البيت وتعظيمُ حرمته.
الصوت
:
ويتسامع عَنَّا العرب أن مُحَمَّدًا قد دخل علينا مكة عَنْوة.
بديل
:
أشهد أنا لا أرى أثَر العَنْوة في دخوله، بل إنهم قومٌ يقفون من الكعبة موقفَ التكريم،
لا يدخلونها محاربين.
الصوت
:
أكنتَ هناك حين أرسَلْنا حليسًا ليفاوض مُحَمَّدًا؟
بديل
:
كنت هناك، ولقد رأى محمد حليسًا قادمًا فأمر بالجِمَال فأُطلقت ليرى الحليس أنها
جائعة، وأنها لا تنتهكُ حرمات مكة. وقد رأى رسولكم حليس الجِمَال فعاد سبيله
إليكم.
حليس
:
أمَا أخبرتكم أنه السلم ما يريد محمد، ولن يحيد عنه أبدًا؟
صوت
:
إنما أنت يا حليس سيد قومك ولستَ من قريش ولا من خالصة العرب، فأنت لا تعلم من
الأمر شيئًا.
حليس
:
لقد حالفتُكم لأذود عن البيتِ الحرام، وما حالفتُكُم لأردَّ عنه من جاءه معظِّمًا،
فمنذ اليوم لا حِلْف بيننا.
صوت
:
أغضبتَ يا حليس؟
حليس
:
وكيف لا أغضب للكعبة، تذودون عنها مُكرِموها، وتردُّون القاصدين إليها؟!
صوت
:
إنه يا حليس إن دخل الكعبة اليوم زالت عن قريش السدانة والسقاية، وتساقطت عنها
أمجادها كالأوراق الجافَّة يُساقِطها الريحُ العاصف.
حليس
:
فلا حلف بيننا.
صوت
:
بل اصبر علينا يا حليس، فندبر أمرنا وننظر فيه.
بديل
:
لقد طال بكم التدبير والنظر، والله لتُطالعنَّكم العرب غدًا بقالةٍ لن تثبتوا لها.
إنهم قائلون: «قريش تردُّ عن الكعبة الحجيج.»
الصوت
:
نُرسل رسولًا آخر يفاوض مُحَمَّدًا، نُرسل إليه عروة بن مسعود الثقفي.
عروة
:
لا والله لستُ بذاهب.
الصوت
:
ولِمَ يا عروة؟
عروة
:
أراكم تَلْقَون رسولَكُم بشرِّ بما يُلقى به رسولُكم إذا هو جاءكم بالأخبار لا
تُرضيكم.
الصوت
:
إنكَ عندنا غير ظنينٍ يا عروة، ولن تجد في لقائنا إلا الخير، فاذهب إليه وسَلْه ماذا
يريد؟
(موسيقى.)
الصوت
:
هيه عروة، ماذا رأيت؟
عروة
:
يا معشر قريش، إني جئت كسرى في مُلكه، وقيصر في مُلكه، والنجاشي في مُلكه، وإني
والله ما رأيتُ ملكًا في قومٍ قط مثل محمدٍ في أصحابه، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه،
ولا يسقُط من شعره شيء إلا أخذوه، وإنهم لن يُسلموه لشيءٍ أبدًا، فانظروا
رأيكم.
الصوت
:
ماذا لقيت؟
عروة
:
ذهبتُ إلى محمد.
(موسيقى.)
عروة
:
يا محمد، إن مكة أهلك ومكانك، إن تُنصفها وأهلها المقيمين بها على من جمعتَ من
أوشاب الناس.
الراوية
:
فقال أبو بكر: بل هم سادة الناس يا عروة وإن رغمَتْ أُنوف.
عروة
:
فإذا انصرف هؤلاءِ عنكَ يا محمد؟
الراوية
:
فقال أبو بكر: هيهاتَ أن ننصرف عنه يا عروة، إنما نحن ومضةٌ من إشراقته، ولمحةٌ من
رضى ربه، لا مُنصرفَ لنا عنه.
