الفصل السادس
وكانت بريجيت نائمة وأنا جالس أمام سريرها صامتًا جامدًا كفلاح اجتاحت العاصفة حقله فحطمت سنابله.
وذهبت أسبر أعماق نفسي متلمسًا ما جنَتْ، وما كدت أستعرض بعض أعمالي حتى رأيتني تجاه مآتٍ لا سبيل لتلافي نتائجها.
إن من الآلام ما تستنفد طاقة الحس فتشعرك بشدتها أنها بلغت حدها، وبمثل هذه الآلام كنت أتوغل في خجلي وتبكيت ضميري، فأرى أن لا بد لي من توديع بريجيت بعد هذا العراك العنيف، وبعد أن كرعت حتى الثمالة كأس غرامها الحزين، وقد توجب عليَّ أن أطلق سراحها من هذه الأوصاب إذا كنت لا أتعمد قتلها.
وما كانت هذه المرة الأولى التي تلجأ فيها بريجيت إلى تأنيبي، ولكم وجهت إليَّ جارح الكلام في ثورة غضبها! ولكن ما قالت في عراكنا الأخير لم يكن صادرًا عن كبرياء جريحة، بل كان بيانًا عن حقائق تمخض بها القلب طويلًا، فما انبثقت منه حتى مزقته تمزيقًا، وقد رأيت كل ما يحوط بنا من أحوال، وما أبديته من رفضي الرحيل معها يمنع تسرُّب أي أمل إليَّ.
فتيقنت أن بريجيت لن تقوى على إنالتي عفوها حتى ولو غالبت نفسها واستفزتها إليه، وما كان هذا الوسن العميق الذي سادها كأنه نوع من الموت لجأت إليه طبيعتها لتجاوز الألم حدوده فيها إلا برهانًا على صدق يأسي من عودتها إليَّ، فإن سكوتها فجأة بعد هذا التدفق في بيانها، وهذه العذوبة التي تجلَّت على ملامحها عند ثواب رشدها ورجوعها إلى الحياة حزينة مروعة، وحتى هذه القُبلة التي رنَّت كصدًى لقُبلتي، كل هذا كان يُؤذن بأن الدهر قد سكن بيننا، وأن حبل وصلنا قد انبتَّ إلى الأبد بين يدي.
وكنت أتفرس فيها وهي ممددة في وسن العياء المرهق، فأتيقن بأنني إذا عدت إلى ما سبب هذه الغيبوبة بعد أن تفيق منها، فسأدفع بها إلى الرقدة التي لا انتباهة بعدها، وسمعت الساعة تدق في سكون الليل فشعرت بأن الساعة المنقضية تتوارى طاوية معها حياتي.
وما أردت أن أستنجد بأحد، فأوقدت المصباح الصغير وشخصت إلى إشعاعه الضئيل يذهب بددًا في الظلمة كذهاب خطرات أفكاري التائهة الحائرة.
وما كنت فكرت حتى اليوم في إمكان فقد بريجيت، بالرغم من أنني صممت مائة مرة على هجرها، ويعلم كل من ابتُليَ بالعشق قيمة مثل هذا العزم في ساعات اليأس، أو في دقائق الغضب، وما ينقطع المحب عن الوله بمعشوقته ما دام واثقًا من حبها له، وهكذا كنت أنا، ولكنني لأول مرة شعرت بأن قضاء لا يُردُّ ينتصب مُفرِّقًا بينها وبيني، فانهدَّت قواي وأحنيت الرأس قرب سريرها وقد أدركت مدى شقوتي، ولكن شعوري المتخدر لم يكن يقيس مدى آلامها؛ لأن روحي كانت تتراجع مرتاعة أمام ما يقتحمه تفكيري.
وقلت لنفسي: هذا ما أردته أنا لك؛ فقد انقطع كل رجاء في بقائك مع مَن تُحبين. أنا لا أريد قتل هذه المرأة؛ فلا مناص لي إذن من هجرها، وذلك ما صممت عليه وسأحققه غدًا.
وذهبت في تفكيري على هذا النمط دون أن أحاكم نفسي على ما جنت، ودون أن ألتفت إلى ما ورائي وإلى ما أمامي، فنسيت سميث وما كنت لأتميز السبب الذي قادني إلى هذا الموقف، وانحصر كل همي في التفكير لأعلم بأية عربة سأغادر المدينة في الصباح.
