القسم الأول
وإذا ما جُرِّد هذا الكائن الذي كُوِّن هكذا من جميع المواهب الخارقة للعادة التي استطاع نيلها، ومن جميع الخصائص المصنوعة التي لم يقدر على اكتسابها إلا بنشوء طويل. والخلاصة أنه إذا ما نُظِر إليه كما وجب أن يكون حين خروجه من أيدي الطيعة، رأيت حيوانًا أقل قوةً من بعضهم وأقل نشاطًا من الآخرين، ولكن مع كونه أحسن من الجميع نظامًا إذا ما نُظِرَ إليه من كل وجهٍ، فأراه يشبع تحت بلوطةٍ، ويرتوي من أول جدول، ويجد فراشه تحت ذات الشجرة التي أمدته بطعامه، وهكذا تكون حاجاته قد قُضيت.
وإذا تعوَّد الناس منذ صباهم عدم اعتدال الفصول وشدتها، وإذا تمرنوا على التعب واضطروا إلى الدفاع عن حياتهم وصيدهم عُراةً عزلًا، وذلك ضد الضواري والكواسر أو فرارًا من غارتها، فإنهم يكتسبون جِبِلَّة قوية، ثابتة تقريبًا، فيجلب الأولاد إلى العالم بُنيَة آبائهم الرائعة ويقوونها بذات التمرينات التي أدت إليها، وهكذا ينالون كل ما يستطيعه النوع البشري من متانة، وهكذا تعاملهم الطبيعة كما كان قانون إسبارطة يعامل أولاد المواطنين، فتجعل مَن هم حسنو البنية أقوياء أشداء، وتهلك جميع الآخرين، وهي في ذلك على خلاف مجتمعاتنا التي تجعل الدولة فيها الأولاد عبئًا على الآباء، فتقتلهم قبل ولادتهم بلا تمييز.
ويزعم هوبز أن الإنسان جسورٌ بحكم الطبيعة، وهو لا يحاول غير الهجوم والقتال، والعكس ما يراه فيلسوفٌ مشهورٌ آخَر، وكذلك يؤكد كونبر لاند وبوفندروف كونه لا شيء أخوف من الإنسان في الحال الطبيعية، فهو يرتجف ويستعد للفرار دائمًا عند أقل صوتٍ يقرعه وأقل حركة يشعر بها، وقد يكون هذا تجاه الأشياء التي لا يعرفها، ولا أشك مطلقًا في خوفه من جميع المناظر الجديدة التي تعرض له في كل مرة لا يستطيع أن يفرق فيها بين الخير والشر الطبيعيين اللذين يجب أن ينتظرهما منها، ولا أن يقابل بين قواه والأخطار التي تلاقيه، وهذه الأحوال نادرة في الحال الطبيعية، حيث يسير كل شيء بالغ النمطية، وحيث لا يكون وجه الأرض خاضعًا مطلقًا لتلك التحولات المفاجئة الدائمة التي توجبها هنالك أهواء الشعوب المتحدة وتقلبها، ولكن بما أن الإنسان الوحشي يعيش متفرقًا بين الحيوانات ويجد نفسه باكرًا في حالٍ يقيس نفسه بها، فإنه لا يُعتم أن يقوم بهذه المقايسة، وهو إذ يُحسُّ أنه يفوقها حيلةً أكثر من فواقها إياه قوةً، فإنه يتعلم ألا يخشاها بَعْدُ، وضعوا دبًّا أو ذئبًا أمام وحشيٍّ قويٍّ نشيط جسور — كما عليه الجميع — مسلحٍ بحجارة وهراوة جيدة، تروا كون الخطر متقابلًا على الأقل، وكون الحيوانات المفترسة، التي لا تحبُّ مهاجمة بعضها بعضًا مطلقًا، قليلة الرغبة في مهاجمة الإنسان الذي تجده مفترسًا مثلها. وأما من حيث الحيوانات التي لها من القوة في الحقيقة ما هو أكثر من حيلة الإنسان، فإن الإنسان يكون تجاهها في ذات الوضع الذي تكون عليه الأنواع الأخرى الأضعف منها والقادرة على البقاء مع ذلك، وذلك مع قدرة الإنسان على اتخاذ ملجأٍ وتركه عند المقابلة، ومع خياره في الفرار أو القتال عند المقابلة في كل مكان، فضلًا عن استعداده للركض مثلها وعثوره على ملجأٍ أمين في الشجرة تقريبًا، وإلى هذا أضف كونه لا يوجد — كما يظهر — حيوانٌ يشهر الحرب على الإنسان عن طبيعة، خلا الحال التي يكون فيها مدافعًا عن نفسه، أو التي يكون فيها جائعًا إلى الغاية، وكونه لا يبدي له تلك الكراهية التي تنذر — كما يلوح — بأن أحد الأنواع مُعَدٌّ ليكون — عن طبيعةٍ — طعامًا لنوع آخَر.
وهذه — لا ريب — هي الأسباب في كون الزنوج والهمج لا يخافون الحيوانات المفترسة التي يمكن أن يلاقوها في الغاب، ويعيش كرايب فنيزويلا بين أخرى من هذه الناحية في أمان مطلق ومن غير أدنى محذور، وهم وإن كانوا عراةً جميعًا تقريبًا، على رواية فرنسوا كوريال، يعرضون أنفسهم في الغاب من غير احترازٍ مسلحين بقوس وسهم، بَيْدَ أنه لم يُسمَع قطُّ افتراس الضواري لأحدٍ منهم.
وهنالك أعداء آخرون أشد هولًا، فليس لدى الإنسان ذات الوسائل للدفاع تجاههم، وهؤلاء الأعداء هم: الأسقام الطبيعية للطفولة والهرم والأمراض من كل نوع، أيْ هذه العلامات الكئيبة لضعفنا، والتي تُعَدُّ الأوليان منها مشتركتين بين جميع الحيوانات، والتي تُعَدُّ الأخيرة منها خاصةً بالإنسان الذي يعيش في المجتمع، حتى إنني ألاحظ في موضوع الطفولة أن الأم إذ تحمل ولدها معها حيثما كانت، من سهولة تغذيته ما ليس لإناث كثيرٍ من الحيوانات التي تُضطرُّ إلى الذهاب والإياب بلا انقطاع، مع كثيرٍ من التعب بحثًا عن غذائها من ناحية، وإرضاعًا أو إطعامًا لصغارها من ناحية أخرى.
وأما من حيث الأمراض، فإنني لا أكرر مطلقًا ما يقوم به معظم الأصحاء من تصريحات فارغة باطلة ضد الطب، ولكنني أسأل: هل توجد مشاهدات متينة يمكن أن يُستنبَط منها كون الحياة المتوسطة في البلدان التي يكون فيها فنُّ الطب أكثر الأمور إهمالًا أقصر مما في أكثر البلدان عنايةً به؟ وكيف يمكن هذا أن يكون إذا كنَّا نجلب لأنفسنا من الأمراض ما لا يستطيع الطب أن يجهزنا بأدويته؟
إن التفاوت المتناهي في طراز الحياة، وفرط البطالة في أناسٍ، وفرط العمل في الآخرين، وسهولة تهييج شهواتنا وملاذنا، والأطعمة المبتغاة كثيرًا من قِبَل الأغنياء فتغذيهم بالعصارات المسببة للحرارة وترهقهم بسوء الهضم، وأغذية الفقراء السيئة التي تعوزهم في الغالب أيضًا، والتي يحملهم عدمها إلى إثقال معدتهم بشرهٍ عندما تلوح الفرصة، والسهرات، وأنواع الدعارات، وعدم الاعتدال في تبادل ضروب الأهواء، ومتاعب النفس وضناها، وما لا يُحصَى له عدٌّ من الكروب والرزايا التي يشعر بها في جميع الأحوال، والتي تضعف بها النفوس ضعفًا مستمرًّا، دلائل مشئومة على كون معظم أمراضنا من صنعنا الخاص، فكان يمكننا اجتنابُ جميعها تقريبًا بمحافظتنا على طراز العيش البسيط النمطي الانفرادي الذي كانت الطبيعة قد فرضته علينا، وإذا كانت الطبيعة قد أعَدَّتْنا لنكون أصحاء، فإنني أجرؤ على القول بأن حال التفكير مناقضة للطبيعة، وأن الإنسان الذي يُفكر حيوانٌ فاسد، وإذا ما نُظِر في نظام الهمج الصالح، نظام هؤلاء الذين لم نضيعهم بمشروباتنا الروحية، وإذا ما عُلِم أنهم لا يعرفون من الأمراض غير الجروح والمشيب تقريبًا، حُمِلَ على الاعتقاد بأن من السهل وضع تاريخٍ للأمراض البشرية بتتبع تاريخ المجتمعات المدنية، وهذا هو — على الأقل — رأي أفلاطون الذي استنتج من أدويةٍ استُعْمِلت أو استحسنت من قِبَل بوداليريوس ومكاؤن في أثناء حصار تروادة كون كثير من الأمراض التي أثارتها هذه الأدوية لم تكن معروفة بين الناس، ويروي سلسوس كون الحمية الضرورية جدًّا في الوقت الحاضر قد اختُرِعت من قِبَل بقراط.
