تعليقات
تنبيه حول التعليقات
أضفتُ بعض تعليقاتٍ إلى هذا الكتاب وفق عادتي المتوانية في العمل متواترًا، وتبتعد هذه التعليقات عن الموضوع أحيانًا بما فيه الكفاية، فلا يصلح أن تُقرأ ضمن المتن؛ ولذا فقد دحرتها إلى آخِر الرسالة التي حاولت أن أتبع فيها أقوم سبيلٍ جهد الطاقة، ويمكن مَن هم على شيء من الإقدام في العود ثانية أن يتلهوا مرة أخرى بالقيام ببعض المباحث ومحاولة تصفح التعليقات، ولا كبير ضررٍ في عدم مطالعة الآخرين إياها مطلقًا.
إلى جمهورية جنيف
(١) روى هيرُودُتس أن مُنقذي فارس السبعة اجتمعوا بعد مقتل سمِرْدِيس (بَرْدِية) للبحث حول شكل الحكومة الذي يُنعِمون به على الدولة، فأصرَّ أوتانس بشدة أن يكون جمهوريًّا، أيْ أبدى رأيًا زاد في غرابته صدوره عن فم مَرْزُبانٍ بمقدار ما كان من خشية الأكابر نوعًا من الحكومة يحملهم على احترام الناس، فضلًا عن ادعاء قدرته على حيازة إمبراطورية، ولم يُسْتَمَعْ إلى أُوتانِسَ قطُّ كما يمكن أن يُعتقد، وقد تنَزَّل لمنافسيه عن حقه في التاج لرغبته في الطاعة والقيادة، وكان ذلك عندما رأى عزمًا على الشروع في انتخاب ملك، فسأل أن يُعوَّض من ذلك بأن يكون حرًّا مستقلًّا هو وذريته، وهذا ما أُجِيب إليه، ولو لم يعلمنا هِيرُودُتْس ما وُضِعَ من قيدٍ على هذا الامتياز لوجب افتراضه بحكم الضرورة، وإلا لكان أُوتانِس، غير المعترف بأي نوعٍ من القانون وغير المُلزم بتقديم حسابٍ إلى أحد، صاحبَ الحول في الدولة، ولكان أقوى من الملك أيضًا، ولكن لم يكن الظاهر ليدل قطُّ على كون الرجل، القادر على الاكتفاء بمثل هذا الامتياز في مثل هذه الحال، قادرًا على إساءة استعماله، والواقع أنه لا يُرى أن هذا الحق أدى إلى أقل اضطرابٍ في المملكة، لا من قِبَل أوتانس، ولا من قِبَل أحدٍ من ذريته.
المقدمة
(١)
أستند منذ خطواتي الأولى مطمئنًّا إلى إحدى تلك الحجج المعتبرة لدى الفلاسفة،
لصدورها عن عقلٍ متين عالٍ يعرفون وحدهم أن يجدوه ويحسوه.
ومهما تكن مصلحتنا في معرفة أنفسنا بأنفسنا، فإنني لا أعلم هل نعرف أحسن من ذلك
ما هو خارج عنا، وبما أن الطبيعة جهَّزتنا بأعضاء معدَّةٍ لحفظنا فقط، فإننا لا
نستعملها إلا لتلقي المؤثرات الخارجية، فلا نبحث عن غير انتشارنا في الخارج وعن
وجودنا خارج أنفسنا، وبما أننا كثيرو الانهماك في تكثير وظائف حواسنا وزيادة سعة
كياننا الخارجية؛ فإن من النادر أن نستعمل هذا الحس الباطني الذي يردنا إلى أبعادنا
الحقيقية، والذي يفصل عنا كل ما ليس منها، ومع ذلك فإنه يجب أن ننتفع بهذا الحس إذا
ما أردنا معرفة أنفسنا، وهذا هو الحس الوحيد الذي نستطيع أن نحكم به في أنفسنا،
ولكن كيف نُعْطي هذا الحس فاعليته وجميع مداه؟ وكيف ننقذ روحنا التي يستقر بها من
جميع أوهام نفسنا؟ لقد فقدنا عادة استعماله، وقد ظل بلا تمرين بين هرج إحساساتنا
البدنية، وقد جَفَّ بنار أهوائنا، والقلب والروح والحواس أمورٌ قد عَلِمَت
ضدها.
القسم الأول
(١)
إن ما أمكن أن تؤدي إليه عادة السير على قدمين من تحولاتٍ في تكون الإنسان، وإن
ما لا يزال يلاحظ من صلاتٍ بين ذراعيه ورجلي ذوات القوائم الأربع، وما انتهى إليه
من استقراء عن طراز مشيها، أمكن أن يثير ريبًا حول ما يجب أن يكون أقرب إلى الطبيعة
لدينا، ويبدأ جميع الأولاد بالسير على أرجلٍ أربع، وهم يحتاجون إلى مثالنا ودروسنا
لتعلم القيام، حتى إنه يوجد من الأمم الوحشية من هي كالهوتنتو الذين يهملون الأولاد
كثيرًا فيدعونهم يسيرون على أيديهم وقتًا كبيرًا، فيجدون مشقة عظيمة حملًا لهم على
الوقوف. وقُلْ مثل هذا عن أولاد كرايب الأنتي، وتوجد أمثلةٌ شتى عن آدميين من ذوي
القوائم الأربع، ومن ذلك أذكر ذلك الولد الذي وُجِد في سنة ١٣٤٤ بالقرب من هسَّ،
حيث كان يُغذَّى من قِبَل الذئاب، والذي قال في بلاط الأمير هنري فيما بعدُ إنه كان
يفضِّل أن يعود إليها على العيش بين الناس لو تُرِك وشأنه، وقد بلغ من اتخاذ عادة
هذه الحيوانات في السير ما وجب أن تربط فيه قِطَعًا من الخشب ليقف على رجليه
معتدلًا، ومثل ذلك حال الولد الذي وُجِد سنة ١٦٩٤ في غابات لتوانية حيث كان يعيش
بين الدببة، فروى مسيو دوكو ندياك أنه كان لا يبدو عليه أي أثرٍ من العقل، وأنه كان
يسير على رجليه ويديه، وأنه كان خاليًا من كل لغة، فيُخرِج من الصوت ما لا يُشبِه
أصوات أحد من الآدميين، وكان وحشي هانوفر الصغير، الذي جُلب إلى بلاط إنكلترا منذ
سنين كثيرةٍ، يلاقي جميع شدائد العالم ليُطيق المشي على رجلين. وفي سنة ١٧١٩ وُجد
في جبال البرانس وحشيان آخران كانا يجوبان الجبال علت مثال ذوات القوائم الأربع،
وأما ما يمكن أن يُعترض به من أن هذا يعني تجردًا من الأيدي التي نصل بها إلى كثيرٍ
من المنافع، وذلك عدا ما يدل عليه مثال القدرة من إمكان استخدام اليد على وجهين، في
ثبت — فقط — إمكان منح الإنسان أعضاءه غرضًا أصلح من غرض الطبيعة، لا كون الطبيعة
قد أعدت الإنسان للسير على غير ما تعلمه.
ولكنه يوجد — كما يلوح — أسبابٌ كثيرةٌ وجيهةٌ يُثبت بها كون الإنسان ذا رجلين،
وذلك أنه إذا ما أثبت — أولًا — إمكان كونه في البداءة على غير ما يبدو لنا، وأن
يصبح في آخِر الأمر على ما هو عليه، فإن هذا لا يكفي لاستنباط وقوع هذا على هذا
الوجه؛ وذلك لأنه يجب، بعد إثبات إمكان هذه التحولات، أن يُثبت — قبل التسليم بها —
احتمال وقوعها على الأقل، ثم إذا أمكن ذراعي الإنسان أن تصلحا رجلين له عند الحاجة،
كانت هذه هي الملاحظة الملائمة الوحيدة لهذا النظام تجاه عدد كبير من الملاحظات
المخالفة لها، وأهمها هي: أن الوجه الذي يرتبط به رأس الإنسان في جسمه يجعل عينيه
ناظرتين إلى الأرض، أيْ يجعله في وضع قليل الملاءمة لبقاء الفرد، وذلك بدلًا من
توجيه نظره أفقيًّا كما هي عليه جميع الحيوانات الأخرى، وكما يكون عليه هو نفسه إذا
ما سار على رجلين لا على أربع، وأن الذئب الذي لا ينفعه إذا مشى على رجلين مفيد
لذوات القوائم الأربع، فلم تحرمه أية واحدة منها، وأن ثدي الأم الحسن الوضع كثيرًا
لذات الرجلين التي تمسك ولدها بين ذراعيها يكون سيئًا لذات القوائم الأربع التي لم
يضعها شيءٌ على هذا الوجه، وأن المؤخر إذ كان ذا ارتفاع مفرطٍ إذا ما قيس بقدمي
المقدم، فإننا نزحف على الركبتين عند سيرنا على أرجلٍ أربع، وهذا كله يجعل الحيوان
سيئ النسبة عسير المشي، وأنه إذا ما وضع الرِّجْل واليد على الأرض كان في الساق
المؤخرة مفصلٌ أقل مما في الحيوانات الأخرى، أيْ المفصل الذي يربط عظم الشظية بعظم
القصبة، فإذا لم يوضع غير طرف الرِّجل، كما هو مُكرَه عليه لا ريب، ظهر الرسغ من
الضخامة ما لا يقوم معه مقام عظم الشظية، وذلك من غير قولٍ عن كثرة العظام التي
يتألف منها، وظهرت مفاصله مع مشط القدم وعظم القصبة من التداني ما لا تمنح معه
الساق البشرية في هذا الوضع مثل ما تمنحه ذوات القوائم الأربع من المرونة، وبما أن
مثال الأولاد قد أُخِذ في سنٍّ لم تكمل فيها القوى الطبيعية بعدُ، ولم تشتدَّ فيها
الأعضاء بعدُ، فإنه لا يؤدي إلى نتيجةٍ مطلقًا، وكذلك أود لو أقول إن الكلاب لم
تُعَدَّ للمشي؛ وذلك لأنها لا تصنع غير الزحف بعد ولادتها ببضعة أسابيع، وكذلك
الوقائع الخاصة غير ذات قوة كبيرة تجاه السير العام بين جميع الناس، حتى إن الأمم
التي لا يتصل بعضها ببعض لم تستطع تقليد بعضها بعضًا، وإذا ما تُرك ولدٌ في غابةٍ
قبل أن يقدر على السير، فغُذِّي من قِبَل حيوان ما، اتبع مثال مرضعه بممارسته المشي
مثلها، فالعادة تستطيع أن تمنحه من التيسير ما لا يناله من الطبيعة، وكما أن
الشُّلَّ ينتهون بفعل التمرين إلى صنعهم بأرجلهم ما نصنعه بأيدينا، فإنه ينتهي في
آخِر الأمر إلى استعمال يديه في عمل الرجلين.
(٢)
إذا وُجد بعض الأردياء من علماء الطبيعة مَن يُقيمُ مصاعب حول افتراض هذا الخصب
الطبيعي في الأرض، فإنني أُجيبه عن ذلك بالعبارة الآتية: «بما أن النباتات تستخلص
من الهواء والمادة مادةً أكثر مما تستخلص من الأرض، فإنها تعيد إلى الأرض أكثر مما
تستخلص منها إذا ما خمجت، ثم إن الغابة تُعين مياه المطر بوقفها الأبخرة، وهكذا فإن
طبقة الأرض التي تُفيد النبات تزيد كثيرًا في غابةٍ تحفظ طويلًا من غير أن تمس،
ولكن بما أن الحيوانات تُعيد إلى الأرض أقل مما تستخلص منها، وبما أن الناس
يستهلكون كثيرًا من الحطب والنبات للوقود وغيره من الاستعمالات الأخرى، فإن الذي
يحدث كون طبقة الأرض النباتية في بلدٍ مسكون تنقص دائمًا وتتحول في نهاية الأمر إلى
أرضٍ كالبطرا العربية (بلاد الحِجْر)، وككثيرٍ من ولايات الشرق الذي كان — بالحقيقة
— أكثر الأقاليم عمرانًا في غابر الأزمان، فلا يوجد هناك غير الملح والرمال؛ وذلك
لأن الملح المستقر في النباتات والحيوانات يبقى، على حين تتحول جميع الأجزاء الأخرى
إلى بخار.» (التاريخ الطبيعي، أدلةٌ حول نظرية الأرض، المادة ٧).