ومر عليَّ زمن طويل وأنا على هذا السكون الغريب، فكنت كرجل أصيب بطعنة خنجر فلا يحس أولًا بغير صقيع النصل، حتى إذا سار بضع خطوات في طريقه يقف مندهشًا وقد زاغت عيناه، فيتساءل عما ألمَّ به، وينفتح جرحه دافقًا على مهل أوائل قطرات دمه، فلا يلبث أن يرى الأرض تخضب بالأحمر القاني، وملاك الموت يقبض عليه، فيهزه الروع فجأة ويسقط مصعوقًا على الحضيض.
وكنت كمثل هذا الجريح ساكنًا، والداهية الدهماء تحدجني بأنظارها وتتقدم إليَّ.
وبدأت أردد بصوت خافت الخطاب الذي وجهته بريجيت إليَّ وأنا أدور في الغرفة، معدًّا ما كانت الوصيفة تعده لها، فكنت أتفرس في وجهها، ثم أذهب لألصق جبيني على زجاج النافذة ناظرًا إلى وجه السماء المتجهم بالغيوم.
وانحصر تفكيري في كلمة واحدة «الرحيل غدًا»، وما طال بي الأمر حتى امتنع عليَّ أن أفهم معنى هذه الكلمة، وانتفضت فجأة وأنا أهتف قائلًا: يا الله! أي خليلتي التعسة، إنني أفقدك لأنني ما عرفت أن أحبك.
وارتعشت أعضائي كأن شخصًا مجهولًا يصيح بهذه الكلمات في أذني، فذهبت في كل جارحة مني ذهاب الريح على قيثارة تهز أوتارها المشدودة لتقطعها.
وأحسست بآلام سنتين تخترق فؤادي في لحظة، وعلى أثرها تقبض عليه أوصاب الحاضر وليدة ذلك الماضي المشئوم، وما أجد في البيان ما أصف به مثل هذه الأوجاع، ولعل وصفها بكل جلاء لا يحتاج إلا لكلمة واحدة، ولكن هذه الكلمة لا يفهمها إلا من ابتلاهم الحب بأدوائه.
وكانت بريجيت مستغرقة في نومها وأنا مُطبق أناملي على يدها، فإذا هي تتلفظ باسمي في بحرانها.
نهضت أتمشى في الغرفة والدموع تنهمر من عيني، فمددت ذراعي كأنني أحاول القبض على الزمان الماضي وقد أفلت مني، وأنَّى له أن يعود؟ وصرخت: أممكن هذا؟ أحق أنني أفقدك وقد امتنع عليَّ أن أحب سواك؟ أحق أنك مولِّية إلى الأبد؟ أنت حياتي، خليلتي، أتهربين مني فلن أراك بعدُ؟
واتجهت إلى بريجيت أخاطبها كأنها تسمعني فأقول لها: لا … إنني لن أرضى بهذا القضاء، أي معنى لهذا الكبرياء؟ أفليس من وسيلة أبذلها للتكفير عن إهانتي لك؟ ساعديني على وجود هذه الوسيلة، أفما غفرت لي ألف مرة من قبل؟ إنك تحبينني وسوف تخونك قواك إذا أنت أقدمت على جناية هجري؛ لأنك لا تعلمين ولا أعلم أنا ما سنفعل وما سيحل بنا إذا افترقنا.
واستولى عليَّ الجنون المطبق المخوف، فبدأت أذهب وأجيء رافعًا صوتي بما أقول دون هدًى مفتشًا هنا وهنالك عن آلة جارحة قاتلة، حتى ارتميت جاثيًا أمام السرير أضرب بحافته جبيني، وتحركت بريجيت فتوقفت مذعورًا.
وقلت في نفسي: إذا هي أفاقت من نومها الآن، فما أنت فاعل أيها المجنون؟ دعها في نومها إلى الصباح، فما لك إلا هذه الليلة لتراها.
وعدت إلى مقعدي وقد كتم الخوف أنفاسي، وخُيِّل لي أن دمي قد تجمد في عروقي مع انجماد دموعي، فلبثت دون حراك يهزني البرد هزًّا، فأقول لنفسي لأحتفظ بسكوني: انظر إليها! تفرس بها فلن يتسنى لك أن تراها بعد الآن.
وملكت أعصابي أخيرًا، فتناثرت دموع الأسى بطيئة على خدي، وتولت سورة الغضب، فإذا مكانها سكينة الإشفاق، فأسمعني وهمي صرخة إعوال وأنين تشق الفضاء، فانحنيت على السرير أحدق في بريجيت كأن ملاكي الصالح يهيب بي لأول مرة إلى استطباع ملامحها العزيزة على صفحات فؤادي.
