القسم الثاني
«كان هؤلاء الأولاد المساكين يقولون: هذا الكلب لي، وهنالك مكاني تحت الشمس، وذلك هو بدء اغتصاب جميع الأرض وصورته.»
وكان أول إحساسٍ في الإنسان شعوره بوجوده، وكان أول اعتناءٍ في الإنسان اهتمامه ببقائه، وكانت إنتاجات الأرض تُقدِّم إليه جميع ما يحتاج إليه، وكانت الغريزة تحمله على استعمال هذا، وكان الجوع وغيره من الشهوات يشعره بمختلف أساليب البقاء مناوبةً، فكان يوجد في هذا ما يدعوه إلى إدامة نوعه، وبما أن هذا الميل الأعمى عارٍ من كل شعورٍ قلبي، فإنه كان لا يُسفر عن غير عملٍ حيواني خالص، فإذا ما قُضي الوطر عاد الجنسان لا يتعارفان، وعاد الولد لا يكون للأم شيئًا مذكورًا عندما يستطيع الاستغناء عنها.
هذا ما كان عليه حال الإنسان الناشئ، وهذا هو عيش الإنسان المقصور في أول الأمر على الإحساسات الخالصة، والذي لا يكاد يستفيد من هبات تعرضها الطبيعة عليه، والذي يبعد من التفكير في انتزاع شيءٍ منها، ولكن المصاعب لا تلبث أن تظهر، فيجب التغلب عليها، فارتفاع الأشجار الذي كان يمنعه من الوصول إلى ثمراتها، وتسابق الحيوانات التي كانت تحاول الأكل منها، وضراء الحيوانات التي كانت ترغب فيها حفظًا لحياتها، أمورٌ كانت تحمله على تعود التمرينات الرياضية، فوجب أن يكون نشيطًا سريع العدوِ قويًّا في القتال، ولم تُعتم الأسلحة الطبيعية، التي هي من غصون الشجر ومن الحجارة، أن أصبحت قبضته، وقد تعلَّم اقتحام عوائق الطبيعة، ومكافحة الحيوانات الأخرى عند الضرورة، ومنازعة الناس الآخرين قوته، أو تعويض نفسه مما كان قد أُجبر على تركه للأقوى.
وقد زادت مشاقُّ الناس بنسبة تكاثر النوع البشري، ولا بد من أن يكون اختلاف الأرضين والأقاليم والفصول قد جعل فروقًا في طراز حياتهم، وقد تطلبت سنون عقيمةٌ وفصول شتاء طويلةٌ قاسية وفصول صيفٍ محرقةٌ تأتي على كل شيء صناعة جديدة منهم، وقد اخترعوا الشِّبَاك والصنانير على شواطئ البحر وضفاف الأنهار وأصبحوا عَرَكًا (جمع عركيٍّ، وهو صياد السمك.) وأكلة سمكٍ، وقد صنعوا أقواسًا وسهامًا في الغابات وصاروا صيادين ومحاربين، وقد ألبسوا أنفسهم في البلدان الباردة جلود الحيوانات التي كانوا يذبحونها، وما كان من صاعقةٍ أو بركان أو مصادفةٍ مباركة دلهم على النار التي هي وسيلةٌ جديدةٌ ضد شدة الشتاء، فتعلموا حفظ هذا العنصر، ثم إيجاده ثانيةً، ثم إعدادهم به ما كانوا يلتهمونه نيئًا من اللحوم.
وما كان من تطبيق مختلف الموجودات المكرر لنفسه، ومن بعضها لبعضٍ، أوجد في نفس الإنسان، بحكم الطبيعة، إدراكًا لبعض الصلات، وقد أوجبت هذه الصلات، التي نعبِّر عنها بكلمات الكبير والصغير، والقوي والضعيف، والسريع والبطيء، والجبان والجسور، وما إليها من الأفكار المماثلة المقابل بينها عند الحاجة، ومن غير أن يفكر فيها تقريبًا. في الإنسان نوعًا من التأمل، وإن شئت فقُلْ: حذرًا آليًّا يدله على أكثر الاحتياطات ضرورةً لسلامته.
وقد زادت المعارف الجديدة التي صدرت عن هذا النشوء أفضليته على الحيوانات الأخرى بجعله شاعرًا بها، فتمرَّن على نصب أشراكٍ لها، وخادعها بألف طريقة، وغدا مالك بعضها ونقمةً على بعضها الآخَر مع الزمن، وإن كان كثيرٌ منها يفوقه سرعة عدوٍ أو قوة عراكٍ بين ما يقدر أن يخدمه أو يضره، وهكذا فإن أول نظرةٍ ألقاها على نفسه أدت إلى أول حركة زهو فيه، وهكذا فإنه لم يكد يعرف أن يميِّز بين المراتب وأن يتأمل في الأولى الخاصة بنوعه، حتى أعد السبل من بعيد لادعاء الأفضلية كفرد.
ومع أن أمثاله لم يكونوا تجاهه مثلهم تجاهنا، ولم يخالطهم أكثر من مخالطته الحيوانات الأخرى قطُّ، فإنهم لم يغيبوا عن نطاق ملاحظاته، وما كان من مطابقات استطاع الزمان أن يحمله على الانتباه إليها بينهم، وبين نفسه وأنثاه، جعله يحكم في أمر الآخَرين الذين لم يرهم، وهو إذ أبصر سلوكهم جميعًا كما كان يصنع في مثل هذه الأحوال، انتهى إلى النتيجة القائلة إن طراز تفكيرهم وشعورهم يطابق ما عنده، وقد حفزته هذه الحقيقة المهمة الراسخة في ذهنه إلى اتباعه، عن حدس أصدق وأسرع من أي علم منطق، أحسن قواعد السلوك التي راعاها نحوهم في سبيل سلامته وفائدته.
وقد علم من التجربة أن حب الرفاهية هو الدافع الوحيد لأعمال البشر، فوجد نفسه في حال يميِّز فيها الفرص النادرة التي تجعله المصلحة المشتركة يعتمد فيها — كما يجب — على مساعدة أمثاله، والفرص التي هي أكثر ندرة أيضًا في حمل المزاحمة إياه على الحذر منهم كما يجب، ففي الحال الأولى كان يتحد معهم ضمن قطيعٍ، أو ضمن شركةٍ طليقة — نوعًا ما — لا تلزم أحدًا، ولا تدوم أكثر من دوام الاحتياج الذي أدى إلى تأليفها، وفي الحال الثانية كان كل واحدٍ يبحث عن منافعه الخاصة، وذلك عن قسر إذا ما أبصر نفسه قويًّا بدرجة الكفاية، أو عن حيلةٍ وحذقٍ إذا ما شَعَر بأنه الأضعف.
ومن ثَمَّ ترى كيف استطاع الناس أن ينالوا، من غير أن يدروا، فكرةً غليظة من الالتزامات المتقابلة وفوائد القيام بها، ولكن بمقدار ما يمكن أن تقتضيه المصلحة الحاضرة الظاهرة؛ وذلك لأنهم لا عهد لهم بالبصر في العواقب، فكانوا بعيدين من الاكتراث لمستقبل بعيد، ولم يكونوا ليفكروا حتى في الغد، فإذا ما وجب نيل وعلٍ شعر كل واحدٍ بوجوب التزامه مكانه مخلصًا، ولكن إذا مر أرنب ضمن متناول أحدهم لم يشك في كونه يتعقبه من غير تردد، فإذا فاز بقنيصته لم يُبالِ كثيرًا في كون رفقائه يخطئون طريدتهم.
ومن السهل إدراك كون مثل هذه المخالطة لم يتطلب لغةً أدق من لغة الغربان والقردة التي تتجمع على ذلك النمط تقريبًا، فما كان من أصوات عديمة المفاصل ومن حركاتٍ كثيرة وصرخاتٍ تقليدية وجب أن يكون قد تألَّف منه لسانٌ عامٌّ زمنًا طويلًا، وإلى ذلك يُضافُ في كل بلدٍ بعض أصواتٍ اتفاقية ذات مفاصل ليس من السهل كثيرًا إيضاح نظامها كما قلتُ آنفًا فحدثت لغاتٌ خاصة، ولكن غليظة ناقصة، كالتي توجد بين بعض الأمم الوحشية في الوقت الحاضر.
وأجوب كسهمٍ عددًا كبيرًا من القرون، مأخوذًا بالزمن الذي يمر وبكثرة الأمور التي عليَّ أن أتكلم عنها، وبتقدم الأمور غير المحسوس تقريبًا في أوائلها؛ وذلك لأن الحوادث كلما كانت بطيئةً في تعاقبها وُصِفت بسرعة.
وذلك التقدم في أوائل الأمور مكَّن الإنسان من القيام بتقدُّمٍ آخَر بأسرع من ذلك، وكلما تنورت النفوس تكاملت الصناعة، ولسرعان ما انقطع الإنسان عن النوم تحت أول شجرة، أو الانزواء في كهوف، فقد اخْتُرعت أنواعٌ من الفئوس الحجرية القاسية الحادة، واستخدمت في قطع الحطب، وحفر الأرض، وصنع أكواخ من غصون رُئي طليها بالطين والوحل، وهنالك كان دور أول انقلابٍ أسفر عن تأليف الأُسر والتفريق بينها، وعن اتخاذ ضرب من المُلك نشأ عنه كثيرٌ من الخضام والعراك، وبما أن الأكثر قوةً، مع ذلك، هم أول مَن أنشئوا لأنفسهم — كما يلوح — مساكن كانوا يشعرون بقدرتهم على الدفاع عنها، فإن هذا يحمل على الاعتقاد بأن الضعفاء وجدوا أنه أقصر وأضمن لهم أن يقلدوا الأقوياء من أن يحاولوا طردهم من منازلهم، وأما أولئك الذين كانت لديهم أكواخٌ، فإنه لم يكن لينبغي لأحدٍ أن يحاول وضع يده على كوخ جاره، وذلك عن كونه غير خاصٍّ به أقل من كونه غير نافع له، وعن كونه لا يستطيع الاستيلاء عليه من غير أن يُعرِّض نفسه لمقاتلة الأُسْرة التي تشغله قتالًا شديدًا.
