الفصل الثاني

إن للعاشقين شيئًا من الركود الآسن يطفو عليه مرح كله مرارة وألم، وما حالتهم هذه إلا نتيجة حياة تتحكم فيها شاردات الأهواء لا حاجة الأجساد؛ فما جسد الفاسق إلا مطية تفكيره الجموح، وما تَقِيه الإرادة وقوة الشباب مغبة التفريط إلا إلى حين؛ لأن للطبيعة انتقامها الدساس الخفي، وإذا انتبهت القوة يومًا لاستعادة ما هدر منها؛ فإنها تجد الإرادة المشلولة تترصدها لتدفع بها من جديد إلى التفريط.

إن الفاسق الذي أفلت زمام التمتع من يده لا يجد غير ابتسامة الازدراء يقابل بها كل ما كان يثير شهواته، فهو يقتحم ملاذه بثورة الأعصاب لا برصانة القوة، وما يستولي الفاسق على ما يحب إلا عنوة واغتصابًا، وقد أصبحت حياته ملتهبة محمومة، فيلجأ إلى المُسكر وإحياء الليالي في المواخير ليرتفع بأعضائه المنهوكة إلى مستوى الملذات.

إن مثل هذا الرجل يحس في أيام ضجره وتراخيه بالمجال السحيق بين قوته وشهوته بأكثر مما يشعر به أي رجل آخر، وإذا ما أراد مقاومة ما حوله من مغريات فإنه يلجأ إلى الكبرياء مستمدًا منها الاعتقاد الوهمي بأنه يزدري هذه المغريات، ولا يأبه لها.

وهكذا لا يني الفاسق متنقلًا على ولائم حياته، وقد قبض الغرور على عنقه ليجره جرًّا بين سُعارى شهوته وكربته حتى يدفعه إلى هاوية الفناء، وبالرغم من أنني كنت أفلتُّ من زمرة الفاسقين؛ فإن جسدي تذكَّر فجأة أنه كان محشورًا بينهم، وما كنت لأشعر بمثل هذا الانبعاث من قبلُ حين اجتاحني الحزن الشديد لوفاة والدي، ثم جاء الحب المبرح يشغلني فارتد الملل عني وأنا في عزلتي. وما يهم المنفرد إن دار به الفرح أو ساورته الأحزان.

إن «الزنك» لا يدفع بالشرر الكامن فيه إلا إذا احتك «بالنحاس» النقي، وقد جاءت قبلات بريجيت كهذا النحاس تقدح ما كمن في أعماق فؤادي، فكنت وأنا أواجهها أستجلي حقيقتي فأعرف نفسي.

وقد كنت أصبح أحيانًا وأنا شاعر بحالة جد غريبة في تفكيري، فأحسبني قضيت ليلي في وليمة ترك بي طعامها وشرابها ما أنهك قواي، فتتعبني أضعف المؤثرات الخارجية، وكل الأشياء التي عرفتها واعتدت النظر إليها تورثني الملل والنفور، فإذا تكلمت سخرت بأقوال الناس وبخواطري نفسها، فكنت أستلقي على مقعد مستسلمًا للكسل، معارضًا في تنفيذ ما قررناه من تنزه، مستعيدًا ما كنت قلتُه فيما مضى لحبيبتي من كلمات التودد والإخلاص، مفسدًا بذلك تذكار أيام الهناء.

وكانت بريجيت تنظر إليَّ حزينة وتقول: بالله دع هذا يا أوكتاف، إذا كنت تضمر شخصيتين مختلفتين؛ أفما بوسعك أن تدع الشخصية الطيبة وشأنها عندما تتبين فيك الشخصية الشريرة؟

وما كانت معارضة بريجيت لضلالي إلا لتزيدني استغراقًا في مرحي المزعج، وما أغرب طبيعة الإنسان المتألم! فهو يرمي أبدًا إلى إيلام مَن يهوى، وهل من داء أفظع من داء العجز عن التحكم في الذات؟

وما أشد ما تحتمل المرأة إذ ترى الرجل الذي ضمت إلى صدرها ينقلب هازئًا بلا مبرر بأقدس ما في ليالي الهناء من أسرار! وكانت بريجيت تتجلد فلا تتهرب مني، بل تبقى إلى جنبي منحنية على قطعة تطرزها، وأنا ذاهب بمهازلي القاسية أنال من الحب، وأنزل به أوجع الإهانات، وهي تنظر بصبر إلى فمي ولمَّا يزل مُرطَّبًا بقبلاتها يتدفق تحقيرًا وجنونًا.