عروة
:
فوالله ما أرى شيئًا يبقى على الزمان إلا العار لاحقًا بقومك من قريش؛ إن أنتَ
اقتحمتَ عليهم الكعبة اليوم.
صوت
:
يدك عروة (صوت صفعةٍ هيِّنة).
عروة
:
فهل تركتَنا محمدُ في عامكَ هذا؟
صوت
:
يدك عروة (صوت صفعةٍ هينة).
الراوية
:
وقال رسول الله: إنه لم يأتِ إلَّا لسلمٍ يريد زيارة الكعبة ولمس أركانها.
(موسيقى.)
عروة
:
فجئتُ إليكم. أتعلمون من كان يقف إلى جوار محمد؟
صوت
:
من؟
عروة
:
المغيرة بن شعبة. وكنتُ إذا أمسكتُ بلحية محمد وأنا أُحادثه ضربَني المغيرة على يدي
وهو يقول: يدكَ عروة. فأترك لحيةَ محمد.
صوت
:
المغيرة بن شعبة، يضرب يدكَ أنت؟ يدك التي دفعَت عنه ثلاثَة عشر ديةً عن قتلى
قتلهم.
عروة
:
هو المغيرة. لا واللاتِ، لا كسرى ولا قيصر ولا النجاشي بملاقٍ ما يُلاقيه محمد من
قومه. انظروا أمركم.
صوت
:
يا رسول الله، يا رسول الله، لقد طالما شكونا إليك من سفهاء مكة يخرجون في بهيم
الليل، ويرمون خيامنا بالحجارة، فالليلة قد خرج علينا منهم نفرٌ كبير، فأسَرنا منهم
أَسْرًا وبيلًا.
الراوية
:
وسأل النبي: وأين الأَسْرى؟
(موسيقى.)
صوت
:
الآن قد أسفَر الشكُّ عن اليقين.
آخر
:
ماذا؟
الصوت
:
أمَا ترى مُحَمَّدًا قد أطلق أسرى مكة، بعد أن وقعوا في يده، فما لنا نُجادل
الآن؟
آخر
:
إن السلم ما يريد.
آخر
:
ماذا تريد؟
آخر
:
فلنُخلِ له السبيلَ فيزور.
آخر
:
فوا ضيعَتا لنا لنا بين العرب!
آخر
:
بل لا والله، فإننا إذا أصبنا مُحَمَّدًا بسوءٍ بعد أن أطلَق أسرانا كُنَّا بين العرب
غادرين لا وفاء لنا.
آخر
:
بل نمنعه.
آخر
:
بل نتركه.
آخر
:
بل نمنعه.
(موسيقى تصاحب المشهد.)
الراوية
:
واجتمع المسلمون حول محمد يتفاوضون الأمر، حتى انتهى بهم الرأي أن يُرسِلوا عثمان
بن عفان إلى رجال مكة رسولًا، يحمل إليهم رغبةَ محمد وصحابته في الحج، وذهب عثمان
إلى أبي سفيان.
أبو سفيان
:
فيمَ قدومُكَ عثمان؟
الراوية
:
فقال عثمان: إنما جئنا لنزور البيت العتيق، ولنُعظِّم حرمته، ولنُؤدِّي فرض العبادة
عنده. وقد جئنا بالعير معنا، فإذا نحرناها رجعنا بسلامٍ.
أبو سفيان
:
يا عثمان، إذا شئتَ أن تطوف بالكعبة فطُف.
الراوية
:
فقال عثمان: ما كنتُ لأفعل حتى يطوفَ رسول الله.
أبو سفيان
:
فإنَّا أقسمنا ألا يدخل محمدٌ مكة في عامنا هذا عَنوة.
الراوية
:
فقال عثمان: ولكنه لا يدخل عَنوة.
أبو سفيان
:
فإنَّا أقسمنا وما دمنا …
(موسيقى.)
صوت
:
لقد قتلوا عثمان.