وكان أول نشوء في الفؤاد نتيجة وضعٍ جديد جامع في منزلٍ مشتركٍ بين الأزواج والنساء والآباء والأولاد، وقد أدت عادة العيش معًا عن ظهور أرق ما يُعرف عن الناس من المشاعر، أيْ الحب الزوجي والحب الأبوي، وقد أصبحت كل أسرةٍ مجتمعًا صغيرًا بالغ الاتحاد لكون الحرية والوداد المتبادل كانا الرابطتين الوحيدتين، وهنالك قام أول اختلافٍ في طراز حياة الجنسين اللذين لم يكن لهما غير طرازٍ واحدٍ حتى ذلك الحين، فصار النساء أكثر قعودًا وتعوَّدن المحافظة على الكوخ والأولاد، على حين كان الرجل يذهب للبحث عن الطعام المشترك، وبدأ الجنسان يفقدان شيئًا من توحشهما وشدتهما عن حياةٍ أكثر لينًا، ولكن كل واحد إذا صار أقل صلاحًا لمكافحة الحيوانات الوحشية على انفراد غدا أسهل على الإنسان، بالمقابلة، أن يتجمع لمقاومتها مشتركًا.
والناس في هذه الحال الجديدة، إذ تمتعوا بفراغٍ عظيم جدًّا، مع حياةٍ بسيطة منفردة واحتياجات محدودة جدًّا، وأدواتٍ كانوا قد اخترعوها لقضاء هذه الحاجات، اتخذوا هذه الحياة نيلًا لأنواع كثيرة من الرفاهية لا عهد لآبائهم بها، فكان هذا أول نيرٍ فرضوه على أنفسهم من غير أن يفكروا فيه، وأول منبعٍ للشرور أعدوه لذراريهم؛ وذلك لأنك إذا عدوت استمرارهم على التخنث بدنًا وروحًا هكذا، وكون هذه الرفاهة فقدت جميع لذاتها عن عادةٍ، وأنها تحولت منحطةً إلى احتياجاتٍ حقيقية، وجدت فقدها أشد قسوةً مما في حيازتها من حلاوة، فيكون الإنسان شقيًّا بضياعها من غير أن يكون سعيدًا بحيازتها.
وهنا يمكن أن يُبصر أحسن من ذلك كيف أن عادة الكلام قامت أو كملَتْ في صميم كل أسرة على وجهٍ غير محسوس، ويمكن أن يفترض — أيضًا — كيف استطاع مختلف العلل الخاصة توسيع اللغة وتعجيل نشوئها بجعلها أكثر لزومًا، ومن الطوفانات والزلازل ما أدى إلى إحاطة بقاعٍ مسكونةٍ بالمياه أو بالهوات، ومن الانقلابات في الكرة الأرضية ما أدى إلى اقتطاع أجزاء من القارة وفصلها عنها محولة إلى جزائر، ومما يُرى بين الناس الذين تدانوا على هذا الوجه واضطروا إلى العيش معًا وجوب تكوُّن لهجةٍ مشتركة أكثر مما بين مَن كانوا يتيهون في غابات القارة، وهكذا فإن من المحتمل جدًّا أن يكون الجزريون قد حملوا إلينا عادة الكلام بعد أول محاولتهم للملاحة، وإن من المحتمل جدًّا — على الأقل — أن يكون المجتمع واللغات قد وُلِدا في الجزر وكملا فيها قبل أن يُعرفا في القارة.
ويبدأ كل شيء بتغيير منظره، وبما أن الناس تاهوا في الغاب حتى الآن، وبما أنهم اتخذوا قاعدة أكثر ثباتًا، تدانوا ببطء وتجمعوا زُمرًا ثم ألفوا في كل بقعة أمة خاصة متحدة طبائع وأخلاقًا، لا بأنظمة وقوانين، بل بطراز واحد من الحياة الغذائية وبتأثير الإقليم العام. وأخيرًا، لم يفت الجوار الدائم أن يُوجد ارتباطًا بين مختلف الأُسَر، ويسكن شبابٌ من الجنسين أكواخًا مجاورة، وأسفر الخلاط العابر الذي تقتضيه الطبيعة من فوره عن خلاطٍ آخَر ليس أقل حلاوة، وهو أكثر دوامًا بمعاشرة متبادلة، ويتعود النظر في مختلف الموضوعات وعمل مقايساتٍ، وتُكتسب على وجه غير محسوس أفكارٌ عن المزية والجمال تنتج مشاعر عن الأفضلية، وعاد لا يمكن الاستغناء عن الاجتماع باستمرارٍ وصولًا إلى الاجتماع، وينساب في النفس شعورٌ رقيق ناعم، ويتحول إلى هياجٍ صائل عند أقل اعتراض، وتستيقظ الغيرة مع الحب، ويفوز الخلاف، ويُضحى بالدم البشري في سبيل ألطف الأهواء.
وكلما تعاقبت الأفكار والمشاعر، وتحرك الفؤاد والذكاء داوم الجنس البشري على التأنس واتسع مدى الروابط ووثقت الصلات، ويتعود الاجتماع أمام الأكواخ أو حول دوحة (الشجرة العظيمة المتسعة)، ويصبح الغناء والرقص وأولاد الغرام والفراغ الحقيقيون مدار تسلية، وإن شئت فقُلْ مدار اعتناء رجالٍ ونساءٍ من ذوي البطالة والاحتشاد، وقد بدأ كلٌّ ينظر إلى الآخرين ويريد أن يُنظر إليه بدوره، وهكذا كان للتقدير العام قيمة، فأصبح مَنْ يُغني أو يرقص أحسن من غيره، ومن هو أعظم جمالًا، أو قوةً، أو مهارةً، أو فصاحةً، من سواه أكثر اعتبارًا، وكان هذا أول خطوةٍ نحو التفاوت ونحو العيب في وقت واحد، وقد نشأ الزهو والازدراء عن هذه الأفضليات الأولى من ناحية، ونشأ الحياءُ والحسد عنها من ناحية أخرى، وما أوجبته هذه الخمائر الجديدة من اختمارٍ أسفر في نهاية الأمر عن مركبات شؤمٍ على السعادة وصفاء القلب.
ولم يكد الناس يبدءون بتقدير بعضهم بعضًا مبادلةً، ولم تكد فكرة الاعتبار تتكون في نفوسهم، حتى زعم كلٌّ وجودَ حقٍّ له في ذلك، وصار يتعذر إنكار ذلك على أحدٍ من غير عقاب، ومن هناك أنشئ أول واجبات الأدب حتى بين الهمج، ومن هناك صار كل خطأٍ إهانةً؛ وذلك لأن المهان كان يرى في الشر الذي ينشأ عن الإهانة ازدراءً لشخصه أشد إيلامًا من الشر نفسه غالبًا، وهكذا إذ كان كل واحد يجازي على الازدراء الموجه إليه بنسبة ما يقدر فإن الانتقامات أصبحت هائلةً، وصار الناس قُساةً سفاحين، وهذه هي الدرجة التي انتهى إليها بالضبط معظم الشعوب الوحشية التي نعلم أمرها، وإنه لما وقع من عدم التمييز بين الأفكار بدرجة الكفاية، ومن عدم ملاحظة مقدار ما كان من ابتعاد هذه الشعوب عن الحال الطبيعية الأولى، أسرع كثيرٌ في استنتاجه كون الإنسان قاسيًا بحكم الطبيعة فيحتاج إلى ضابطةٍ لإلانته، وبينا لا تجد ما هو ألطف منه في حاله الفطرية، عندما تضعه الطبيعة على أبعاد متساوية من غباوة الوحوش وبصائر الإنسان المتمدن المشئومة، ويكون مقصورًا بالغريزة والعقل على ضمان نفسه من السوء الذي يهدده، تراه مزدجرًا بالرأفة الطبيعية عن إساءة أحدٍ من تلقاء نفسه، وذلك من غير أن يُحمل عليه بشيء، حتى بعد أن يكون قد تلقاه، والأمر هو كما جاء في مبدأ الحكيم لوك القائل: «لا يمكن أن توجد إهانةٌ حيث لا يوجد تملك.»
والناس ما رضوا عن أكواخهم الخلوية، وما اقتصروا على خرز ثيابهم الجلدية بشوك أو حَسَك، وما ازينوا بريشٍ وصدفٍ، وما نقشوا بدنهم بمختلف الألوان، وما أصلحوا سهامهم وأقواسهم أو زخرفوها، وما شذبوا بحجارةٍ حادةٍ زوارق صيدٍ، أو بعض الآلات الموسيقية الغليظة.
