الفصل الثاني
في إبان الحروب الإمبراطورية، بينما كان الآباء والإخوة في بلاد الألمان، قذفت الأمهات المضطربات هذا الوجود بسلالة شاحبة عنيفة مستعرة الأحشاء؛ تلك سلالة تمخضت الحياة بها بين معركتين، وربيت في المدارس على دوي الطبول، فكان إذ ذاك ألوف من الأولاد يحدج بعضهم البعض الآخر شزرًا، وهم يُمرِّنون على القوة عضلاتهم الضعيفة، وكان الآباء الملطخون بالدماء يلوحون للأبناء من حين إلى حين، فيرفعونهم لحظة إلى صدورهم المحلاة بالذهب، ثم يتركونهم إلى الأرض ويعودون إلى صهوات الجياد.
ولم يكن في فرنسا غير رجل واحد يتمتع بالحياة، أما الباقون فكانوا يجتهدون أن يملئوا صدورهم من الهواء الذي كان ينشقه ذلك الرجل ثم يزفر به إلى الناس. وكانت البلاد تقدم له كل سنة ثلاثمائة ألف من شبانها جزية فُرضتْ للقيصر؛ ليتمكن وهو يجرها كالسائمة وراءه من بلوغ الأمجاد التي يطمح إليها، بل ذلك هو الركب الذي كان يحتاج إليه ليجتاز الدنيا مُتَّجهًا إلى الوادي الحقير حيث ترامى على جزيرة قفراء تحت أغصان الصفصاف الباكي.
وما مرت في التاريخ ليالٍ ساهدة كالليالي التي مرت في عهد هذا الرجل! وما شوهد في أي زمن من الأزمان مثل هذا العدد الغفير من الأمهات ينتحبن متفجعات باكيات على الأسوار والحصون! وما أصغى الناس برَهبةٍ إلى مَن يتحدثون عن الموت إصغاءهم في تلك الأزمان. ومع ذلك لم يشهد التاريخ مثلما تجلى في ذلك العهد من سرور ومن قوة حياة، وما أوقدت موسيقى الحروب من حماس في كل القلوب، وما لمعت في فرنسا شموس كتلك الشموس التي جففت على الأرض أنهارًا من الدماء، وكان الناس يصفونها بشموس أوسترلتز، ويعتقدون أن الله إنما يشرقها لخدمة ذلك الرجل، غير أنه هو كان يطلقها من أفواه مدافعه المرعدة، فلا تنعقد من نيرانها الغيوم إلا في اليوم التالي لمعاركه.
وكان أبناء ذلك العصر ينشقون الحياة تحت تلك السماء الصافية الأديم، حيث لمعت الأمجاد، وتموجت الأنوار منعكسة على الفولاذ، وما جهلت تلك الشبيبة أنها مُعدَّة للمجازر، ولكنها كانت تعتقد أن «مورات» أرفع من أن يناله الموت — وكانت رأت الإمبراطور يمرُّ بين كرات المدافع، ويقطع أحد المعابر هازئًا بنفثات البنادق، فداخلها الشك في إنسانيته، وحسبته من أبناء الخلود.
وما كان ملك الموت ليلقي الذعر في روع هذه الشبيبة وهو متشح برداء البهاء والجلال، تتصاعد منه أبخرة النجيع كأنه بشير الأمل لا نذير الفناء، وكأنه وقد حصد بمنجله حقولًا من السنابل الخضراء، استمد منها الفتوة فلاح غضَّ الإهاب، ناضر الشباب.
لقد أصبحت الشيخوخة وهمًا من الأوهام، واستحالت المهود كما استحالت النعوش أيضًا دروعًا، فخلت فرنسا ممَّن يدب على أرضها من العاجزين، فلم يبق على تلك الأرض إلا أنصاف آلهة أو أشلاء أموات.
وقف يومًا هذا الإمبراطور — الذي حسبه الناس خالدًا — على أكمة أشرف منها على سبعة شعوب تتناحر، وما كان يدري أيمتد حكمه إلى آخر العالم أم يقف عند نصف العالم، فمر به عزرائيل، وبلمسة من طرف جناحه دفع به إلى عباب الأقيانوس الفسيح.
وبلغ دوي سقوطه آذان الدول المنطرحة على أسِرَّة الاحتضار، فجلست تقاوم أوجاعها، ومد الملوك راحاتهم المتقلصة، فاقتسموا أوروبا، واتخذوا من وشاح القيصر مُرقَّعات يستترون بها.
يوصل المسافر السير بالسُّرى، ويقتحم الحر والقرَّ ووجهته مقر عياله، دون أن يشعر بثقل السهد، أو يبالي بما يحدق به من أخطار إلى أن يستقر بين أهله ويجلس أمام الموقد. حينئذ يحل عليه التعب، فلا يجد في عضلاته من القوة ما يستعين به على الزحف إلى مرقده. وما كانت فرنسا حينذاك إلا مثل هذا المسافر حين مات قيصرها فترملت، شعرت فجأة بما أثخنها من جراح، فسقطت لا تعي، واستغرقت في نومها حتى حسبها ملوكها الشيوخ ميتة، فطرحوا عليها الأكفان البيضاء.