وبما أن الإنسان خاضعٌ لقليلٍ من علل الأمراض في حال الطبيعة، فإنه لا يكون محتاجًا إلى علاجات إذن، وأقل من ذلك احتياجه إلى أطباء، ولا يكون النوع البشري أسوأ من جميع الحيوانات الأخرى في هذه الناحية، ومن السهل أن يُعرف من الصائدين عن مصادفتهم حيواناتٍ عليلةً كثيرةً في أثناء صيدهم أولًا، وكثيرٌ من الصائدين مَن يجدون بين طرائدهم حيواناتٍ أُصيبت بجروحٍ بليغة فاندملت جيدًا، وحيوانات كُسرت فيها عظامٌ، أو قُطعت فيها أعضاءٌ، فعادت إلى حالها من غير أن يكون لها جراحيٌّ سوى الزمن، ومن غير أن تتخذ من النظام سوى حياتها العادية، فشُفِيت تمامًا من دون أن تؤلم ببضعٍ، أو أن تُسمَّ بعقاقير، أو أن تُنحل بصيام، ثم مهما يمكن أن يكون للطب الحسن العلاج بيننا من فائدةٍ، فإن من الثابت دائمًا أنه ليس لدى الهمجي المريض المتروك لنفسه ما يأمله من غير الطبيعة، وأنه ليس لديه ما يخشاه مقابلةً من غير مرضه، وهذا يجعله في وضعٍ أفضل من وضعنا غالبًا.
ولنحترز — إذن — من خلط الإنسان الوحشي بمَن نراهم تحت عيوننا من الناس، فالطبيعة تعامل جميع الحيوانات المتروكة لعنايتها باستحباب يدل — كما يلوح — على درجة اغتباطها بهذا الحق، فللفرس والهر والثور، وللحمار أيضًا — في الغالب — قوامٌ أكثر علوًّا، وبنيةٌ أشد قوةً ومتانةً وجَلَدًا وبأسًا في الغابات مما في بيوتنا، وذلك أنها تفقد نصف هذه المزايا عندما تصبح أهليةً، فيمكن أن يقال: إن كل اعتناءٍ في حسن معاملة هذه الحيوانات وتغذيتها لا يؤدي إلى غير إفسادها، وقُلْ مثل هذا عن الإنسان، وذلك أنه عندما يصبح أنيسًا وعبدًا يصير ضعيفًا جبانًا ذليلًا، ومن شأن طراز عيشه الرغيد المخنث أن يوهن قوته وشجاعته، وَلْنُضِفْ إلى هذا وجود فَرْقٍ بين الرجل الوحشي والرجل المتمدن أكبر مما بين الحيوان الوحشي والحيوان الأهلي، وذلك بما أن الطبيعة تعامل الإنسان والحيوان على السواء، فإن ما يمنحه الإنسان نفسه من رغدٍ أكثر مما يمنحه الحيوانات التي يؤنسها يُعَدُّ أسبابًا خاصةً في انحطاطه أكثر من انحطاطها.
إذن، ليس من شقاء هؤلاء الناس الأولين البالغ، وليس من العوائق العظيمة في بقائهم على الخصوص، أن يكونوا عُراةً عاطلين من المأوى محرومين جميع تلك الزوائد التي نعتقد أنها ضرورية جدًّا، وإذا لم يكونوا ذوي جلودٍ شُعرٍ، فَلِعدم احتياجهم إليها في البلاد الحارة، وهم لا يلبثون أن يعرفوا في البلاد الباردة اتخاذ جلود الحيوانات التي غلبوها، وإذا لم يكن لهم غير رجلين للركض فإن لهم ذراعين للدفاع عن أنفسهم وتدارك احتياجاتهم، ومن المحتمل أن يتأخر مشي أولادهم وأن يتعلموا المشي بمشقة، غير أن أمهاتهم يحملنهم بسهولة، أيْ يقمن بهذه المزية التي تُعوز الأنواع الأخرى، حيث تُضطر الأم عندما تُتبع أن تترك صغارها أو أن تسير على خطواتها، ثم إن من الواضح في كل حالٍ أن الأول الذي صنع لنفسه ثيابًا أو أقام مسكنًا، يكون قد اتخذ لنفسه أشياء ضرورية قليلًا، ما دام قد استغنى عنها حتى ذلك الحين، ولم يُبصر السبب الذي لم يستطع به كإنسان كاملٍ أن يحتمل حياةً صبر عليها منذ طفولته، وذلك ما لم يتحمل تسابق الأحوال الغريب العرضي الذي سأتكلم عنه فيما بعدُ، والذي يُمكن أنه لم يحدث قطُّ.
وعلى الإنسان الوحشي المنفرد البطال والقريب من الخطر دائمًا أن يحب النوم، وأن يكون نومه خفيفًا، كالحيوانات القيلة التفكير فتنام كل الوقت الذي لا تفكر فيه مطلقًا، وبما أن بقاءه الخاص هو مدار عنايته الوحيدة، فإنه يجب أن يكون أكثر خصائصه عملًا ما كان الدفاع والهجوم غرضه الرئيس، وذلك قهرًا لقنيصته أو ضمانًا لعدم كونه قنيصة حيوان آخَر، وعلى العكس يجب أن تبقى الأعضاء التي لا تتكامل إلا بالنعومة والحسية في حالٍ من الغلظة ما يُبعد كل نوع من الدقة فيه، وبما أن حواسه تكون مُقسمةً من هذه الناحية، فإن اللمس والذوق يكونان غاية في الغلظة، ويكون نظره وسمعه وشمه غاية في الدقة، وهذ هي حال الحيوان على العموم، وهذه هي — أيضًا — حال الشعوب الوحشية كما يروي السياح، وهكذا لا ينبغي أن يعجب من كون هوتنتو رأس الرجاء الصالح يكتشفون بالنظر لمجرد سفنًا في البحر من بُعْدٍ لا يراها الهولنديون فيه إلا بنظارات، ولا من وحوش أمريكا الذين يشمون الإسبان من أثر القَدَم كما يستطيع صنعه أحسن الكلاب، ولا من احتمال أمم البرابرة عُريهم من غير مشقة، ومن شحذ ذوقهم بقوة الفلفل الأحمر، ومن شربهم المسكرات الأوروبية كالماء.
ولم أنظر إلى غير الإنسان الطبيعي حتى الآن، فَلْنحاول أن ننظر إليه الآن من ناحية ما بعد الطبيعة ومن الناحية الأدبية.