والخلاصة: أن الناس ما تعاطوا أعمالًا يستطيع الفرد أن يصنعها، وما اتخذوا فنونًا لا تحتاج إلى تضافر أيدٍ كثيرة، عاشوا أحرارًا أصحاء صالحين سعداء ما استطاعوا أن يكونوا كذلك بطبيعتهم، وما استمروا على التمتع فيما بينهم بألطاف معاشرةٍ مستقلة، ولكن الإنسان منذ احتياجه إلى معونة إنسان آخَر، منذ رئي أن المفيد لواحدٍ أن يكون ذا مؤنٍ لاثنين، زالت المساواة عنده وانتحل التملك وصار العمل ضروريًّا، وتحولت الغابات الواسعة إلى حقول باسمة وجب أن تُروى بعرق الناس، فلم تلبث أن رُئي فيها نشوء العبودية والبؤس ونموها مع الغلات.
وكان التعدين والزراعة ذينك الفنَّيْنِ اللذين أدى اكتشافهما إلى هذا الانقلاب الكبير، وعند الشاعر أن الذهب والفضة، وعند الفليسوف أن الحديد والقمح، هما اللذان مدَّنَا الناس وأهلكا النوع البشري، وقد كان كلٌّ منهما مجهولًا لدى وحوش أمريكا، فبقوا كما هم عليه لهذا السبب، حتى إن الشعوب الأخرى ظلت من البرابرة — كما يلوح — ما زاولت أحد ذينك الفنين دون الآخر، ومن أوجه الأسباب على ما يحتمل في أن أوروبا كانت — إن لم يكن قبلًا — أثبت وأرقى حضارةً من بقية العالم، هو كونها أكثر فيضًا بالحديد وخصبًا بالبُرِّ.
ومن الصعب أن يُفترض كيف انتهى الناس إلى معرفة الحديد واستعماله؛ وذلك لأن مما يتعذر اعتقاده كونهم تصوروا من تلقاء أنفسهم استخراج هذه المادة من المنجم، وأن يقوموا في سبيله بإعدادات لا بد منها صهرًا لها قبل أن يعرفوا ما ينشأ عن ذلك، وأقل من هذا أن يعزى هذا الاكتشاف من ناحيةٍ أخرى إلى حريقٍ عرضيٍّ، ما دامت المناجم لا تكون في غير الأماكن الجديبة الخالية من الشجر والنبات، فكأن الطبيعة — كما يظهر — قد اتخذت من الاحتياطات ما تُخفي معه هذا السر المقدس عنا، ولم يَبْقَ — إذن — غير حالٍ عجيبٍ لبركانٍ يقذف مواد يجب أن تُفترض لهم جُرأةٌ وبصيرةٌ للقيام بهذا العمل الشاق، وأن يلاحظ من بعيدٍ ما يمكن أن ينالوه من الفرائد، وهذا ما لا يلائم غير نفوسٍ كانت أكثر ممارسةٍ من التي لم يتفق لها مراس.
وأما الزراعة فإن مبدأها عُرِف قبل أن تُمارس بزمن طويل، وليس من الممكن ألا يكون الناس، المنهمكون بلا انقطاع في تناول طعامهم من الشجر والنبات، قد عَنَّت لهم بسرعةٍ فكرة الطرق التي تتخذها الطبيعة لتكثير النباتات، بَيْدَ أن من الراجح أن تكون صناعتهم قد تحوَّلت أخيرًا جدًّا من هذه الناحية، وذلك إما عن كون الشجر مع صيد البرِّ والبحر قد جهزهم بغذائهم، فلم يكن ليحتاج إلى عنايتهم، وإما عن جهلهم استعمال القمح، وإما عن عدم وجود آلات لفلاحته، وإما عن عدم بصرٍ في الاحتياج القادم، وإما عن عدم وجود وسائل لمنع الآخرين من اغتصاب ثمرة عملهم، وهم لما أصبحوا أكثر جدًّا أمكن الاعتقاد بأنهم بدءوا يزرعون بحجارةٍ حادة وعصى مذربة بعض البقول والجذور حول أكواخهم، وذلك قبل أن يعرفوا إعداد القمح، وأن يكون عندهم من الآلات ما يزرعونه به على مقادير عظيمة — وذلك من غير أن يُحسب — لتعاطي هذا العمل وبذر الأرضين، وجوب توطين النفس على خسران بعض الشيء في البداءة كسبًا للكثير فيما بعدُ، أيْ القيام بأمر بعيدٍ كل البعد عن ذهنية الإنسان الوحشي الذي يجد مشقة عظيمة في تفكيره صباحًا في احتياجاته المسائية كما قلت.
إذن، كان اختراع الفنون الأخرى أمرًا ضروريًّا لحمل النوع البشري على تعاطي فن الزراعة، وعندما وجب وجود أناسٍ لصهر الحديد وتطريقه وجب وجود أناسٍ آخرين لإطعامهم، وكلما زاد عدد العمال قَلَّت الأيدي التي تُستعمَل لتقديم الغذاء العام، وذلك مع عدم قلة الأفواه التي تستهلكه، وبما أنه وجب وجود غلاتٍ لبعضهم بدلًا من حديدهم، وجد الآخرون في نهاية الأمر سر استعمال الحديد في تكثير الغلات، ومن ثَمَّ نشأت الحراثة والزراعة من ناحيةٍ، وفن عمل المعادن وتكثير استعمالها من ناحيةٍ أخرى.
وأدت زراعة الأرض إلى تقسيمها، وأدى الاعتراف بالتملك إلى أولى قواعد العدل؛ وذلك لأنه يجب لإعادة مال كل واحدٍ إليه أن يكون هذا الشخص مالكًا شيئًا ما، وزِدْ على ذلك كون الناس إذ صاروا ينظرون على المستقبل وكان لدى الجميع ما يخسره، أصبح لكل واحدٍ من الأسباب ما يخشى معه الثأر عن خطأٍ يمكن أن يقترفه تجاه الآخرين، ويكون هذا الأصل أقرب إلى الطبيعة نسبة ما يتعذر تمثل صدور مبدأ التملك عن أمرٍ خلا عمل اليد، وهل يمكن الإنسان أن يضيف غير عمله إلى أشياء لم يوجدها في الأصل فيجعلها ملكه؟ وعمل الفلاح وحده، إذ يمنحه حقًّا قي غلة الأرض التي حرثها، يمنحه حقًّا في الأرض ذاتها حتى الحصاد على الأقل، وهكذا تحول التصرف المستمر بين عامٍ وعامٍ إلى مِلْك، ومن قول غرُوسْيُوس أن القدماء عندما أطلقوا لقبي المشترعة على سِيرِسَ، وعندما أطلقوا اسم القانون الحامل على عيدٍ يُحتفَل فيه لتكريمها، قصدوا بذلك كون تقسيم الأرضين قد أسفر عن نوعٍ جديد من الحق، أيْ حق التملك الذي يختلف عن الحق الناشئ عن القانون الطبيعي.
أَجَلْ، كان يمكن الأمور في هذه الحال أن تبقى متساويةً لو كانت المناقب متساويةً، فيكون استعمال الحديد واستهلاك الغلات متوازنين دائمًا، غير أن النسبة التي كان لا يُمسكها شيء لم تلبث أن زالت، فكان الأقوى أكثر عملًا، وحوَّل الأكثر براعةً عمله إلى أحسن حسابٍ، ووجد الأكثر لباقةً وسائل لاختصار العمل، وكثر احتياج الفلاح إلى الحديد، وزاد احتياج الحداد إلى القمح، وبينما كان الاثنان يعملان على السواء كان أحدهما يكسب كثيرًا، ولم يكد الآخَر يحوز ما يعيش به، وهكذا فإن التفاوت الطبيعي ينتشر مع تفاوت الاختلاط على وجه غير محسوس، وإن الفروق بين الناس التي تنمو باختلاف الأحوال أصبحت أكثر بروزًا ودوامًا في نتائجها، وبدأت تؤثر ذات النسبة في نصيب الأفراد.
وبما أن الأمور قد انتهت على هذه المرحلة فإنه يسهل تمثل البقية، ولا أقف عند وصف اختراع الفنون الأخرى المتعاقب، ولا عند تقدُّم اللغات واختبار المواهب واستخدامها، ولا عند تفاوت الحظوظ والتمتع بالثروات وسوء استعمالها، ولا عند ما يتبعها من الجزئيات التي يمكن كل واحدٍ أن يتدارك نقصها، وإنما أقتصر على إلقاء نظرةٍ في النوع البشري الذي وُضِع في نظام الأمور الجديد هذا.
وإليك — إذن — جميع خصائصنا النامية والذاكرة والمخيلة فاعلةً، والأنانية المغرضة، والعقل العامل، والذهن في أقصى كماله تقريبًا، وإليك جميع الصفات الطبيعية عاملةً، ومكان كل إنسانٍ ونصيبه القائمين على الذكاء أو الجمال أو القوة أو البراعة أو المزية، أو المواهب، لا على مقدار الأموال والقدرة على النفع والضر. وبما أن هذه الصفات هي التي كانت تستطيع أن تجتذب اعتبارًا وحدها، فقد وجب نيلها أو تكلفها من فورها، وقد أصبح من مصلحة الإنسان أن يتظاهر بغير ما هو عليه، فما هو عليه والتظاهر بما هو عليه صار أمرين يختلف أحدهما عن الآخَر اختلافًا تامًّا، وعن هذا الاختلاف نشأ الجاه المهيب والمكر الخادع وجميع المعايب التي هي موكِبُ ذلك، والإنسانُ بعد أن كان — من ناحيةٍ أخرى — حرًّا مستقلًّا، أضحى الآن خاضعًا، عن طائفة من الاحتياجات الجديدة، لكل طبيعة، ولا سيما أمثاله الذين غدا عبدًا لهم من جهةٍ، وإن بدا سيدًا لهم، فإذا كان غنيًّا احتاج إلى خدمهم، وإذا كان فقيرًا احتاج إلى مساعدتهم، وما كان توسُّطُ الحالِ ليجعله يستغني عنهم مطلقًا؛ ولذا يجب أن يحاول بلا انقطاعٍ جعلهم يكترثون لنصيبه، وحملهم على أن يجدوا في الحقيقة أو في الظاهر فائدتهم في العمل لفائدته، وهذا ما يجعله شاطرًا محتالًا نحو أناسٍ، متجبرًا قاسيًا نحو آخرين، وهذا ما يضعه في حالٍ من الضرورة يخادع معه كل مَن يحتاج إليهم حينما لا يستطيع إخافتهم ولا يجد من مصلحته أن يخدمهم نافعًا، ثم إن الطموح القاضم في الناس وحميَّا زيادة مالهم النسبي ليعلو بعضهم بعضًا يوحيان إليهم جميعًا بميلٍ أسود إلى الضر مقابلةً، يوحيان بحسدٍ خفي يكون أشد خطرًا بما يلبسه من قناع الرفق غالبًا جعلًا لضربتن أكثر سدادًا.