ها هي ذي أمامي، فيا لشدة شحوبها وقد أحاطت بأهدابها الطويلة هالة زرقاء! ولما يزل رشاش الدمع عالقًا بأطرافها، وهذه قامتها الممشوقة منطرحة على الفراش وقد تقوَّست كأنها حتى في رقادها تنوء تحت وقر ثقيل، وهذا خدها الأسيل تموهه صفرة دكناء، وقد لاقته على الوسادة كفُّها الصغيرة ومعصمها النحيل، وهذا جبينها وقد ارتسمت عليه آثار إكليل الأشواك تاج المتألمين الصابرين.
وإذا بي وأنا مستغرق في تأملي أرى أمامي ذلك الكوخ حيث التقيت بها منذ ستة أشهر صَبيَّةً مرحة تتمتع بالحرية ولا تبالي بشيء.
ويلي! ما الذي فعلته بذاك الصبا وتلك الخلال؟ وعادت الأغنية القديمة المنسية تتردد على مسمعي:
بهذا كانت تتغنى خليلتي الأولى، وما كنت من قبل لأدرك معنى هذا الشعر الساذج كما أدركه الآن، فبدأت أترنم به كمن يحفظ ألفاظًا تنجلي له معانيها فجأة. إنها أمامي الآن هذه الزهرة المضطرمة تتساقط رمادًا وقد أحرقها غرامها.
وأجهشت بالبكاء قائلًا لنفسي: انظر إليها يا هذا، وفكر في شكوى مَن لهم أجسام الخليلات وليس لهم غرامهن. إن خليلتك مولهة بك، وقد استسلمت لك، وها أنت ذا تفقدها لأنك ما عرفت كيف تهواها.
وتجاوزت أوجاعي حدود احتمالي، فنهضت لأرجع إلى ذرع الغرفة بخطواتي قائلًا: أجل، انظر إليها يا هذا وتذكر من يقضي عليهم الملال فيذهبون في الأرض مسرحين أوجاعًا لا يشاطرهم إياها أحد. أما أنت فقد كان لك من يقاسمك آلامك، فما انفردت بشيء مما احتملت. تذكر من يسيرون في الحياة ولا أم لهم ولا قريب ولا صديق، حتى ولا كلب يؤنسهم، تذكر من يفتشون ولا يجدون، ومن يبكون فيسخر بهم الناس، ومن يحبون فيُكرهون، ومن يموتون فلا يذكرهم أحد.
أما أنت فأمامك على هذا السرير مخلوقة قد تكون الطبيعة أعدتها لاستكمالك، فهيأت روحها في دوائر الفكر الخفية أختًا لروحك، وجسدها في أعمق أسرار المادة أخًا لجسدك، وقد مضت عليك ستة أشهر لم ينطق فمك بكلمة، ولم يخفق قلبك بنبضة دون أن تجاوبك كلمة من ثغرها، ونبضة من فؤادها، غير أن هذه المرأة التي أنزلها الله عليك كإنزاله الندى على الأزهار لم تستقر حتى انزلقت عن تويج قلبك الهاوي. لقد جاءتك هذه المخلوقة فاتحة لك ذراعيها لتهبك حياتها أمام وجه السماء، فإذا هي تتبدد كأنها طيف لن يتبقى بعد زواله حتى خيال خياله!
لقد التصقت شفاهكما، وطوقت ذراعاك عنقها، وضمتكما ملائكة الحب الخالد، فأصبحتما كائنًا واحدًا برابطة الدم وجامع الشهوة، ولكنكما حتى في ساعات هذا العناق الموحد كنتما منفصلين يبتعد أحدكما عن الآخر ابتعاد منفيين بينهما ما بين الشمس ومغربها.
انظر إليها يا هذا، ولكن احترس من إبداء أية حركة، لم يبق لك إلا هذه الليلة لتراها، فاخنق إعوالك كيلا تنبهها من رقادها.
وساورتني أفكار مظلمة بدأت تحتل دماغي على مهل، فشعرت بقوة عنيفة تدفعني إلى سبر الأعماق في نفسي.
أفيكون قضاء العناية فيَّ أن أرتكب الشر في حين أن ضميري يشعرني حتى في غمرات جنوني أنني صالح ومحب للخير؟
أأرتكب الشر كأن ورائي قوة لا تني تدفعني إلى الأغوار، في حين أشعر بقوة أخرى تحذرني من الانزلاق إلى مهاويها؟
لماذا أرتكب الشر وفيَّ صوت يهتف مستنكرًا مآتيَّ، حتى ولو تلطخت يداي بدماء الجريمة أسمع صرخة من أعماق فؤادي تعلن لي أنني لست مجرمًا، وأن الفاعل ليس ذاتي، بل هو شخص آخر كامن فيَّ ولم ينبثق مني، هو الروح الشرير المنفِّذ لما قُضيَ عليَّ.