ولا أبصر في كل حيوانٍ غير آلةٍ محكمة منحتها الطبيعة حواسَّ لتدور بنفسها ولتضمن نفسها، إلى درجةٍ ما، تجاه كل ما يمكن أن يُقوضها أو يُخلُّ بها، وأُبصِر بالضبط ذات الأشياء في الآلة البشرية مع الفرق القائل: إن الطبيعة وحدها هي التي تصنع كل شيء في أفعال الحيوان بدلًا من قيام الإنسان بأفعاله عاملًا حُرًّا، وتختار إحدى الآلتين أو تطرح عن غريزةٍ، وتختار الآلة الأخرى أو تطرح عن عمل حر، ومن ثَمَّ لا يستطيع الحيوان أن ينحرف عن القاعدة المفروضة عليه، وإن كان له نفعٌ في هذا الانحراف، والإنسان ينحرف عن مثل هذه القواعد في غير مصلحته، وهكذا فإن حمامة تموت جوعًا بجانب طبقٍ مملوء بأطيب اللحوم، ويموت هرٌّ على كدسٍ من الفواكه أو الحبوب، وإن اسطاع كلٌّ منهما أن يتغذى جيدًا من الطعام الذي يزدريه إذا ما خطر بباله أن يحاول ذلك، وهكذا فإن الناس الفاسقين ينهمكون في الملاذ التي توقعهم في الحمى والموت؛ وذلك لأن النفس تفسد الحواس، ولأن الإرادة تتكلم حينما تسكت الطبيعة.
ولكل حيوان أفكارٌ ما دام يوجد له حواسُّ، حتى إنه يخلط بين أفكاره إلى حدٍّ ما، ولا يختلف الإنسان عن الحيوان من هذه الناحية إلا إلى حدٍّ ما، حتى إن بعض الفلاسفة ذهبوا إلى وجود فرقٍ بين هذا الإنسان وذاك الإنسان أعظم مما بين هذا الإنسان وذاك الحيوان؛ ولذلك ليس الإدراك هو الذي يجعل الفرق النوعي بين الإنسان والحيوان بمقدار العامل الحر في الإنسان، والطبعية تقود كل حيوان، والحيوان يطيعها، والإنسان يبتلى بذات العامل، ولكن مع علمه بأنه حرٌّ في الإذعان أو المقاومة، وفي شعوره بهذه الحرية تبدو روحية نفسه، وذلك أن الحكمة الطبيعية توضح من بعض الوجوه نظام الحواس وتكوين الأفكار، ولكنه لا يوجد في قوة الإرادة، وإن شئت فقُلْ في قدرة الاختيار، ولا يوجد في الشعور بهذه القدرة، غير أفعالٍ روحية خالصة لا يمكن أن يُفسَّر منها شيءٌ بقوانين الميكانيك.
ويسهل عليَّ — عند الاقتضاء — أن أؤيد هذا الشعور بالوقائع، فأثبت أن تقدم النفس لدى جميع أمم العالم يتناسب وما أخذته الشعوب عن الطبيعة من الاحتياجات، أو التي جعلتها الأحوال خاضعةً لها، ومن ثَمَّ يتناسب والأهواء التي حملتها على قضاء هذه الاحتياجات، وإني إذ أُبين أن الفنون تولد وتنتشر في مصر مع فيضان النيل، أتتبع تقدمها عند الأغارقة حيث رُئِي نبتها ونموها ونهوضها حتى السماوات بين رمال الأتيك وصخره من غير أن تستطيع التأصل على ضفاف الأوروتاس الخصيبة، فألاحظ أن شعوب الشمال أكثر جدًّا من شعوب الجنوب على العموم؛ وذلك لأنها أقل استغناءً من أن تكون هكذا، وذلك كما لو كانت الطبيعة تود أن تساوي بين الأشياء بأن تمنح النفوس من الخصب ما تأباه على الأرض.
ولكن مَن ذا الذي لا يرى، من غير رجوع إلى أدلة التاريخ المتقلبة، إن كل شيء يبعد من الإنسان الوحشي كُلًّا من الإغراء ووسائل تبديل حاله كما يلوح؟ لا يصوره خياله شيئًا له، ولا يسأله قلبه شيئًا، وتكون احتياجاته الضئيلة من سهولة وجودها قبضة يده، ويكون من ابتعاده عن درجة المعارف التي لا بد منها ليرغب في اكتساب ما هو أعظم منها، ما لا يمكن أن يكون له معه حذرٌ ولا حبُّ اطلاع، ويغدو غير مكترثٍ لمنظر الطبيعة لما يصير مألوفًا لديه، وهو يبصر فيه ذات النظام وذات التقلبات دائمًا، وليس عنده روح الدهش من أعظم العجائب، وليس عنده ما يجب أن يُبحث به عن الفلسفة التي يحتاج الإنسان إليها ليعرف أن يلاحظ مرة ما رآه في جميع الأيام، وتُسلِّم روحه التي لا يهزها شيءٌ نفسها إلى إحساس وجوده الحاضر من غير أي فكرٍ عن المستقبل مهما كان قريبًا، ولا تكاد أغراضه المحدودة كأبصاره تمتد إلى نهاية نهاره، ولا تزال هذه درجة إدراك الكرايبي الذي يبيع فراشه القطني صباحًا ويبكي مساءً لاشترائه، وذلك من عدم بصره بأنه سيحتاج إليه في الليلة القادمة.
وكلما فكر في هذا الموضوع عظمت في نظرنا المسافة بين الإحساسات الخالصة وأبسط المعارف، ومن المُحال أن يُتمثل إمكان استطاعة الإنسان بقواه وحدها، ومن غير استعانةٍ بطريقٍ ومن غير دافع ضرورة، أن يجاوز مثل تلك الفاصلة، وما أكثر القرون التي مَرَّتْ على ما يحتمل قبل أن يشاهد الإنسان نارًا غير التي في السماء! وما أكثر مِنَّا وجب وقوعه من مصادفات لتعلم أكثر استعمال لهذا العنصر شيوعًا! وما أكثر ما تُرِكَ يُطْفَأُ قبل اكتساب صنعة إنتاجه ثانيةً! وما أكثر ما زال — على ما يحتمل — كل واحدٍ من هذه الأسرار بزوال الذي اكتشفها! وما نقول عن الزراعة، عن هذا الفن الذي يتطلب عملًا كثيرًا وحذرًا كبيرًا، عن هذا الفن الذي يرتبط في فنونٍ كثيرة أخرى، والذي لا تمكن مزاولته في غير مجتمع مبدوء على الأقل كما هو واضح جدًّا، والذي لا ينفع كثيرًا في إخراج أقوات من الأرض تمد بها من غيرها إلا بحملها على إنتاج ما هو أكثر ملاءمةً لذوقنا؟ ولكن لنفترض أن الناس بلغوا من الكثرة ما عادت الإنتاجات الطبيعية معه غير كافيةٍ لتغذيتهم، هذا الافتراض الذي يدل، عند القول العابر، على حياةٍ بالغة النفع للنوع البشري، ولنفترض أن آلات الفلاحة نزلت من السماء وصارت قبضة الهمج من غير كيرٍ (زق ينفخ فيه الحداد) ولا معملٍ، وأن هؤلاء الناس قضوا على الحقد القاتل الذي يحملونه نحو عملٍ دائم كذلك، وأنهم تعلموا البصر في احتياجاتهم من أمدٍ بعيد، وأنهم حزروا كيف يجب أن تُحرث الأرض وتُبذر الحبوب وتُغرس الأشجار، وأنهم وجدوا فن طحن البر وتخمير العنب، أيْ اتفقت لهم جميع هذه الأمور التي وجب أن تكون الآلهة قد علمتهم إياها ما دام لم يُتمثل كيف تعلموها بأنفسهم، فمَن يكون ذلك الإنسان الذي يبلغ من السخافة ما يزعج معه نفسه بزراعة حقل تُنزع غلاته من قِبَل أول آتٍ، إنسانًا كان أو حيوانًا، غير مبالٍ بمَن يلائمه هذا الحصاد؟ وكيف يُمْكِن كل واحدٍ أن يعزم على قضاء حياته في عمل شاقٍّ يثق بأنه لا ينال مقابله مع اضطراره إليه؟
والخلاصة: كيف يُحمل الناس بهذا الوضع على زراعة الأرض ما دامت غير مقسمة بينهم، أيْ ما دامت حال الطبيعة غير ملغاة مطلقًا؟
ومتى افترضنا وجود إنسان وحشيٍّ بارعٍ في فن التفكير كما يجعله لنا فلاسفتنا، ومتى جعلنا فيه فيلسوفًا على مثالهم قادرًا على اكتشافه وحده أعلى الحقائق، واضعًا بسلاسل من البراهين المجردة جدًّا مبادئ عدلٍ وعقلٍ مستنبَطة من حب النظام على العموم، أو مقتبسة من إرادة خالقه المعروفة.