والخلاصة: أن التنافس والتزاحم من ناحيةٍ، وتضارب المصالح والرغبة الخفية في الانتفاع على حساب الآخرين من ناحيةٍ أخرى، أيْ أن هذه الشرور كلها أول نتيجة للتملك وموكبٌ لازمٌ للتفاوت الناشئ.
ولم تكن الثروات، قبل اختراع الرموز الممثلة لها لتقوم على غير الأرضين والمواشي، هذه الأموال الحقيقية الوحيدة التي يمكن الناس أن يحوزوها، والواقع أن المواريث إذا ما زادت عددًا واتساعًا زيادةً تغطي جميع الأرض، وتماست كلها، عاد بعض الناس لا يستطيع أن يتوسع إلا على حساب الآخرين، ولم يغير شيئًا قطُّ أولئك الزائدون على العدد، والذين كان ضعفهم أو تثاقلهم قد حال دون اكتسابهم من ذلك بدورهم، فغدوا فقراء من غير أن يخسروا شيئًا؛ وذلك لأنهم وحدهم لم يغيروا شيئًا قطُّ مع أن كل شيء تغيَّر حولهم، فاضطروا أن ينالوا أو أن يغتصبوا غذاءهم من أيدي الأغنياء، ومن هنا بدأت تظهر السيطرة والعبودية والشدة والاغتصابات، ولم يكد الأغنياء يعرفون لذة السيطرة من ناحيتهم، حتى استخفوا بالآخرين من فورهم، وقد سخَّروا عبيدهم القدماء لإخضاع عبيد جُددٍ، وهم لم يفكروا في غير قهر جيرانهم واستعبادهم، وهم في ذلك كالذئاب الجائعة التي ذاقت لحم الإنسان مرة فصارت ترفض كل طعام آخَر، ولا ترغب في غير افتراس الناس.
وليس من الممكن إلا أن يكون الناس قد قاموا في نهاية الأمر بتأملاتٍ حول وضع بالغ هذا البؤس، وحول البلايا التي أصيبوا بها، ويجب أن يكون الأغنياء — على الخصوص — قد شعروا من فورهم بمقدار ما كانت في غير مصلحتهم حرب دائمة يقومون بجميع نفقاتها وحدهم، ويكون الخطر الذي يحيق بالحياة فيها عامًّا، ويكون الخطر الذي يحيق بأموالهم خاصًّا، ثم مهما يكن اللون الذي استطاعوا أن يصبغوا به اغتصاباتهم، فإنهم كانوا يشعرون شعورًا كافيًا بأن حالهم لم يَقُمْ على غير حقٍّ قلقٍ فاضحٍ نالوه بالقوة، فيمكن القوة أن تنزعه منهم من غير أن يكون من الأسباب ما يتظلمون معه، حتى إن الذين اغتنوا بالصناعة وحدها لم يكونوا ليقدروا أن يقيموا تملكهم على حججٍ أحسن من تلك. ومن العبث أن يقال مكررًا: «إنني أنا الذي بنى هذا الجدار، وقد نلت هذا الموضع بعملي، وقد يمكن أن يكون الجواب: مَن الذي أعطاك هذا الموقف، وإلى أي شيء تستند في ادعائك أن ندفع إليك عن عملٍ لم نطلب منك صنعه؟ ألا تعلم أن فريقًا كبيرًا من إخوانك يهلك أو يألم من احتياجه إلى ما تملك كثيرًا، وأنه يجب أن تكون لديك موافقةٌ صريحةٌ إجماعية من النوع البشري حتى تملك من القوت العام أكثر مما تحتاج إليه لتقويم أودك؟» والغني المجرد من الأسباب المقبولة لتزكية نفسه، ومن القوى الكافية للدفاع عن نفسه، والغني الساحق للفرد بسهولة، والمسحوق من قِبَل زُمرٍ من اللصوص، والغني الذي هو وحده ضد الجميع والذي لا يستطيع أن يتحد — عن حسدٍ متقابل — هو وأمثاله ضد أعداء متحدين عن أملٍ مشتركٍ في السلب، هذا الغنى الذي ضغطته الضرورة يفكر أخيرًا في أرزن مشروع خطر على بال إنسان، وذلك أن يستخدم نفعًا له قوى مَن كانوا يهاجمونه، وأن يجعل حماته من خصومه، فيوحي إليهم بمبادئ أخرى ويمنحهم نظمًا أخرى تكون ملائمةً له كعدم ملاءمة الحق الطبيعي له.
وهو عند هذا النظر، وبعد أن عرض على جيرانه فظاعة وضعٍ كان يسلحهم جميعًا ضد بعضهم بعضًا، وكان يجعل أملاكهم مرهقة إرهاق احتياجاتهم، وحيث كان لا يوجد أحدٌ يرى سلامته في الفقر ولا في الغنى، اخترع بسهولةٍ من الأسباب المقبولة ما يجلبهم به إلى غرضه، فقال لهم: «دعونا نتحد لوقاية الضعفاء من الاضطهاد وردع ذوي الطموح وصيانة ملك كل واحد، فتوضع أنظمة للعدل والأمن يُلزَم الجميع بالخضوع لها من غير استثناء أحدٍ، وتُقوَّم بها أهواء النصيب من بعض الوجوه بجعل القوي والضعيف خاضعين لواجبات متبادلة على السواء.
والخلاصة: هي أن نجمع قوانا في سلطةٍ عالية تحكم فينا وفق قوانين رشيدةٍ، وتحامي وتدافع عن جميع أعضاء الجماعة، وتدفع الأعداء المشتركين، وتمسكنا ضمن وفاقٍ أبدي.»
وكان أقل كلامٍ حول هذا المقصد يكفي لمخادعة أناس غلاظٍ سهل إغواؤهم، وذلك لما كان عليهم أن يأتوه من منازعاتٍ كثيرة لا يستغنون فيها عن التحكيم، ولما كانوا عليه من طموحٍ وبخلٍ كثيرين لا يستغنون فيهما عن سادةٍ لزمنٍ طويل، وكلٌّ يسعى إلى قيوده بسرعةٍ معتقدًا أنه يضمن حريته؛ وذلك لأنه إذا كان لديه من العقل ما يكفي للشعور بفوائد أحد النظم السياسية، فإنه ليس لديه من التجربة ما يُبصر معه أخطار هذا النظام. وكان أكثر الناس قدرةً على البصر في سوء الاستعمال هم الذين يرون الانتفاع به، حتى إن الحكماء رأوا من الضروري أن يضحوا بقسم من حريتهم حفظًا للقسم الآخَر، شأن الجريح الذي تُبتَر ذراعه إنقاذًا لبقية الجسم.
وبما أن الهيئات السياسية قد بقيت بينهم في الحال الطبيعية على هذا الوجه، فإنها لم تعتم أن شعرت بالمحاذير التي كانت قد حملت الأفراد على الخروج منها، وقد أصبحت هذه الحال أيضًا أكثر شؤمًا بين هذه الهيئات الكبيرة مما كانت عليه سابقًا بين الأفراد الذين تألفت منهم، فمن ثَمَّ ظهرت الحروب القومية والمعارك والمقاتل والآثار التي أرعشت الطبيعة وصدمت العقل، وجميع هذه المبتسرات الفظيعة التي تضعُ شرك سفك الدماء الإنسانية في مرتبة الفضائل، وقد تعلم أكثر الناس صلاحًا أن يعدوا بين وظائفهم واجب ذبح أمثالهم، وأخيرًا رُئي أن الناس يتذابحون بالألوف من غير أن يعرفوا السبب، وكان يُقترف من القتل في يوم معركةٍ، وكان يُقترف من الفظائع عند الاستيلاء على مدينة واحدة، ما هو أكثر مما كان يُقترف في حال الطبيعة — في قرونٍ بأسرها — على جميع وجه الأرض، وهذه هي النتائج الأولى التي تُبصر من تقسيم النوع البشري إلى مجتمعاتٍ شتى، فَلْنعد إلى نظمها.