ورجع الجيش القديم، فلولا أرهقها العياء، وعلا المشيب مفارقها، فعادت الأنوار تشع حزينة في باحات القصور المقفرة.
حينئذ أقبل رجال الإمبراطورية الذين جابوا الأقطار وملئوها دمًا على نسائهم الشاحبات، وقبَّلوهن متحدثين عن الغرام القديم، وتحولوا إلى مياه الغدران ينظرون فيها إلى وجوههم وقد خدَّدها الهرم، فتذكروا أبناءهم وهم يقتربون إلى الحين الذي يذكر الإنسان فيه من يغمض له أجفانه.
وخرج الأبناء من المدارس، وإذ لم يجدوا لا سيوفًا ولا دروعًا ولا فرسانًا، أجالوا الطرف مفتشين عن آبائهم، فقيل لهم إن الحرب قد انقضى عهدها؛ لأن القيصر قد مات، وإن صورتي ولنكتن وبلوخر معلقتان على جدران السفارات، وقد كُتب تحت كلٍّ منهما: «مُخلِّص العالم».
في ذلك الحين ربضت على أطلال العالم القديم شبيبة تتنازعها الهموم، وكان كل هؤلاء الشبان نقطًا من الدماء المحرقة التي غمرت وجه الأرض، ولدوا في أحضان الحروب للحروب، وراودت أحلامهم طوال خمس عشرة سنة ثلوج موسكو وشمس الأهرام. وما كانوا خرجوا من مدائنهم، ولكن قيل لهم: إن أبواب كل من هذه المدائن تقود إلى عاصمة من عواصم أوروبا. لقد كان العالم بأسره ماثلًا في خيال تلك الشبيبة، ولكنها كانت تجيل أبصارها على الأرض والسماء والطرق، فتراها كلها مقفرة خالية، ولا تسمع إلا رنين أجراس الكنائس تقرع الهواء من بعيد.
واجتازت الحقول أشباح ناحلة تتخطر على مهلٍ ساحبةً أردانها السود.
وطرقت الأشباح أبوابًا أخرى لتبرز للسكان أوراقًا أخلقها الزمان، وتأمرهم بإخلاء منازلهم، وانفرجت الحدود المقفلة عن رهط المهاجرين الذين هرعوا إلى فرنسا، ولم تزل على وجوههم آثار ما نزل من الخوف منذ عشرين سنة، وساد الصخب وعلا الضجيج، فدهش العالم لميتة واحدة تستجلب مثل هذا العدد الغفير من الغربان.
وجلس ملك فرنسا على عرشه وهو يقلب نظره في رياش قصره؛ خشية أن يكون قد تبقَّى عليه أثر من شارات الأمجاد البائدة، فتألب حوله رهط الممالئين يمد بعضهم يد الاستجداء، فينفحهم بالمال، ويقدم البعض الآخر له صليبًا فينحني مُقبِّلًا هذا الصليب.
وناجاه البعض بالمديح والإطراء، فأشار إلى مثل هؤلاء بالذهاب إلى القاعة الكبرى حيث تتكفل الأصداء بإذاعة مجد الملك العظيم … وزحف آخرون عند أقدام العرش عارضين ما أخلق الزمان من أرديتهم، وقد نزعوا عنها شارات العهد البائد، فكان الملك يأمر لهؤلاء الخونة بالخلع السنية …
وكانت الشبيبة تشهد هذه المهازل متوقعة ظهور خيال القيصر على شواطئ «كان» ليرسل عاصفته الكاسحة على هذه الحشرات.
تعثرت الآمال، وطال السكون، فلم تلُح في الآفاق غير الزنابق الصفراء شارة الملكية المتحكمة.
وسأل الفتيان عن الأمجاد فقيل لهم: اعتنقوا الكهنوت.
وسألوا عن الأماني فقيل لهم: اعتنقوا الكهنوت.
وسألوا عن الحب والقوة والحياة فقيل لهم: صيروا كهنة.
واعتلى المنبر في ذلك الزمن رجل يحمل عقد اتفاق بين الملك والشعب، فقال: جميلة هي العظمة والمطامع والحروب! ولكن هنالك ما هو أجمل منها جميعًا: هنالك الحرية.
فرفع الفتيان رءوسهم وتذكروا أجدادهم الذين تكلموا هم أيضًا عن الحرية، وعادت إلى مخيلتهم تلك الدُّمى الرخامية التي كانوا يرونها في زوايا بيوت آبائهم، وقد تدلت شعورها ونقشت على قواعدها تواريخ رومانية.
وتذكروا أيضًا أنهم شاهدوا أجدادهم في ليلة سمر يهزون رءوسهم، ويذكرون معارك تفجرت فيها الدماء بما يفيض عن النهر الذي أساله الإمبراطور؛ لذلك دوَّت كلمة الحرية في آذان هؤلاء الفتيان بصوت نبضت له قلوبهم، كأنهم يصغون في آن واحد إلى صوتين: أحدهما صوت الذكرى البعيدة المروعة، وثانيهما صوت الأمل المنشود يتراجع من مستقبل أبعد من الماضي.