لقد مرت بي ستة أشهر وأنا أذهب على سبيل الأذية، فما اجتزت يومًا دون أن أعمل على الإضرار، كافرًا بنفسي، ونُصب عيني نتائج فعلتي.
فهل الرجل الذي أحب بريجيت ليحقرها ويقسو عليها، فهجرها تارة، ليعود إليها تارة أخرى مالئًا روحها ارتياعًا دائرًا حولها بالشكوك، ليطرحها أخيرًا على فراش الضنى، كان رجلًا آخر سواي؟
وضربت بكفي على موضع قلبي ناظرًا إليها ممددة أمامي، مكذبًا عيني فيما أرى، ومددت يدي متلمسًا جسدها لأتحقق أنني لست في حلم، وأن هذا الجسد ليس خيالًا.
ولمحت وجهي في المرآة، فإذا به يحدق فيَّ مستغربًا كأنه يستنكر هذا الإنسان الذي تتجلى ملامحي في ملامحه.
من هو هذا العاتي الذي يدفع باللعنة من فمي، ويتخذ يدي آلة للتعذيب؟
أهذا الرجل هو من كانت تدعوه أمي باسم أوكتاف؟ أهذا هو من كان يتراءى لي بين مروج الغاب عندما كنت أنحني — وأنا في الخامسة عشرة من ربيع حياتي — فوق جداوله وهي تنساب كاللجين صافية كصفاء فؤادي؟
وأطبقت جفوني عائدًا إلى أيام طفولتي، فإذا التذكار يخترق قلبي بألف شعاع كأنه الشمس تمزق خيوطها حالكات الغيوم.
وصحت: لا، إن من ارتكب هذا الإثم ليس أنا، وليس كل ما يتراءى لي في هذه الغرفة سوى أضغاث أحلام.
وعدت أستعرض تفتُّح قلبي للحياة، فيلوح لي على صفحات تذكاري متسول هرم كان يجلس أمام باب المزرعة، وكنت أحمل إليه بعد الغداء فضلات مائدتنا، فأراه كأنه الآن أمامي مقوس الظهر مادًّا يديه الناحلتين ليباركني وهو يبتسم.
وشعرت بغتة بهبوب نسمات الفجر على صدغي، وبتساقط قطرات كأنها أنداء الصباح على روحي.
فتحت عيني فإذا الحقيقة تنطح بصري وقد أنارها إشعاع المصباح الضئيل.
وعدت أخاطب نفسي قائلًا: أتعتقد أنك بريء من الإثم يا هذا! أتحسب نفسك بريئًا لأنك تبكي؟ أيها المتتلمذ للحياة منذ أمس وقد أفسدته الحياة، إن ما تراه في تقديرك شهادة من ضميرك لك قد لا يكون إلا ندمًا وتبكيتًا، وأي قاتل لا يبكته ضميره؟!
أفأنت واثق من أن صراخ الألم المتعالي من صميم فضيلتك ليس آخر حشرجة تدفع بها في احتضارها؟
أيها الشقي، لا تحسبنَّ هذا الصخب المتعالي من أعماق فؤادك أنينًا وإعوالًا، فقد لا يكون ما تسمعه إلا صرخة الطيور الجوارح تشعرها العواصف بتحطم سفينة بين ثائرات الأمواج.
مَنْ أخبرك بما كانت عليه طفولة من يموتون مخضبين بالدماء؟ أفما كان لهؤلاء أيضًا أيامُ برٍّ وصلاح؟ إنهم يمرون مثلك أيديهم على جباههم ليتذكروها.
لقد ارتكبت الشر ثم ندمت على ما فعلت، أفما أحرقت الندامة قلب نيرون بعد أن قتل أمه؟
من قال لك يا ترى إن الدموع تغسل الآثام؟ وهب أن الدموع تطهر، وأن قسمًا من روحك لن يستسلم للشر، فما حيلتك بالقسم الآخر الذي استغرق فيه؟ إنك ستتلمس بيسراك الجراح التي فتحتها يمناك، وستنسج من فضيلتك كفنًا تدرج فيه جرائمك. إنك لتفعل ما فعله بريتوس عندما أرسل طعنته النجلاء، وعاد ينقش على نصله ما تشدق به أفلاطون.
وإذا ما فتح أحد لك ذراعيه فإنك لترسل إلى أعماق قلبه مثل هذا النصل، وقد نقشت آيات الندم عليه، وهكذا ستقود إلى المدافن بقايا عواطفك، وتنثر فوقها أزهار إشفاقك العقيم هاتفًا بمن يشهدون ما تفعل: «ما حيلتي؟ لقد علمني الناس القتل، فلا يعزب عنكم أنني أذرف الدمع لما قضي علي؛ لأن الله قد خلقني أفضل مني الآن.»