- أولًا: بما أن حق الفتح في الحال الأولى ليس حقًّا في ذاته، فإنه لا يمكن أن يصلح أساسًا يُبنى عليه حقٌّ آخَر، فيبقى كلٌّ من الفاتح والشعب المغلوب تجاه الآخر في حال حربٍ، ما لم تُرَدَّ إلى الشعب المغلوب حريته كاملةً، فيقع اختياره طوعًا على قاهره ليكون رئيسًا له، وريثما يقع هذا تكن كل مصالحةٍ قائمةً على العنف، ومن ثَمَّ تكون باطلة عن ذات الأمر، فلا يكون بهذا الافتراض أي مجتمعٍ حقيقي، أو أية هيئة سياسية، أو أي قانون غير ما للأقوى.
- ثانيًا: بما أن كلمة القوي وكلمة الضعيف مبهمتان في الحال الثانية، فإن معنى هاتين الكلمتين في الفاصلة بين قيام حق التملك، أو وضع اليد الأول وحق الحكومات السياسية أحسن إيفاءً بكلمتي الفقير والغني؛ وذلك لأنه لم يكن للإنسان قبل القوانين في الحقيقة وسيلةٌ أخرى لإخضاع أمثاله غير مهاجمة مالهم، أو جعل نصيبٍ لهم في مالهم.
- ثالثًا: بما أنه لم يكن لدى الفقراء ما يخسرونه غير حريتهم، فإن من حماقتهم الكبيرة أن يتخلوا باختيارهم عن المال الوحيد الذي بقي لهم، فلا يكسبوا شيئًا مقابلةً، وبما أن الأغنياء هم — على العكس — مرهفو الحس في جميع أقسام أموالهم، فإنه كان من السهل جدًّا أن يُؤذَوا؛ ولذا كان عليهم أن يتخذوا من الاحتياطات الكثيرة ما يضمنون به أنفسهم من ذلك، ثم إن من الصواب أن يُعتقد كون الشيء قد اختُرِع من قِبَل مَن ينفعهم أكثر من كونه قد اختُرِع من قِبَل مَن يضرهم.
ولم يكن للحكومة الناشئة شكلٌ ثابت ومنتظم قطُّ، وكان نقص الفلسفة والتجربة يحول دون البصر في المحاذير الحاضرة، وكان لا يفكر في الاستعداد تجاه الآخرين إلا بالمقدار الذي يبدون به، وقد ظلت الحال السياسية ناقصةً دائمًا؛ لأنها كانت من عمل المصادفة تقريبًا؛ ولأن الزمن بعد بدء السوء لم يستطع أن يصلح نقائص النظام قطُّ عند اكتشاف العيوب والإيحاء بالدواء، أيْ إنه كان يُرقع بلا انقطاع بدلًا من أن يبدأ بتطهير الجو وإقصاء الأدوات القديمة، كما صنع ليكُورْغ في إسبارطة ليقيم بناءً صالحًا فيما بعدُ، ولم يقم المجتمع في البداءة إلا على بعض العهود العامة التي ألزم جميع الأفراد أنفسهم بمراعاتها، والتي غدت ضامنة لكل واحدٍ منهم، وقد وجب أن تدل التجربة على مقدار ما كان من ضعف مثل هذا النظام، وعلى مقدار ما كان من سهولة اجتناب مخالفيه ثبوت الجرم أو العقاب على الذنوب التي كان يجب على الجمهور أن يكون شاهدًا عليها قاضيًا فيها، وقد وجب أن يُنحى القانون على ألف وجه، وأن تكثر المحاذير والارتباكات باستمرار حتى يفكر أخيرًا في تسليم بعض الأفراد وديعة السلطان العام الخطرة، وفي ترك العناية في إطاعة مشورات الشعب إلى بعض الحكام؛ وذلك لأن القول باختيار الرؤساء قبل قيام الدولة الاتحادية وبنصب حفظة القوانين قبل القوانين نفسها افتراضٌ لا يجوز الجدالُ عنه بحدٍّ.
ومن غير الصواب أن يعتقد أن الشعوب ألقت نفسها في البداءة بين ذراعي سيد مطلق بلا شرطٍ ولا رجوع، وأن الوسيلة الأولى للقيام بالأمن العام الذي تصوره أناسٌ مختالون جامحون كانت تدهورًا في العبودية، ولماذا نصب الناس في الحقيقة رؤساء، إن لم يكن للدفاع عنهم ضد الاضهاد ولحفظ أموالهم وحرياتهم وحيواناتهم التي هي عناصر وجودهم المكونة؟ والواقع أن السوء الذي يمكن أن يحدث لأحد الناس في صِلات بعض الناس ببعضٍ، إذ كان رؤيته نفسه تحت رحمة آخَر، أفلم يكن مناقضًا للرشاد أن يبدأ بتجريد نفسه بين يدي رئيسٍ من الأشياء الوحيدة التي كانوا يحتاجون لحفظها إلى مساعدته؟ وأي شيء معادلٍ استطاع تقديمه إليهم من أجل حقٍّ عظيم كهذا؟ وإذا ما جرؤ على المطالبة به متعللًا بحجة الدفاع عنهم، أفلا يتلقى الجواب الآتي الذي جاء في القصة: «وأي شيء أكثر من هذا يستطيع العدو أن يصنعه بنا؟» إن مما لا جدال فيه كون المبدأ الأساسي لجميع الحقوق السياسية قائمًا على أن الشعوب أُعطِيت رؤساء للدفاع عن حريتها، لا لاستعبادها، وقد قال بليني لتراجان: «إذا كان لنا أميرٌ، فلِكَيْ يحفظنا من وجود سيد.»
ويأتي السياسيون حول حب الحرية بذات السفسطة التي يأتي بها الفلاسفة حول حال الطبيعة، وذلك أنهم يحكمون بما يرون في أمورٍ تختلف جدًّا عن التي لا يرون، وهم يعزون إلى الناس ميلًا طبيعيًّا نحو العبودية مستندين إلى الصبر الذي يُطيق به عبوديتهم مَن يقعون تحت عيونهم، وذلك من غير تفكير في أن أمر الحرية كأمر العصمة والفضيلة الذي لا يُشعَر بقيمته إلا بدوام التمتع به، والذي يضيع ذوقه عند ضياعه. ومن قول بَرَازِيدَاس لأحد المرازبة الذي كان يقابل حياة إسبارطة بحياة بِرْسِبُوليس (إصْطَخْر): «أعرف ملاذ بلدك، غير أنك لا تستطيع أن تعرف ملاذ بلدي.»
وكما أن الجواد الجامح يَنْصب عرقه، ويضرب الأرض بسنابكه، ويهيج عند دنو اللجام، على حين يعاني الحصان المروض السوط والمهماز صابرًا، ترى الإنسان في البرابرة لا يُطأطئ رأسه للنير الذي يحمله الإنسان المتمدن غير متذمر، وهو يفضل الحرية العاصفة على الخضوع الساكن؛ ولذا لا يجوز أن يُحكم بذل الشعوب المعبدة في تصرفات الإنسان الطبيعية مدحًا للعبودية أو قدحًا فيها، بل بالعجائب التي قامت بها جميع الشعوب الحرة ضمانًا لنفسها من الاضطهاد. وأعرف أن الأولى لم تصنع بلا انقطاعٍ غير امتداح السلم والسكون اللذين تتمتع بقيودهما، وأنها «تُسمِّى أتعس عبوديةٍ أمْنًا» (تاسيت، التاريخ، باب ٤، فصل ١٧)، ولكنني حينما أرى الآخرين يُضحون بالملاذ والسكون والثراء والقوة والحياة نفسها حفظًا لهذا المال الوحيد الذي يزدريه مَن أضاعوه، ولكنني حينما أرى الحيوانات التي تُولَد حرة وتمقت الأَسْرَ، تكسر رأسها على قضبان سجنها، ولكنني حينما أرى زُمرًا من الوحوش الكاملي العُرى يزدرون الملاذ الأوروبية، ويحتقرون الجوع والنار والحديد والموت حفظًا لاستقلالهم فقط، أشعر بأن البرهنة حول الحرية ليست من شأن العبيد.
وأما السلطة الأبوية، التي اشتق منها الحكومةَ المطلقة وجميع المجتمع كثيرٌ من الكتاب، وذلك من غير رجوع إلى أدلة لُوكَ وسِيدْنِي المعاكسة، فيكفي أن يلاحظ أنه لا شيء في الدنيا أكثر ابتعادًا عن روح الاستبداد الضاري من حِلْم هذه السلطة التي تنظر إلى نفع مَن يُطيع أكثر من نظرها إلى فائدة مَن يأمر، وأن الأب، على حسب قانون الطبيعة، ليس سيد الولد إلا للزمن الذي تكون معونته ضرورية له، فإذا مر هذا الزمن صارا متساويين، وهنالك إذ يصبح الولد مستقلًّا عن الأب تمامًا، فإنه لا يكون مدينًا له بغير الاحترام — لا الطاعة — وذلك لأن معرفة الجميل واجبٌ يجب تأديته، لا حقٌّ يمكن أن يطالب به، وكان يجب أن يقال إن السلطة الأبوية تنال قوتها الرئيسة من المجتمع المدني، بدلًا من أن يقال إن المجتمع المدني يشتق من السلطة الأبوية، ولم يُعترف بأن الفرد أبٌ للكثيرين إلا عندما يبقون مجتمعين حوله، وما لدى الأب من أموالٍ يملكها حقًّا هو الصلات التي تُبقي أولاده تابعين له، ويستطيع الأب ألا يجعل لهم نصيبًا في ميراثه إلا بنسبة ما يستحقون ذلك منه بامتثالٍ دائم لمشيئته، والواقع أن من البعيد أن يكون للرعايا نفعٌ مماثل ينتظرونه من طاغيتهم ما داموا هم وجميع ما يملكون مالًا له، أو ما دام يزعم هكذا، فهم ملزمون بأن يعدوا فضلًا ما يتركه لهم من مالهم الخاص، وهو يَعْدِل إذا ما جردهم، وهو يتساهل إذا ما تركهم يعيشون.