آخر
:
قتلوه؟
آخر
:
لقد قتلوا رسولَنا إليهم بعد أن أطلَقنا نحن أَسْراهم.
آخر
:
قتلوا زوجَ بنتِ رسول الله.
آخر
:
لا نسكُتُ بعدها أبدًا.
آخر
:
في ظلال الكعبة.
آخر
:
لقد لوَّثُوا أمنها، وهتَكُوا حُرمتَها.
آخر
:
هيهات نسكُت هيهات. لا نَبرحُ حتى نُناجز القوم.
آخر
:
إلى السيوف.
آخر
:
قتلوه في الشهر الحرام.
أصوات
:
إلى السيوف.
الراوية
:
ودعا النبي أصحابه، فإذا هم حوله جواب دعوته، وكلمته إذا قال، وإرادته إذا أراد،
دعاهم إلى البيعة فأنفسهم لدعوته تلبية، لبَّيكَ رسول الله لبَّيكَ، من قلوبٍ آمنَتْ
بك،
وهل بعد الإيمان رضًى يا رسول الله؟ لقد أقررتَ منهم ثائرًا من الكفر، فهي في هَدْأة
الإيمان لبَّيكَ، لبَّيكَ يمُدُّون أيديهم إلى يدَيكَ عزَّت يدك وأيديهم، وتمُد أنتَ
يدكَ الثانية
يا رسول الله، لتكون يدُك الثانية هذه بديلًا عن عثمان بن عفان الغائب عنك. دعوتَ
فهم جميعًا لبَّيكَ ودعوتَ تحت الشجرة، وهم في كل مكانٍ لبَّيكَ، لبَّيكَ يا رسول الله،
وتمَّت البيعة تحت الشجرة لا يغمد واحدٌ منهم السيف، أو يقتل، وإنهم الرابحون يا رسول
الله تُبدلُهم دُنيا بعُليا وفانية بخالدةٍ. هم الرابحون يا رسول الله، فلبَّيكَ، لبَّيكَ
في بيعة الرضوان. ونظر ربُّكَ من عليين فرأى الأيدي مجتمعة على يد النبي، قلوبهم هي
أيديهم، أرواحهم هي بيعتُهم، فينزل قولُه عَزَّ قوله: «بسم الله الرحمن الرحيم لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ
عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا … صدق الله العظيم.»
(أصوات فرح.)
صوت
:
قد جاء عثمان، قد جاء عثمان.
الراوية
:
جاء عثمان، ولم تعُد ثَمَّةَ حاجة لحرب، ولكن هذه البيعة ظلَّت ذكرى كريمةً تلوح للنبي
عليه صلوات الله فحاح إليها، كرَّمَها القرآن فخلَّدها الزمان، وسأل محمدٌ عثمان عما
يقوله القوم، فقال: لا يقبلون، ولكنهم سيُفاوِضونه على خطَّة يرضاها.
(موسيقى.)
أبو سفيان
:
نُرسِل إليهم سهيل بن عمرو فيُوثِّق بيننا صلحًا.
صوت
:
الرأي ما تقول.
آخر
:
أنؤمِّن تجارتَنا القادمة عن طريق المدينة؟ و…
(موسيقى.)
سهيل
:
صلحًا بيننا يا محمد.
الراوية
:
ويسأل النبي: وعلام الصلح؟
سهيل
:
ترحل عَنَّا في عامك هذا وتحُج في العام القادم و…
(موسيقى.)
الراوية
:
وقَبِل محمدٌ ما يريدون، فهو يدعو إليه علي بن أبي طالب وسهيلًا بمشهد: «ويملي النبي
على علي: «بسم الله الرحمن الرحيم.»
سهيل
:
أمسك، لا أعرف الرحمن الرحيم، بل اكتب «باسمك اللهم.»
الراوية
:
ومن أين لهم أن يعرفوا الرحمن الرحيم؟ ولكن هو الله جلَّت أسماؤه وتعدَّدتْ. ويُملي
محمد: «باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو.»