وتذهب موردًا الأحاديث عن أيام صباك، فتقنع نفسك بأن على الله أن يغفر لك، وأنك مكره غير مختار في شقائك، ثم تتحول إلى الأرق في لياليك، فتناجيه بمثل ما تناجي به نفسك كيلا يسلبك راحتك حتى الصباح.
ولكن من يدري! إنك لا تزال في مقتبل العمر، ولسوف تستسلم لقلبك فتضلك كبرياؤك. ها أنت ذا الآن أمام أول طلل من آثار الدمار التي ستبقيها حيث تمر، وإذا ماتت بريجيت غدًا فإنك ترسل دموعك على نعشها لتذهب بعد ذلك سائحًا في الأرض، ولعلك تتوجه إلى إيطاليا فتلتف بردائك كإنكليزي أصيب بداء الملال واليأس من الحياة، إلى أن تصبح يومًا في أحد الفنادق وأنت تحتسي كأسًا بعد كأس، فتقول: لقد سكت صوت ضميري، وحان زمن السلوان؛ فلأرجعن إلى الحياة.
إنك تأخرت كثيرًا حتى ذرفت الدمع يا هذا؛ فكن على حذر! سيأتيك يوم تنقطع عن البكاء فيه.
من يدري، لقد يدور بك من الناس من يهزءون بالأوجاع التي تتوهم الشعور بها؟ وتمر بك امرأة قيل لها: إنك تبكي خليلة خطفها الموت، فترسل إليك بسمة الإشفاق، فتستنبت فجيعتك ما يغذي غرورك.
أفما يكون بوسعك في ليلة من الليالي عندما يصبح ما ترتعش له الآن، وما لا تجسر على التحديق فيه، صفحة مطوية في ماضي الزمان، أن تتراخى على مقعدك أمام مائدة أنس وطرب لتقص على رفاق فحشائك والابتسام على شفتيك ما رأته عيناك وهما دامعتان؟
هكذا يكرع الناس كئوس العار، وذلك هو سبيل الحياة. لقد كنت حالمًا بالأمس، فغدوت ضعيفًا، وهذا الضعف سيقودك إلى الشر غدًا.
وقلت في نجواي لذاتي: «لم يبقَ لي إلا أن أُسدي إليك نصيحة يا هذا: خير لك أن تموت.»
انتهز فرصة شعورك بالصلاح في هذه الساعة واذهب إلى الفناء كيلا تتوغل في الشر غدًا.
إن أمامك الآن امرأة تحبها وهي منطرحة على فراش احتضارها؛ فلا تتردد. مد يدك إلى صدرها، وليكفك منها بأنها لم تمت بعدُ، وما دمت تشعر بالاحتقار لنفسك أطبق أجفانك ولا تفتحها بعدُ، ذلك خير لك من أن تشيعها إلى مرقدها الأخير ثم يجيء غدك فتسلوها.
بادر إلى إغماد خنجر في قلبك ما دام هذا القلب لم يتحول بعدُ عن الله الذي أبدعه.
أفيوقفك صباك عن الاندفاع إلى الموت؟ وأي شيء تريد الاحتفاظ به من هذا الصبا؟ أتأسف لسواد شعرك؟ إذا لم يشب هذا الشعر في ظلمة هذا الليل على مفرقك؛ فخير له ألا يعلو بياض الشيب أبدًا …
ماذا تريد أن تفعل في هذا العالم؟
إلى أين مصيرك إذا أنت خرجت من هذه الغرفة؟ وإذا بقيت فيها، فما هي آمالك منها؟
أفلا تحس وأنت تنظر إلى هذه المرأة أن في قلبك كنزًا لا يزال دفينًا؟ أفلا ترى أن ما تفقده الآن ليس ما بدا، بل ما كان يمكن أن يبدو فبقي مضمرًا؟ وأن أفجع الوداع هو ما يشعرك بأنك لم تفصح عن كل شيء؟
لماذا لم تتكلم منذ ساعة؟ فقد كان لك أن تمتلك السعادة قبل انتقال عقرب الزمان خطوة واحدة.
لماذا لم تعلن ألمك إذا كنت تتألم؟ وإذا كنت تحب فلماذا أضمرت حبك؟
إنك الآن كحاشد الأموال يموت على أكوام كنوزه. لقد أقفلت بابك على نفسك أيها الحريص، وها أنت ذا وراء المزالج المحكمة تهزها عبثًا لأنها لن تعنو لسلطانك؛ فهي منيعة ومن صنع يديك.