هزت كلمة الحرية هؤلاء الفتيان بنشوتها السحرية، ولكنهم شاهدوا وهم عائدون إلى مساكنهم ثلاث جثث لثلاثة شبان تجرءوا على التلفظ بكلمة الحرية؛ فمرت على الشفاه ابتسامة ملؤها الأسى.
وارتقى المنابر بعد ذلك خطباء آخرون، فتكلموا عن مساوئ الحروب وأخطار الانتقاض، وأفاضوا بذكر المطامع وتكاليفها قائلين إن الحروب مذابح، والمعارك مجازر، وتكلموا تكرارًا وتكلموا طويلًا حتى تعرت النفوس من أمانيها كما تتعرى أشجار الخريف من أوراقها، فكان السامعون يمدون أيديهم إلى جباههم يتلمسونها كما يتلمس المحموم موضع شعوره وهو يفيق من غيبوبته.
وقال البعض: لقد سقط الإمبراطور لأنه أرهق الشعب، وقال آخرون: إن الشعب أراد الملكية بل الحرية، بل سيادة العقل، بل سيادة الدين، بل الدستور الإنكليزي، بل الحكم المطلق. فارتفع بين هؤلاء المفترضين صوت قائلًا: لا، لم يرد الشعب شيئًا، إنَّ ما أراده الشعب هو أن يرتاح.
وكانت عوامل ثلاثة تتنازع عواطف الشبيبة حينذاك: ماضٍ منقضٍ لم يزل يرتجف ظله على الأطلال حيث ثوت قوات الأثرة وعصور العنف، ومستقبل منفرج الأفق بعيد المجال لا يلوح منه غير أوائل ذرات النور، ومدى بين هذين الحدين أشبه بالمحيط الفاصل بين العالم القديم والعالم الجديد: مدى مضطرب كالبحر الزاخر تتلاعب به العواصف، فيهدد بالغرق كل ما يحمل، ولا يلوح عليه إلا بعض البواخر الجريئة تجتازه صاخبة من حين إلى حين.
ذلك هو العصر العتيد الفاصل بين ما كان وما سيكون، وقد تمازج فيه الماضي والمستقبل، فبات أهله لا يدرون أيمشون فيه على زرع أم على هشيم!
في مثل هذه المفاوز كان على أبناء العصر أن يهتدوا، وتلك هي المشاهد التي انتصبت أمام فتيان ملء إهابهم العزم والقوة، وهم أبناء الإمبراطورية وأحفاد الثورة. أما الماضي فما كانوا ليرتضوا به، وما يتحكم الإنسان في عقيدته، ولكنهم عشقوا المستقبل عشقًا شبيهًا بشغف بيكماليون، عاهل صور القديمة بشبح فاتنة من عالم الجن، فكان المستقبل في بصيرتهم كدمية من رخام هاموا بها، فباتوا يتوقعون تورد عروقها بدم الحياة. وهكذا لم يكن لهؤلاء الفتيان إلا زمانهم تسوده روح العصر، ملاك غسق لا ينفصل عن النهار ولا يتصل بالليل، وقد شهدوا هذا الملاك مقتعدًا كومة من العظام، متلفعًا برداء أنانيته، وأعضاؤه ترتجف من لفحات الصقيع.
فشعروا بغُصَّة الموت عندما لاح لهم هذا الشبح نصفه مومياء ونصفه جنين، فاقتربوا منه والروع يملأ قلوبهم كما يقترب السائح من مومياء ابنة أحد أشراف سارفاندان في ستراسبورغ حيث تعرض محنطة بحلي خطبتها، وما يتمالك من يشاهد هيكل هذه الطفلة من الارتعاش وقد تحلت يدها الممتقعة بخاتم العرس، وانتثر رماد رأسها على أزاهر الليمون البيضاء.
وكان نابليون بمروره على العالم قد زعزع كل ما فيه، كالعاصفة تجتاح الغابات فتهز باسقات أدواحها، وتغادرها واجمة في صمت رهيب، وكان الملوك قد شعروا بتيجانهم تميد، فمدوا إليها أيديهم، فلم تعثر إلا على شعورهم، وقد وقفها الذعر على رءوسهم.
وكان بابا رومة قد قطع ثلاثمائة فرسخ ليبارك الإمبراطور ويضع التاج على مفرقه، فلم يتورع هذا الإمبراطور من اختطاف التاج من يده.
وهكذا كان كل شيء قد ارتعش في غابة أوروبا القديمة المروعة، وعقب السكون هذه العاصفة الهوجاء.
يقال: إذا ما صادف السائر كلبًا هائجًا فتابع السير برباطة جأش، وبخطوات متزنة دون تردد، لا يلبث الكلب أن ينبح بهدير مختنق ثم ينصرف، ولكن إذا بدرت من عابر الطريق بادرة تدل على خوفه، فأخلَّ بانتظام خطواته مسرعًا بخطوة واحدة؛ فإن الكلب يتأثره مستأسدًا، وإذا ما نشب فيه أنيابه؛ فإنه لا يقف حتى يفترسه.