وإلى ذلك يمكن أن يضاف الدليل الواقعي بمقدار الشجر والنبات من كل نوع، فكانت
طافحة به تقريبًا جميع الجزائر المهجورة التي اكتشفت في القرون الأخيرة، وبما
يخبرنا التاريخ عنه من الغابات الواسعة التي وجب خبطها في جميع الأرض كلها عمرت أو
مُدِّنت، وإني أبدي الملاحظات الثلاث الآتية حول ذلك.
فالأولى: هي أنه إذا وُجد نوعٌ من النباتات التي تستطيع أن تُعوض من التلف
بالمادة النباتية التي تنشأ عن الحيوانات وفق استدلال مسيو دو بُوفُّون، كان ذلك —
على الخصوص — آجامًا تلتف رءوسها فتختص بمياهٍ وأبخرةٍ أكثر مما تختص به النباتات
الأخرى.
والثانية: هي أن تلف الأرض، أيْ ضياع المادة الخاصة بالنبات، وجب أن يُعجَّل
بنسبة ما تكون الأرض أكثر زراعةً، وبنسبة ما يستهلك أهلوها الذين هم أكثر مهارةً
بفيضٍ محصولاتها التي هي من كل نوع.
والملاحظة الثالثة: وهي أهمها، هي أن ثمرات الشجر تُجهز الحيوان بغذاء أكثر فيضًا
مما تقدر عليه النباتات الأخرى، وهذه تجربةٌ قُمت بها بنفسي بمقابلتي بين محصولات
أرضَيْن متساويتين اتساعًا وخاصيةً، فتكون إحداهما مستورةً بشجر الكستناء، وتكون
الأخرى مزروعةً بُرًّا.
(٤)
يظهر أنه يخرج عن متناول الإنسان الوحشي جميع المعارف التي تستلزم تأملًا، وجميع
المعارف التي لا تُكتسَب إلا بتسلسل الأفكار والتي لا تكمل إلا متعاقبة، وذلك عن
عدم اتصاله بأمثاله، أيْ عن عدم وجود أداة تصلح لهذا الاتصال، وعن عدم وجود
احتياجات تجعله ضروريًّا، وتقتصر معرفته وصنعته على الوثوب والركض والقتال ورمي
الحجر وتسلق الشجر، ولكنه إذا كان لا يعرف غير هذه الأمور، فإنه يعرفها أحسن مما
نعرف بكثير، نحن الذين ليس لديهم مثل احتياجه إليها، وبما أنها تتبع تمرين البدن
فقط، وليست عُرضَة لأي نقلٍ — ولا أي تقدُّمٍ — من فردٍ إلى آخَر، فإن الإنسان
الأول استطاع أن يكون ماهرًا فيها مهارة آخِر أعقابه.
وتطفح رحلات السياح بأمثلة بأس الناس وقوتهم لدى الأمم البربرية والوحشية، وليس
أقل من هذا ما جاء فيها من ثناء على حذقهم وخفتهم، وبما أنه لا يطلب غير عيونٍ
لملاحظة هذه الأشياء، فإنه لا شيء يحول دون تصديق ما يؤكده شهود عيانٍ فوق ذلك،
فأختار اتفاقًا بعض الأمثلة من الكُتُب الأولى التي تقع تحت يدي.
قال كولبن: «يُدرك الهوتنتو صيد البحر خيرًا مما يدركه أوربيو الكاب، ويعدل حذقهم
الشبكة والشص والنشاب في الخلجان والأنهار، وليس أقل من ذلك براعتهم في إمساك السمك
باليد، ولا مثيل لمهارتهم في السباحة، ويوجد في طراز سباحتهم الخاص بهم تمامًا ما
يُثير الحيرة، فهم يسبحون مستقيمي البدن ناشري الأيدي خارج الماء، فيبدون كأنهم
يمشون على الأرض، وهم — عندما يبلغ اضطراب البحر غايته ويصبح الموج كالجبال —
يرقصون على متنه صاعدين هابطين كقطعةٍ من الفلين.»
وقال المؤلف نفسه: «إن الهوتنتو ذوو حذقٍ عجيب في الصيد، وتفوق الخيال خفَّتُهم
في العدو.» ويعجب من كونهم لم يسيئوا استعمال سرعتهم في الغالب، وهذا ما يحدث
أحيانًا مع ذلك، كما يُرى من المثال الذي يقدِّمه عن ذلك، فقد قال: «نزل ملاحٌ
هولنديٌّ إلى بر الكاب، وكلَّف هوتنتيًّا بأن يتبعه إلى المدينة مع طوى تبغٍ يزن
نحو عشرين رطلًا، فلما كان الاثنان على مسافةٍ من الزمرة، سأل الهوتنتي الملاح عن
معرفته للركض، فأجاب الهولندي بقوله: الركض؟ أجل، جيدًا جدًّا. فقال الإفريقي:
سنرى. وقد فر مع التبغ وغاب من فوره تقريبًا، وقد دهش الملاح من تلك السرعة
العجيبة، فلم يفكر في تعقبه قطُّ، ولم يرَ تبغه ولا حامله بعد ذلك.»
«ولهم من البصر الحديد واليد السديدة ما لا يدنو الأوروبيون معه منهما مطلقًا،
فهم يصيبون بحجرٍ علامةً باتساع نصف فلسٍ على مسافة مئة خطوة، وأعجب ما في الأمر هو
أنهم يأتون بحركاتٍ وتشنجاتٍ مستمرة بدلًا من أن يجعلوا الهدف نصب عيونهم كما نصنع،
فيظهر أن يدًا خفية تحمل حجرهم».
وما قاله الأب دوترتر عن وحوش الأنتي يقرب مما قيل عن هوتنتو رأس الرجاء الصالح،
فهو يمتدح سدادهم في توجيه سهامهم إلى الطيور وهي طائرةٌ، وصيدهم السمك سبحًا مع
غوصٍ، وليس وحوش أمريكة الشمالية أقل من هؤلاء صيتًا بقوتهم وحذقهم، وإليك مثالًا
يمكن أن يحكم به في أمر هنود أمريكة الجنوبية: حُكِم في قادس في سنة ١٧٤٦ بالليمان
على هنديٍّ من بوينوس إيرس، فعرض على الحاكم أن يشتري حريته بتعريضه حياته للموت في
عيد عامٍّ، وقد وعد بأن يهاجم وحده أشرس ثورٍ غير حاملٍ من السلاح سوى حبلٍ بيده،
وبأن يمسكه بحبله من العضو الذي يشار إليه، وبأن يسرجه ويلجمه ويركبه ويصارع وهو
على هذا الوجه ثورين من أشرس الثيران يخرجان من حظيرة الميدان، وبأن يقتل أحدهما
بعد الآخَر فور أمره بذلك، ومن غير أن يُعينه أحدٌ على ذلك، وهذا ما أجُيب إليه،
ويفي الهندي بوعده ويُوفَّق في جميع عهده، ومَن يُرِدْ الاطلاع على المنهاج الذي
اتخذه وعلى جزئيات المصارعة، فَلْيراجع الجزء الأول من «ملاحظات في التاريخ
الطبيعي» لمسيو غوتيه، حيث اقتبسنا خبر هذا الحادث (صفحة ٢٦٢).
(٥) قال مسيو دوبوفون: «إن مدة حياة الخيل تكون على نسبة مدة نموها، كما هي الحال في جميع أنواع الحيوانات الأخرى، فالإنسان الذي يتطلب أربع عشرة سنة لنشوئه يمكنه أن يعيش ما يعدل ستة أو سبعة أمثال هذه المدة، أيْ تسعين سنة أو مئة سنة، والحصان الذي يتم نموه في أربع سنين يمكنه أن يعيش ما يعدل ستة أو سبعة أمثال هذه المدة، أيْ خمسًا وعشرين سنة أو ثلاثين سنة، وتبلغ الأمثلة التي يمكن أن تخالف هذه القاعدة من الندرة ما لا ينبغي معه حتى عدها استثناءً يمكن أن تستخرج منه نتائج، وبما أن الخيل السمينة تنمو في مدة أقل مما تنمو فيها الخيل الدقيقة، فإنها تعيش مدة أقل مما تعيش فيها تلك، وهي تدخل دور الهَرَم منذ دخولها الخامسة عشرة من السن.» (تاريخ الخيل الطبيعي).
(٦) أعتقد أنني أبصر في الحيوانات الجوارح وفي آكلة النبات فرقًا آخَر أكثر عمومًا من الذي لاحظته في التعليق الخامس؛ وذلك لأنه يشمل حتى الطيور، ويقوم هذا الفرق على عدد الصغار الذي لا يزيد على الاثنين — مطلقًا — في كل نتاجٍ من الأنواع التي لا تعيش إلا من النباتات، والذي يزيد على ذلك عادةً في الحيوانات النهامة، ويسهل أن يعرف ما تعينه الطبيعة في ذلك من عدد الثدي الذي يكون اثنين في كل أنثى من النوع الأول كالفرس والبقرة والعنزة والوعلة والنعجة … إلخ، والذي يترجح دائمًا بين الستة والثمانية في الأناثي الأخرى كالكلبة والهرة والذئبة والنمرة … إلخ، وتبيض الدجاجة والإوزة والبطة، التي تُعَدُّ كلها من الطيور النهامة، وكذلك اللقوة (أنثى العقاب) والبومة وأنثى الباز، وترخم بيضًا كثيرًا، أيْ تقوم بأمرٍ لا يتفق للحمامة ولا للقمرية ولا للطيور التي لا تأكل غير الحبِّ فلا تُلقي ولا تحضن غير بيضتين، ويقوم السبب الذي يمكن ذكره في هذا الفرق على كون الحيوانات التي لا تعيش بغير الكلأ والنبات تقضي يومها كله تقريبًا في طلب القوت، فتضطر إلى قضاء وقتٍ كبير في الاغتذاء، ولا تستطيع أن تكفي لإرضاع صغارٍ كثير، وذلك على حين تقوم الحيوانات النهامة بطعامها في سويعة، فيسهل عليها في الغالب أن تعود إلى صغارها وإلى صيدها، وأن تتدارك ما أُسرف من لبن كثير، ويمكن أن تبدي في ذلك عدة ملاحظاتٍ وتأملات خاصة، ولكن لا مكان هنا لذلك، ويكفي أن أُبين في هذا القسم نظام الطبيعة الأكثر عمومًا، هذا النظام الذي يُجهز بسببٍ جديد في إخراج الإنسان من طبقة الحيوانات الجوارح وصَفِّه بين الأنواع الآكلة للنبات.
(٧)
حَسَبَ مؤلف مشهورٌ خير الحياة البشرية وشرها وقابل بين المقدارين، فوجد المقدار
الثاني يزيد على الأول كثيرًا وانتهى — بعد أن قلب جميع الأمور — إلى أن الحياة
البشرية ليست هبة ذات قيمة مطلقًا، ولم يعترني دهشٌ — قطُّ — من النتيجة التي وصل
إليها، فقد استنبط جميع براهينه من نظام الإنسان المدني، فلو رجع إلى الإنسان
الطبيعي لرأى أنه كان يمكنه أن يجد نتائج مختلفةً جدًّا، فيبصر أنه لم يكن لدى
الإنسان من الشرور غير ما أعطى نفسه إياه، وليس من غير مشقةٍ أن انتهينا إلى جعل
أنفسنا بالغي الشقاء، فإذا ما نظر من ناحيةٍ إلى أعمال الناس الواسعة، وما وقع من
تبحرٍ في العلوم واختراعٍ في الفنون، وما استخدم من قوى، وما مُلئ من هوى، وما
هُدَّ من جبال، وما حُطِّم من صخور، وما جُعل من أنهار صالحًا للملاحة، وما أُحيي
من أرضين، وما حُفِر من بحيرات، وما جُفِّف من مستنقعات، وما أُقيم على الأرض من
مبانٍ ضخمة، وما سُترَ بالسفن والملاحين من بحار، وإذا ما بُحث من ناحية أخرى، مع
قليل تأمل، في المنافع الحقيقية التي نشأت عن جميع ذلك في سبيل سعادة النوع البشري،
لم يَسَعْ المرء إلا أن يُصدم مما يسود هذه الأمور من تفاوت عجيب، فيرثى لعمى
الإنسان الذي يسوقه بشدةٍ وراء كل شقاء يمكن أن يصيبه، وراء كل شقاء كانت الطبيعة
المحسنة قد عُنيت بإقصائه عنه، وذلك تغذية لزهوه السخيف وإعجابه الباطل
بنفسه.