وإذا داومنا على البحث في الوقائع حقوقيًّا على هذا الوجه، لم نجد ما هو أقل من الحقيقة في قيام الطغيان عن رضًا، ويكون من الصعب إثبات صحة عقدٍ لا يُلزم غير أحد الفريقين، وأن يقع الغُرْم على فريق واحد دون الآخَر، فلا يعانيه سوى مَن يُلْزِم به نفسه، ويَبْعُد أن يكون هذا النظام الممقوت — حتى في أيامنا — نظام ذوي الرشاد والصلاح من الملوك، ولا سيما ملوك فرنسا، كما يمكن أن يُرى ذلك في غير مكانٍ من مراسيمهم، ولا سيما العبارة الآتية التي جاءت في مرسوم مشهور نُشِرَ في سنة ١٦٦٧ باسم لويس الرابع عشر، وعن أمرٍ منه، وهي: «دَعْنا لا نقول، إذن، كون وليِّ الأمر غير خاضعٍ لقوانين دولته؛ وذلك لأن العكس من حقائق حقوق الأمم التي هُوجمت عن ملقٍ أحيانًا، ولكن مع دفاع الأمراء الصالحين عنها دائمًا، وذلك كألوهيةٍ حافظةٍ لدولهم، وما أكثر ما يطابق الصواب أن يقال مع أفلاطون الحكيم: إن سعادة المملكة الكاملة هي في إطاعة الرعايا لأميرهم، وإطاعة الأمير للقانون، وفي كون القانون قويمًا قاصدًا خير الناس!» («رسالة في حقوق الملكة البالغة النصرانية في مختلف دول مملكة إسبانية»، ٦٦٧، المطبعة الملكية.)
ولا أقفُ مطلقًا عند البحث في أن الحرية إذا كانت أشرف خصائص الإنسان، فإنه ألا يكون من حط طبيعتنا وتنزيلنا إلى مستوى الحيوانات التي هي عبدة الغريزة، ومن التجديف على صانع وجودنا، أن نعدل بلا قيدٍ عن أثمن نعمه، وأن ننقاد لضرورة اقتراف جميع الجرائم التي نهى عنها، مجاراةً لسيد ضارٍّ أو مجنون، فنُغضب هذا الصانع الرفيع غضبًا يجب أن يشتد من تخريب أجمل ما صنع، كاشتداده من فضح هذا الصنع، وأتغافل — إذا ما سُمح لي — عن اختصاص بارْبِيْراك الذي تابع لوكَ فصرَّح بوضوحٍ أنه لا أحد يستطيع بيع حريته حتى الخضوع لسلطانٍ مراديٍّ يعامله على حسب هواه؛ «وذلك لأن هذا ينطوي على بيع حياته التي ليس سيدها»، وإنما أسأل — فقط — عن حق أولئك الذين لم يخشوا حط أنفسهم حتى هذه النقطة، فاستطاعوا أن يجعلوا حفدتهم خاضعين لذات العار، وأن يتنزلوا في سبيلهم عن أطايب لم ينالوها من كرمهم، فتكون الحياة بغيرها ثقيلةً على جميع مَن يستحقونها.
ويقول بُوفِّنْدُورف: إن الإنسان يستطيع أن يجرد نفسه من حريته نفعًا لآخرين كما ينقل ماله إلى آخرين بعهودٍ وعقود، ويلوح لي أن هذه برهنةٌ سيئة، وذلك — أولًا — أن المال الذي أبيعه يصبح عندي أمرًا غريبًا تمامًا، ويغدو سوء استعماله أمرًا لا يُؤْبَهُ له، ولكن مما يهمني ألَّا يُساء استعمال حريتي، ولا أستطيع أن أعرض نفسي لتكون أداة جريمةٍ من غير أن أكون مذنبًا بالسوء الذي أُحْمَلُ على صنعه، ثم بما أن حق التملُّك ليس سوى عهدٍ ونظامٍ بشري، فإن كل واحد يقدر على التصرف فيما يملك، ولكن غير هذا هبات الطبيعة الجوهرية كالحياة والحرية اللتين يُباح لكل واحدٍ أن يتمتع بهما، واللتين يُشكُّ في أنه يحق للإنسان أن يُجرد نفسه منهما؛ وذلك لأن الإنسان إذا ما أقصي عن نفسه إحداهما يكون قد أذل نفسه، وإذا ما أقصى نفسه عن الأخرى يكون قد لاشاها فيه ما دامت فيه، ولكن بما أنك لا تجد خيرًا دنيويًّا يستطيع أن يعوِّض من أحد الأمرين، فإنه يكون من إهانة الطبيعة والعقل معًا أن يُعدل عنهما بأي ثمنٍ كان، ولكن الإنسان إذا ما استطاع أن يبيع حريته كأمواله، كان الفرق عظيمًا من ناحية أولاده الذين لا يتمتعون بأموال أبيهم إلا بنقل حقوقه، وذلك بدلًا من كون الحرية، التي هي موهبةٌ ينالونها من الطبيعة كأناسٍ، لا يحق لآبائهم أن يجردوهم منها مطلقًا، وذلك كما أنه وجب أن يعنف بالطبيعة إقامةً للرقِّ وجب تغييرها إدامةً لهذا الحق، فالفقهاء — الذين ذهبوا باتِّزانٍ إلى أن ابن العبد يُولَد عبدًا — يكونون قد قرروا بعباراتٍ أخرى كون الإنسان لا يُولَد إنسانًا.
ولذا يلوح لي أن من الثابت كون الحكومات لم تبدأ قَطُّ بالسلطة المُرادية فقط، كونها لم تبدأ بهذه السلطة التي ليست غير إفسادٍ لها، غير أقصى حدٍّ لها، والتي تردها في نهاية الأمر إلى قانون الأقوى الذي كانت علاجًا له في بدء الأمر، ولكن الحكومات — حتى عند افتراض بدء أمرها على هذا الوجه — لم تكن تلك السلطة فيها لتستطيع بطبيعتها غير الشرعية أن تصلح أساسًا لقانون المجتمع، ولا لتفاوت النظام نتيجةً.
وإني من غير أن أدخل اليوم في المباحث التي لا يزال من الواجب صنعها حول طبيعة الميثاق الأساسي لكل حكومة، أقتصر — باتباعي الرأي السائد — على عدِّي نظام الهيئة السياسية عَقْدًا حقيقيًّا بين الشعب والرؤساء الذين يختارهم، عقدًا يُلزِم كلٌّ من الفريقين نفسه بمراعاة القوانين التي اشترطت فيه فتؤلف روابط لاتحادهما. وبما أن الشعب في موضوع الصلات الاجتماعية يجمع جميع إرادته ضمن إرادة واحدة، فإن المواد التي تُوضح بها هذه الإرادة تصبح قوانين أساسية تُلزم جميع أعضاء الدولة من غير استثناء، فيُنَظِّم أحدهما أمر الخيار وسلطة الحكام المُوكل إليهم أن يسهروا على تنفيذ الأخرى، وتعم هذه السلطة كل ما يمكن أن يحفظ النظام من غير ذهابٍ إلى الحد الذي يُغير به، وإلى هذا تضاف أنواعٌ من الشرف تجعل القوانين وحفظتها محترمة، وتجعل لهؤلاء شخصيًّا من الامتيازات ما يعوضهم من الأعمال الشاقة التي تكلفهم الإدارة الصالحة بها، والحاكم من ناحيته يُلزِم نفسه بألا يستعمل السلطة التي عُهِدَ إليه أن يقوم بها إلا وفق مقصد موكِّليه، وبأن يجعل كل واحدٍ يتمتع بما هو خاصٌ به تمتعًا هادئًا، وبأن يُفضل المصلحة العامة على المصلحة الشخصية في كل فرصة.
ووجب — قبل أن تدل التجربة، أو معرفة القلب البشري — على ما يعتور مثل هذا النظام من سوء استعمالٍ لا مناص منه، أن يظهر أن الذين كان قد عُهِد إليهم أن يسهروا على حفظه هم أكثر الناس غرضًا فيه، وذلك بما أن الحاكمية وحقوقها لم تقوما على غير القوانين الأساسية، فإن هذه القوانين إذا ما قُوِّضت عاد الحكام لا يكونون شرعيين من فورهم، وعاد الشعب غير مُلزَمٍ بإطاعتهم، وبما أن القانون — لا الحاكم — هو الذي يقيم جوهر الدولة، فإن كل واحد يعود إلى حريته الطبيعية عن حقٍّ.