والخلاصة: أننا إذا افترضنا له في النفس من الذكاء والثقافة ما يجب أن يكون له، فيوجد فيه ثقل وسخف فعلًا، فأيُّ فائدةٍ يستخرج النوع من هذه اللاهوتيات التي لا يُمْكِن أن تُنقَل من واحدٍ إلى آخَر والتي تزول مع الذي ابتدعها؟ وأي تقدم يمكن أن يتفق للنوع البشري المفرق في الغايات بين الحيوانات؟ وما المدى الذي يمكن الناس أن يتكاملوا فيه ويتثقفوا مقابلة، هؤلاء الناس كانوا عاطلين من المأوى الثابت، غير محتاج بعضهم إلى بعض، فلا يكادون يتلاقون مرتين في حياتهم على ما يحتمل، وذلك مع عدم تعارف وتحادث؟
ولينعم النظر في مقدار الأفكار التي تُعَدُّ مدينين بها لاستعمال الكلام، وفي مقدار ما تُدرب بالنحو أعمال النفس وتُسهل به؛ وليفكر في المشاق التي لا تتصور وفيما لا حد له من الزمن ثمنًا لاختراع اللغات الأولى؛ ولتضف هذه التأملات إلى السابقة، وليُحكم في مقدار ما وجب من ألوف القرون؛ ليُنمي في النفس البشرية بالتعاقب ما كانت قادرة عليه من الأفعال.
وصوت الطبيعة هو اللغة الأولى للإنسان، وهو أكثر اللغات انتشارًا ونشاطًا، وهو الوحيد الذي احتاج إليه قبل وجوب إقناعه أُناسًا مجتمعين، وبما أن هذا الصوت لم يُنتزع إلا بنوعٍ من الغريزة في الأحوال المُلحَّة التماسًا للعون في الأخطار العظيمة، أو للتخفيف في الأمراض العنيفة، فإنه لم يكن كبير الاستعمال في أثناء الحياة العادية، حيث يسود أكثر المشاعر اعتدالًا. ولمَّا أخذت أفكار الناس تنتشر وتزيد وقامت بنيهم صلةٌ أشد إحكامًا، بحثوا عن حركاتٍ أكثر عددًا، وعن لغة أعظم اتساعًا، فزادوا إمالات الصوت، وأضافوا إليه من الحركات ما هو أكثر تعبيرًا، وما يكون معناه أقل توافقًا على تحديد سابق، وبالحركات يُعبَّر — إذن — عن الأشياء المنظورة والمتحركة، وبالأصوات المماثلة يُعَبَّر عن الأشياء التي تقرع السمع، ولكن بما أن الحركة لا تدل على غير الأشياء الحاضرة أو التي يسهل وصفها وعلى الأعمال المنظورة، وبما أنها ليست شاملة الاستعمال ما دام ظلام الجسم أو تداخله يجعلها غير ذات عمل، وبما أنها تقتضي انتباهًا أكثر من إثارته، فإنه رئي في نهاية الأمر أن تُستبدَل بها مفاصل الصوت التي هي — من غير أن تكون عين الصلة ببعض الأفكار — أصلح لتمثيلها جميعها كإشارات مصطلَحٍ عليها. واستبدالٌ كهذا لا يمكن أن يتم إلا باتفاقٍ عامٍّ، وعلى وجهٍ يصعب تطبيقه على أُناسٍ لم تتعود أعضاؤهم الغليظة ممارسته بعدُ، وأصعب من ذلك أيضًا إدراكه في ذاته ما وجب أن يكون ذلك الاتفاق الإجماعي مبرهنًا، وما ظهر أن الكلام ضروريٌّ إلى الغاية توطيدًا لعادة الكلام.
ويجب أن يُرَى أن الكلمات الأولى التي استعملها الناس قد انطوت في روحها على معنى أكثر اتساعًا بما لم يكن للكلمات التي تُستعمَل في اللغات القائمة، وهي إذ تجهل تقسيم الكلام إلى أجزائه المتتابعة، فإنها منحت في البداءة كل كلمة معنى جملةٍ بأجمعها، وهي إذ أخذت تميز الفاعل من المفعول والفعل من الاسم، وهذا ما لا يصدرُ عن جُهْدٍ وضيعٍ من العبقرية، فإن الأسماء لم تكن في البداءة غير أسماء خاصة، وإن الحاضر هو الزمن الوحيد للأفعال، وأما النعوت فوجب أن تكون قد تقدَّمت بصعوبةٍ عظيمة؛ وذلك لأن كل نعتٍ هو كلمةٌ مجردة؛ ولأن المجردات أعمالٌ شاقةٌ غير طبيعية إلا قليلًا.
وقد نال كل شيء اسمًا خاصًّا في البداءة، وذلك من غير نظر على الأجناس والأنواع التي لم يكن الواضعون الأولون ليفرقوا بينها، وقد تمثَّل جميع الأفراد لنفوسهم على انفرادٍ كما في رسم الطبيعة، وإذا كانت إحدى البلوطات تُدعى (أ) وكانت الأخرى تُدعى (ب)، فإن الفكرة الأولى التي تُستنبَط من الأمرين هي أنهما ليسا عين الشيء، فوجب في الغالب مرور زمن كبير لملاحظة ما هو مشتركٌ بينهما، وذلك أنه كلما كانت المعارف محدودة اتسع مدى المعجم، ولم يكن من السهل أن يُزال عُسْرُ استعمال هذا المعجم؛ وذلك لأن صف الموجودات تحت تسمياتٍ عامةٍ وجنسيةٍ كان يتطلب معرفة الخصائص والفروق، كان يتطلب من الملاحظات والتعريفات، أيْ من التاريخ الطبيعي ومما بعد الطبيعة، ما هو أكثر مما يمكن آدمي ذلك الزمن أن يحوزه بمراحل.