لقد رأت أوروبا أكثر من ملك ظهرت منه بادرة الخوف في تاريخها أمام شعبه، فذهب فريسة لهذا الشعب، ولكن مثل هذه الكارثة لم تكن تقع على الملوك جملة في آن واحد؛ لذلك سقط الملوك على التتالي، ولم تسقط الجلالة الملكية، ولكن أمام نابليون ارتعشت الجلالة الملكية نفسها، فبدرت منها البادرة التي تؤدي إلى الهلاك، وما ارتعشت جلالة الملك وحدها حينذاك، بل ارتعش معها الدين والشرف وكل سلطة إلهية وبشرية.
ولما مات نابليون، استعادت السلطات الإلهية والبشرية روعها، ولكنها لم تجد في الشعب من يعتقد بها بعد.
إن في معرفة ما يمكن أن يقع لخطرًا؛ لأن الفكر يتجاوز الإمكان بافتراضاته، وليس القول بإمكان وقوع أمر كالقول إنه لا بد واقع، وما التأكد إلا أول عضة للكلب المستأسد.
لم يكن نابليون العاتي إلا آخر شرارة من نار الاستبداد، فقد أعدم الملوك لينسج على منوالهم، ففعل بهم ما فعله فولتير بالكتب المقدسة.
وسمعت الدنيا بعد ذلك ضجة هائلة هي صوت صخرة القديسة هيلانة تسقط على العالم القديم، ولاحت نجمة التفكير في السماء بأشعتها الباردة كوشاح آلهة الليل، فغمرت بها الدنيا كأنها الكفن المروع.
كانت أوروبا قد رأت من قبل عددًا وفيرًا ممن يمقتون الأشراف، ويتهددون الكهنة، ويتآمرون على الملوك، ولكنها ما عرفت ابتسامة الاحتقار قبل أن مر الإمبراطور وتوارى عن العيان، فكان إذا اخترق الجمع شريف أو كاهن أو عاهل يهز الفلاحون رءوسهم، متذكرين ما شهدوا من معارك ويقولون: لقد نظرناهم في غير هذا الزمن، وفي غير هذا المكان، وقد كانت وجوههم على غير ما نراه اليوم.
وإذا ما ذكر أحد العروش والهياكل كانوا يقولون: إنها عوارض من خشب سمرناها نحن ثم اقتلعناها.
وحينما كان الخطباء يقولون: لقد رجعت عن غوايتك أيها الشعب، فدعوت إليك ملوكك وكهنتك، كان الشعب يجيب قائلًا: «نحن لم ندعهم، وما دعاهم إلا هؤلاء المتشدقون.»
وإذا قيل للشعب: «عد إلى الطاعة والسكون، افلَح الأرض واخضَع.» كان الشعب ينتفض وتتحرك السيوف في أغمادها وقد علاها الصدأ في زوايا الأكواخ.
ولكن الخطباء كانوا يضيفون إلى كل هذا قولهم: «عد إلى السكون أيها الشعب، فقد أضناك الجهاد بلا جدوى، ولا تطلب الاعتداء وليس مَن يعتدي عليك.»
فكان الشعب يرتضي بهذا القول. أما الشبيبة فما كانت لترضى به.
لا ريب في أن الإنسان تتنازعه قوتان مجهولتان تصليان داخله حربًا عوانًا إلى آخر حياته، فإحداهما تبحث وتسبر المستقبل بسكون متحسبة تستنبط أحكامها من العبر، والأخرى تتحفز للوثوب إلى المستقبل منجذبة إلى ما لا تعلم، وعندما تسود الإنسان عاطفته يتبعها العقل منذرًا باكيًا، وإذ يقف الإنسان مجيبًا لدعوة العقل تهتف الأهواء قائلة: «وأنا، هل يجب أن أموت؟»
وابتداء الأسى يختمر في القلوب الفتية؛ إذ حكم ملوك الأرض على الشبان بالراحة والسكون، وقذفوهم بأشد الأمراض أوجاعًا: بالبطالة والضجر، فأحسوا باضمحلال الأمواج التي كانوا أعدوا لمصارعتها سواعدهم القوية، وسادت المسكنة على هؤلاء المصارعين الذين كانوا مرَّخوا أعضاءهم عبثًا بالزيوت، فاندفع الأغنياء منهم إلى ميادين الفحشاء، وخضع المتوسطو الحال للقضاء، وتحولوا إلى الكهنوت والجندية. أما الفقراء فلم يجدوا سوى الحماس البارد، فارتموا فيه بالأقوال الجوفاء كما يترامى المجازف إلى البحر الذي لا ساحل له: بحر الابتلاء بالجدل بعيدًا عن العمل.
إن الضعف البشري يقود الناس إلى الاجتماع والتعاون، فلم يلبث هؤلاء الشبان أن اجتمعوا، فوجدت السياسة مرعاها الخصب بينهم، وهكذا كانت الشبيبة تخرج من مصارعة حراس المجلس التشريعي لتتجه إلى المسارح؛ حيث تشاهد «تالما» لابسًا قبعة تشبه قبعة الإمبراطور، أو تسير إلى المدافن لتحتفل بمأتم نائب من الأحرار، وتعود إلى مساكنها كل مساء شاعرة بفراغ حياتها وعبث محاولتها.