سهيل
:
أمسك. لو شهدتُ أنك رسولُ الله لم أقاتِلْك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
الراوية
:
إن النصر على النفس هو أروعُ غايات النصر، لم يثُر النبي عليه ولم يُعارِضه، وإنما
كظَم غيظه، ويُنفِّذ ما يوحى إليه، فهو يقول: أنا عبد الله ورسوله لن أُخالف أمره، ولن
يُضيِّعني. وأملى لرسول الله الرسول صلح الحديبية يُهادِن فيها قريشًا عشر سنين على أن
يرد الرسول من يجيئه من قريش مسلمًا بغير إذنٍ من وليه، ولا تَردُّ قريش من يجيئها من
المسلمين، وأنه لا جناح على من يريد محالفة الرسول من العرب ولا جناح على حليف
قريش، وأن يرجع محمد في عامه هذا ويعود بعدُ في العام الذي يليه فيدخل ومن معه إلى
مكة ويقيم بها ثلاثة يحملون من السلاح السيوف في أغمادها. وما إن تم الصلح حتى
…
صوت
:
لبيك يا رسول الله، إني أُشهِدكَ أني مسلم.
سهيل
:
من؟ ولدي أبو جندل، ماذا تريد؟
أبو جندل
:
أشهد ألا إله إلا الله، وأن مُحَمَّدًا رسول الله، إليكَ محمد إليكَ.
سهيل
:
بل أَقصِر أيها الأحمق وارجع.
أبو جندل
(صائحًا)
:
يا معشر المسلمين، أتردُّونني الى المشركين يفتنونني في ديني؟!
سهيل
:
أَقصِر لعنَتْكَ الآلهة.
أبو جندل
:
لُعنَت آلهتكم. أتضربني وتزجرني أن أقول ربي الله؟ إليَّ محمد إليَّ.
الراوية
:
ويرى محمد هذا المسلم الجديد، ولكنه كان قد ارتضى عهدًا، فهو لا ينقضه ويقول: «يا
أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين مخرجًا، وإنَّا
قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا وأعطيناهم على ذلك وأعطَونا عهد الله، وإنَّا لا
نغدر بهم.»
أبو جندل
:
إليَّ محمد إليَّ (يضعف الصوت) إليَّ محمد
إليَّ (ويزداد ضعف الصوت) إليَّ محمد إليَّ.
(موسيقى.)
الراوية
:
وقام الرسول مع أصحابه، ثم صلَّى، فاطمأنَّ قلبه إلى أن الصواب هو ما فعل، وهل يصدُر
إلا
عن الهدى؟ ثم قام إلى بعيره فنحره، ثم جلس فحلَق رأسه إيذانًا بالعمرة، وحلَق الناس
معه وأتمُّوا العمرة وقاموا يتهيَّئون للمسير.
صوت
:
غير راضٍ أنا شَهِد الله عن هذا الصلح.
آخر
:
يا أخي اصبر، فالسنون قادمات، والخير معقودٌ بها، ومهما تكن الأمور حازمة فلا بد
لها يومًا من فرج.
الأول
:
أُشهِد الله أنِّي غير راضٍ.
الثاني
:
بل ارضَ يا أخي، فلقد ربحنا والله أن نحُج كل عامٍ، فلا يتعرَّض أحدٌ لنا بشر،
وربحنا أن نُحالف من العرب من نشاء، ولا تتعرَّض قريش لحلفائنا، والأيام مُخفياتٌ عنك
من
الخير ما لا تعلم.
الأول
:
انظر، لقد نزل الوحي على النبي.
(موسيقى.)
الراوية
:
وأوحى الله إلى رسوله سورة الفتح «بسم الله الرحمن الرحيم»: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا صدق الله
العظيم.
الأول
:
الله أكبر، إنه النصر، إنه الفتح.
الثاني
:
إي وربك، إنه الفتح المبين.