وإذا أمعنا النظر قليلًا في هذا الموضوع وجدناه يؤيد بأسبابٍ جديدة، ورئي أنه يتعذر نقضه؛ وذلك لأنه إذا كانت لم توجد سلطةٌ عالية قادرةٌ أن تكون ضامنةً لإخلاص المتعاقدين أو أن تحملهما على القيام بالتزاماتهما المتبادلة ظل الفريقان قاضيين وحيدين في قضيتهما الخاصة، وكان لكل واحد منهما حق العدول عن العقد فور ما يجد نقض الفريق الآخر للشروط، أو حينما تعود غير ملائمة له، ويظهر أن حق التنزل يمكن أن يكون قائمًا على هذا المبدأ، والواقع أننا إذا لم ننظر — كما نصنع — إلى غير النظام البشري، وذلك عندما يكون الحاكم القابض على جميع السلطة، والمنتحل لجميع فوائد العقد، ذا حقٍّ في العدول عن السلطة على الخصوص، فإن من الأولى أن يكون الشعب الذي يدفع ثمن جميع أغاليط الرؤساء ذا حقًّ في العدول عن خضوعه، غير أن الانقسامات الكريهة والارتباكات غير المحدودة التي تؤدي إلى هذه السلطة الخطرة بحكم الضرورة تدل، بأكثر مما على أي شيء آخَر، على مقدار ما كانت الحكومات البشرية محتاجة إليه من قاعدةٍ أشد متانةً من العقل وحده، وعلى مقدار ما كان ضروريًّا للراحة العامة التي تتدخل فيها المشيئة الإلهية منحًا للسلطة ذات السيادة صبغةً مقدسة لا تُنقض، فتنزع من الرعايا ما في التصرف فيها من حقٍّ مشئوم، وإذا كان الدين لم يصنع للناس غير هذا الخير، كان لهم في هذا ما يفرض عليهم واجب اعتناقه وتعهده، حتى مع سوء استعماله، ما دام يحقن من الدماء ما هو أكثر مما سفكه التعصب، ولكن لنتعقب خيط افتراضنا.
وتكون أشكال الحكومة المختلفة مدينةً بأصلها لدرجة ما يكون بين الأفراد من الفروق حين قيامها، وإذا كان أحد هؤلاء متفوقًا في القوة أو الفضل أو الغنى أو الوجاهة، انتخب حاكمًا وصارت الدولة ملكيةً، وإذا كان الكثيرون متساوين فيما بينهم تقريبًا، وكانوا يفوقون الآخرين انتخبوا معًا وتكونت أرستوقراطية، ومَن كان الثراء والمواهب عندهم أقل تفاوتًا، وكانوا أقل بُعدًا من حال الطبيعة، حافظوا بالاشتراك على الإدارة العليا وألفوا ديموقراطية، وقد أثبت الزمان أي الشكلين كان أنفع للناس، وقد ظل بعض الناس خاضعين للقوانين فقط، ولم يلبث الآخرون أن أطاعوا سادة، وأراد المواطنون أن يحتفظوا بحريتهم، ولم يفكر الرعايا في غير نزعها من جيرانهم، غير صابرين على تمتع آخرين بخير كانوا قد أضاعوه.
والخلاصة: أن الثروات والفتوح كانت من ناحيةٍ، وأن السعادة والفضيلة كانتا من ناحية أخرى.
وكانت الحاكميات كلها في هذه الحكومات المختلفة انتخابيةً، وعندما كان الفوز لغير الثراء كانت الأفضلية للمزية التي تُنعم بنفوذٍ طبيعي، وللسن التي تُنعم بالتجربة في الأمور وبالاعتدال في المذاكرات، ويدل شيوخ العبريين وشيوخ الإسبارطيين وسنات رومة، واشتقاق كلمة «سِنْيُور» عندنا، على مقدار ما كان للمشيب من احترامٍ فيما مضى، وكلما كانت الانتخابات تقع على أناسٍ طاعنين في السن صارت متواترة وشُعر بمصاعبها، فقد نُسجت مكايد وأُلفت عصاباتٌ واحتدت أحزابٌ، واشتعلت حروبٌ أهلية، وضُحي بدم المواطنين في سبيل سعادةٍ للدولة مزعومةٍ، وأوشك الناس أن يسقطوا في فوضى الأزمنة السابقة، وقد استفاد الزعماء ذوو الطموح من هذه الأحوال إدامةً لخدمهم في أسَرِهم، وقد رضي الشعب، الذي تعوَّد الخضوع والراحة ورغد العيش، والذي عجز عن كسر قيوده، أن يترك عبوديته تزيد توطيدًا لراحته، وهكذا تعوَّد الزعماء — الذين أصبحوا وراثيين — أن يعدوا حاكميتهم مال أُسرَةٍ، وأن يعدوا أنفسهم مالكي الدولة التي لم يكونوا غير موظفيها في البداءة، فيدعون مواطنيهم عبيدهم ويحسبونهم كالأنعام بين الأشياء التي يملكونها، ويدعون أنفسهم مساوين للآلهة أو ملوك الملوك.
وإذا ما تتبعنا تقدُّم التفاوت في هذه الثورات المختلفة وجدنا أن وضع القانون وحق التملك كانا حده الأول، وأن قيام الحاكمية كان حده الثاني، وأن تحول السلطة الشرعية إلى سلطة مُرَادية كان حده الثالث والأخير، فأُجيز حال الغني والفقير في الدور الأول، وأُجيز حال القوي والضعيف في الدور الثاني، وأجيز حال السيد والعبد في الدور الثالث الذي هو آخِر درجةٍ للتفاوت والحد الذي ينتهي إليه جميع الأخرى في نهاية الأمر، وذلك إلى أن تقضي ثوراتٌ جديدة على الحكومة تمامًا، أو أن تدنيها من النظام الشرعي.
ويجب — لإدراك ضرورة هذا التقدم — أن يُنظر إلى عوامل قيام الهيئة السياسية أقل مما إلى الشكل الذي تتخذه في تنفيذه، والمحاذير التي يجرها وراءه؛ وذلك لأن العيوب التي تجعل النظم الاجتماعية أمرًا ضروريًّا هي عين العيوب التي تجعل سوء استعماله أمرًا لا مفر منه، وإذا استثنيت إسبارطة، حيث كان القانون يسهر على تربية الأولاد خاصة، وحيث أقام ليكُورْغُ من العادات ما كان يغنيه عن إضافته قوانين، وجدتُ القوانين، التي هي أقل قوة من الأهواء على العموم، تردع الناس من غير أن تغيِّرهم، ومن السهل إثبات كون كل حكومة تسير، من غير فسادٍ ولا عيبٍ، دائمًا وتمامًا، وفق غاية نظامها، فتقوم بلا ضرورةٍ، وكونه لا احتياج إلى حكامٍ ولا إلى قوانين في بلدٍ لا تُجتنب القوانين ولا يُساءُ استعمالُ الحاكمية فيه.
وتؤدي الفروق السياسية إلى فروقٍ مدنية بحكم الضرورة، ولا يلبث التفاوت الذي يزيد بين الشعب ورؤسائه أن يُشعر به بين الأفراد، فيتحول على ألف وجهٍ وفق الأهواء والمواهب والمصادفات، وما كان الحاكم ليغتصب سلطةً غير شرعية من غير أن يتخذ من العمال مَن يُضطر إلى منحهم قسمًا منها، ثم إن المواطنين لا يسمحون بأن يضغطوا إلا عن سيرٍ وراء طموح أعمى، وهم إذ ينظرون إلى ما تحتهم أكثر مما إلى فوقهم، فإن السيطرة تصبح أعز من الاستقلال عندهم، ويوافقون على تكبيلهم بقيودٍ يقدرون على منحها بدورهم، ومن الصعوبة بمكانٍ أن يُحمل على الطاعة مَن لا يحاول أن يسوس مطلقًا، وما كان أمهر السياسيين ليستعبد أناسًا لا يريدون إلا أن يكونوا أحرارًا. بَيْدَ أن التفاوت ينتشر من غير شفقةٍ بين ذوي الطموح والجبن من النفوس المستعدة للسعي وراء مخاطر النصيب في كل وقت، والتي لا تبالي بالسيطرة أو الخدمة على حسب ما تكون ملائمة أو معاكسة لها، وهكذا فإنه لا بد من أن يكون قد أتى زمنٌ بلغت عيون الشعب فيه من السحر ما لم يبقَ لقادته أن يخاطبوا أصغر الناس معه بغير قولهم: «كُنْ كبيرًا أنت وجميع ذريتك»، وهنالك بدا كبيرًا لجميع الناس كما بدا في عيني نفسه، وأخذ عقبه يرتفع كلما بعدت المسافات منه، وكلما كانت العلة غامضةً حائرةً زاد المعلول، وكلما كثر الكسالى في أُسرة زادت مجدًا.
وأخيرًا أثبت أنه يُرى قبضةٌ من الأقوياء والأغنياء على ذروة العظمة والثراء، على حين يتخبط الجمهور في البؤس والظلام، وذلك عن كون أولئك لا يُقدِّرون الأمور التي لا يتمتعون بها إلا بمقدار ما يكون الآخرون محرومين إياها، وعن كونهم يعودون غير سعداء إذا ما عاد الشعب لا يكون بائسًا.
إذا أمرتني أن أضرب بالسيف صَدْرَ أخي أو رقبة والديَّ، وأن أضرب بالسيف أحشاء زوجتي، فعلتُ ذلك كله بيدي اليمنى مضطرًّا.
وعن أقصى تفاوت الأحوال والثروات واختلاف الأهواء والمواهب، وعن الفنون غير المفيدة والفنون الضارة والعلوم التافهة نشأت طوائف من المبتسرات المخالفة للعقل والسعادة والفضيلة على السواء، ويرى إيقاد الزعماء لكل ما يمكن أن يُضعف الناس المجتمعين بتفريق ما بينهم، ولكل ما يمكن أن يمنح المجتمع مسحة من الوفاق الظاهر ويبذر فيه جراثيم الشقاق الحقيقي، ولكل ما يمكن أن يوحي إلى مختلف المنظمات بتحدٍّ وحقدٍ متبادلين عن معارضة بعض حقوقها ومصالحها ببعضٍ، وعن تقوية السلطات الجامعة لها جميعًا من حيث النتيجة.