والناس خبثاء، وتغنى عن الدليل تجربةٌ كئيبة دائمة، ومع ذلك فإن الإنسان صالح
بطبيعته، وأعتقد أنني أثبت ذلك، فما الذي أفسده من هذه الناحية — إذن — إن لم يكن
ما طرأ على نظامه من تحوُّل، وما أوجبه من تقدُّم، وما اكتسبه من معارف؟ وليعجب
المرء بالمجتمع البشري ما شاء، وليس أقل من ذلك حقيقة كون هذا المجتمع يحمل الناس
على التباغض، بحكم الضرورة، بنسبة زيادة مصالحهم، وعلى تبادل الخدم ظاهرًا وضر
بعضهم بعضًا بكل ما يُتصور حقيقةً، وما يمكن أن يقال عن صلةٍ يُملي داعي كل فردٍ
فيها قواعد مباينة رأسًا للقواعد التي يعظ الداعي العام بها هيئة المجتمع، وحيث يجد
كل واحدٍ حسابه في شفاء الآخرين؟
ومن المحتمل أنك لا تجد رجلًا موسرًا لا يتمنى موته سرًّا ورثته الطامعون،
وأولاده في الغالب، وأنك لا تجد سفينةً لا يكون غرقها في البحر حادثًا سارًّا عند
بعض التجار، ولا تجد محلًّا تجاريًّا لا يود المدين السيئ النية أن يراه محترقًا مع
جميع ما يشتمل عليه من أوراق، ولا تجد شعبًا لا يُسرُّ بمصائب جيرانه، وهكذا فإننا
نجد فائدتنا في ضرر أمثالنا، فخسران أحدهم يُوجب غبطة الآخَر دائمًا تقريبًا، ولكن
أكثر ما يكون خطرًا هو أن تكون البلايا العامة مدار أمل جمعٍ من الأفراد وموضوع
رجائهم، فبعضهم يريد أمراضًا، وآخرون يريدون فناءً، وآخرون يريدون حربًا، وآخرون
يريدون مجاعةً، وقد رأيت أناسًا قباحًا يبكون ألمًا من طلائع سنةٍ خصيبة، ويحتمل أن
كان حريق لندن الكبير المشئوم، والذي قضى على حياة كثير من التعساء وأموالهم، قد
أسفر عن اغتناء أكثر من عشرة آلاف شخص، وأعلم أن مونتن لام الأثني دمادس على
معاقبته أحد العمال لبيعه بأثمانٍ مرتفعةٍ جدًّا توابيت، فكان يكسب كثيرًا عند موت
المواطنين، غير أن السبب الذي ذكره مونتن ينطوي على وجوب مجازاة جميع العالم، فيؤيد
ما ذكرته من أسباب كما هو واضح؛ ولذا فَلْيطلع — من خلال أدلتنا التافهة في الرفق —
على ما يقع في أعماق القلوب؛ وَلْينعم النظر فيما يجب أن تكون عليه حال الأمور التي
يضطر فيها جميع الناس إلى مداراة بعضهم بعضًا، وإلى تهادمهم مقابلةً، والتي يولدون
فيها أعداءً عن واجبٍ وشطارًا عن مصلحة، وإذا ما أُجبت بأن المجتمع بلغ من التكوين
ما يكسب الإنسان معه في خدمة الآخرين، رددت عن هذا بقولي: إن من الحسن جدًّا ألَّا
يكسب أكثر من أن يضرهم، ولا يوجد من الكسب الحلال ما لا يزيد عليه الكسب الحرام،
وما يُلحق بالجار من ضررٍ أكثر ربحًا من الخدم، ولا شيء يُطلب غير معرفة الرسائل
التي يُطمأنُ بها إلى عدم العقاب؛ ولذا يستعمل الأقوياء جميع قواهم، ويستعمل
الضعفاء جميع حيلهم.
وإذا ما طعم الإنسان الوحشي كان على وئامٍ مع جميع الطبيعة وصديقًا لجميع أمثاله،
وإذا ما ثار نزاع حول طعامه في بعض الأحيان، لم يلجأ إلى كيل الضربات قبل أن يقابل
مقدَّمًا بين صعوبة النصر وصعوبة عثوره على طعام له في مكان آخَر، وبما أن الزهو لا
يجد له سبيلًا في الصراع، فإنه ينتهي ببعض لكمات، ويأكل الغالب، ويبحث المغلوب عن
غذاء له في مكان آخَر، وتسود السلم، ويكون الأمر على غير هذا لدى الإنسان المتمدن،
فتدارك الحاجي هو أول ما يطلب، ثم يأتي الفائض، ثم تأتي الأطايب فالثروات الواسعة،
ثم الرعايا فالعبيد، ولا يكون لديه وقت بطالة، وأغرب ما في الأمر كون الاحتياجات
كلما كانت مُلحة ودون الطبيعي زادت الأهواء، وشرٌّ من ذلك أن يُستطاع قضاؤها، وذلك
أن ينتهي أمر البطل بأن يضرب كل عنقٍ حتى يصبح سيد العالم الوحيد، بعد أن يكون قد
ابتلع أموالًا وافرة وأحزان أناسًا كثيرين، فهذه هي خلاصةٌ لوصف الحياة البشرية
وصفًا أدبيًّا، أو خلاصةٌ لوصف المزاعم الخفية في قلب كل إنسان متمدن.
وقابلوا — من غير مبتسرات — بين حال الإنسان المدني وحال الإنسان الوحشي، وابحثوا
— إذا ما استطعتم — عن مقدار ما فتح الأول من أبوابٍ جديدةٍ نافذةٍ على الألم
والموت، فضلًا عن خبثه واحتياجاته وبؤسه، وإذا ما نظرتم إلى عذاب النفس الذي
يُضنِينا، وإلى الأهواء العنيفة التي تنهكنا وتحزننا، وإلى الأعمال القاسية التي
يرهق بها الفقراء، وإلى الترف البالغ الخطر الذي ينهمك فيه الأغنياء، فيهلك الفريق
الأول عن احتياجٍ، ويهلك الفريق الثاني عن إفراط، وإذا فكرتم في اختلاط الأغذية
المضاد للطبيعة، وفي تعليلها بالتوابل تعليلًا ضارًّا، وفي الغلات الفاسدة
والعقاقير المغشوشة، وفي خداع مَن يبيعونها وغواية مَن يدبرون أمرها، وفي سم
الأوعية التي تُعَدُّ فيها، وإذا ما أنعمتم النظر في الأمراض السارية الناشئة عن
الهواء الفاسد بين زمر الناس المجتمعين، وفي الأمراض التي تصدر عن دقة طراز حياتنا،
وفي انتقالنا مناوبةً بين منازلنا والهواء الطلق، وفي استعمال الملابس التي تتخذ أو
تترك مع قليل تحفظٍ، وفي كل ما تحولت به شهوتنا المفرطة إلى عاداتٍ ضرورية من
عناية، فيؤدي إهمالها أو الزهد فيها فيما بعدُ إلى القضاء على حياتنا أو صحتنا،
وإذا ما نظرتم إلى الحرائق والزلازل التي تقضي على مدن بأسرها وتهلك سكانها
بالألوف.
والخلاصة: إذا ما جمعتم الأخطار التي تصبها جميع هذه العلل على رءوسنا باستمرار،
شعرتم بالثمن الغالي الذي تحملنا الطبيعة على دفعه في مقابل استخفافنا
بدروسها.
ولا أكرر هنا مطلقًا ما قلته عن الحرب في مكان آخَر، ولكنني أود أن يكون
المتعلمون من الإرادة أو الجرأة ما يُطلعون الجمهور معه على تفصيل القبائح التي
تُقترف في الجيوش من قِبَل ملتزمي الميرة والمشافي، فهنالك يُرى أن أساليبهم في
الغش — غير الخافية كثيرًا — تتوارى بها أنضر الجيوش في وقت قصير جدًّا، ويهلك بها
من الجنود أكثر ممن يحصدهم سلاح الأعداء، ثم إنه ليس أقل إثارة للدهش أمر مَن
يبتعلهم البحر في كل عام عن المجاعة، أو داء الحفر، أو القراصين، أو النار، أو
الغرق، ومن الواضح أنه يجب أن يُحسب بجانب التملك القائم، ومن ثَمَّ بجانب المجتمع،
أعمال القتل والسم وقطع الطرق، حتى العقاب على هذه الجرائم الذي لا بد منه درءًا
لأعظم الشرور، ولكن مع قضائه في جرائم القتل على حياة اثنين أو أكثر فيَدَع وقوع
هلاكٍ في النوع البشري ضعفين، وما أكثر الوسائل الفاضحة التي تُتَّخَذ لِعَوْق
ولادة الآدميين ومخادعة الطبيعة، وذلك إما عن تلك الأذواق البهيمية أو الفاسدة التي
تُعَدُّ سُبةً لأروع أعمالها، وإما عن تلك الأذواق التي لم يعرفها الهمج ولا
الحيوانات مطلقًا، والتي لم تنشأ في البلاد المتمدنة إلا عن خيال فاسد، وإما عن تلك
الإجهاضات الخفية التي هي ثمرة الفسق والشرف المعيب، وإما عن إهمال جمعٍ من الأولاد
أو قتلهم، هؤلاء الذين هم ضحايا بؤس آبائهم أو خجل أمهاتهم الشديد، وإما عن بتر
هؤلاء التعساء الذين ضُحِّيَ بقسمٍ من كيانهم وبجميع عقبهم من أجل أغانٍ باطلة، أو
من أجل حسد بعض الناس، بترًا يطعن الطبيعة طعنًا مزدوجًا في هذه الحال الأخيرة،
وذلك بما يعامل به أولئك الذين يألمون منه، وبما أعدوا له من عادة!
ولكن أليس أكثر شيوعًا وخطرًا ألف مرة أن تُلحق الحقوق الأبوية بالإنسانية أذًى؟
وما أكثر القرائح المطمورة والميول المقهورة عن قسر الآباء الغافل! وما أكثر الرجال
الذين يمتازون في حالٍ مناسبة ويموتون تعساء مفضوحين في حالٍ أخرى لم يرغبوا فيها
قطُّ! وما أكثر ما فُصم أو كُدر من زواجات سعيدة، ولكن مع تفاوتٍ! وما أكثر الزوجات
الطاهرات اللائي فُضِحن بذلك النظام من الأحوال المناقض لنظام الطبيعة دائمًا! وما
أكثر القرانات الأخرى الغريبة التي نشأت عن المصلحة وأُنكرت بالحب والعقل! وما أكثر
الأزواج الصالحين الفضلاء الذين عُوقبوا مبادلةً لسوء تنوعهم! وما أكثر ضحايا شح
الآباء من الشبان والتعساء الذين غاصوا في الرذيلة أو الذين قضوا أيامهم السود في
الدموع، والذين أنوا في صلاتهم لا انفصام لها، مع أن الفؤاد يرفضها والذهب وحده هو
الذي كوَّنها! ما أسعد أولئك اللاتي نزعتهن الشجاعة والفضيلة أحيانًا من الحياة قبل
أن يحملهن عنفٌ شديد على قضائها في الجريمة أو القنوط! فاغفرا لي يا والديَّ اللذين
أرثي لهما إلى الأبد، لما أزيد من آلامكما بشكواي، ولكن هل تصلح هذه الآلام أن تكون
عبرةً أبدية هائلة لمن يجرؤ، حتى باسم الطبيعة، أن ينقض أقدس حقوقها؟
وإذا كنتُ لم أتكلم عن غير هذه المشاكل السيئة التكوين، التي هي من عمل ضابطتنا،
فهل يفكر في كون التي يهيمن عليها الحب والعاطفة سالمةً من المحاذير؟ وما يقع إذا
ما حاولت إبداء النوع البشري مهاجمًا في منبعه، وفي أقدس جميع الروابط، حيث لا يجرؤ
على سماع الطبيعة إلا بعد مراجعة النصيب، وحيث يخلط الارتباك المدني بين الفضائل
والمعايب، فيصبح الزهد احترازًا جنائيًّا، ويصبح رفض هبة الإنسان حياته لشبيهه
عملًا إنسانيًّا؟ ولكن لنكتفِ بالإشارة إلى المرض الذي يجب على الآخرين أن يعالجوه،
وذلك من هتكٍ للحجاب الذي يُغطي جميع هذه القبائح.