وما كانت حياة المجتمع الداخلية بأقل بؤسًا من الحياة الخارجية، فساد الناس الأسى والجمود، وتسلط الرياء على العادات، وأصبح الدين مشوبًا بالأفكار الإنكليزية، فاكتسح الحزن كل ما كان من دلائل المرح القديم.
ولعل العناية كانت تمهد بذلك طرقها الجديدة، فظهر الملاك المبشر بالمجتمع المنتظر ملقيًا في قلوب النساء بذور الحرية التي كانت ستطالب المرأة بها في آتي الزمان.
وانشق الرجال عن النساء في المجتمعات الباريسية، فلبست النساء البياض كالعرائس، واتشح الرجال بالسواد كالأيتام، وتبادل الفتيان لفتات العداء، وما هذا الثوب الأسود الذي يلبسه رجال عصرنا إلا دليل انقلاب مريع؛ لأنهم ما لبسوه قبل أن تساقطت شارات الشرف، فتمزقت الأزياء القديمة، وتناثرت أزهار الأثواب المزركشة على الحضيض، فكأن الإنسان بعد أن تحكم بعقله وهدم ما كان يغتر به من الآمال، وقف مُتَّشحًا بالسواد ليتلقى كلمات التعزية على المفقود، وسادت عادات طلاب العلم وأرباب الفن تطورات نشأت من التطور العام، بعد أن كانت تلك العادات مجلى الحرية الحقيقية، ومسرات الشباب النقية. انفصل الرجال عن النساء فأُصلت بينهما الاحتقار نصلًا لا شفاء لجراحه: فقد الرجل حب المرأة فاندفع إلى الكئوس ليستعيض ما فقد، ونظر الناس إلى الحب نظرهم إلى الدين والمجد، فرَأَوا كل ذلك أوهامًا تلاشت مع الزمان القديم.
وغصت المواخير بالرجال، فأصبحت الفتاة مهملة بعد أن كانت تغذي الشبيبة بحبها الطاهر السامي، وعندما احتاجت إلى غذاء ورداء باعت نفسها. فيا للشقاء! ويا للعار! لقد أهمل الشاب الفتاة، وكان في وسعه أن يستنير وإياها بأشعة شمس الله، وأن يقاسمها لقمته مأدومة بعرق جبينه، ولكنه تركها وسار إلى مزابل الإنسانية ليجد هنالك تلك الفتاة نفسها مثقلة بالهموم، شاحبة مضعضعة يجول على فمها الجوع، ويرعى قلبها الابتذال.
في ذلك الزمان ظهر شاعران هما أعظم عباقرة العصر بعد نابليون، فخصصا حياتهما لجمع ما تبدد في الأرض من مبادئ الشقاء والآلام، فكتب جوته عميد الأدب الجديد «آلام فرتر»، واصفًا الوله الذي يقود إلى الانتحار، ثم عاد فرسم في «فوست» أعظم صورة تمثل الشر والشقاء، واجتاحت كتاباته فرنسا كلها وهو جالس في بيته تحوطه السعادة، وتخدمه الثروة، فكان يرسل إلينا رشاش قلمه الأسود وعلى شفتيه ابتسامة الأب لبنيه …
وجاء بيرون من جهته يرفع صوت الحروب والفجائع، كأنه لم يجد من حلٍّ لسر الوجود غير كلمة العدم المروع.
عفوًا أيها الشاعران العظيمان! أنتما الآن ذرات رماد يفترش القبور، أنتما في عداد أنصاف الآلهة، أيها الشاعران، وما أنا إلا فتًى يُضنيه العذاب، ولكنني وأنا أُسطِّر هذه الكلمات لا أمتلك نفسي من إرسال اللعنة عليكما.
لماذا لم تتغنيا بعطر الأزهار وأناشيد الطبيعة، وبالأمل والحب وبالكروم، وشعاع الشمس، وبأنوار الشفق، وروعة الجمال؟ لقد عرفتهما كُنْهَ الحياة، ورأيتما الدنيا تتداعى فبكيتما على الأطلال، وأرسلتما أنين البائسين. لقد ذقتما خيانة الخليلات، وجفاء الأصدقاء، واحتقار أبناء الوطن، فدارت بكما أشباح الموت، وشعرتما بعفاء القلب. لقد كان كل منكما جبارًا من جبابرة الأحزان، ولكن قل أنت يا جوته! أما سمعت أذناك صوتًا واحدًا يؤاسي الحزين في هدير الأحراج المقدسة في بلادك؟ أفما تمكنت — وأنت من يعرف أن الشعر صنو الفلسفة — من العثور على زهرة السلوان في هذه الطبيعة الواسعة؟ ألم تلهمك الروح — وأنت المتصوف المعتقد بوحدة الوجود — ما يعينك على سكب قليل من العسل في تلك الكئوس الرائعة التي نحَتَّها للأجيال، وقد كانت ابتسامة واحدة منك كافية لاستهواء النحل فتنزل بجنيها على شفتيك.