أيها الضال، إنك نسيت ربك عندما اشتهيت وبلغت مشتهاك، فلعبت بسعادتك كما يلعب الأطفال بالدُّمَى، وما خطر لك أن ما تقلبه يداك سريع العطب، وليس لك أن تظفر بمثله عندما تشاء. لقد احتقرت مأملك، وأهملت التمتع به وأنت تتلهى بالابتسام، ولا يخطر لك أن هنالك ملاكًا صالحًا يسهر عليك، ولا ينقطع عن الصلاة ليحتفظ لك بهذا الشبح الذي لا يلوح حتى يختفي.
أواه؟ لو أن في السماء ملاكًا يتولى حراستك، فما هو فاعل يا ترى الآن؟
إنه لا شك جالس إلى معزفه وقد تراخى جناحاه، وامتدت يداه إلى مضارب الأنغام ليتغنى بأنشودة أبدية، أنشودة الحب والسلوان! ولكن أعضاء هذا الملاك ترتعش وقد انطوى جناحاه، وهوى رأسه كالقصبة المنكسرة. لقد مر به ملاك الموت، وما لمس كتفه حتى تبدد وتوارى في الكون الفسيح.
وها أنت ذا باقٍ وحدك على الأرض وأنت في الثانية والعشرين من سنيِّ حياتك، بعد أن كان الحب الشريف السامي وقوة شبابك سيوجدان منك كائنًا له شأنه في الحياة.
لقد مرت بك أيام طويلة من الملال والأحزان، وساورك التردد، وأثقلت عليك الشبيبة الطائشة، فأوصلتك هذه المحن إلى يوم كان لك أن تتوقع فيه بلوغ الطمأنينة والسلام. لقد كان لك أن تتوقع لحياتك التي وقفتها على كائن امتلك لبَّك أن تهب عليها نسمة جديدة، فإذا أنت تشهد انهيار كل شيء يحيط بك، وقد انقلبت شهواتك الغامضة إلى أسًى صريح. لقد كان قلبك من قبل خاليًا، فها هو ذا الآن يصبح مهجورًا …
هذا هو حالك، وأنت لم تزل واقفًا عند حيرتك وترددك!
ما الذي تتوقعه وهي قد سئمتك، ولم تعد لحياتك من قيمة عندها، إنها تهجرك فلم لا تهجر أنت نفسك؟ وليبك عليك من أحبوا شبابك. إنهم ليسوا بعديدين.
إن قلبًا حكمه الخزي أمام من يهوى لجدير بالصمت إلى الأبد. لقد مررت على قلب بريجيت، فعليك بالمحافظة على ما أبقاه من أثر فيك، فإذا بقيت في الحياة، فلا بد لك من درس آثارها، ولا سبيل لك للمحافظة على أنفاسك المدنسة إلا باستكمال تدنيسها، ولا قبل لك بالحياة إذا أنت لم تشترها بهذا الثمن. لسوف تضطر لتتمكن من احتمال حياتك ألا تكتفي بنسيان الحب، بل عليك أن تتعلم جحوده ونكرانه، كما عليك ألا تنسى ما كان صالحًا فيك فحسب، بل عليك أيضًا أن تقتل أية جرثومة قد تستنبت الأيام منها صلاحًا؛ لأنك إذا بقيت للحب متذكرًا؛ فلن تستطيع أن تخطو على الأرض خطوة واحدة، وأن تضحك أو تبكي، وأن تحسن إلى فقير. لن تستطيع الشعور بالحنان لحظة واحدة دون أن تسمع صرخة الدم في قلبك قائلة لك: إنك ما خلقت صالحًا إلا لإسعاد بريجيت بكل عاطفة طيبة فيك.
إنك لن تقوم بأي عمل دون أن يذهب عملك مثيرًا الشقاء في أعماق أحشائك، فكل ما تهتاج له روحك يُنبِّه فيها تأسفًا على ما فات، فيتحول الأمل نفسه، وهو رسول السماء في القلوب يدعوها إلى الحياة، إلى شبح قاتم ينضم إلى الماضي ليؤاخيه. فإذا ما حاولت بلوغ أمنية انقلب جهدك ندمًا؛ لأن القاتل لا يذهب في الظلمة إلا وهو يربط على صدره بيديه؛ خشية أن تقع أنامله على جدار فتنمَّ آثارُها عليه.
تلك هي الحياة التي قدرت عليك في آتيك، فاختر بين روحك وجسدك؛ إذ لا بد لك من القضاء على أحدهما.