وَلْيُضَف إلى جميع هذا ذلك المقدار من الصنائع غير الصحية التي تُقصر الأيام أو
تقوض الأبدان، وذلك كأعمال المناجم وإعداد المعادن والفلز (اسم يُطلَق على جواهر
الأرض كلها)، ولا سيما الرصاص والنحاس والزئبق والكوبلت والزرنيخ والرهج (سم
الفأر)، وتلك الصنائع الأخرى الخطرة التي تودي كل يوم بحياة عدد من المسقفين
والنجارين والبنائين والمعدنين؛ ولتجمع جميع هذه الأمور كما أقول ليُرى في قيام
المجتمعات وكمالها أسباب ما يلاحظه أكثر من فيلسوفٍ من نقصان النوع.
ولا يلبث الترف، الذي يتعذر تلافيه لدى الآدميين الطامعين في رغد عيشهم واحترام
الآخرين لهم، أن يتم الشر الذي بدأته المجتمعات، والذي يفقر البقية كلها ويفقر
الدولة عاجلًا أو آجلًا بحجة ما لا يصنعه من إطعام الفقراء.
والترف علاج أسوأ كثيرًا من المرض الذي يزعم شفاءه، أو إنه في ذاته أسوأ من جميع
الأمراض في كل دولة صغيرة أو كبيرة؛ وذلك لأنه يؤدي إلى ظلم المواطن والزارع
وهلاكهما تغذية لجموعٍ من الخدم والبائسين الذين يوجدهم، وهو يشابه رياح الجنوب
المحرقة التي تستر الكلأ والخضرة بالحشرات النهامة، والتي تنزع الغذاء من الحيوانات
النافعة وتحمل القحط والموت في جميع الأماكن التي تهب فيها.
وينشأ عن المجتمع، وما يؤدي إليه من ترفٍ، الفنون العقلية والميكانية والتجارة
والآداب وما إلى ذلك من الزوائد التي توجب ازدهار الصناعة وتُغني الدول وتهلكها،
وسبب هذا الخراب بسيط إلى الغاية، وذلك أن من السهل أن يرى وجوب كون الزراعة
بطبيعتها أقل كسبًا من جميع الصنائع، فبما أن حاصلها ألزم ما يكون استعمالًا لدى
جميع الناس، فإن ثمنها يجب أن يكون مناسبًا لمقدرة أشد الناس فقرًا، ومن ذات المبدأ
يمكن استخراج القاعدة القائلة: إن الصنائع تكون رابحة بنسبة نفعها المعكوس، وإن
ألزم الأشياء يصبح أكثرها إهمالًا في نهاية الأمر، ومن ثَمَّ يُرى ما يجب أن يُفكر
فيه من الفوائد الحقيقية في الصناعة ومن النتائج الصحيحة لتقدمها.
وتلك هي الأسباب المحسوسة للبؤس، حيث اليسر بدهور أكثر الأمم إثارة للعجب في
نهاية الأمر، وكلما اتسع مدى الصناعة والفنون وازدهر هجر الزارع المزدري — المثقل
بالضرائب الضرورية لبقاء الترف والمحكوم عليه بقضاء حياته بين العمل والجوع —
حقولَه ليبحث في المدن عن الخبز الذي يجب أن يحمله إليها، وكلما وقفت رءوس الأموال
أبصار الشعب الحمق عجبًا، وجب أن يئن من رؤية الأرياف مهجورةً والأرضين بائرةً
والطرق الكبيرة زاخرةً بالمواطنين التعساء الذين أصبحوا سائلين أو سارقين معدين
لختم بؤسهم — ذات يوم — فوق الدمن أو على المشانق، وهكذا فإن الدولة التي تغتني من
ناحيةٍ تضعف وتقفر من ناحية أخرى، وإن أقوى الملكيات تنتهي، بعد كثيرٍ من الأعمال
التي تكون بها موسرةً مقفرةً، بأن تصبح فريسة الأمم الفقيرة التي تُغري بالاستيلاء
عليها، والتي تغتني وتضعف بدورها حتى تستولي عليها وتخربها دولٌ أخرى.
وَلْيتفضل بأن يوضح لنا ذات مرةٍ من استطاع أن ينتج هذه الجحافل من البرابرة
الذين غمروا أوروبا وآسيا وأفريقيا قرونًا كثيرة، فهل كانوا مدنيين بهذا العدد
العجيب من الأهلين لتقدم صنائعهم أو حكمة قوانينهم أو كمال ضابطتهم؟ وَلْيتفضَّل
علماؤنا بأن يبينوا لنا من غير تفصيلٍ ما السبب في كون هؤلاء الآدميين الجفاة
القساة العاطلين من المعارف والزاجر والتربية لا يتذابحون في كل ساعةٍ تنازعًا حول
قوتهم وصيدهم، وليوضحوا لنا كيف أنه كان لدى هؤلاء البائسين من الإقدام ما يواجهون
به وحدهم أناسًا بالغي المهارة كما كنا، أناسًا ذوي نظام عسكري رائع ودساتير كثيرة
الإتقان وقوانين شديدة الإحكام، ثم لِمَ لا يرى ظهور مثل هذه الجموع التي أنتجها
الشمال فيما مضى؟ وذلك منذ كمل المجتمع في بلاده وعانى كثيرًا في تعليم الناس
واجباتهم المتقابلة وفن العيش الرغيد الهادئ معًا، وأخشى أن يتصدى للجواب عن ذلك في
آخِر الأمر رجلٌ يقول إن جميع هذه الأمور العظيمة، أي الفنون والعلوم والقوانين، قد
اخترعت من قبل الناس كوباءٍ نافع لمنع زيادة النوع زيادةً مفرطة، وذلك خشية أن يصبح
العالم المعد لنا من الصغر ما لا يستوعب معه سكانه.
ثم ماذا؟ أيجب أن يُقضى على المجتمعات، وأن يُبطل مالي ومالك، وأن يرجع إلى العيش
مع الدببة في الغابات؟ إن هذه نتيجةٌ لمنهاج خصومي الذين أود أن أسبقهم قبل أن أدع
لهم خزي استخراجها، وأنتم أيها الذين لم يسمعوا صوت السماء قطُّ، والذين لم يعرفوا
لنوعهم من الأغراض غير قضاء هذه الحياة القصيرة في سلام، والذين يستطيعون أن يتركوا
وسط المدن مكتسباتهم ونفوسهم المضطربة، وأفئدتهم الفاسدة، ورغائبهم الجامحة، عودوا،
فعليكم يتوقف طهركم القديم الأول، واعتزلوا في الغاب لتغيب عنكم ذكرى جرائم
معاصريكم ولا تخشوا انحطاط نوعكم بعدولكم عن معارفه وصولًا إلى العدول عن نقائصه،
وأما الرجال الذين هم مثلي، فأسفرت أهواؤهم عن ضياع البساطة الأصيلة إلى الأبد،
فعادوا لا يستطيعون أن يغتذوا بالأعشاب والبلوط، ولا أن يستغنوا عن القوانين
والرؤساء، وأما أولئك الذين شرفوا في أبيهم الأول بدروس خارقة للعادة، وأما أولئك
الذين يرون في تصميم الأعمال البشرية خُلُقيةً ما كانت لتكتسبها قبل زمن طويل، سبب
مبدأ خليٍّ بذاته متعذرٍ إيضاحه في منهاجٍ آخَر. وأما أولئك القانعون بأن الصوت
الإلهي دعا جميع الجنس البشري إلى العرفان وسعادة الإدراك السماوي، وأما جميع أولئك
فإنهم يحاولون، بممارستهم الفضائل التي يحملون أنفسهم على تطبيقها بتعلمهم معرفتها،
أن يستحقوا الثواب الأبدي الذي ينتظرونه عليها، فهم يحترمون روابط المجتمعات التي
يعدون من أعضائها، وهم يحبون أمثالهم ويخدمونهم بجميع قوتهم، وهم يطيعون القوانين
وواضعيها والوزراء إطاعةً وثيقةً، وهم — على الخصوص — يُجلون الأمراء الصالحين
الحكماء الذين يعرفون كيف يحولون دون وقوع طائفةٍ من سوء الاستعمال والشرور التي
تكون معدةً لإرهاقنا، أو كيف يشفون منها أو يلطفونها، وهم يثيرون غيرة هؤلاء
الرؤساء الأكفياء بإطلاعهم غير خائفين ولا مصانعين على عظمة عملهم وشدة واجبهم،
بَيْدَ أنهم ليسوا أقل ازدراء لنظامٍ لا يمكن أن يبقى إلا بمساعدة أناس محترمين
كثيرين يرغب فيهم — غالبًا — أكثر من أن يُظفر بهم، لنظامٍ تصدر عنه كل يوم مصائب
أكثر من الفوائد، على الرغم من جميع الجهود.
(٨)
تجد بين الناس الذين نعرفهم بأنفسنا، أو بواسطة المؤرخين، أو بواسطة السياح مَن
هم سود، ومَن هم حمرٌ، وبعض هؤلاء الآدميين ذوو شعر طويل، وليس لدى الآخرين غير شعر
متجعد، وبعض هؤلاء الآدميين شعرٌ تقريبًا، وليس لدى الآخرين حتى لحًى، وقد كان
يوجد، ولا يزال يوجد على ما يحتمل، أممٌ مؤلفةٌ من أناس ذوي قوام جُسام، وإذا عدوت
قصة الأقزام التي قد تكون مبالغًا فيها علمت أن اللابون، ولا سيما أهل غروئنلندة،
ذوو قاماتٍ تُعَدُّ دون ما للإنسان المتوسط، حتى إنه يزعم وجود شعوب بأسرها ذات
أذنابٍ كذوات القوائم الأربع، وإنَّا — من غير أن نثق ثقة عمياء برحلات هيرودتس
وكتزياس — يمكننا أن نستنبط الرأي المحتمل كثيرًا، والقائل إنه إذ أمكن القيام
بمشاهداتٍ صالحةٍ في تلك الأزمنة القديمة، حين كان شتى الشعوب تتبع طرزًا للحياة
أكثر اختلافًا فيما بينها مما تصنع في الزمن الحاضر، فإنه كان يلاحظ في الوجه وديدن
البدن من التنوع ما هو أدعى إلى وقف النظر كثيرًا، ولا يمكن جميع هذه الوقائع، التي
يسهل أن تقدم عنها أدلة لا مراء فيها، أن تدهش غير أولئك الذين تعودوا ألا يروا غير
الأمور التي تحيط بهم، والذين يجهلون النتائج القوية لاختلاف الأقاليم والهواء
والأغذية وطراز العيش والعادات على العموم، ولا سيما القدرة المحيرة لذات العلل عند
تأثيرها الدائم في سلاسل طويلة من الأجيال، واليوم إذ تجمع التجارة والرحلات
والفتوح بين مختلف الشعوب أكثر من قبلُ، واليوم إذ تتدانى طرز عيشها بلا انقطاع عن
كثرة الاتصال، فإنه يُرى نقص بعض الفروق القومية، ومن ذلك أن كل واحد يستطيع —
مثلًا — أن يلاحظ كون فرنسيي الوقت الحاضر عادوا لا يكونون أولئك البيض والشقر
الذين وصفهم مؤرخو اللاتين، وإن وجب أن يكون الزمان، المضاف إلى اختلاط الفرنسيين
والنورمان البيض والشقر، قد استطاع أن يعيد ما قدرت على نزعه معاشرة الرومان من
تأثير الإقليم ولون السكان، وتحملني جميع هذه الملاحظات حول ما يمكن أَلْف علةٍ أن
تُحدِثه — وأحدثته — من الاختلافات في النوع البشري بالحقيقة على الشك في كون
الحيوانات المشابهة للآدميين من البهائم، كما ذهب إليه السياح الذين لاحظوا من غير
كثير تدقيقٍ، أو رأوا — عما لاحظوه من بعض الفروق في التكوين الخارجي، أو عن كون
هذه الحيوانات لا تتكلم مطلقًا — أن هذه الحيوانات ليست — في الحقيقة — من وحوش
الناس الذين تفرَّق عرقهم في الغابات قديمًا، فلم تُتَحْ له فرصة لإنماء أية واحدة
من مَلَكاته الكامنة، ولم يَنَلْ أية درجة من الكمال، ولم يزل في الحال الأولى من
الطبيعة، ولأقدم مثالًا على ما أقول.