وكنت في الأيام التي تجتاحني فيها مثل هذه النوب أندفع إلى ذكر ما قضيته في أيام الفحشاء في باريس، فأُصوِّرها كأنها خير حياة، وأقول لبريجيت: ما أنت إلا قانتة متعبدة؟ وهل لك أن تعرفي ما هي هذه الحياة؟ فليس في الناس خير ممَّن لا تنالهم الهموم إذ يمارسون الحب دون أن يعتقدوا به.

فكأنني كنت أعلن لها بصراحة أنني لا أعتقد بالحب أنا أيضًا.

وتقول لي بريجيت عندئذ: إذ كان الأمر على ما تقول، فما عليك إلا أن تُعلِّمني ما أرضيك به، ولعلي لستُ أقلَّ جمالًا من معشوقاتك اللواتي تأسف لفراقهن، وإذا رأيت أنني محرومة من المعرفة التي كُنَّ يُبدينها لتسليتك على طريقة خاصة، فأنا مستعدة لاقتباسها، ولتكن معاملتك لي كأنك لا تحبني، ودعني أحبك دون أن أعلن لك حبي، فما أنا أقل عبادة في هيكل الحب مني في هيكل الصلاة. قل لي ما يجب أن أفعل لتؤمن بما أقول.

وأراها بعد ذلك تقف إلى مرآتها لترتدي في رائعة النهار ملابس السهرات والمراقص متظاهرة بالتدلل — وما هي من بنات الدلال — محاولة تقليدي، فتضحك وتطفر في الغرفة قائلة: أتراني على ذوقك الآن؟ وأية خليلة من خليلاتك أشبه؟ أفما بي من الجمال ما يكفي لإقناعك بإمكان الاعتقاد بالحب؟ أفما تلوح عليَّ دلائل مَن لا يبالون بالحياة؟ وإذا بي أرى الأزهار المكللة ضفائر شعرها المعقوص ترتجف وهي مولية ظهرها لإخفاء تصنعها، فأنطرح على قدميها قائلًا: كفاك تقليدًا، إنك لتذهبين بعيدًا في محاكاة مَن لم يتورع فمي عن ذكرهن أمامك. انزعي هذه الأزهار، واخلعي هذا الثوب، ولنغسل هذا المرح بدمعة صادقة، دعيني أنسى … أنني الولد الآبق؛ فقد كفاني ما أتمثَّل من ماضي حياتي.

غير أن هذا الندم نفسه كان جافيًا؛ إذ يبين لها ما لأشباح الماضي من رسوم متغلغلة في سريرتي، وما كان ما أبديه من اشمئزاز إلا ليعلن لها الدنس المُروِّع في الصور التي كانت تحاول تقليدها لإرضائي.

وكنت أجيء إلى بيت بريجيت وقلبي طافح سرورًا، وأنا أقسم أن أنسى بين ذراعيها آلام أيامي الماضيات، فأجثو أمامها مبديًا كل دلائل الاحترام، وأزحف خاشعًا إلى سريرها كأنني من هيكل الصلاة، مادًّا إليها ذراعي والدموع تنهمر في عيني، غير أنني كنت أراها عند ذلك تتفوه بكلمة، أو تخلع ثوبها بحركة لها طابع خاص، فينتصب أمامي فجأة خيال غانية تفوهت بمثل هذه الكلمة، أو أتت بمثل هذه الحركة وهي تتجه إلا سريري.

يا لك من روح مخلصة! ويا للعذاب الذي تحمَّلتِه عندما كنت أفتح ذراعي لضمك إلى صدري فتسقطان — كأن لا حياة فيهما — على كتفيك الناعمتين! وعندما كانت تنطبق شفتاك على شفتي فأحس بأن نظرات الهيام في عينيَّ، وهي شعاع من نور الله، تتراجع عن هدفها كأنها سهام هبت الريح عليها فلَوَتْها في انطلاقها!

أواه يا بريجيت! لكم انهمرت لآلئ في أحداقك عندما كنت تسقين براحتيك ذلك الحب الحزين الشغوف من معين أرفعِ برٍّ وأصدقِ إحسانٍ!

وتوالت الأيام ما كدر منها وما صفا وأنا فيها ذلك المتقلب المنتقل من الجفاء والاستهتار إلى العطف والولاء، ومن الكبرياء والقسوة إلى الندم والخضوع.