وأنت يا بيرون! ألم تكن عائشًا تحت سماء إيطاليا الجميلة؟ ألم تكن تناجي أمواج الإدرياتيك وإلى جنبك المرأة التي أحببت؟
أنا الذي أُوجِّه إليك هذه الكلمات الآن، وما أنا إلا فتًى ضعيفٌ تحمَّل من الحياة ما لم تتحمله أنت من مصائبها وآلامها، إنني أؤمن بالأمل وأبارك الله.
وما هبت زعازع الأفكار الإنكليزية والألمانية على رءوسنا حتى سادنا الاشمئزاز برهة، ثم عقبه الاختلاج المريع. لا شيء يحول أملاح العواطف إلى بارود منفجر كالتلاعب في مواطن الشك بالمبادئ العامة، وكان جوته برأسه الجبار قد اعتصر كل ما في الثمرة المحرمة من خلاصة، فخيل للناس أن من لم يقرأ جوته لا يعرف من الحياة شيئًا، ويل لهؤلاء الناس! لقد انفجرت أفكارهم بملامسة أفكار جوته، فتناثرت ذرات تائهة في مهاوي الشكوك.
وساد الجحود تلك الأزمنة، فأنكر الناس كل ما على الأرض وكل ما في السماء، وما الجحود إلا آمال عاثراتٌ تدور بها الأحزان، فكأن الإنسانية كانت قد تراخت عزائمها فدخلت طور الاحتضار، فانحنى عليها المفكرون يجسون مواضع أنباضها ليتحققوا موتها.
وكانت شبيبة فرنسا شبيهة بذلك الجندي الذي أجاب من سأله: بم تؤمن؟ فقال: إنني أؤمن بذاتي. تجيب من يورد هذا السؤال عليها: إنني لا أؤمن بشيء.
وانشطر المجتمع إلى فئتين: فئة النفوس المضطربة المتوجعة التائقة إلى المثل العليا، فكان أبناؤها يحنون الرأس، ويبكون متلفعين بأحلامهم المؤلمة كأنهم مقصبة تتمايل على مستنقع من الشقاء. أما الفئة الثانية فكانت مؤلفة من رجال المادة والشهوات يقفون بلا مبالاة على ركام الملاذ، ولا همَّ لهم غير إحصاء الأموال التي حشدتها أطماعهم، وما كان يتصاعد من هذا المجتمع المؤلف من الفريقين سوى زفرة وضحكة: تلك ترسلها الروح، وهذه يقذفها الجسد، وكانت الروح تقول في زفرتها: إن الدين يتداعى، وهذه سحب السماء أصبحت غيومًا تتساقط أمطارًا. لقد فقدنا الأمل وحُرمنا حتى قطعة من الخشب الأسود نرفعها صليبًا لنمد أيدي الضراعة نحوها. لقد تلفعت نجمة الصبح بالغيوم الكثيفة على مطلع الفجر، فكأن الشفق يقبض عليها ليصدها عن الارتفاع، وكأنها شمس الشتاء ألقت الثورة عليها براقع الدماء.
لقد فنِيَ الحب واضمحلت الأمجاد، فما أحلك الظلام في هذا الليل المترامي بأطرافه على الأرض! ولسوف ندرك الموت قبل أن يتداركنا نور الصباح.
أما الأجساد فكانت تقول في ضحكتها: لقد وجد الإنسان للتمتع بحواسه، ولديه من القطع الصفراء والبيضاء ما يقيس به حق تمتعه بالكرامة، وما الحياة إلا الطعام والشراب والرقاد. أما العلاقات الاجتماعية فمنها المودة القائمة على استقراض المال، وقد تجد صديقًا تدفع العواطف به إلى هذه التضحية، ومنها صلات القربى، وهي نافعة للحصول على الميراث، ومنها الحب، وما الحب إلا رياضة بدنية. وليست اللذة العقلية إلا نوعًا من الغرور والكبرياء، وهكذا كان اليأس يتمشى بخطواته الواسعة ذارعًا أرض أوروبا كأنه الطاعون ينتشر في نهر الكانج في آفاق آسيا، وكان شاتوبريان قد قبض على صولجان إمارة الشعر، فلف اليأس برداء أسفاره ورفعه كالصنم على هيكل تتعالى حوله عبقات البخور، فانحنت شبيبة فرنسا على قواها المكبوتة يائسة تكرع كأس الآلام حتى الثمالة، وملأت الأقطار نفثات الأقلام المضللة بأدب لا لون له، فكأنه رشاش من دم آسن يُرسَل لتغذية مسوخ الحياة.
ومَن له أن يصف ما كانت عليه المدارس في ذلك الزمان؟ لقد كان الشك يسود الرجال، أما الشبيبة فقد كانت اجتازت مرحلة الشك، واستقرت على الجحود، وكان الشعراء يتغنون بالخيبة وعثرات الآمال، والشبان يتركون مقاعد المدارس، ويواجهون الحياة بسيماء تطفح بالبشر، وعلى لسانهم لعنة الكفر. وكان الطبع الفرنسي المائل إلى المرح ينيل الأدمغة مناعة تحتمل الأفكار الإنكليزية والألمانية، غير أن القلوب لم تكن منيعة لتقتحم النضال في الأوجاع فذبلت وانحنت على ذاتها كأنها أزاهر مقصوفة.