ثم إن الأفكار العامة لا يمكن أن تدخل في النفس من غير مساعدة الكلمات، ولا يمكن أن ينالها الإدراك من غير جمل، وهذا هو أحد الأسباب في عجز الحيوانات عن تكوين مثل هذه الأفكار واكتساب ما يتوقف عليها من كمال، وإذا ما انتقل قرد من جوزة على أخرى بلا تردد، فهل يُرَى أنه كان لديه فكرة عامة عن هذا النوع من الثمر، وأنه يقابل مثاله بتينك الجوزتين؟ كلا، لا ريب، غير أن منظر إحدى الجوزتين يرد إلى ذاكرته من المشاعر ما أخذه عن الأخرى، وتخبره عيناه، اللتان عُدلتا على وجهٍ ما، ذوقه بالتعديل الذي يوشك أن يصيبه، وكل فكرٍة عامة ذهنيةٌ، ولا تلبث الفكرة أن تكون خاصة إذا مازجها شيءٌ من الخيال، وإذا حاولتم أن ترسموا في ذهنكم صورة شجرة على العموم لم تبلغوا غايتكم قطُّ، فيجب أن تُرَى، على الرغم منكم، صغيرةً أو كبيرةً، عاريةً أو كثيفةً، زاهرةً أو قائمةً، وإذا كنتم من الحال ما لا ترون معه فيها غير ما هو مشتركٌ بين جميع الشجر، عادت هذه الصورة لا تشابه شجرةً مطلقًا، وتبصر الموجودات المجردة على ذات الوجه، أو هي لا تُدرك بغير الكلام، ومن ذلك أن تعريف المثلث يعطيكم عنه فكرةً حقيقية، فمتى جعلتم له صورةً في ذهنكم كان مثلثًا خاصًّا، لا مثلثًا آخَر، ولم يمكنكم أن تجتنبوا منحه خطوطًا محسوسة أو رسمًا ملونًا؛ ولذا يجب استعمال جُمَلٍ؛ ولذا يجب الكلام، لنيل أفكار عامة، وذلك لأن الخيال إذا ما وقف عاد الإدراك لا يسير بغير مساعدة الكلام؛ ولذا إذا كان المبدعون الأولون لم يستطيعوا إطلاق أسماء على غير ما كان عندهم من أفكار، فإن الأسماء الأولى لم تستطع أن تكون غير أسماء خاصة.
ولكن عندما أخذ نحويُّونا الجدد ينشرون أفكارهم ويُعممون كلماتهم بوسائل لا أتصورها، وجب أن يؤدي جهل المبدعين إلى حصر هذا النهج ضمن حدودٍ ضيقة جدًّا، وبما أنهم كثروا أسماء الأفراد في البداءة إلى الغاية، عن عدم معرفة الأنواع والأجناس، فإنهم جعلوا أنواعًا وأجناسًا قليلةً إلى الغاية فيما بعدُ، وذلك عن عدم نظر إلى الموجودات من حيث جميع فروقها، وكان لا بد لهم من تجارب ومعارف أكثر مما كانوا يستطيعون حيازته، وكان لا بد لهم من مباحث وجهودٍ أكثر مما كانوا يريدون اتخاذه، حتى يوسعوا نطاق التقسيمات إلى مدًى بعيد بدرجة الكفاية، والواقع أنه إذا ما اكتشفت في كل يوم، وفي يومنا أيضًا، أنواعٌ جديدة لم تُلاحظ سابقًا، فإن من الرأي أن يُنعم النظر في مقدار ما كان قد غاب منها عمَّن لا يحكمون في الأمور إلا عن أول نظرةٍ، ومن غير الضروري أن يضاف إلى هذا كون الأصناف الابتدائية وأكثر التصورات عمومًا قد غابت عن ملاحظتهم أيضًا، وكيف كانوا — مثلًا — يتصورون أو يسمعون كلمات: المادة والنَّفْس والجوهر والنمط والشكل والحركة، ما دام فلاسفتنا الذين يستعملونها منذ زمن طويل جدًّا يجدون مشقةً في سماعها بأنفسهم، وما دامت الأفكار التي تربط بهذه الكلمات خاصةً بما بعد الطبيعة تمامًا فلا يجدون لها نظيرًا في الطبيعة؟
ومهما يكن من أمر هذه الأصول (اللغات والمجتمع) فإنه يرى على الأقل، من قلة عناية الطبيعة بتقريب بعض الناس من بعضٍ باحتياجاتٍ متقابلة وتسهيلها استعمال الكلام، مقدار قلة إعدادها لأنسيهم، ومقدار قلة ما وضعته من ذاتها في جميع ما صنعوه إيجادًا لمثل روابط الاتحاد هذه، والواقع أنه يستحيل تصور السببب في كون الإنسان في هذه الحال الابتدائية يحتاج إلى إنسان آخَر أكثر من احتياج القرد أو الذئب إلى آخَر من نوعه، ولا تصور السبب في حمل الآخَر على قضاء هذا الاحتياج عند افتراضه، ولا تصور وجه إمكان اتفاقهما على الشروط في هذه الحال الأخيرة، وأعلم أنه يقال لنا مكررًا، وبلا انقطاعٍ: إنه لم يكن مثل الإنسان بائسٌ في هذه الحال. فإذا صح ما أعتقد إثباتي له من أنه لم يساوره ميلٌ أو فرصةٌ للخروج منها إلا بعد قرون كثيرة، كان هذا قضية تُرفع على الطبيعة، لا على الذي جَبَلَتْه هكذا، وأما كلمة «بائس» فلا أجد لها معنى أو إنها لا تعني غير حرمان أليم أو ألم في الجسم والروح، ومما أود أن يُوضح لي في الواقع ما يمكن أن يكون نوع البؤس في شخص حرٍّ يتمتع فؤاده بالسكون وبدنه بالصحة، ومما أسأل: أي الأمرين، الحياة المدنية أو الطبيعية، يكون أكثر عدم احتمال — كما يغدو — لدى مَن يتمتعون بهما، ولا نكاد نرى حولنا غير أناس يتوجعون من حياتهم، حتى إننا نرى أناسًا كثيرين ينتزعونها ما استطاعوا، ولا تكاد القوانين البشرية والإلهية مجتمعة تقف هذا الاختلال، ومما أسأل: هل سُمِعَ قطُّ أن همجيًّا طليقًا دار في خلده أن يشتكي من الحياة فقتل نفسه. ولينظر — إذن — مع قليل زهوٍ، في الناحية التي يأتي البؤس الحقيقي منها، وعلى العكس لا شيء أشد بؤسًا من الإنسان الوحشي الذي بهرته المعارف وأوجعته الأهواء باحثًا حول حياةٍ مختلفة عن حياته، ويظهر أن العناية الربانية البالغة الحكمة قضت بألا تنمو الخصائص الحائز لها إلا في فرص ممارستها؛ وذلك لكيلا تكون زائدةً ثقيلةً قبل الأوان، أو تكون متأخرةً لاغيةً عند الاقتضاء، وقد كان يكمن في الغريزة وحدها كل ما يحتاج إليه للعيش في حال الطبيعة، وليس له في عقلٍ مثقفٍ غير ما يحتاج إليه المجتمع.
ويظهر أول وهلةٍ أنه لم يكن بين الناس في هذه الحال أي نوع من الصلات الأدبية، ولا واجبات معينة، فيستطيعوا أن يكونوا صالحين أو طالحين، ولم تكن لديهم معايب ولا فضائل، ما لم تؤخذ هذه الكلمات ضمن معنًى مادي فتُدعَى معايبَ في الفرد الصفاتُ التي يمكن أن تضر بقاءه الخاص، وتُدعَى فضائلَ الصفاتُ التي يمكن أن تساعد على بقائه، فيجب في هذه الحال أن يُدعَى الأكثر فضيلةً الأقل مقاومةً لاندفاعات الطبيعة، ولكننا — من غير أن نبتعد عن المعنى المادي — نجد أن من المناسب أن نقف الحكم الذي نستطيع سوقه حول مثل هذا الوضع، وأن نحذر مبتسراتنا حتى يُبْحَثَ، والميزان في اليد، عن وجود الفضائل أكثر من المعايب بين المتمدنين، أو عن كون فضائلهم أنفع من عدم شؤم معايبهم، أو عن كون تقدم معارفهم تعويضًا كافيًا من الشرور التي يأتونها مقابلة بنسبة الخير الذي يجب أن يصنعوه، أو عن كونهم — إجمالًا — في وضع لا يبدون فيه أعظم سعادة في عدم وجود شر يخشونه، ولا خير يرجونه من أحد، من خضوعهم لطاعةٍ عامة ومن إلزامهم بنيل كل شيء من أولئك الذين لا يُلزِمون أنفسهم بإعطائهم شيئًا.