وكان وجه ديجنه الذي تجلَّى أمامي أولًا كأنه ينذرني بما سأفعل لا يبارح توهمي، فأناجيه في أيام شكوكي وبرود هيامي. ولكم قلت في نفسي بعد توجيه التقريع إلى بريجيت مستهزئًا جافيًا: لو أن ديجنه مكاني لذهبت إلى أبعد من هذا.

وكنت إذا ما تهيَّأتُ للذهاب إلى بيت بريجيت أنظر إلى وجهي في المرآة وأنا أضع قبعتي على رأسي فأقول: أيُّ شر في هذا؟ لي خليلة استسلمت إلى فاسق؛ فعليها أن ترتضي به.

وكنت أصل إليها والابتسامة على شفتيَّ، فأستلقي على مقعد متراخيًا عن قصد لأنظر إليها تتقدم نحوي بعينيها الواسعتين وقد ملأهما الاضطراب، فأقبض على راحتيها الصغيرتين لأذهب تائهًا في أحلامي.

أيمكن لأي بيان أن يأتي باسم لشيء لا اسم له؟ فهل أصف نفسي بطيبة القلب أم بسوء النية؟ أحزمًا كان ما أفعله أم جنونًا؟ ما يفيد التبصُّر؟ فما عليَّ إلا السير على السبيل المخطوط.

وكان لنا جارة تدعى مدام دانيال، عليها مسحة من الجمال، وفيها شيء من الدلال، وهي فقيرة تحاول الظهور بمظهر الغِنَى، وكانت تأتي لزيارتنا وتلعب الميسر مُضاربة معنا بمبالغ كبيرة، فإذا خسرت صعب الأمر عليها فلجأت إلى الإنشاد بصوت ليس فيه شيء من الجمال. وقد كانت هذه المرأة التي اضطرتها المقادير لتمضية حياتها في هذه الغابة الضائعة بين الجبال ظامئة إلى المسرات والملاذ، فما كانت تتكلم إلا عن باريس؛ حيث تذهب لتمضية ثلاثة أيام كل سنة، وكانت تدَّعي أنها تتبع الأزياء الحديثة فتساعدها بريجيت بآرائها وهي تبتسم شفقة عليها. وكان زوج هذه المرأة موظفًا في دائرة تسجيل الأملاك، فيذهب بها أيام الأعياد إلى مركز الناحية لترقص بكل ما في قلبها من شوق مع ضباط الفصيلة في قاعة الحكومة، وكانت تعود من هذه المراقص وقد وهنت قواها، وازداد بريق عينها، فتهرع إلينا لتخبرنا بما صادفت من نجاح، وبما أثارت من أشجان. أما ما تبقى لها من الوقت فكانت تقضيه بمطالعة الروايات غير ملتفتة إلى شيء من مشاغل بيتها.

وكنت كلما التقيت بهذه المرأة أسخر بها لغرابة حياتها، ولكم قاطعتها في حديثها عن المراقص لأسألها عن زوجها ووالده، وهي تكره الأول لأنه زوجها، والثاني لأنه من زمرة الفلاحين، كما تقول، وهكذا لم يخل أي اجتماع لنا بها دون أن ينشأ بيننا خلاف شديد.

وخطر لي في أيامي السوداء أن أتحبب إلى هذه المرأة نكاية ببريجيت، قأقول لهذه: أفما ترين أن مدام دانيال تفهم معنى الحياة؟ فهي ناعمة البال مرحة، وأراها خير معشوقة يتمناها الرجال.

وهكذا كنت أبدأ بالثناء على هذه المرأة، فأصف ثرثرتها بسهولة البيان، ودعواها العريضة بميل بديهي إلى التمتع بالحياة، وأرى أن لا ذنب عليها إذا كانت فقيرة ما دامت تعترف بهذا الفقر، إلى أن أقول أخيرًا: إنها لا تسمع مواعظ الناس، ولا تبذل المواعظ لهم، ثم أطلب من بريجيت أن تتخذ هذه المرأة مثالًا تحتذي به، مدعيًا أن هذا النوع من النساء يوافق ذوقي.