قال مترجم «تاريخ الرحلات»: «يوجد في مملكة الكونغو عدد من تلك الحيوانات الكبرى
التي تُدعى الأرنغ أوتان في الهند الشرقية، وتُعَدُّ متوسطةً بين النوع البشري
والقرد الكلبي. ويروي باتل أنه يرى في غابات مايونبا بمملكة لوانغو نوعان من
الغيلان يسمى أكبرهما يونغو ويسمى الآخَر أنجوكو، ويوجد شبهٌ تامٌّ بين الأول
والإنسان، ولكنه أكثر منه ضخامةً وأعلى منه قامةً، وله وجه إنسانٍ وعينان غائصتان،
وله يدان وخدان وأذنان بلا شعر، وذلك على خلاف حاجبيه ذوي الشعر الطويل كثيرًا، وهو
مع كون بقية بدنه ذات شعر كافٍ لم يكن شعره هذا كثيفًا جدًّا، بل هو أسمر، ثم إن
القسم الوحيد الذي يميزه من الناس هو ساقه العاطلة من الربلة، وهو يمشي مستقيمًا
ممسكًا شعر الرقبة باليد، وفي الغاب عزلته، وهو ينام على الشجر حيث يتخذ نوعًا من
السقف يقيه المطر، ويقوم طعامه على الفواكه أو الجوز البري، وهو لا يأكل اللحم
مطلقًا، ومن عادة الزنوج الذين يجوبون الغاب أن يوقدوا نارًا في الليل، وهم يلاحظون
أن البونغو يأخذ مكانهم حول النار في الصباح، وهو لا ينصرف ما لم تنطفئ؛ وذلك لأنه
مع كثير مهارة ليس من الإدراك الكافي ما يديمها معه بأن يجلب حطبًا إليها.
وهو يسير زمرًا أحيانًا فيقتل الزنوج الذي يجوبون الغاب، وهو ينقض حتى على الفيلة
التي تأتي للرعي في الأماكن التي يسكنها، وهو يبلغ من إزعاجها بضربات الكف أو العصا
ما يكرهها معه على الفرار مع صوتٍ، وما كان البونغو ليؤخذ حيًّا مطلقًا؛ وذلك لأنه
من القوة الكبيرة ما لا يستطيع معه عشرة رجال أن يقفوه، غير أن الزنوج يأخذون عددًا
من صغاره بعد أن يقتلوا أمها التي يلصق الصغير بجسمها بشدة، وإذا مات أحد هذه
الحيوانات سترت الأخرى بدنه بكُدْسٍ من الغصون أو الأوراق. وإلى هذا يُضيف بورشاس
أنه علم من الكلام الذي دار بينه وبين باتل كَوْن البونغو قد خطف زنجيًّا صغيرًا،
فقضى هذا الزنجي شهرًا كاملًا في مجتمع هذه الحيوانات، وذلك أنها لا تؤذي الناس
الذين تفاجئهم، ما لم ينظروا إليها كما كان الزنجي الصغير قد لاحظه، ولم يصف باتل
النوع الثاني من الغيلان.
ويقول دابه مؤكدًا: إن مملكة الكونغو زاخرةٌ بهذه الحيوانات التي يُطلق عليها في
الهند اسم الأرنغ أوتان، أيْ سكان الغاب، والتي يسميها الإفريقيون كوجا مورو، ومن
قوله: إن هذا الحيوان هو من شدة الشبه بالإنسان ما أُلقي معه في روع بعض السياح
إمكان ولادته من امرأة وقرد، أي وهمٌ يدحضه حتى الزنوج، وقد نُقل أحد هذه الحيوانات
من الكونغو إلى هولندا وقُدِّم إلى أمير أورنج، فردريك هنري، وقد كان له طول ولد في
الثالثة من سنيه، وسمنٌ متوسط، ولكن مع تربيع وحُسن تناسب، وقد كان سريعًا نشيطًا
جدًّا، ذا سيقان مكتنزة قوية، وذا مُقدم عارٍ جميعه، وذا مؤخر مستورٍ بشعر أسود،
وكان وجهه يشابه وجه الإنسان عند أول نظرة، ولكن مع أنفٍ أفطس أو أحجن، وكانت أذناه
كأذني النوع البشري، وكان ثديه ضخمًا؛ لأنه أنثى، وكانت سرته غائرة، وكانت كتفاه
حسنتي الاتصال، وكانت يداه مقسومتين إلى أصابع وأباهم، وكانت ربلتاه وعقباه سمينتين
لحيمتين، وكان يمشي في الغالب على ساقيه مستقيمًا، وكان قادرًا على حمل أثقال
وزينة، وكان إذا ما أراد الشرب أمسك غطاء الإناء بيدٍ وأمسك أسفله بيدٍ أخرى، ثم
أخذ ينشف شفتيه بلطف، وكان يضطجع لينام فيضع رأسه على وسادة ويتغطى بمهارة يُظن
معها أنه إنسان. ويروي الزنوج قصصًا غريبة عن هذا الحيوان، فيقولون مؤكدين: إنه
يجرؤ على مهاجمة رجال مسلحين، فضلًا عن أنه يغتصب النساء والبنات.
والخلاصة: أن الظاهر يدل على أنه هذا هو غول القدماء، ومن المحتمل أن ميرولا لا
يتكلم عن غير هذه الحيوانات عندما يحكي عن استعانة الزنوج في صيدهم — أحيانًا —
برجال ونساء متوحشين.»
وكذلك قد حُدِّث عن تلك الأنواع الحيوانية المشابهة للإنسان في الجزء الثالث من
«تاريخ الرحلات» ذلك باسم بيغو ومندريل، ولكننا إذا ما رجعنا البصر إلى كتب الرحلة
السابقة، وجدنا في وصف أولئك الغيلان المزعومين مطابقاتٍ مع النوع البشري تقف
النظر، وفروقًا أقل من التي يمكن تقديرها بين إنسان وإنسان، ولا يرى في تلك
العبارات مطلقًا ما يستند إليه المؤلفون من الأسباب في رفضهم إطلاق اسم وحوش الناس
على تلك الحيوانات، ولكنه يسهل أن يُظن قيام ذلك على غباوتها وعلى عدم كلامها، أيْ
على أسبابٍ ضعيفة لدى مَن يعرفون أن الكلام نفسه غير طبيعي في الإنسان وإن كان عضو
الكلام طبيعيًّا عنده، ولدى مَن يعلمون مقدار ما يمكن الإنسان المدني أن يرفع بكمال
الكلام إلى ما فوق حاله الأصلي، ويمكن أن تجعلنا الأسطر القليلة — التي تحتويها هذه
الأوصاف — نحكم في درجة سوء ما لوحظت به هذه الحيوانات، وفي مقدار المبتسرات الذي
نُظِر به إليها، ومن ذلك أنْ وُصِفت الغيلان مثلًا، ومع ذلك فإنه يغترف بولادها،
وفي مكان يقول باتل إن البونغو يقتل الزنوج الذين يجوبون الغابات، وفي مكانٍ آخَر
يضيف بورشاس إلى ذلك قوله إنه لا يصيبهم بأي سوء، حتى عند المفاجأة، وذلك ما لم
يعنوا النظر إليه، ويتجمع البونغو حول النيران التي يوقدها الزنوج عندما ينصرف
هؤلاء، وينصرف البونغو بدوره عند انطفاء النار، وذلك هو الواقع، والآن إليك تفسير
الباحث؛ «وذلك لأنه مع كثير مهارةٍ ليس من الإدراك الكافي ما يديمها معه بأن يجلب
حطبًا إليها»، وأود لو أعلم كيف أمكن باتل — أو جامعه بروشاس — أن يعرف أن انصراف
البونغو كان نتيجة لغباوته أكثر من أن يكون نتيجة لإرادته، وليست النار في إقليمٍ
كاللوانغوا شيئًا ضروريًّا للحيوانات، وإذا كان الزنوج يوقدونها فذلك لتخويف
الضواري أكثر مما للتدفئة؛ ولذلك فإن من الأمور البسيطة جدًّا أن يسأم البونغو، بعد
طربٍ حول اللهب أو بعد أن يدفأ، من البقاء في عين المكان دائمًا، وأن ينصرف سعيًا
وراء القوت الذي يتطلب من الوقت أكثر مما يتطلب أكثر اللحم، ثم إن من المعلوم أن
الحيوانات — ومنها الإنسان — كسلى بطبيعتها، فتأبى كل ما ليس من الضرورات المطلقة،
ثم إن من الغريب جدًّا — كما يظهر — ألا يعرف البونغو دفع حطبٍ إلى النار، وهو الذي
يُمتدَح حذقه وقوته، وهو الذي يعلم دفن موتاه وصنع سقوف من غصون لها، وأذكر أنني
رأيت قردًا يقوم بذات الحركة التي ينكر صدورها عن البونغو، وبما أن أفكاري لم توجه
من هذه الناحية في ذلك الحين، فإنني أتيت عين الخطأ الذي ألوم عليه سياحنا، وأهملتُ
البحث في هل كان مقصد القرد إبقاء النار في الحقيقة أو تقليد عمل الإنسان — كما
أعتقد — ومهما يكن من أمرٍ، فإن الذي أُحسن بيانه هو كون القرد ليس من جنس الإنسان؛
لا لأنه محرومٌ خاصية الكلام فقط، بل لعطل نوعه من خاصية التكامل التي هي صفة النوع
البشري الفارقة أيضًا، أيْ القيام بتجربةٍ لم تتم حول البونغو والأورنغ أوتان بدقةٍ
تكفي لاستخراج عين النتيجة، وقد يذهب أصفق الباحثين إلى أن الأورنغ أوتان وغيره
كانا من النوع البشري مدلين بدليل أيضًا، ولكن يجب أن تعد هذه التجربة متعذرةً،
فضلًا عن عدم كفاية جيل واحد للقيام بها، وذلك لما يجب من إثبات ما ليس سوى افتراضٍ
أنه حقيقيٌّ، وذلك قبل أن يحاول بسلامة طويةٍ أمر التجربة التي يجب أن يؤكدها
الواقع.
وعن شططٍ تصدر الأحكام العاجلة التي ليست ثمرة العقل المنوَّر، وعن سذاجةٍ يجعل
سيًّاحنا من البهائم، مسماةً بأسماء البونغو والمندريل والأورنغ أوتان، ما كان
القدماء يجعلونها من الآلهة مسماةً بأسماء ساتورس (شخص نصفه الأعلى بشر والأسفل
ماعز كما جاء في الأساطير)، وفونوس (من الآلهة الريفية كما جاء في الأساطير)،
وسِلفين (إله الغاب والحقوق كما جاء في الأساطير)، ومن المحتمل أن يُرى، بعد مباحث
أكثر دقةً، كون هؤلاء من الآدميين، لا من البهائم، ولا من الآلهة، ويظهر لي، إلى أن
يقع ذلك، أن هنالك من الأسباب ما يُرجَع به الأمر، فوق ذلك، إلى الراهب الأديب
والشاهد العياني ميرولَّا الذي لم يَدع، مع كامل بساطته، أن يكون من رجال الذهن غير
التاجر باتل ودرابه وبورشاس وغيرهم من الجامعين.