ومن بين هذه الارتباكات والثورات رفع الاستبداد رأسه الفظيع بالتدريج، وافترس كل ما وجده صالحًا صحيحًا في جميع أقسام الدولة، فانتهى أخيرًا إلى دوس القوانين والشعب، وإلى القيام على أنقاض الجمهورية، وكانت الأزمنة التي سبقت هذا التحول الأخير أزمنة اضطراباتٍ وكوارث، غير أن الجميع قد ابتُلِع من قِبَل الغولِ في نهاية الأمر، وعاد لا يكون للشعوب زعماء ولا قوانين، بل طغاة فقط، وصار لا يبحث منذ هذه الدقيقة في الطبائع والفضيلة؛ وذلك لأن الاستبداد في كل مكان يسوده لا يحتمل أي سيد آخر، وإذا ما تكلم الاستبداد لم يبقَ صلاحٌ ولا واجبٌ ليستشار، ولم يبقَ للعبيد فضيلةٌ غير الطاعة العمياء.
وهنا آخِر حدٍّ للتفاوت وأقصى نقطة تُغلق الدائرة وتمس النقطة التي ذهبنا منها، وهنا يعود الأفراد إلى مساواتهم الأولى؛ وذلك لأنهم ليسوا شيئًا يُذكر، ولأن الرعايا إذ عاد لا يكون لديهم من القوانين غير مشيئة السيد، وعاد لا يكون للسيد من القواعد غير أهوائه، فإن مبادئ الخير والعدل تزول مرة أخرى، وهنا يرد كل شيء إلى قانون الأقوى فقط، ومن ثَمَّ إلى حالٍ جديدة للطبيعة مختلفةٍ عن الحال التي بدأنا منها؛ وذلك لأن إحدى الحالين كانت حال الطبيعة في صفائها، ولأن الحال الأخرى هي نتيجة إفراطٍ في الفساد، ثم إنه يوجد بين هاتين الحالين من قلة الاختلاف، ويكون عقد الحكومة من الانحلال بالاستبداد، ما يبقي المستبد معه سيدًا ما ظل الأقوى، فإذا ما أمكن طرده لم يكن عنده ما يشكو منه ضد العنف، وتعد الفتنة الشعبية التي تنتهي بخنق أحد السلاطين أو خلعه عقلًا قانونيًّا، كالأعمال التي كان يتصرف بها قبل يومٍ في حياة رعاياه وأموالهم، والقوة الوحيدة التي كانت تؤيده هي التي تسقطه وحدها، وهكذا فإن جميع الأمور تسير على حسب النظام الطبيعي، ومهما يكن من أمر هذه الثورات القصيرة والكثيرة الوقوع، فإنه لا يستطيع أحدٌ أن يتوجع من جور الآخَر، بل من سوء حظه أو عدم تبصره.
وهكذا إذا ما اكتشف القارئ النبيه، وتتبع الطرق المنسية والضائعة التي لا بد من أن تكون قد أتت بالإنسان من الحال الطبيعية إلى الحال المدنية، وإذا ما أعاد القارئ النبيه، بمواقع متوسطةٍ بينتها، تلك التي حملني الوقت على حذفها أو التي لم يُوحِ الخيال بها إليَّ قطُّ، لم يمكنه إلا أن يحار من المسافة الواسعة التي تفصل بين هاتين الحالين، ففي تعاقب الأمور البطيء هذا يُبصر حل ما لا يُحصى من المسائل الخُلُقية والسياسية التي لم يستطع الفلاسفة أن يحلوها، وهو إذ يشعر بأن النوع البشري في جيلٍ ليس النوع البشري في جيلٍ آخَر، يعلم السبب في كون ذيوجانس لم يجد إنسانًا قطُّ؛ وذلك لبحثه بين معاصريه عن إنسان زمنٍ غير موجود، وهو يقول: إن كاتون مات مع روما والحرية لعدم ملاءمته عصرًا عاش فيه، وإن أعظم الناس هذا لم يصلح إلا لإلقاء الحيرة في عالمٍ كان يملكه — يقينًا — لو ظهر قبل خمسمائة سنة.
والخلاصة: أنه يوضح كيف أن الروح والأهواء البشرية تفسدان على وجه غير محسوس، ومن ثَمَّ تغيران طبيعتهما، ولماذا تغير احتياجاتنا وملاذنا غرضها مع الزمن، ولماذا يزول الإنسان الأصلي بالتدريج فيعود المجتمع لا يبدي لعيني الحكيم غير جمع من الآدميين المفتعلين، وأهواء مصنوعةٍ نتيجةً لجميع هذه الصلات الجديدة، ومن غير أن يكون لها أساسٌ حقيقيٌّ في الطبيعة، وما يعلمنا التأمل إياه فوق ذلك تؤيده الملاحظة تمامًا، وذلك أن الإنسان الوحشي والإنسان المتمدن يبلغان من الاختلاف قلبًا وميولًا ما يكون باعث السعادة العليا لأحدهم معه عامل قنوط الآخَر، فالأول لا يستنشق غير الراحة والحرية، وهو لا يريد إلا أن يعيش ويبقى خاليًا من العمل، حتى إن سكون الرواقي لا يقاس بعدم مبالاته العميقة تجاه أي موضوع آخَر، وعلى العكس تجد الإنسان المتمدن نشيطًا دائمًا فيعرق ويهتز ويضطرب بلا انقطاعٍ بحثًا عن أشاغيل أشد عُسرًا، وهو يعمل حتى الموت، وهو يسعى إلى الموت ليعيش أو يعدل عن الحياة نيلًا للخلود، وهو يتودد إلى العظماء الذين يمقتهم وإلى الأغنياء الذين يحتقرهم، وهو لا يدخر وسعًا لينال شرف خدمتهم، وهو يباهي منتفخًا بنذالته وحمايتهم، وهو يفاخر بعبوديته، وهو يحدث مع الاستخفاف عن الذين لم يتفق لهم شرف مقاسمته إياها، ويا لمنظر أعمال الوزير الأوروبي الشاقة المبتغاة في نظر الكرايبيِّ! وما أكثر المنايا القاسية التي لا يفضلها هذا الوحشي البليد على هول مثل تلك الحياة التي لم تلطف حتى بلذة فعل الخير! ولكنه يجب لرؤية الغاية من هذه الجهود الكثيرة أن يكون لكلمتَيْ «السلطة والجمهورية» معنى في ذهنه، وأن يعلم وجود نوعٍ من الناس الذين يرون قيمة لآراء بقية العالم، والذين يعرفون أن يكونوا سعداء راضين عن أنفسهم بشهادة الآخرين أكثر مما بشهادتهم، والواقع أن هذا هو السبب الحقيقي لجميع هذه الفروق، فالهمجي يعيش في نفسه، والإنسان المتمدن يعيش خارج نفسه دائمًا، فلا يعرف إلا أن يعيش في نفوس الآخرين، وهو لهذا السبب يقتبس شعور حياته الخاصة من حكمهم وحده، وليس من موضوعي أن أثبت كيف أنه ينشأ عن مثل هذا التصرف كثير من عدم المبالاة نحو الخير والشر، مع وجود كثير من الرسائل الرائعة في الأخلاق، وكيف أن كل شيء — إذ يرد إلى المظاهر — يصبح مفتعلًا مخادعًا، حتى في الشرف والصداقة والفضيلة، حتى في المعايب غالبًا، فنجد في ذلك سر الافتخار في آخر الأمر.
والخلاصة: كيف أننا إذ نسأل الآخرين عن أنفسنا دائمًا، ومن غير أن نجرؤ على سؤال أنفسنا، وذلك بين كثير من الفلسفة والإنسانية والأدب والمبادئ العليا، ولا نجد لدينا غير مظهرٍ خادع طائش لشرفٍ بلا فضيلة، وعقلٍ بلا حكمة، ولذةٍ بلا سعادة، ويكفي أنني أثبت أن هذا ليس حال الإنسان الأصلية مطلقًا، وأن روح المجتمع والتفاوت الذي ينشأ عن المجتمع هي التي تغيِّر جميع الميول الطبيعية وتفسدها على هذا الوجه.
وقد حاولت أن أعرض أصل التفاوت وتقدمه، وقيام المجتمعات السياسية وسوء استعمالها، وذلك بالمقدار الذي يمكن هذه الأمور أن تستنبط من طبيعة الإنسان على نور العقل فقط مستقلة عن العقائد المقدسة التي تمنح السلطة ذات السيادة تأييد الحقوق الإلهية، ويعلم من هذا البيان أن التفاوت، إذ كان غير موجود في حال الطبيعة تقريبًا، ينال قوته ونموه من تقدُّم ملكاتنا وترقي الروح البشرية، ثم يصبح ثابتًا شرعيًّا بقيام مُلْك القوانين، ويُعلم من هذا البيان أيضًا أن التفاوت الأدبي الذي أجازته الحقوق الوضعية فقط مخالف للحقوق الطبيعية في كل مرة لا يتناسب هو والتفاوت البدني، ويعين هذا التمييز بما فيه الكفاية ما يجب أن يفكر فيه من هذه الناحية حول نوع التفاوت الذي يسود جميع الشعوب المتمدنة ما دام يباين قانون الطبيعة، مهما كان الوجه الذي يعرف به، أن يقود ولدٌ شائبًا، وأن يسوق غبيٌّ رجلًا حكيمًا، وأن تطفح شرذمةٌ من الأتباع بالزوائد على حين يحتاج الجمهور الجائع إلى الضروري.