الفصل الحادي عشر
من له أن يصف ما في صمتك من معانٍ أيها الملاك الناشر جناحيه أبدًا على ليالي الملذات؟ أيتها القُبلة تتساقى الشفاه بها الرضاب المسكر كأسًا تندفق على كأس، لأنت خالدةٌ كمبدأ الوجود.
يا لنشوة الغرام، وأنت حافزة كل كائن وصِلةُ جميع الكائنات، بأي بيان تناولك مَن تجشموا وصفك؟ لقد دعوك عاطفة زائلة، وأنت الدائمة المبدعة، فقالوا: إنك التماعة خاطفة أنارت وشيكًا أيامهم الدابرات. قالوا: إنك كلمة أقصر من لفظة الحياة على شفاه المدنفين، بل صرخة حيوان يهزُّه الشبق، ويعجب لقصر بقائه ناظرًا إلى شعاع المصباح الأبدي نظره إلى شرارة تنقدح من حصاة.
لا عجب إذا دنَّس الناس اسمك أيها الحب وأنت روح الوجود، وأنت الشعلة المقدسة قضت الطبيعة على نفسها إمدادها بالوقود في هيكل الله فلا يخبو لها نور.
أنت محور الوجود، أيها الحب، وبك قوام كل موجود. إن أرواح الفناء لتفنى إذا هي نفخت على لهبك، وإنني لا أعجب أن يدنس اسمك من جهلوك إذ حسبوا أنهم عاينوك؛ لأنهم فتحوا عيونهم على الحياة، وأنت عندما تمر بتابعين أخلصا لك تجمعهما بقبلة، وتأمر أجفانهما بالانسدال على أحداقهما، كيلا يبصرا بالسعادة على هذه الغبراء.
ولكن أنت يا من نراك وأنت لنا، أيتها البسمات المتراميات على الشفاه، أيتها اللمسات الحائرة، أيتها المناغاة الأولى المترددة على شفة الحبيبة، أمحررة أنت من سلطان الله بأكثر من سائر ما في الوجود؟ وهل أنت إلا ملاك يرف في مأوى عاشقين لينزع النوم من أجفانهما فينتبها من السبات الذي ألقاه الله عليهما؟
أي بنات نشوة الهوى … لكم أنتن عزيزات على قلب أمكن! أيتها النجوى بين عاشقين، الهاتكة أوائل الأسرار بالملمسات المرتجفة متملصة على مهل من عفافها، أيتها النظرات الشرهة ترسم على صفحات القلب أوائل الخطوط الغامضة لصورة المحبوب.
أيتها المملكة العظمى القائمة على الفتح المبين، وفي أرجائك وتحت أعلامك ينشأ العاشقون.
أيها التاج الذي يعصب رأس المحبين بالغبطة والحبور، فيلقون من تحته أول نظرة على الوجود، فينجلي لهم من خلال عاطفتهم الثائرة. أيتها الخطوات الأولى يسير بها العاشق إلى قرب مَن يهوى، مَن يقدر على تناولك ببيانه، وأية كلمات بشرية تصل إلى تصوير أضعف لمساتك؟
إن من خرج في صبيحة بليلة بغض إهابه من باب سري تدفع مزلاجه يد محبوبة، فمشى بخطواته الحائرة إلى حيث لا يدري، فاجتاز مجتمع الناس ولم يسمع صوت صديق يناديه، واتجه إلى مكان منعزل ضاحكًا باكيًا دون أن يعلم ما يضحكه وما يبكيه، ومسح وجهه بكفه مستنشقًا آثار ما عبق عليه من عبير، ونسي فجأة جميع ما أتاه على الأرض إلى ذلك الحين. إن من وجه خطابه إلى الأشجار النائمة على جانب طريقه، وما يرفرف عليها من أطيار، ثم رأى نفسه بين الناس مضيعًا رشده في حبوره، فجثا شاكرًا ربه على ما أنعم عليه، لهو هو العاشق، وله أن يموت غير متذمر من القضاء؛ لأنه امتلك المرأة التي يحبها.