وأي حكم يأتيه مثل هؤلاء الباحثين حول الولد الذي وُجد سنة ١٦٩٤ وتكلمتُ عنه
آنفًا، والذي لم يظهر عليه أي دليل على العقل، فكان يمشي على رجليه ويديه، ويُخرج
من الأصوات ما لا يشابه أصوات الإنسان؟ قال مداومًا ذلك الفيلسوف الذي أمدَّني بذلك
الأمر الواقع: «مضى زمنٌ طويل قبل أن يستطيع النطق ببعض الألفاظ، وهو قد فعل هذا
على نمطٍ همجي، وهو لم يَكَدْ يقدر على الكلام حتى سُئل عن حاله الأولى، ولكنه لم
يذكر عنها شيئًا أكثر مما نذكر عما حدث لنا في المهد»، ولو كان هذا الولد سيِّئ
الحظ فوقع في أيدي سيَّاحنا، لم يشك في أن هؤلاء كانوا بعد ملاحظة صمته وغباوته،
يذهبون إلى رده إلى الغاب أو حسبه في حَوش الوحوش، ثم كانوا يتكلمون عنه تكلُّم
العارف في كتبٍ للسياحة رائعة، وذلك كما يتكلمون عن حيوانٍ ذي فضولٍ مشابهٍ للإنسان
بعض الشبه.
وأعتقد أننا منذ ثلاثة قرون أو أربعة قرون، أيْ منذ مدةٍ يغمر الأوروبيون فيها
أقسام العالم الأخرى وينشرون بلا انقطاع مجموعاتٍ جديدةً في الرحلات، لا نعرف
أناسًا غير الأوروبيين، وكذلك يظهر من المبتسرات المضحكة التي لم تنطفئ قطُّ، حتى
بين رجال الأدب، أن كل واحد لا يصنع، تحت اسم دراسة الإنسان الفخم، غير دراسة أهل
بلده، ويُعدُّ من العبث ذهاب الأفراد وإيابهم، ويظهر أن الفلسفة لا تَسيح مطلقًا،
وكذلك لا تصلح فلسفة شعبٍ لشعب آخَر إلا قليلًا، وسبب هذا واضحٌ بالنسبة إلى البقاع
القاصية على الأقل، وذلك أنه لا يوجد غير أربعة أنواعٍ فقط، للآدميين الذين يقومون
برحلات طويلة، وهم: الملاحون والتجار والجنود والمبشِّرون، والواقع أنه لا ينبغي أن
يُنتظر كون الفُرقاء الثلاثة الأولى من الباحثين الصالحين، وأما الفريق الرابع
المتفرِّغ للإلهام الرفيع الذي يدعوهم، عندما لا يكون محلًّا لمزاعم الحال كجميع
الأخرى، فإنه لا ينبغي أن يُعتقد أنه لا يقوم مختارًا مباحث تُعَدُّ من الفضول
المحض كما يظهر، وتحوله عماد أُعِدَّ له من أعمالٍ أكثر أهميةً، ثم إنه لا يلزم غير
الغيرة للتبشير بالإنجيل تبشيرًا مُجديًا، والرب يُنعم بالبقية، ولكن دراسة الناس
تستلزم مواهب لا يتكفل الرب بإعطاء أحدٍ إياها، وهي ليست من نصيب القديسين في كل
حين، ولا يُفتَح كتابُ رحلاتٍ من غير أن يُطَّلع فيه على وصفٍ للأخلاق والطبائع،
بَيْدَ أن من دواعي الحيرة أن يُرى فيه كون هؤلاء الناس الذين كثر وصفهم للأمور لم
يقولوا غير ما كان يعرفه كل واحد سابقًا، ولم يُبصروا في الطرف الآخَر من العالم
غير ما يبدو لهم ملاحظته من غير أن يخرجوا من شارعهم، فهذه الخطوط الحقيقية التي
تميز بعض الأمم من بعض، والتي تُوجِّه العيون التي صُنعت لترى، قد غابت عن عيونهم،
ومن ثمَّ جاء المثل الخُلُقي الجميل الذي كثُر تكراره في السِّيمياء، وهو «إن الناس
أكفاءٌ في كل مكان»، فبما أن الناس ذوو أهواء واحدة وعيوبٍ واحدة في كل مكان، فإن
من غير المفيد بما فيه الكفاية أن يحاوَل وصفُ مختلف الشعوب، وهذا يعدل تقريبًا
إقامة الدليل على كون بطرس لا يمتاز من يعقوب؛ لأن لكل واحدٍ منهما أنفًا وفمًا
وعينين.
أَلَا يُرى مطلقًا، بعثُ تلك الأزمنة السعيدة التي لم تتفلسف الشعوب فيها قطُّ،
والتي كان يساور أفلاطون وثاليس وفيثاغورس فيها ولعٌ شديد بالمعرفة، فيقومون بأعظم
السياحات للثقافة فقط، ويضربون في الأرض لإلقاء نِير المبتسرات القومية عنهم،
وليتعلموا معرفة الناس بمطابقاتهم واختلافاتهم؛ ولينالوا هذه المعارف العامة غير
الخاصة بزمن أو بلدٍ حصرًا، فعُدَّت علمًا شائعًا بين الحكماء؟
أَجَلْ، يُعجَب بسخاء بعض محبي الاطلاع الذين قاموا — أو حملوا على القيام — عن
سعةٍ، برحلاتٍ في الشرق، وذلك مع علماء ومصورين لرسم قياساتٍ أو فكِّ كتاباتٍ أو
نسخها، غير أنني لا أكاد أتصور، في قرنٍ يُباهَى فيه بالمعارف الرائعة، عدم وجود
رجلين مُتحديْن، غنيٌّ أحدهما بالمال والآخَر بالنبوغ، مُحبَّين للمجد، راغبَيْن في
الخلود، فينفق أحدهما عشرين ألف دينارٍ من ماله، وينفق الآخَر عشر سنين من عمره،
للقيام برحلةٍ ذائعة الصيت حول الأرض ليُدرس الناس والطبائع فيها مرةً، لا الحجارة
والنبات دائمًا، وليريا معرفة سكان المنزل بعد أن قُضيت عدة قرونٍ في قياسه
وتأمله.
وكان رجال الأكاديمية الذين جابوا أجزاء أوروبا الشمالية وأجزاء أمريكا الجنوبية
يهدفون إلى زيارتهما كمهندسين أكثر منهم فلاسفةً، وبما أنهم مع ذلك كانوا جامعين
للصفتين معًا، فإنه لا يمكن أن يُعَدَّ مجهولًا تمامًا ما كان قد شاهده ووصفه أمثال
لاكوندامين وموبرتوي، ولم يَدَع الصائغ شاردان، الذي ساح كأفلاطون، شيئًا يقال عن
فارس، ويظهر أن الصين قد دُرست جيدًا من قِبَل اليسوعيين، وأبدى كِنبفر فكرةً
سائغةً عن الشيء القليل الذي رآه في اليابان، ولا نعرف بجانب هذه الرحلات شعوب
الهند الشرقية التي يقصدها أوروبيون أحرص على ملء جيوبهم مما على ملء رءوسهم، ولا
يزال جميع أفريقيا وأهليها الكثيرين المثيري العجب بأخلاقهم ولونهم يتطلب دراسةً،
وترى جميع الأرض زاخرًا بأممٍ لا نعرف غير أسمائها، ثم ترانا نتصدى للحكم في الجنس
البشري! وَلْنفترض أن رجلًا مثل مونتسيكو أو بوفون أو ديدرو أو دوكلو أو دالَنْبر
أو كونديَّاك أو أناسًا من هذه الجبلَّة قد ساحوا لتثقيف ابناء وطنهم، فوصفوا — بعد
تدقيقٍ كما يعرفون أن يفعلوا — تركيا ومصر والمغرب وسلطنة مراكش وغينيا وبلاد
الكفرة وداخل أفريقيا وسواحلها الشرقية والملبار ومغولية وضفاف الغنج وممالك سيام
وبيغو وجاوة والصين وبلاد التتر، ولا سيما اليابان، ووصفوا في النصف الثاني من
الكرة الأرضية بلاد المكسيك والبيرو والشيلي والأراضي الماجِلَّانية، وذلك من غير
نسيان البنتاغون الحقيقيين أو الزائفين، والتوكومان والبراغواي، إذا أمكن،
والبرازيل، ثم الكرايب، وفلوريدا، وجميع البقاع الوحشية، أيْ قاموا بسياحة أهمَّ من
الجميع، بسياحةٍ يجب أن تتم بأعظم عناية؛ وَلْنفترض أن أولئك الجبابرة وضعوا، على
مهلٍ، وبعد الرجوع من تلك الأسفار التي تستحق الذكر، تاريخًا طبيعيًّا وأدبيًّا
وسياسيًّا عما يكونون قد شاهدوه، فإننا نرى بأنفسنا ظهور عالمٍ جديدٍ من تحت
أقلامهم فنتعلَّم معرفة عالمنا على هذا الوجه، أيْ إنني أقول: إن مثل هؤلاء
الباحثين إذا ما قالوا عن حيوانٍ إنه إنسانٌ، وعن آخَر إنه بهيمٌ، وجب تصديقهم في
ذلك، ولكن من البساطة العظيمة أن يُركَن فوق ذلك إلى سائحين غلاظٍ يحاول أن يُلقَى
حولهم أحيانًا، عينُ السؤال الذي يذهبون إلى حلِّه بحيوانات أخرى.
(٩) يظهر لي هذا من الوضوح بمكان، فلا أقدر أن أتصور المصدر الذي يستطيع فلاسفتنا أن يستخرجوا منه جميع ما يعزونه إلى الإنسان الطبيعي من الأهواء، وإذا عدَوت الضرورة البدنية الوحيدة التي تقتضيها الطبيعة نفسها، وجدت جميع احتياجاتنا الأخرى ليست كما هي بالعادة، أو برغائبنا، التي لم تكن قبلها من الاحتياجات قطُّ، فلا يرغب فيما لا يُعرَف مطلقًا، ومن ثمَّ يُرى أن الإنسان الوحشي، إذ لم يرغب في غير الأشياء التي يعرفها، وإذ لم يعرف غير الأشياء التي تقع حيازتها ضمن مقدرته، أو يسهل عليه أن ينالها، لا يكون ما هو أهدأ من روحه، ولا ما هو أقصر من نفسه.
وعندي أن المهم يقوم على هذا، وذلك ما لم يكن هذا هو السبب الوحيد في أن الذكر والأنثى في الجنس البشري مُلزَمان بعِشرةٍ أطول مما تقوم به المخلوقات الأخرى، ويتجلى هذا السبب في قدرة المرأة على الحمل، وفي كونها تصبح حُبلى وتضع ولدًا قبل زمنٍ طويل من الوقت الذي يمكن الولد السابق أن يستغني فيه عن مساعدة أبويه فيستطيع أن يقضي حاجاته بنفسه، وهكذا فإن الأب إذا كان ملزمًا بالعناية بمَن أوجب ولادتهم لزمنٍ طويل، فإنه مُلزَمٌ أيضًا بإدامة العيش في عِشرةٍ زوجية مع ذات المرأة التي وُلِدوا له منها، وبأن يبقى ضمن هذه العِشرة مدةً أطول من عِشرة المخلوقات الأخرى التي تستطيع صغارها أن تقوم بمعاش نفسها قبل حلول الزمن الذي تقع فيه ولادةٌ جديدة، فتُقطَع الصلة بين الذكر والأنثى من تلقاء نفسها في أثناء ذلك، ويصبح كلٌّ من الجنسين في حِلٍّ من الآخَر حتى الفصل الذي تقضي عادته باقتران الحيوانات، فيُلزِمها بأن تختار لنفسها زوجاتٍ جديدةً، وهنا لا يُعجَب كافيًا بحكمة الخالق التي أنعمت على الإنسان بصفاتٍ خاصة يُدبِّر فيها المستقبل كما يُدبِّر الحاضر، فقضت بأن تدوم عِشرة الإنسان مدة أطول كثيرًا مما تدوم فيه عِشرة الذكر والأنثى بين المخلوقات الأخرى، وذلك لكي تكون حيلةُ الرجل والمرأة أكثر تفتقًا، ومصالحهما أكثر اتحادًا، وذلك وصولًا إلى نيل زادٍ لأولادهما وترك مالٍ لهما، فلا شيء يكون أكثر ضرًّا بالأولاد من قِرانٍ مبهمٍ غير ثابتٍ، أو من حلٍّ سهلٍ سريعٍ للعِشرة الزوجية.»