وهكذا اتجه مبدأ الموت إلى الأحشاء منسربًا إليها بهدوء من الأدمغة، فأنكرنا الخير بعد أن كنا نؤمن بالشر، وبلغ اليأس مرحلته الأخيرة فاستقر على الشعور الميت، وجلس أبناء الخامسة عشرة تحت ظلال الأشجار المُزهرة يتجاذبون من الأحاديث ما يهزُّ أشجار فرسايل الهرمة.
طوبى لمن لم تدركهم هذه الأزمنة فنزلوا إلى الهاوية وهم يتطلعون إلى السماء! إن من حالات الحياة ما يصدع القلوب بالشقاء فلا تجد هذه القلوب ما يفرج كربها إلا بإرسال اللعنات والتجديف.
وقف ملحد أمام السماء وقبض على ساعته متحديًا صاعقة الموت، وقد منح ربه مهلة ربع ساعة، وبات ينتظر. إنها لفترة ملؤها أشد غضب، وأفظع لذة. إنها لقحة بدايتها تناهي اليأس تحتكُّ بقوات السماء، وهل كان ذلك الرجل إلا مخلوقًا شقيًّا يتململ تحت الأرجل التي تركله؟ وهل كان صوته إلا نداء هائلًا تدفع به المحن والآلام؟ من يدري لعل هذا التحدي الموجه إلى السماء كان في عين من ينفذ إلى خفايا القلوب نوعًا من الصلاة …؟
وما كانت الشبيبة إلا كهذا الجاحد تفتح لقواها المكبوتة منافذ الفرج باليأس. إن من لا يجد أمامه ما يشغل به قواه يتخذ تسلية له من التجديف، فيتهكم على الدين والمجد والحب وعلى كل ما في العالم، تلك الوسيلة هي السبيل الذي يتبعه الإنسان ليخادع نفسه، فيتهكم عليها وهو يجدف على كل شيء.
يلذ للمرء أن يضع نفسه في مصافِّ الأشقياء حين يحكمه الضجر فيندفع إلى الفحشاء؛ لأنها أول ما تخطر على بال العاطلين، وهي الآلة التي تتلمسها الأعصاب الهائجة لتشد بها على نفسها تسكينًا لاختلاجها.
وكان الأغنياء يقولون: لا حقيقة إلا بالثروة، وأما ما سواها فأحلام؛ فلنتمتع بالثروة ولنَمُت.
وكان متوسطو الحال يقولون: لا حقيقة إلا بالسلوان، وأما ما بقي فأحلام؛ فلنَسلُ ولنَمُت.
أما الفقراء فكانوا يقولون: لا حقيقة إلا في العذاب، وأما ما سواه فأحلام، فلنُجدِّف ولنَمُت.
إنه لوصف مريع قد يحسبه البعض مبالغة، وما أنا إذ أُورِده مندفع بالعداء للإنسانية، فهو وصف للواقع. وهذا هو البرهان.
كل من طالع التاريخ وسبر غور الأسباب التي أدت إلى سقوط إمبراطورية روما، لا بدل له أن يرى ما انبعث عن المسيحيين من قوات دمرتها تدميرًا؛ فإن العظمة التي تجلَّت في هؤلاء المؤمنين أيام جهادهم ومحنتهم كانت قد استحالت إلى ضربات قاضيات عندما صارت القوة إلى أيديهم.
قال مونتسكيو: «لا يسعني وأنا أفتكر بحالة الشعب وهو رازح تحت استبداد الكهنوت اليوناني إلا أن يخطر ببالي أولئك العبدان الذين أتى هرودوت على ذكرهم، وهم من كانوا يمخضون اللبن لاستخراج زبدته، وكان أسيادهم يقتلعون أعينهم كيلا يتلهَّوا بالمشاهد عن متابعة العمل دون انقطاع، وهكذا كان الكهنة في روما يمنعون النور عن كل مبصر، فلم يكن يقرر القيام بحرب، أو عقد هدنة أو قرض، أو الإتيان بأي عمل دون أن تنظر الرهبنة فيه أولًا. إن القلم ليكلُّ دون وصف الأضرار التي نتجت عن هذه الأعمال.»
على أن مونتسكيو كان بوسعه أن يتم كلامه قائلًا:
إذا كانت المسيحية قد هدمت العروش، فإنها أحيت الشعوب. إذا كانت قد فتحت للبربر أبواب القسطنطينية، فإنها قد فتحت أيضًا أبواب الأكواخ باسم المسيح. وما كان بالأمر الضروري أن تحتفظ روما بمجدها المتداعي وهي المومياء المحنطة بعطر نيرون، والمكفنة بوشاح تيباريوس وقد رعى أحشاءها دود الفساد.
إنما عمل المسيحية، أيها السياسيون، كان يتجه «إلى إدخال السلام على قلوب الفقراء البائسين، وإلى إخراج الأمل من أحشاء المومياء الفاسدة قوة حية تعضد كل مظلوم»، وذلك ما قامت به المسيحية على أنقاض روما، ولكن ماذا فعل خلفاء هادمي روما بعد مرور السنين؟ إنهم لبثوا ينظرون إلى الفقير يرهقه الغني، وإلى القوي يستبد بالضعيف، ويسمعونه يقول: «إن الأقوياء سيسحقونني على الأرض، غير أنني سأقف في وجوههم عندما سيحاولون دخول السماء، فأشكوهم إلى الله.»