إن ذكرى الخير ستدفع بك إلى ارتكاب الشر، فما عليك إلا أن تصبح جثة باردة إذا كنت تحاذر أن تبقى شبحًا لذاتك!
أيها الفتى، مت في صلاحك لعل أحدًا يأتي إلى قبرك فيذرف الدمع عليه.
وانطرحت أمام السرير فاقدًا هداي لا أعلم من أنا، ولا أحس بما أفعل، وأرسلت بريجيت زفرة وهي تدفع عنها غطاءها كأنها تزحزح عنها حملًا ثقيلًا، فانكشف صدرها ناهدًا بناصع بياضه أمام عيني.
واهتزت مشاعري كلها لهذا المشهد، فما عرفت أهو الحزن يستولي عليَّ أم الشهوة تتلاعب بدمي.
وخطر لي فجأة خاطر ملأني ذعرًا، فإذا بي أقول: «أواه! أأترك جميع هذا لسواي؟ أأموت وأنزل إلى القبر فيبقى هذا الصدر بعدي يتنفس هواء السماء؟ أمن العدل أن تمتد يد غيري إلى هذه البشرة الشفافة الناعمة، وأن تلتصق بفمها شفتان غير شفتي، ويجول في قلبها غرام غير غرامي؟ أيقف قرب هذا السرير رجل سواي؟
أتكون بريجيت سعيدة حية معبودة، وأكون أنا في زاوية من القبر أنتثر رمادًا؟
أية مدة من الزمان تحتاجها لتنساني إذا مت غدًا؟ وأي مقدار من الدموع ستذرف على حجر قبري؟
من يدري، لعلها لن تذرف قطرة واحدة من جفونها عليَّ، ولن يقترب منها صديق — بل لن يقترب منها أحد — دون أن يقول لها: إن موتي كان خيرًا لها من بقائي، فيعزيها ويدعوها إلى الانقطاع عن ذكري، وإذا هي بكت يحولها الناس عن التفكير بي، وإذا استمر حبي حيًّا في قلبها بعدي، فإن الناس سيعملون على شفائها منه كأنه سم زعاف له ترياقه.
وهي نفسها لعلها في اليوم الأول تصمم على اللحاق بي، ولكنها لا تلبث حتى تتحول بعد شهر عن طريق المدفن؛ كيلا ترى حتى من بعيد أغصان الصفصاف الباكي المتهدلة على شاهد قبري.
وهل لها أن تفعل غير ذلك وما كان الجمال الرائع إلا ساليًا عتيًّا؟ وكيف تطلب الموت وهذان النهدان ينفران إلى الحياة، كل لفتة ترسلها إلى مرآتها تقنعها بوجوب البقاء؟ وأي رجل لا يتقدم مهنئًا لها بشفائها عندما تجف آخر دمعة على أجفانها، وتلتمع أول ابتسامة على ثناياها؟
لن تمضي ثمانية أيام على صمتها حتى تبدأ بالتململ من ذكر اسمي؛ لأنها لا تجيء على ذكري إلا وهي ترسل حولها نظرات من يستنجد الناس لاقتناص السلوان، فلا يطول الزمن حتى تمتنع عن التفكير فيَّ، وتجتنب سماع اسمي، وفي صبيحة يوم من أيام الربيع تفتح نافذتها لتنظر الأنداء ترصع الأزهار، وتتنصت إلى زقزفة العصافير بين ناضرات الغصون، فتستغرق في وجومها قائلة: لقد أحببت فيما مضى، وعندئذ مَن سيكون قربها يا تُرى، فيقول: وستحبين أيضًا، فتصغي إليه.
أين أكون أنا حينذاك، أيتها الخائنة؟ أين أكون حين تنحنين وقد علا وجهك احمرار برعم الورد يتفتق عن أكمامه؛ إذ يتصاعد كل ما فيك من فتاء وبهاء وينعقد تاجًا على مفرقك؟
ستقولين: إن قلبك مغلق، ولكنك تُسرِّحين منه هالة من أنوار جديدة تستهوي كل أشعة منها قبلة غرام، وما من امرأة تعلن إرادتها بأن تُحبَّ كالمرأة القائلة إنها لن تحب بعد!
وأية غرابة في هذا؟! أفلستِ أنت أيضًا بنت حواء! أفما تعرفين اعتدال قوامك وروعة نحرك، وقد وصف جمالك من رآه؟ فلا تعتقدين كما تعتقد العذارى أن لكل النساء ما لك تحت أستارك، ولا تجهلين ما للتمنع من قيمة في عواطف الرجال! وهل ترضى المرأة التي غرها الثناء أن تُحرَم ما يولده الإعجاب بها من غرور؟ وهل تعد نفسها من الأحياء إذا ضرب عليها الحجاب وساد حول جمالها السكوت؟ وما جمالها في عقيدتها سوى ما يلتمع من شهوة في عين عاشقها، وما يتدفق من ثناء على شفتيه.