ويدفعني حبي للحقيقة، الذي جعلني أعرض هذا الاعتراض بإخلاص، إلى إضافة بعض الملاحظات إليه لإيضاحه على الأقل، إنْ لم يكن لحلِّه:
- (١)
ألاحظ قبل كل شيء أنه ليس للأدلة الأدبية قوةٌ كبيرة في موضوع الطبيعة، وهي أنفع لبيان سبب الوقائع القائمة مما لِتبيُّن وجود هذه الوقائع الحقيقي، والواقع أن هذا هو جنس الدليل الذي اتخذه مستر لوك في العبارة التي نقلتها، وذلك أنه مهما يكن دوام قِران الرجل والمرأة نافعًا للجنس البشري، فلا يدل هذا على كونه قد تم هكذا بفعل الطبيعة، وإلَّا لوجب أن يقال: إن الطبيعة أقامت المجتمع المدني والفنون والتجارة وكلَّ ما يُزعَم أنه مفيد للناس.
- (٢)
أجهل المكان الذي وجد فيه مستر لوك أن عِشرة الذكر والأنثى بين الحيوانات المفترسة أكثر دوامًا مما بين التي تعيش من العشب، وكون أحدهما يساعد الآخَر على تغذية الصغار؛ وذلك لأنه لا يُرى أن الكلب والهر والدُّب والذئب أحسن معرفة لأنثاها من معرفة الحصان والكبش والثور والوعل وغيره من ذوات القوائم الأربع لأنثاه، وعلى العكس يلوح أن مساعدة الذكر إذا كانت ضرورية للأنثى حفظًا لصغارها كان هذا، على الخصوص، في الأنواع التي لا تعيش إلا من العشب؛ وذلك لأن الأم تحتاج إلى وقت طويل جدًّا للرعي؛ ولأنها مُكرَهة على إهمال نِتاجها في جميع هذه الفاصلة، وذلك بدلًا من أن تُلتهم فريسة الدبة أو الذئبة في دقيقة واحدة، فيكون عندها من الوقت ما تُرضع فيه صغارها. ويؤيد هذا الاستدلال بما يُشاهد من عدد الثُّدي والصغار النسبي الذي يميز الجوارح من آكلة النبات فتكلمت عنه في التعليق الثامن، وإذا كانت هذه المشاهدة صحيحةً عامة، ولم يكن للمرأة غير ثديين، ولم تضع غير ولدٍ دفعة واحدة، كان هذا سببًا قويًّا مضافًا إلى ما تقدَّم للشك في أن النوع البشري من الجوارح عن طبيعة، فيجب أن يُرجع إلى استدلال لوك لاستخراج النتيجة التي انتهى إليها، ولا تجد ما هو أمتن من ذات التمييز الذي يُطبَّق على الطيور، فمَن ذا الذي يمكنه أن يُقنع نفسه بأن قران الذكر والأنثى بين العِقبان والغِربان أكثر دوامًا مما بين القمارى؟ ولدينا من الطيور الأهلية نوعان: البط والحمام اللذان يُزوِّداننا بأمثلة مناقضة لمنهاج المؤلف رأسًا، فالحمام الذي لا يعيش إلا من الحَبِّ يظل منضمًّا إلى أنثاه فيغذيان صغارهما بالاشتراك، ولا يعرف البط الذي يُعلم نهمه، أنثاه ولا صغاره وهو لا يساعد على غذائها مطلقًا، ولا يُرى بين الدجاج، الذي هو نوعٌ ليس أقل ضراءً مطلقًا، أن الديك يبالي بالرَّخم، وإذا كان الذكر في الأنواع الأخرى يشاطر الأنثى أمر العناية بتغذية الصغار؛ فذلك لأن الطيور التي لا تستطيع الطيران في البداءة ولا تستطيع أمها أن ترضعها أقل استغناءً عن مساعدة الأب من ذوات القوائم الأربع التي يكفيها ثدي أمها بعض الزمن على الأقل.
- (٣)
يوجد شكٌّ حول الأمر الرئيس الذي يصلح أساسًا لجميع استدلال مستر لوك؛ وذلك لأنه إذا أُريد أن يُعرف أن المرأة في الحال الطبيعية الصرفة هي، كما يزعم أن تكون حُبلى ثانية، وأن تضع ولدًا قبل أن يستطيع الولد السابق أن يقوم بحاجات نفسه، وجب وقوع تجارب لم يقم بها مستر لوك ولم ينتهِ إليها أحدٌ لا ريب، وإن سُكنى الزوج والمرأة في منزلٍ واحد فرصةٌ تُدني من حدوث حبلٍ جديد، فيصعب أن يعتقد أن اللقاء العارض، أو اندفاع المزاج، يُسفِر عن نتائج كثيرة الوقوع في الحال الطبيعية الصرفة كما تسفر عنه العشرة الزوجية، ومن المحتمل أن يساعد هذا البطء على جعل الأولاد أكثر قوةً، وأن يُعوَّض منه مع ذلك بخاصية الحمل التي تكون أكثر دومًا في عمر النساء اللائي لم يُسِئن استعمالها في شبابهن، وأما من حيث الأولاد فيوجد من الأسباب ما يحمل على الاعتقاد بأن قواهم وأعضاءهم تنمو بيننا في وقت متأخر عن زمن نموها في الحال الابتدائية التي أتكلم عنها، وما هو واقعٌ من ضعفٍ أصلي ينتقل إليهم من بنية الأبوين، وما يُؤتى من عنايةٍ في ستر جميع الأعضاء ومضايقتها، وما يُنشَّئون فيه من ترفٍ، وما يرضعونه من لبنٍ غير لبن أمهم على ما يحتمل، أمورٌ تباين تقدم الطبيعة فيهم وتعوقه، وما يكون من تطبيق يُلزَمون به على ألف شيء يُوجَّه إليه انتباههم باستمرارٍ، على حين لا تُحبى قواهم البدنية بأي تمرين كان، يمكن أيضًا أن يُسفر عن أُلهيَّةٍ عظيمة في نشوئهم، وذلك بأن يُترك تمرين أبدانهم لحركاتٍ مستمرة يلوح أن الطبيعة تطالبهم بها، فيكونون في حالٍ يمشون ويسيرون، ويقضون حاجاتهم معها بأنفسهم قبل الأوان، بدلًا من إرهاق نفوسهم وإتعابها.
- (٤)
ثم إن مستر لوك يُثبت، فضلًا عن ذلك، إمكان وجود عاملٍ في الإنسان يظل به مرتبطًا في المرأة إذا كان ذا ولد، ولكنه لا يُثبت مطلقًا وجوب ارتباطه فيها قبل الوضع وفي أثناء أشهر الحمل التسعة، وإذا كانت مثل هذه المرأة لا تبالي بالرجل في أثناء هذه الأشهر التسعة، وإذا ما أصبحت مجهولةً لديه أيضًا، فلِمَ يساعدها بعد الوضع؟ ولِمَ يُعِينها على تنشئة ولد لا يعرف أنه له، ولَمْ ينوِ ولادته ولَمْ يُبصرها، ومن الواضح أن يفترض مستر لوك ما هو مدار البحث؛ وذلك لأن الأمر لا يدور حول معرفة السبب في بقاء الإنسان مرتبطًا في المرأة بعد الوضع، بل حول السبب في ارتباطه فيها بعد الحمل، فإذا ما قُضِي الوطر عاد الإنسان لا يحتاج إلى مثل هذه المرأة، وعادت المرأة لا تحتاج إلى مثل هذا الرجل، ولا يساور هذا الرجل أقل همٍّ، ولا أقل فكرٍ عن نتائج عمله، فأحدهما ينصرف من ناحية وينصرف الآخَر من ناحية أخرى، ولا يوجد من الظاهر ما يدل على أنهما من الذاكرة ما يتعارفان معه؛ وذلك لأن هذا النوع من الذاكرة، التي يُفضل بها فردٌ فردًا آخَر لعملٍ نسليٍّ يتطلب كما أثبته في المتن تقدُّمًا أو فسادًا في الإدراك البشري أكثر مما يمكن أن يُفترض في الحال الحيوانية التي هي مدار البحث هنا، ويمكن امرأة أخرى أن تقوم إذن بقضاء أوطارٍ جديدة للرجل بسهولةٍ كما عرف سابقًا، وكذلك يُمكن رجلًا آخَر أن يقضي وطر المرأة، وذلك عن افتراض كونها معتصرة بذات الشهوة في حال الحبل، أيْ عن أمرٍ يمكن أن يشك فيه كما ينبغي. وإذا عادت المرأة في حال الطبيعة لا تشعر بهوى الرجل بعد الحبل عظم العائق لعشرتها مع الرجل كثيرًا، وذلك لما تعود غير محتاجةٍ إلى الرجل الذي لقحها، ولا إلى أي رجلٍ آخَر، ولا يوجد في الرجل، إذن، أيُّ داعٍ إلى البحث عن ذات المرأة، كما أنه لا يوجد في المرأة أيُّ داعٍ للبحث عن ذات الرجل، وتسقط برهنة لوك متداعيةً، ولم يَصُنْ هذا الفيلسوف منطقه من الخطأ الذي اقترفه هوبز وآخرون، وقد كان عليهم أن يوضحوا أمرًا عن الحال الطبيعية، أيْ عن حالٍ كان الناس يعيشون فيها منعزلين، فلا يكون لدى الإنسان من العوامل ما يعيش معه بجانب إنسانٍ آخَر، كما أنه لم يكن لدى الناس من العوامل ما يعيش معه بعضهم بجانب بعض على ما يحتمل، أيْ أن يأتوا ما هو شرٌّ، وهم لم يفكروا في الانتقال إلى ما قبل عصور المجتمع، أيْ إلى ما قبل الأزمنة التي يكون للناس فيها، دائمًا، موجبٌ يعيش به بعضهم بجانب بعض، والتي يكون للرجل فيها من الأسباب، غالبًا، ما يعيش معه بجانب ذلك الرجل أو تلك المرأة.
(١١) أحترز من الخوض فيما عليَّ أن آتيه من التأملات الفلسفية حول فوائد نظام اللغات ومساوئه، أيْ إنه لا يقع عليَّ أن أهاجم الأغاليط العامية، ويكثر احترام الشعب المثقف لمبتسراته، فلا يُطيق صابرًا بدائعي المزعومة، وَلْندع إذن يتكلم أولئك الذين لم يُجعل من الجناية جرأتهم على التزام جانب العقل، أحيانًا، تجاه أي جمهور، «فلو نفينا من العالم وباءَ كل هذه اللغات واختلاطها، ولو تمسك الناس بفنٍّ واحد وأمكنهم أن يفسروا كل شيء بالإشارات والحركات، ما نقص شيءٌ من سعادة الجنس البشري، والآن أبصرنا أن الحيوانات التي يدعوها العوام عجماوات أفضلُ منا حالًا من هذه الناحية، فهي تُعبر عن إحساساتها وأفكارها من غير ترجمانٍ بما هو أسرع وأسعد، وهذا ما يعجز عنه الناس إذا ما استعملوا لغةً غريبةً على الخصوص».
(١٢) بيَّن أفلاطون مقدار لزوم مبادئ الكمية ذات الأجزاء المتفرقة ونِسَبها في أحقر الصنائع، فحُقَّ له أن يسخر من مؤلفي زمنه الذين كانوا يزعمون أن بلاميد اخترع الأعداد عند حصار تروادة، كما لو كان أغاممنون يجهل مقدار ما لديه من سيقان (الجمهورية، باب ٧)، والواقع أنه يُشعر بتعذُّر تعيين ما كان قد انتهى إليه المجتمع والصنائع أيام حصار تروادة من غير أن تكون لدى الناس عادة الأعداد والحساب، غير أن ضرورة معرفة الأعداد قبل نيل معارف أخرى لا تجعل تصور اختراعها أكثر سهولةً، ولما عُرفت أسماء الأعداد مرةً سهل إيضاح معناها وإثارة ما تَنِمُّ عليه هذه الأسماء من الأفكار، بَيْدَ أن اختراعها اقتضى قبل تمثل هذه الأفكار نفسها أن تعود التأملات الفلسفية والنظر إلى الموجودات بجوهرها فقط مستقلةً عن كلِّ تصورٍ آخَر، أي اقتضى تجريدًا بالغ المشقة، بالغ ما بعد الطبيعية، قليل الطبيعية إلى الغاية، فلا تستطيع هذه الأفكار بغيره أن تُنقل من نوعٍ أو جنسٍ إلى آخَر، ولا أن تصبح الأعداد عامة، ويمكن الوحش أن يتأمل ساقه اليمنى وساقه اليسرى على انفراد، أو أن ينظر إليهما معًا تحت فكرة الزوجين التي لا تتجزأ، وذلك من غير أن يفكر في حيازته لاثنتين، وذلك لوجود فرقٍ بين الفكرة التمثلية التي تصور لنا موضوعًا والفكرة العددية التي تُعيِّنه، وأقل من ذلك قدرته على الحساب حتى الخمسة، وهو مع تطبيقه إحدى يديه على الأخرى يمكنه أن يلاحظ كون الأصابع تتطابق تمامًا، وهو بعيدٌ من التفكير في مساواتها العددية، وهو لا يعرف عدد أصابعه كعدم معرفته عدد شعره، وهو إذا ما سمع شيئًا عن العدد فقيل له: إن أصابع رجليه تعدل أصابع يديه عددًا اعترته حيرةً، على ما يحتمل، عندما يقابل بينها فيرى صحة هذا.