ولاحظت مدام دانيال أن في نظرات بريجيت بعض الأسى، وكانت هذه المرأة طيبة القلب مخلصة؛ إذ هي تملصت من فكرة الأزياء التي كانت تثير حماقتها، فأقدمت على عمل سُداه الإخلاص ولُحمته الحماقة؛ إذ انتهزت فرصة اختلائها ببريجيت في نزهة لتقول وهي تعانقها: إنها لاحظت ميلًا مني للتحبب إليها، وإنني أسمعتها بعض كلمات لا مجال للارتياب في مقصدي منها، وأضافت إلى ذلك قولها: إنها عارفة بأنني عاشق لامرأة أخرى، وأنها تفضل الموت على إتيانها أمرًا يهدم سعادة صديقة لها.

وقد رأت بريجيت أن تشكر مدام دانيال على صراحتها، فذهبت هذه مرتاحة الضمير، غير أنها لم تنقطع عن إرسال لحظاتها إليَّ لتزيد في نكايتي.

وبعد أن بارحتنا مدام دانيال عند المساء، أخبرتني بريجيت بلهجة قاسية عما جرى في المتنزه بينها وبين هذه المرأة، وطلبت إليَّ أن أوفر عليها تحمل مثل هذه الإهانة فيما بعد قائلة: إنني لا أعلق كبير أهمية على مثل هذه المهازل ولا أصدقها، غير أنني أرى من الفضول — إذا كنت تحبني — أن تدع امرأة أخرى تشعر بأن محبتك لا تحتفظ بمستواها كل يوم، فأجبتها ضاحكًا: أيمكن أن يكون لهذا الأمر شأن عندك؟ أفما ترين أنني لا أقصد سوى الهزل لتمضية الوقت؟ فقالت: أواه يا صديقي، إن من البلية أن يرى الإنسان ضرورة لتمضية وقته.

وبعد أيام عرضت عليَّ بريجيت أن نذهب إلى قاعة الحكومة لمشاهدة مدام دانيال في رقصها، فقبلت على مضض، وبينما كانت ترتدي أثوابها قرب الموقد بدأت أوجه إليها اللوم؛ لأنها تخلت عن مرحها القديم، فقلت لها وأنا لا أجهل حالها: ما لك يا بريجيت؟ لقد أصبح القطوب مستحكمًا في ملامحك، فإذا دام الحال على هذا المنوال فلا بد من أن يسود الحزن ساعات انفرادنا، لقد عرفتك من قبل أكثر مرحًا وحرية وصراحة، وليس مما يوجب افتخاري أن أكون أنا علة هذا الانقلاب الطارئ على أخلاقك، ومع ذلك فإنني أتوسم فيك خلال أهل الزهد، فكأنك خلقت لسُكنى الدير.

وكان ذلك اليوم يوم أحد، فاستقللنا عربة وسرنا، حتى إذا وصلنا إلى المتنزه رأت بريجيت رهطًا من صديقاتها بنات الحقول سائرات إلى مرقص أشجار الزيزفون، ونضارة الشباب تتدفق من وجوههن، فاستوقفت عربتها وحيَّت الفتيات، وإذ استأنفنا السير أطلت من نافذة العربة مشيعة بأنظارها رهط الصبايا، كأنها تتشوق إلى المرقص القديم، وإذ توارين عنا رأيتها ترفع منديلها إلى عينيها.

وصلنا إلى مرقص الحكومة فرأينا مدام دانيال تطفر فرحًا وحبورًا، فبدأت بالرقص معها، وكررت ذلك بصورة تسترعي الانتباه، وكِلْتُ لها عبارات الإعجاب، فكانت تجيب على مجاملتي بمثلها، وكانت بريجيت تتبعنا بأنظارها أنَّى سرنا، ويصعب عليَّ أن أصف ما شعرت به في ذلك الحين؛ إذ تمازج سروري بألمي لما تجلَّى لي على سيماء بريجيت من غيرة، فكأن هذه الغيرة كانت تحفزني إلى التمادي في إضرامها.

