الفصل الرابع
وكنا نقطع الطريق صامتين، وسكنت العاصفة، فارتعشت الأشجار تنفض عن أغصانها قطرات الأمطار، وكان لم يزل على الأفق البعيد ومضان لبقايا البروق، وهبت من الأعشاب الرطيبة عبقات نشرها الهواء وقد دبت الحرارة فيه، وانقشعت السحب عن وجه السماء، فغمر القمر بأنواره قمم الجبال.
وذهب فكري يتلمس من الصدف أسرارها، وقد عجبت لها تجمع في ساعات بيني وبين امرأة ما كنت لأظن أنها موجودة عندما أشرقت الشمس، وها أنا ذا أصحبها في طريقها المقفر في العراء تحت جنح الليل.
لقد قبلت هذه المرأة أن ترافقني لوثوقها من شرف محتدي، فهي الآن تستند إلى ذراعي وتسير معي مستسلمة مطمئنة.
وكنت أرى في هذه الثقة كثيرًا من الجرأة، أو كثيرًا من السذاجة، وشعرت أن رفيقتي تجمع بين هذه وتلك؛ لأنها بهذه القوة المزدوجة دفعت بقلبي إلى عاطفة الطهر والافتخار.
وبدأ حديثنا يدور على المريضة التي تركنا في الكوخ، ثم تحول إلى مشاهد الطريق، وما خطر لأحدنا أن يوجه إلى الآخر ما يوجهه المتعارفان حديثًا، وتكلمت مدام بيارسون عن أبي باللهجة نفسها التي ذكرته بها للمرة الأولى؛ أي بلهجة فيها شيء من السرور الرصين، فبدأت أفهم كلما توغلت في الحديث معها سبب تكلمها بهذه اللهجة، لا عن الموت فحسب، بل أيضًا عن الحياة وما فيها من حوادث وآلام، فأدركت أن ليس في الأرض من ألم تراه مبعثًا للشكوى من الله؛ لذلك كان ابتسامها عبادة وتسليمًا لإرادته.
وحدثتها عن حياة العزلة التي اختارتها فقالت: إن عمتها كانت تجتمع بوالدي أكثر مما كان يتسنى لها أن تجتمع به هي؛ لأن عمتها كانت تلعب وإياه بالورق في السهرات، وأخيرًا دعتني إلى زيارتها.
وعندما وصلنا إلى منتصف الطريق أحست بالإعياء، فجلست على مقعد كانت وَقَتْهُ الأغصانُ الغضة بَللَ الأمطار، فوقفت أمامها أنظر إلى أشعة القمر الباهتة تنير جبينها، وبعد دقائق نهضت، وإذ رأتني ذاهلًا قالت: بماذا تفكر؟ أفما آن لنا أن نستأنف السير؟
– كنت أفكر في الغاية التي خلقك الله لها؛ فأدركت أنه أوجدك رحمة للعالمين.
– إنها لكلمة لا أحملها منك إلا على محمل الإطراء.
– ولماذا؟
– لأنه يلوح لي أنك لم تزل في ريعان العمر.
– أفليس في العالم مَن بلغوا من العمر أكثر ما تدل سيماؤهم عليه؟
– لقد يكون ذلك، كما أنه يمكن للإنسان أن يأتي بأقوال أنضج منه.
– أفما تعتقدين بالاختبار؟
– إن ما أعرفه عنه هو أن أكثر الناس يلقون اسمه على أحزانهم، أو على أعمالهم الجنونية، فما هو مبلغ المعرفة التي يتوصَّل إليها مَن كان في سنك؟
– رُبَّ رجل في العشرين رأى من الدهر ما لم تره امرأة في الثلاثين، فإن ما يتمتع به الرجال من الحرية يصل بهم إلى صميم الحياة بأسرع مما تصل النساء؛ فالرجال يتهافتون على ما يجتذبهم دون حائل، فيختبرون كل الأمور، فإذا ما لاح لهم أمل مشوا إليه، حتى إذا بلغوه ارتدوا عنه تاركين الأمل مضيعًا على الطريق، وقد خدعتهم السعادة بما منَّتهم من مواعيد.
وكنت أسير في كلامي على هذا النمط حتى بلغنا أكمة ينحدر الطريق منها إلى الوادي، وكأن الانحدار استهوى رفيقتي، فبدأت تقفز برشاقة، فجاريتها، وسرنا ركضًا وساعدانا مشتبكان والعشب المبتل تحت أرجلنا يزيد في انزلاقنا، وهكذا انحدرنا كطيرين أصابهما الدوار حتى بلغنا قاعدة الأكمة.
وقالت: لقد كنت متعبة فزال تعبي الآن، فهلَّا عالجت اختباراتك بما أعالج به تعبي … لقد سرنا بسرعة فسنتناول الطعام بشهية.