الفصل العاشر
لو أنني كنت صائغًا وأردت أن أقدِّم عقدًا من اللؤلؤ مما اكتنزت، لما كان يبلغ سروري أشده إلا إذا أنا قلَّدته بيدي للمُهدَى إليه، ولو كنت أنا من يتقبل الهدية لكنت أُفضِّل الموت على أن أنتزعها انتزاعًا من مُقدِّمها.
ولكم رأيت من الناس من يسارعون إلى وصال من يعشقون من النساء! أما أنا فكنت أسير على عكس هذه الطريقة مدفوعًا إلى اختيارها بداهة لا تعملًا وقصدًا، فإن المرأة التي تحب قليلًا وتقاوم لم يبلغ الحب منها مداه. أما التي يتملكها الهيام؛ فإنها لا تقاوم إلا لشعورها بعدم تكامل الحب في قلب مراودها.
وازدادت ثقة مدام بيارسون بي، وما كنت أعهد بها بمثل هذا الاستسلام من قبل أن تعترف لي بحبها، وما كان ما أُبديه لها من احترام إلا ليثير فيها سرورًا شديدًا تظهر أماراته على وجهها الصبوح كأنه زهرة تنور من انتعاش فؤادها، وكانت تذهب بعض الأحيان بسرورها إلى المرح الصاخب لتقف فجأة مستغرقة في التفكير، ثم تعود إلى معاملتي كأنني طفل تداعبه، فلا تلبث حتى تغرورق عيناها بالدموع، فتجهد خيالها لتخترع كلمة أو حركة ملاطفة تعلل بها حالها، وتبتعد بعد ذلك عني مُنتحيةً مقعدًا لتستسلم عليه لتفكيرها.
أفي العالم مشهد أجمل من هذا المشهد؟ وكنت كلما التقينا تحت ظلال الشجر أهتف بها قائلًا: إن الله نفسه ليُسرُّ مما تثيرين بي من حب لك.
وما كنت مع هذا لأتمكَّن من إخفاء ما تفعل بي أشواقي، وما أعاني من مغالبة شهواتي.
وكنت عندها ذات ليلة فقلت لها: إنه بلغني أنني خسرت دعوى هامة لها شأنها في أعمالي.
فقالت: أتخبرني بمثل هذا وأنت ضاحك؟ فقلت: لقد أعلن أحد شعراء الفرس أن من تحبه حسناء لا ينال منه القدر.
فأطرقتْ ولم تجب، وحاولت أن تظهر بمظهر السرور أكثر من عادتها ذلك المساء، وجلست إلى عمتها ألعب بالميسر، فكانت هي تداعبني وتعمل على نكايتي منتقدة ضروب ألعابي، وراهنت ضدي حتى خسرت كل ما كان معي من المال.
وعندما انسحبت العجوز إلى غرفتها خرجت بريجيت إلى الشرفة فلحقت بها، وهنالك شملنا الصمت أمام ذلك الليل الرائع وقد جنح القمر إلى مغربه، ولمعت النجوم في قبته، وقد اكفهرت آفاقه الزرقاء، وسكن النسيم عن الأشجار، فما لاح لها أملود، فعبق الجو بعطر الأزهار.
وكانت مسندة ذراعها إلى متكأ الشرفة متطلعة إلى السماء، فانحنيت إلى جنبها أتفرس في ملامحها، فجذبت عيناي إلى هدف عينيها في العلاء، وشعرنا كلانا بنشوة من عبق الأزهار ونحن نشيع بأبصارنا آخر ما أبقى القمر على الأفق من نوره الباهت وهو يتوارى وراء غاب الكستنا السوداء.
وتذكرت اليوم الذي شخصت فيه إلى هذا الأفق الوسيع الباهر حين قبض اليأس على مشاعري، فلم أجد فيه غير الفراغ، فارتعشت وأنا أراه الآن ولا فراغ في أية ناحية فيه، وخيل إليَّ أنني أسمع نشيد الحمد يرتفع من قلبي، وأن غرامنا يتعالى مع هذا النشيد إلى عرش الله.
وطوقت محبوبتي بذراعي، فأدارت وجهها نحوي على مهل وقد انهمرت من عينيها الدموع، فالتوى خصرها وارتمت بشفتيها المنورتين على فمي، وتوارى أمامنا الوجود …