وتوقعت بعد عودتنا أن تلجأ بريجيت إلى لومي، ولكنها بقيت ممنعة بجمودها وصمتها في اليوم التالي وما بعده، فكانت تستقبلني بقبلتها المعتادة، ثم نجلس وكل منا مستغرق في نفسه، فلا نتبادل الكلام إلا قليلًا. وفي اليوم الثالث، عِيلَ صبرُ بريجيت؛ فاندفعت تهاجمني بعتبها المرِّ قائلة: إنها لا تجد ما تبرر به معاملتي، ولا يسعها إلا الاعتقاد بزوال حبي، ثم أعلنت لي بصراحة أنها أصبحت لا تطيق هذه الحياة، وقد عزمت على الالتجاء لأية وسيلة تنقذها من أطواري الشاذة، ومعاملتي الباردة، ورأيت الدموع تنسكب من عينيها بغزارة، فكدت أجثو أمامها لأطلب عفوها، غير أنها استمرت في إرسال تقريعها مُتفوِّهة بكلمات ذهبت إلى كبريائي فجرحتها، وثار ثائري فأجبتها بكلمات من طراز كلماتها، حتى اتخذت مناقشتنا شكل جدال لا هوادة فيه، فقلت لها: إن من المستغرب ألا يكون عندها من الثقة ما يجيز لي إتيان أبسط الأمور، فلا بد إذن أن يكون هنالك سبب آخر غير السبب الذي تتمسك به؛ لأنها تعلم أنني لا أبالي بمدام دانيال، فليس تقريعها لي إلا الاستبداد بعينه، ومع ذلك فإذا كانت متعبة من هذه الحياة ففي وسعها أن تضع حدًّا لها بالفراق.

فقالت: «ليكن ما تقول؛ لأنك تنكرت لعيني منذ بذلت لك نفسي، فقد لعبت دورك بمهارة لإقناعي بحبك لي، وها قد أتعبك هذا الدور فلا تجد من الأعمال إلا ما تسيء به إليَّ. لقد ارتبت في إخلاصي لكلمة واحدة مرت على أذنك، ولا حق لي بتحميل نفسي ما توجهه من إهانة إليها. لقد تبدلت فما أنت الرجل الذي أحببت.»

– إنني لا أجهل نوع آلامك، وأراها ستتجدد لكل خطوة في حياتي، وسوف لا يطول الأمر حتى أحرم حق التكلم مع أي مخلوق سواك، فأنت تتظاهرين باحتمال سوء المعاملة لتجيزي لنفسك توجيه التقريع إلي، وما تشكين استبدادي إلا طلبًا لاستعبادي. أما وقد أصبحت أشوش عليك حياتك؛ فاستعيدي السكينة لها. إنك لن ترينني بعد الآن.

وافترقنا على غضب، ومر النهار دون أن أراها.

وفي اليوم التالي، شعرت عند انتصاف الليل بحزن لم أجد لاحتماله سبيلًا، فذرفت الدموع سخينة، وأخذت ألوم نفسي وألعنها قائلًا: إن من الجنون المطبق أن أعذب أشرف النساء وأطيبهن قلبًا، ثم نهضت راكضًا إلى بيتها لأنطرح عند قدميها.

دخلت الحديقة وإذ رأيت النور من نافذة غرفتها ساورتني الشكوك فيها، فقلت: إنها لا تنتظرني في مثل هذه الساعة، ومن يدري ما تفعل؟ لقد تركتها أمس غارقة بدموعها، ولعلني أراها الآن مشغولة بالغناء غير مبالية وغير شاعرة بوجودي، بل لعلها ترتدي أثوابها وتُجمِّل وجهها كتلك المرأة … لأدخلن إذن متجسسًا فأطَّلع على الحقيقة.

وتقدمت على حذر، وكان باب غرفتها مفتوحًا، فتمكنت من مشاهدتها دون أن تراني، وكانت جالسة إلى خوانٍ تكتب في مجلد المذكرات التي كانت مبعث ارتيابي بها، وكان في يدها اليسرى علبة صغيرة من الخشب الأبيض تنظر إليها من آنٍ إلى آنٍ بارتعاش عصبي ظاهر.

ولا أدري أية روح مروعة كانت تسود هذه الغرفة في جوها الهادئ، وكانت رفوف المكتب مفتوحة وقد صفت عليها رزم الأوراق كأنها رُتِّبت من برهة وجيزة.

ودققت الباب فنهضت وأقفلت أدراج المكتب وأتت إليَّ والابتسام يعلو فمها قائلة: نحن طفلان يا أوكتاف، يا صديقي، وما كان لعراكنا من سبب ولا معنى، ولو لم تأت إليَّ لذهبت إليك في هذا الليل. اغفر لي؛ فالذنب ذنبي أنا. إن مدام دانيال ستأتي غدًا لتناول الغداء؛ فلك أن تفتح سبيلًا لندمي عما تسميه استبدادًا في معاملتي. إن سعادتي متوقفة على حبك لي، فلننسَ ما مضى، ولنحتفظ بسعادتنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