وهذا هو انفعال الطبيعة الخالص السابق لكل تأمل، وهذه هي قوة الحنان الطبيعي الذي لم يَكَدْ أفسد الأخلاق يقضي عليه، وذلك لما يُرَى كل يومٍ في دور تمثيلنا من أناسٍ راحمين باكين تعس شقي يزيد آلام أعدائه لو كان في مكان الطاغية، وذلك كسيلا السفاح الكثير الشفقة تجاه ما لم يوجبه من البؤس، أو إسكندر الفيروسي الذي لم يجرؤ على مشاهدة تمثيل أية مأساةٍ خشية أن يُرَى وهو يئن مع أندروماك وبريام، على حين كان يسمع غير راحم صراخ مواطنين كثيرين يُذبحون كل يومٍ وفق أوامره، «فالطبيعة تُصرح بأنها أنعمت على النوع البشري بأرق القلوب عند مَن يسكب لهم عبراتٍ.» (جوفينال، أهاجي، ١٥، ١٣١).
أجل، شَعَرَ مانْدِفِيل جيدًا بأن الناس مع جميع أخلاقهم لم يكونوا قطُّ غير غيلانٍ لو لم تمُنَّ الطبيعة عليهم بالرحمة دعمًا للعقل، بَيْدَ أنه لم يَرَ صدور جميع الفضائل الاجتماعية، التي يُنكر وجودها في الناس، عن هذه الصفة الوحيدة، والواقع ما المروءة والرحمة والإنسانية إن لم تكن الرحمة مُطَبَّقةً على الضعفاء أو المذنبين أو النوع البشري على العموم؟ حتى إن العطف واللطف — عند حسن الحكم — نتيجة رأفة ثابتة، مستقرة على موضوع خاص، وذلك: هل تُعَدُّ الرغبة في عدم تألم الشخص شيئًا آخَر غير الرغبة في كونه سعيدًا؟ ومتى صح أن تكون الرأفة غير شعورٍ يضعنا في مكان الذي يألم، غير شعور غامض حادٍّ عند الإنسان الوحشي، نام مع ضعفٍ في الإنسان المتمدن، فما تجلبه هذه الفكرة إلى حقيقة ما أقول إن لم يكن تأييدًا له؟ والواقع أن الرأفة تشتد بنسبة مطابقة الحيوان الناظر للحيوان المتألم مطابقةً وثيقة، ومن الواضح حقًّا وجوب كون هذه المطابقة أكثر إحكامًا، بما لا حد له، في حال الطبيعة مما في حال التعقل، فالعقلُ هو الذي يُوجدُ الأنانية، والتأمل هو الذي يقويها، والعقل هو الذي يلوي الإنسان على نفسه، ويفصله عن كل ما يمكن أن يزعجه أو يحزنه، والفلسفة هي التي تفرزه، وبالفلسفة يقول سرًّا عند رؤيته إنسانًا متألمًا: «إن شئت فاهلك، فأنا في أمان»، ولا يوجد غير أخطار المجتمع بأسره ما يُقلِق الفيلسوف في نومه، أو ينتزعه من فراشه، ويمكن أن يذبح إنسانٌ تحت نافذته إنسانًا آخَر بلا عقاب، وليس عليه إلا أن يضع يديه على أذنيه، وأن يساجل نفسه قليلًا ليمنع الطبيعة التي تحركت فيه من أن تتمثل في الشخص الذي يُذْبَحُ، ولا تجد عند الإنسان الوحشي هذا النبوغ العجيب، وتجد الإنسان الوحشي يُسلِم نفسه في كل وقت، وبلا روية، إلى أول شعورٍ إنساني، وترى الرعاع يتجمعون في الفتن والمشاجرات والشوارع، وترى الإنسان الفطين يبتعد عنها، والأوباش ونساء الأسواق هم الذين يفصلون بين المتنازعين ويحولون دون تذابح ذوي الصلاح.
ومن الثابت — إذن — كون الرأفة شعورًا طبيعيًّا يعدل في كل فردٍ نشاط حب الذات، فيساعد على بقاء كل نوع بقاءً متقابلًا، والرأفة هي التي تحملنا، من غير تأملٍ، على مساعدة مَن نراهم يألمون، والرأفة هي التي تقوم في الحال الطبيعية مقام القوانين والعادات والفضيلة، وذلك مع مزيتها في عدم وجود أحد يحاول عصيان صوتها العذب، والرأفة هي التي تصرف كل همجي قويٍّ عن اختطافه من ولدٍ ضعيف أو من شائب عاجز قوته الذي ناله بمشقة إذا ما تأمل نيله في مكان آخَر، والرأفة توحي إلى جميع الناس بمبدأ الصلاح الطبيعي القائل: «اصنع خيرًا نحو نفسك بأقل شرٍّ ممكن نحو الآخرين»، وذلك بدلًا من المبدأ العالي للعدل العقلي القائل: «عامل الآخرين بما تريد أن يعاملوك به»، والذي هو أقل من الأول فائدةً على ما يحتمل، وإن كان أكثر منه كمالًا.
والخلاصة: أنه يجب أن يُبحث في هذا الشعور الطبيعي، أكثر مما في البراهين الدقيقة، عن ذلك النفور الذي يحسه كل إنسان عند صنعه الشر، ولو مستقلًّا عن مبادئ التربية، ومع أنه يعود على سقراط ومَن هم على شاكلته أمر اكتساب الفضيلة بالعقل، فإن الجنس البشري كان يزول منذ زمن طويل لو توقف بقاؤه على تعقلات مَن يتألف منهم.
ولم يكن الناس، الذين هم همج أكثر من أن يكونوا أشرارًا وأكثر به، عرضة لمنازعات بالغة الخطر مع أهواء قليلة النشاط وزاجرٍ كثير النفع، وبما أنه لم يكن بينهم أي تعاملٍ فإنهم لم يعرفوا زهوًا ولا اعتبارًا ولا احترامًا ولا ازدراءً، ولم يكن عندهم أدنى فكرة عن «مالي» و«مالِك»، ولا أي رأي حقيقي عن العدل، وإنهم كانوا يعدون العنف الذي يمكن أن يعانوه شرًّا يسهل تلافيه، لا إهانة يجب العقاب عليها، وإنهم كانوا لا يفكرون حتى في الانتقام ما لم يكن آليًّا وحالًّا، وذلك كالكلب الذي يَعَضُّ الحجر الذي يُرمى إليه؛ ولذا كان من النادر حدوث نتائج دامية لمنازعاتهم، ما لم تصدرُ عن أمر القوت، غير أنني أُبصر ما هو أشدُّ خطرًا، فبقي لي أن أتكلم عنه.
يوجد بين الأهواء التي تحرك قلب الإنسان هوًى ملتهبٌ صائل يجعل كل واحد من الجنسين ضروريًّا للآخَر، هوى هائلٌ يقتحم جميع الأخطار، ويقلب جميع العوائق رأسًا على عقب، ويلوح صالحًا في صولاته لتقويض الجنس البشري المُعَد لحفظه، وما يحدث للناس الذين تسلطت عليهم هذه الحُميا الجامحة الجافية للعذار والعاطلة من الاعتدال، والتي تُنازع كل يومٍ معاشقهم على حساب دمهم؟
وأول ما يجب أن يُعترف به هو أن الأهواء كلما كانت عنيفةً أصبحت القوانين ضرورية لزجرها، ولكنك إذا عدوت ما توجبه هذه الأهواء بيننا كل يوم من ارتباكٍ وجرائم، وجدتها تدل على عدم كفاية القوانين من هذه الناحية، ومن الحسن أيضًا أن يُبحث في هل نشأت هذه الارتباكات مع القوانين نفسها؛ وذلك لأن القوانين إذا ما استطاعت أن تحول دون هذه الارتباكات حينئذٍ فإن أقل ما يُنتظر منها منع وقوع شرٍّ ما كان ليُوجد بغيرها.