هكذا صبر هؤلاء المؤمنون فيما مضى، ولكن أعداء المسيح وقفوا وصاحوا بالفقير قائلين: إنك صابر تتوقع ظهور العدل، والعدل لا وجود له. إنك تنتظر البعث لتخلص من الظلم في الخلود وليس من خلود. أنت تدخر دموع أطفالك ونُواح امرأتك لتحملها إلى أقدام عرش الله بعد موتك، وما بعد الموت من حياة، فإن الله غير موجود.
وعندما سمع الفقير هذا؛ جفَّف أجفانه وقال لامرأته أن تكف عن النواح، ونادى بأولاده ليقف معهم على الخرق البالية كالثور الهائج، وصرخ في وجه الغني قائلًا: «ما أنت إلا رجل أيها الظالم.»
ثم التفت إلى الكاهن وقال له: «لقد كذبت أيها المُعزِّي.»
وهذا ما كان يقصده أعداء المسيح، ولعلهم حسبوا أنهم يسعدون الفقير بإرساله على سبيل المطالبة بالحرية.
ولكن إذا فهم هذا البائس أن الأغنياء يسلبونه حقه، وأن الكهنة يتاجرون بجهله، إذا ما عرف أن للناس حقًّا واحدًا في الحياة، وأن الفقر هو الكفر بعينه، فإن إيمانه لينحصر حينئذٍ بقوة ساعده، فيهتف قائلًا: لأُصْلينَّ الأغنياء حربًا عوانًا. إن اللذات للجميع على السواء، إن الأرض لي أنا أيضًا ما دامت السماء خاوية خالية.
أيها المفكرون الذين يقودون الفقير إلى هذا الموقف، أية كلمة تدخرونها لشقائه إذا هو اقتحم المعترك فسقط مغلوبًا على أمره؟
لقد يكون حبكم للإنسانية المعذبة قد أهاب بكم إلى المناداة بهذه المبادئ، ولقد يجيء يوم يبارككم الناس فيه. أما اليوم فلا يسعنا أن نُرسل البركة إليكم.
لقد كان الغني يقول للفقير فيما مضى: لي الأرض، فيجيبه الفقير: أما أنا فلي السماء. فبأية كلمة سيجيب الفقير الغني الآن؟
إن علل هذا العصر كلها قد نشأت عن سببين، فإن الشعب الذي مر على ثورتي سنة ١٧٩٣ و١٨١٤ قد خرج منهما بجُرحين. كل ما كان قد زال، وكل ما سيكون ليس كائنًا بعد. هذان هما السببان، فمن العبث أن نفتش عن ثالث لهما.
ما حالنا إلا حال رجل تداعى مسكنه إلى الحضيض وقد بعثر أنقاضه ليقوم ببناء جديد. شمر الرجل عن ساعد الجد، وبدأ العمل وهو منتظر ورود الحجارة البيضاء الجديدة لرفع البناء، ولكن قيل له: إن الحجارة البيضاء بعيدة المنال؛ فعليه أن يصلح الحجارة السوداء القديمة. وسطا الذهول على هذا العامل الذي لا يريد أن يرفع بيته بمواد أخلقها الدهر، وموهتها الأيام بالسواد، ولكن ما العمل والمحجر عميق، ولا أدوات لديه لاستخراج الحجارة منه؟
وقف المتفرجون حوله وقالوا له: استخرج الحجارة من حين إلى حين، واشتغل على مهلٍ.
وتكاثرت النصائح تبذل لهذا الرجل وهو واقف تحت سماء الله. لقد تهدَّم بيته القديم ولا بيت جديد له، فهو عرضة للحر والقر، لا يعلم أين يعمل، وأين يرتاح، وأين يأكل، وأين ينام، وأين يحيا، وأين يموت، وهو متعب مضطرب، وأطفاله يبكون في أسِرَّتهم في العراء.
ومن أشبه بهذا الرجل منا؟
أي بني القرون المقبلة، إنكم ستنحنون في زمانكم على المحاريث تمزق أحشاء الأرض، فتبسم لكم بمروجها ونباتها أُمًّا بارة بالعاملين تغني لهم وهي تجر برود الأنوار في الصباح. في تلك الأزمنة سيكلل العرق جبينكم بالفرح والحبور، وإذ تسرحون أنظاركم على الآفاق الواسعة، فإنكم لن تجدوا في حقول الإنسانية إلا السنابل تتماوج متساوية وقد رصعتها الأزهار.
في ذلك الحين، عندما ترفعون رءوسكم لتؤدوا الشكر لله، أيها الأحرار؛ لأنه أوجدكم في عصر الحصاد، افتكروا فينا نحن الراحلين، وتذكروا أن ما تتمتعون به من هناء وسلام قد كلفنا كثيرًا من الشقاء.
ترحموا علينا أكثر مما تترحمون على سائر من تقدموكم في مراحل الأجيال؛ لأننا تحملنا أوجاع أجدادكم دون أن نتمتع بما كان لهم من عزاء …