(١٣)
لا يجوز أن يُخلط بين الأنانية وحب البقاء، أيْ بين العاطفتين اللتين تختلفان
طبيعةً ونتيجةً، فحبُّ البقاء في ذاته شعورٌ طبيعيٌّ يدفع كل حيوان إلى السهر على
بقائه الخاص، ويُسفر عن الإنسانية والفضيلة إذا ما وجهه الإنسان بالعقل وعُدِّل
بالرأفة، وليست الأنانية غير شعورٍ نسبي مصنوع ناشئ في المجتمع، فيحمل كل فردٍ على
الاكتراث لنفسه أكثر مما لغيرها، ويوحي للناس بجميع الشرور التي يصنعونها مقابلة،
ويُعد مصدر الشرف الحقيقي.
وأقول بعد ذلك: إن الأنانية في حالنا الابتدائية، في الحال الطبيعية الحقيقية،
غير موجودة؛ وذلك لأن كل إنسانٍ، على الخصوص، إذ كان يَعدُّ نفسه الناظر الوحيد
الذي يشاهدها، الكائن الوحيد في العالم الذي يُعنَى بها، القاضي الوحيد في مزيته
الخاصة، فإن من غير الممكن أن يرسخ في نفسه أي شعورٍ ناشئٍ عن مقايساتٍ لا يستطيع
القيام بها، أيْ إن هذا الإنسان لا يستطيع لذات السبب أن يكون ذا حقدٍ أو رغبة في
الانتقام، أيْ متصفًا بهذه الأهواء التي لا يمكن أن تنشأ عن رأيٍ في إهانةٍ
تُتلقَّى، وبما أن الازدراء أو نية الإضرار، لا الشر، هو الذي يُوجب الإهانة، فإن
الناس الذين لا يعرفون أن يُكرِم بعضهم بعضًا، ولا أن يقيسوا بين بعضهم وبعض، يأتون
بضروبٍ من العنف مبادلةً عندما تلوح لهم فائدةٌ، وذلك من غير أن يحنق بعضهم على بعض
مقابلةً، والخلاصة هي أن كل إنسانٍ، إذ لا يرى أمثاله إلا كما يرى حيوانات نوعٍ
آخَر، يستطيع أن يختطف الفريسة من الأضعف ويتنزل عن فريسته للأقوى، عادًّا هذه
الأسلاب من الحوادث الطبيعية، وذلك من غير أدنى حركةٍ في الغيظ والعتو، ومن دون
هوًى آخَر غير الألم أو السرور حول حُسنِ النجاح أو سوئه.
القسم الثاني
(١)
مما يجدر ذكره إلى الغاية أن يُقلق الأوروبيون بالهم منذ سنين كثيرةٍ جلْبًا
لوحوش مختلف بقاع العالم إلى طراز حياتهم، وألَّا يستطيعوا كسب واحدٍ منهم حتى
الآن، ولو لنفع النصرانية؛ وذلك لأن مبشرينا وإن جعلوا أناسًا منهم نصارى أحيانًا
لم يحوِّلوا هؤلاء إلى أناسٍ متمدنين قطُّ، ولا شيء يستطيع أن يتغلب على ما يساورهم
من مقتٍ متأصلٍ لانتحال طبائعنا وطراز حياتنا، وإذا كان هؤلاء الوحوش البائسون من
الشقاء بمقدار ما يُزعَم، فبأي فساد في الرأي عريق يرفضون باستمرارٍ أن يتمدنوا
مقتدين بنا، أو أن يتعلموا العيش سعداء بيننا، وذلك على حين يقرأ في ألف مكانٍ أن
فرنسيين وأوروبيين آخرين لجئوا إلى هذه الأمم طوعًا، وقضوا حياتهم كاملةً بينها من
غير أن يُطيقوا ترك طراز عيش بالغ الغرابة كهذا، وذلك على حين يُرى أيضًا مبشرون
عقلاء يأسفون مع تحنُّن على الأيام الهادئة البريئة التي قضوها عند هذه الشعوب
المزدراة كثيرًا! إذا ما أجيب عن هذا بأنها ليست من الذكاء الكافي ما تستطيع أن
تحكم به حكمًا صحيحًا في حالها وحالنا، رددت بقولي: إن تقدير السعادة هو من علم
الشعور أكثر من أن يكون من عمل العقل، ومع ذلك فإن من الممكن أن يُردَّ هذا الجواب
علينا بشدة أقوى من تلك؛ وذلك لأن أفكارنا التي يتصرف فيها الذهن، حيث يجب أن يكون
لتمثُّل الذوق الذي يجده الوحوش في طراز عيشهم، أبعد من أفكار الوحوش في تمثلهم
طراز عيشنا، والواقع أنه يسهل عليهم أن يروا بعد بعض الملاحظات أن جميع أعمالنا
تتجه نحو غايتين فقط، وهما أطايب النعم لذاتها والمكانة بين الآخرين، ولكن ما
الوسيلة التي نتصور بها نوع ما يجده الهمجي من لذةٍ في قضاء حياته في وسط الغاب، أو
في صيد البحر، أو في النفخ في مزمار رديء من غير أن يعرف استخراج لحنٍ منه ومن غير
أن يبالي بتعلمه؟
لقد جُلب وحوشٌ إلى باريس ولندن ومُدُنٍ أخرى عدة مرات، وقد تزاحم الناس ليعرضوا
عليهم نفائسنا وثرواتنا وأكثر صنائعنا نفعًا وأدعاها إلى النظر، فلم يُثِرْ جميع
هذا غير إعجاب سخيف فيهم مع عدم إثارة أدنى درجةٍ من الشهوة، وأذكر فيما أذكر قصة
رئيس أناس من أمريكا الشمالية أتى به إلى بلاط إنكلترا منذ ثلاثين عامًا، فعُرض
أمام عينيه ألف شيء لتُقدَّم إليه هديةٌ منها يمكن أن تروقه، فلم يوجد فيها ما يظهر
أن يبالي به، وقد بدت أسلحتنا ثقيلةً عسيرة عليه، وقد جرحت أحذيتنا رجليه، وقد
ضايقته ثيابنا، فرفض جميع هذا، وأخيرًا رُئي أنه تناول غطاء من صوف فظهر أنه سرَّ
باشتمال كتفيه به، ويُسأل: «تلائمكم فائدة هذا الجهاز على الأقل؟» ويجيب: «أَجَلْ،
يلوح لي هذا نافعًا نفع جلد الحيوان.» ومع ذلك فإنه لم يكن ليقول ذلك لو لبس هذا
وذاك عند المطر.
ومن المحتمل أن يقال لي: إن العادة هي التي تربط كل واحد بطراز عيشه، وهي التي
تحول دون شعور الهمج بما هو حسنٌ في طراز عيشنا، فعلى هذه الحال يجب أن يُرى أن من
الخوارق القوية على الأقل أن العادة تنطوي على قوةٍ أشدَّ في إمساك الهمج ضمن ذوق
بؤسهم مما في إمساك الأوروبيين ضمن تمتعهم بسعادتهم، ولكنني لكي أقدم جوابًا عن هذا
الاعتراض الأخير لا يرد عليه بكلمة، ولكنني من غير أن أستشهد بشبان الهمج الذين
عُني بتمدينهم على غير جدوى، وذلك من غير أن يُحدَّث عن أهل غروئنلندا وأيسلندا
الذين سُعي في تنشئتهم وتغذيتهم في دنيماركا والذين هلكوا غمًّا وقُنوطًا، وذلك عن
ضنًى أو في البحر الذي حاولوا أن يعودوا به إلى بلدهم سبحًا. أكتفي بذكر مثال واحد
حُقق جيدًا فأقدمه إلى المعجبين بالسياسة الأوروبية ليدرسوه.
«لم تقدر جميع جهود المبشرين الهولنديين في رأس الرجاء الصالح على تحويل أحدٍ من
الهوتنتو عن دينه، وما حدث أن حاكم الكاب فان درستل أخذ واحدًا منهم منذ طفولته
ورباه وفق تعاليم النصرانية وأساليب العادات الأوروبية، وقد ألبس لباسًا زاهيًا،
وقد عُلِّم عدة لغات، وما نال من تقدمٍ ناسب جيدًا ما بُذل من عناية لرتبيته، وعلق
الحاكم أملًا كبيرًا على ذكائه، فأرسله إلى الهند مع وكيل عام انتفع به مستخدمًا في
أمور الشركة، ثم عاد إلى الكاب بعد موت الوكيل، وتمضي أيامٌ قليلة على رجوعه فيرى
في زيارةٍ قام بها لأناس من أقربائه الهوتنتو أن يخلع ثيابه الأوروبية ليلبس جلد
شاةٍ، ويعود إلى الأقوى بهذا اللباس الجديد حاملًا صُرَّةً مشتملة على ثيابه
القديمة، مُقدِّمًا إياها إلى الحاكم قائلًا: «تفضَّلْ يا سيدي بأن تعلم أنني عدلت
عن هذا الجهاز إلى الأبد، وأنني رجعت عن النصرانية لمدى حياتي، وأنني عزمت أن أعيش
وأموت على دين آبائي، وكل ما أطلبه من لطفك أن تترك لي العقد والخنجر اللذين
ألبسهما، فسأحتفظ بهما حبًّا لك.» وهو، من غير انتظارٍ لجواب فان درستل، لم يلبث أن
توارى فارًّا، ولم يُرَ ثانية في الكاب.» (تاريخ الرحلات، جزء ٥، صفحة ١٧٥).
(٢) يمكن أن يُعترض عليَّ بأن الناس في مثل هذا الاضطراب يتفرقون عند عدم وجود حدٍّ لتفرقهم، وذلك بدلًا من أن يتذابحوا بعناد، ولكن هذه الحدود كانت في البداءة حدود العالم على الأقل، وإذا ما فكر في فرط الأهلين الذي ينشأ عن حال الطبيعة، رُئي أن الأرض في هذه الحال لم تتأخر أن تُستر بالآدميين المضطرين إلى البقاء متجمعين على هذا الوجه، ثم إنهم يتفرقون إذا ما استفحل الشر. وقد وقع هذا التحول بين عشية وضحاها، غير أنهم كانوا يولدون تحت النير، وكان من عادتهم أن يحملوه إذا ما شعروا بثقله، وكانوا ينتظرون فرصة إلقائه عنهم، ثم بما أنهم تعودوا ألف رفاهيةٍ كانت تحملهم على البقاء مجتمعين، فإن التفرق لم يكن سهلًا كما في الأزمنة الأولى، حيث كان كل واحد يحزم من غير أن ينتظر موافقة أحد، وذلك لعدم احتياجه إلى غير نفسه.
(٣) روى المريشال دوفيلَّار أن إفراط أحد متعهدي الميرة في الاختلاس آذى الجيش وأثار تذمره، فعَزَّره بعنف وهدَّده بالإعدام شنقًا، فقال له المختلس بجرأة: «لا أبالي بهذا الوعيد، ويسهل عليَّ أن أقول لكم: إنه لا يُصار إلى شنق رجل يتصرف في مئة ألف دينار.» ويُعقِّب المريشال على ذلك قائلًا بسذاجة: «لا أعلم كيف هذا، ولكنه لم يُشنق قطُّ كما هو الواقع، مع أنه يستحقُّ الإعدام على ذلك مائة مرة.»