وَلْنبدأ بأن نميِّز بين الأمور الأدبية والبدنية في إحساس الحب، فالبدني هو تلك الرغبة التي تحمل جنسًا على الاقتران بجنس آخَر، والأدبي هو الذي يعين هذه الرغبة ويقرها على أمرٍ واحد حصرًا، أو هو الذي يمنح هذا الأمر المفضل، على الأقل، درجةً بالغةً من النشاط، والواقع أن من السهل أن يُرى كون أدب الحب شعورًا مصنوعًا نشأ عن عادة المجتمع، وكونه رُوِّج من قِبَل النساء مع كثيرٍ من البراعة والعناية تأييدًا لسلطانهن، وجعلًا للجنس الملزَم بالطاعة مسيطرًا، وبما أن الشعور قائمٌ على بعض مبادئ للجمال والمزية لا يكون الهمجي معه في وضعٍ يستطيع أن ينالها فيه، وعلى مقايسات لا يكون معها في وضعٍ يستطيع أن يصنعها فيه، فإنه يجب أن يكون في حكم العدم تقريبًا بالنسبة إليه، وذلك بما أن نفسه لم تستطع أن تكوِّن أفكارًا مجردة في الوفاق والنسبة، فإن فؤاده لا يتأثر كذلك بمشاعر الإعجاب والحب التي تُولد من تطبيق هذه الأفكار حتى من غير أن يُشعر بها، وهو يَسْمَع فقط ما ألقته الطبيعة فيه من مزاج، لا الذوق الذي لم يستطع اكتسابه، فتكون كل امرأة صالحةً له.
والناسُ، إذ يقتصرون على الحب البدني، ويكونون من السعادة ما يجهلون معه هذه المُفضلات التي تهيج الإحساس وتزيد المصاعب فيهم، يجب أن يكون شعورهم بحرارة المزاج أقل حدوثًا ونشاطًا، ومن ثَمَّ يجب أن تكون المنازعات بينهم أكثر ندرة وأقل قسوة، وما كان الخيال الذي يفتُّ فينا كثيرًا ليخاطب القلوب الوحشية مطلقًا، فكلٌّ ينتظر اندفاع الطبيعة بهدوء، وهو يفرغ لها من غير خيار ومع لذةٍ أعظم من الصولة، فإذا قُضي الوطر خمدت الرغبة.
ومما لا ريب فيه — إذن — كون الحب نفسه، كجميع الأهواء، لم ينل في غير المجتمع تلك الحرارة الصائلة التي تجعله شؤمًا على الناس غالبًا، ومن موجبات السخرية كثيرًا أيضًا أن يُعرض الهمج مُتذابحين بلا انقطاع إرواءً لغلة بهيميتهم لمخالفة هذا الرأي للتجربة مباشرة؛ ولأن الكرايب، وهم أقل الشعوب الموجودة ابتعادًا عن الحال الطبيعية حتى الآن، هم أكثر الشعوب هدوءًا في حبهم وأقلهم غيرةً، وإن كانوا يعيشون في إقليمٍ مُحرقٍ يظهر أنه يمنح هذه الأهواء نشاطًا بالغًا على الدوام.
وأما من حيث الاستقراءات التي يمكن الوصول إليها في كثيرٍ من أنواع الحيوان عن الوقائع التي تدمي أحواش دجاجنا في كل وقت، أو التي تدوي بأصواتها غاباتنا أيام الربيعة حينما تتنازع الإناث، فيجب أن يُبدأ باستثناء جميع الأنواع التي جعلت الطبيعة بينها، في قوة الأجناس النسبية، علاقاتٍ تختلف عن التي بيننا كما هو واضح، وهكذا لا يصلح ما بين الديوك من عراكٍ أن يكون استقراءً للنوع البشري، ففي الأنواع التي تحسن مراعاة النسبة فيها لا يكون لهذه الوقائع أسبابٌ غير ندرة الإناث بالقياس إلى الذكور، أو الفواصل المانعة التي تأبى الأنثى فيها اقتراب الذكر باستمرار، وهذا ما يردُّ إلى السبب الأول؛ وذلك لأن كل أنثى إذا كانت لا تقبل الذكر في غير شهرين من السنة، فإن هذا يَعْدِل نقص عدد الإناث خمسة أسداس، والواقع أن كلًّا من الحالين لا يُطبق على النوع البشري؛ حيث يزيد عدد الإناث على عدد الذكور عادةً، وحيث لم يلاحظ قطُّ، حتى بين الهمج، وجود أوقاتٍ معينة للأهواء وعدم المبالاة كما بين الحيوانات الأخرى، ثم إنه يأتي بين كثير من هذه الحيوانات، وحين دخول جميع النوع في دورٍ من الهيجان، وقتٌ هائلٌ للولع الشامل وللضوضاء والفوضى والاعتراك، وقتٌ لا عهد به للنوع البشري الذي لا يكون الحب عنده دوريًّا على الإطلاق؛ ولذلك لا ينبغي لنا أن نستدل من وقائع مثل هذه الحيوانات لحيازة نساء اتفاق ذات الأمر للإنسان في حال الطبيعة، حتى إنه إذا أمكن استنباط هذه النتيجة أبصر أن هذه المنازعات لا تقضي على الأنواع الأخرى مطلقًا، فلا يكون لدينا سببٌ يحفزنا إلى التفكير في كونها أكثر شؤمًا على نوعنا، ومن الواضح جدًّا كونها تؤدي إلى تخريب في ذلك أيضًا أقل ما تؤدي إليه في المجتمع، ولا سيما البلدان التي تُعَدُّ الطبائع فيها شيئًا مذكورًا، فتسفر غيرة العشاق وانتقام الأزواج في كل يوم عن مبارزات ومقاتل وشر من ذلك، والتي لا ينفع فيها واجب الوفاء الأزلي لغير الزنا، والتي تنشر قوانين العفاف والشرف نفسها ضروب الدعارة بحكم الضرورة وتزيد الإجهاضات.
ولنستنتج كون الإنسان الوحشي، وهو يطوف في الغاب عاطلًا من الصناعة والكلام والمسكن والحرب والرابطة، ومن أي احتياجٍ إلى أمثاله، ومن أية رغبةٍ في الإضرار بهم، ومن تمييز أي واحدٍ منهم فرديًّا على ما يحتمل، كون هذا الإنسان الذي هو عُرضة لقليل من الأهواء والذي يكفي نفسه بنفسه، لم يكن عنده غير المشاعر والمعارف الخاصة بهذه الحال، ولنستنتج أنه لم يكن ليشعر بغير احتياجاته الحقيقية، وأنه لم يكن لينظر إلى غير ما يعتقد وجود مصلحةٍ له في رؤيته، وأن ذكاءه كان لا يتقدم أكثر من زهوه، فإذا ما قام باكتشاف مصادفة كان أقل من يمكنه نقله إلى الآخرين ما دام لم يعرف حتى أولاده، وكان كل فنٍّ يزول مع المخترع، وكان لا يوجد تربيةٌ ولا تقدم، وكانت الأجيال تتعاقب على غير جدوى، وكان كل جيل يسير من ذات النقطة دائمًا، وكانت القرون تمر ضمن بربرية الأجيال الأولى، وقد أصبح النوع مسنًّا والإنسان ولدًا.
وإذا كنتُ قد أسهبتُ كثيرًا في افتراض هذه الحال الابتدائية، فلوجود أضاليل قديمة كثيرة ومبتسراتٍ متأصلة يجب اقتلاعها، ولاعتقادي وجوب بحثي حتى الجذور، وإثباتي في صورةٍ صادقة لحال الطبيعة مقدار بُعدِ التفاوت — حتى الطبيعي — من أن ينطوي في هذه الحال على حقائق ونفوذٍ يفترضهما كُتَّابنا.
والحق أن من السهل أن يُرى بين الفروق التي تميز الناس كثيرٌ يُعدُّ طبيعيًّا مع أنه من صنع العادة وصنع أنواع الحياة التي ينتحلها الناس في المجتمع، وهكذا فإن المزاج المتين أو القصف، وإن القوة أو الضعف اللذين يشقان منه، يصدران في الغالب عن الطراز الشديد أو المخنث الذي نُشئ عليه أكثر مما عن نظام الأبدان الابتدائي، وقُلْ مثل هذا عن قوى النفس، فليست التربية وحدها هي التي تضع الفرق بين النفوس المثقفة وغير المثقفة، وإنما تزيد الفرق الذي يوجد بين الأولى بنسبة الثقافة؛ وذلك لأن العملاق والقزم يسيران على ذات الطريق؛ ولأن كل خطوةٍ يقوم بها كلٌّ منهما تُنعم على العملاق بفائدة جديدة، والواقع أنه إذا ما قيس تنوع التربية العجيب، وأنواع الحياة التي تسود مختلف نظم الحال المدنية ببساطة الحياة الحيوانية والوحشية ونمطيتها حيث يغتذي الجميع من ذات الأطعمة، ويعيش على ذات الوجه ويصنع عين الأشياء تمامًا، أُدْرِك مقدار ما يجب أن يكون عليه الاختلاف بين الإنسان والإنسان في حال الطبيعة أقل مما في حال المجتمع، ومقدار التفاوت الطبيعي الذي يجب أن يزيد في النوع البشري بتفاوت النظام.
بَيْدَ أن الطبيعة إذا ما بدأت في توزيع هباتها من المحاباة ما يُعْزى إليها، فأي فائدة ينال من ذلك أكثر الناس حظوةً لديها إجحافًا بالآخرين في حالٍ من الأمور لا يكاد يقول بأي نوعٍ من الصلات بينهم؟ وما نفعُ الجمال حيث لا يوجدُ حبٌّ مطلقًا؟ وما نفع الذكاء لأناسٍ لا يتكلمون مطلقًا؟ وما نفع الحيلة لأناس ليس لديهم أعمالٌ مطلقًا؟ ومما أسمعُ تكراره دائمًا كون الأقوياء يضطهدون الضعفاء، ولكن ليُشرح لي ما يُعنى بكلمة الاضطهاد، ويُسيطر بعضهم بعنفٍ، ويئن الآخرون المُعبَّدون لأهوائهم، وذاك ما ألاحظ بيننا تمامًا، ولكنني لا أرى كيف يمكن هذا أن يقال عن أناسٍ من الهمج لم يسهل جعلهم يتصورون ما نعني بالسيطرة والعبودية.
أَجَلْ، يمكن إنسانًا أن يستولي على فواكه اقتطفها إنسانٌ آخَر، وعلى قنيصةٍ ذبحها، وعلى كهفٍ اتخذه ملجأً، ولكن كيف يمكنه أن يكون قادرًا على حمله على الطاعة؟ وأي قيودٍ للتابعية يمكن أن تكون بين أناسٍ لا يملكون شيئًا؟ وإذا ما طُردت من شجرةٍ مثلًا أمكنني أن أذهب إلى أخرى، وإذا ما أُوذيتُ في مكانٍ فمَن ذا الذي يمنعني من الذهاب إلى مكان آخَر؟ وإذا ما وُجد إنسانٌ أقوى مني، إنسانٌ على شيء من الفساد والكسل والقسوة ما يحملني معه على تدارك قوته في أثناء بطالته، وجب أن يعزم على عدم غفوله عني طرفة عين، وعلى إمساكي مقيدًا بعناية فائقة في أثناء نومه، وذلك خشية أن أفر أو أن أقتله، أيْ أن يلزم بعرض نفسه مختارًا لمشقةٍ أعظم من التي يريد اجتنابها ومن التي يريد توجيهها إليَّ، وإذا ما فَتُرَ حذره ثانيةً بعد جميع هذا وحول رأسه لصوت مفاجئ، أوغلت في الغابة عشرين خطوة، وتكسر قيودي، ولن يراني مدى حياته.
وإني، من غير إسهابٍ في هذه الجزئيات على غير جدوى، أرى وجوب بصر كل واحدٍ في كون روابط العبودية لم تؤلف من غير اتباع بعض الناس لبعضٍ اتباعًا متقابلًا، ومن الاحتياجات المتبادلة التي تصلُ ما بينها فيتعذر استبعاد إنسانٍ من غير سابق وضعٍ له في حال مَن لا يستغني عن آخَر، أي وضعٍ لا يوجد في حال الطبيعة حيث يكون كل واحدٍ سيد نفسه، ولا يكون لقانون الأقوى أي عمل.
وإني، بعد أن أثبت أن التفاوت لا يكاد يُشعر به في حال الطبيعة، وأن نفوذه فيها يكون صفرًا تقريبًا، بقي عليَّ أن أبين أصله وتقدمه في نشوء الروح البشرية نشوءًا متعاقبًا.
وإني، بعد أن بيَّنت أن الكمال والفضائل الاجتماعية وغيرها من المزايا التي تكون كامنة في الإنسان الفطري، لا تستطيع أن تنمو من تلقاء نفسها، وأنها كانت تحتاج لوقوع هذا إلى تضافر عوامل كثيرة غريبةٍ تضافرًا عرضيًّا، فكان يمكن ألا تظهر، وكان الإنسان يظل بدونها في حاله الابتدائية إلى الأبد، بقي عليَّ أن أنعم النظر فأقرب بين مختلف المصادفات التي استطاعت أن تكمل العقل البشري بإفساد النوع، وأن تحول الإنسان إلى شرير يجعله اجتماعيًّا، وأن تجلب الإنسان والعالَم في نهاية الأمر، ومنذ زمنٍ بعيد، إلى النقطة التي نراهما فيها.
وبما أن من الممكن أن تكون الحوادث التي أصفها قد وقعت على وجوهٍ مختلفة، فإنني أعترف بأنه ليس لدي غير الفرضيات ما أُعين به خياري، بَيْدَ أن فرضياتٍ كهذه تصبح أسبابًا عندما تكون أرجح ما يمكن استنباطه من طبيعة الأمور، والوسائل الوحيدة لاكتشاف الحقيقة، ومع ذلك فإن النتائج التي أريد استخراجها ليست فرضيةً، ما تعذر وضع أية نظرية أخرى، بناء على المبادئ التي أقررها، لا تمدني بذات النتائج ولا أستطيع أن أستنبطها منها.
وهذا يُغنيني عن جعل تأملاتي شاملة للأسلوب الذي يُعوض به مرور الزمن من قلة احتمال وقوع الحوادث، وللقدرة العجيبة في العلل التافهة عند تأثيرها بلا مهل، ولتعذر نقض بعض الافتراضات من ناحية، وإن كنا لا نستطيع أن نعطيها — من ناحية أخرى — درجة ثبوت الوقائع، ولكونه يدخل ضمن نطاق التاريخ، لدى وجوده، وعندما يظهر من الوقائع أمران على أنهما حقيقيان فيربط بينهما بسلسلةٍ من الوقائع المتوسطة المجهولة أو المفترض أنها كذلك، أن يمنح الوقائع التي تربط بينهما، ولكونه يدخل ضمن نطاق الفلسفة، عند سكوت التاريخ، أن تعين الوقائع المماثلة التي يمكن أن تربط بينهما، ثم لكون المشابهة في موضوع الحوادث، ترد الوقائع إلى عدد غير قليل جدًّا من الأصناف المختلفة أكثر مما يتصور، ويكفيني أن أدع هذه الأمور لتقدير قضاتي، وأن أتخذ من الترتيب ما لا يحتاج معه القارئ العامي إلى تدبرها.