لا … لا مجال للشك في أن من أحب مرة يمتنع عليه ألا يُحبَّ بعد، فمن يرَ الموت يفزع منه إلى الحياة.
إن بريجيت تهواني، وقد يقتلها هواها، ولكنها ستندفع إلى صدر غيري إذا أنا انتحرت من أجلها. وانحنيت فوق السرير وأنا أردد كلمة: غيري … غيري … حتى لاصق جبيني كتفها العاري.
وقلت في نفسي: أليست هي أرملة؟ أفما مر الموت قربها من قبل؟ أفما اعتنت يداها الصغيرتان بمريض، وكفَّنتَا جثة ميت؟ وما تجهل دموعها الأولى المدة التي جفت بعدها، والدموع الثانية ستجف بأسرع من الأولى.
وقاني الله استهواء الوسواس الخناس! أفما بوسعي أن أقضي عليها وهي مستغرقة في نومها؟
ولو أنني نبهتها من رقادها الآن لأقول لها: إن ساعتها قد دنت، وإننا سنطلق روحينا بآخر عناق، وآخر قبلة، فإنها لن تتردد في القبول، وليكن بعد ذلك ما يكون، فأين الدليل على أن كل شيء لا ينتهي بالموت إلى الفناء؟
وكنت مشهرًا بيدي سكينًا عثرت عليه.
أهو الخوف أم الجبن أم التوهم الذي جر التفكير إلى الاعتقاد بالحياة الأخرى؟ وما يعلم عنها من يقولون بها؟ إن تلك الحياة قد أُوجدت للجاهلين وللغوغاء من الناس، وما بلغ الاعتقاد بها في أحد مبلغ اليقين؛ إذ لم ير أحدٌ من نواطير القبور ميتًا يخرج من قبره ليذهب إلى بيت كاهن فيقرع بابه. وقد مضى الوقت الذي كانت تتراءى فيه أشباح الأموات للأحياء، بعد أن حظرت الشرطة اقتحام المعمور على الآبقين من معقل الموت، فما يهتف من قبور هذه الأيام إلا من سارع الناس إلى مواراته التراب قبل خمود أنفاسه. من أخرس الموت في هذا الزمان إذا كان قد أسمع صوته من قبل؟ فهل اختار الروح المنطلق السكوت كيدًا؛ لأن الحكومات تمنع المؤمنين من الاحتشاد على الطرق لإقامة شعائر الدين؟
إن في الموت النهاية والهدف. لقد وضع الله الموت حدًّا، والبشر يتناقشون في أمره، وقد كتب على جبين كل منهم: إنك فريسة الموت شئتَ أم أبيت.
وماذا يقول الناس إذا أنا قتلت بريجيت؟ ليقولوا ما يشاءون، فلن تسمع ولن أسمع أنا بما سيتشدقون. ستنشر غدًا إحدى الجرائد أن أوكتاف ت … قتل خليلته، وبعد غد لن يتحدث بنا أحد، ويرجع كل من شيع نعشنا إلى بيته ليتناول غذاءه على عادته، وأبقى أنا وبريجيت تحت أطباق الثرى في رقاد عميق لا تنبهنا منه الأقدام السائرة فوق ترابنا.
أفلا ترين — أيتها الحبيبة — أننا سنرقد هنالك بسلام؟ أفليس التراب خير فراش وثير نتوسده فلا تجتاحه الأوصاب والأوجاع، ولن يقوم في جواره من سكان القبور من يغتابنا مُقبِّحًا اتحادنا أمام الله. هنالك ستتعانق عظامنا وقد تعرت عن كل كبرياء واضطراب، وما يعقده الموت المعزِّي لا يحل، وما يجمعه لا يُبدَّد.
لماذا ترتعش فرقًا من العدم أيها الجسد المعد ليكون فريسة له؟ كل ساعة تمر من الزمان إنما هي خطوة من قدميك نحو الفناء تقطع بها حلقة من سلسلة حياتك، وما غذاؤك إلا من كل شيء ميت، فالسماء تثقل عليك، والأرض التي تطؤها بقدميك تشد بهما لتجتذبك إليها. انزل … انزل إلى الحفرة ودع عنك هذا الخوف؛ لأنك لا ترتعش إلا لكلمة الموت، فما عليك إلا أن تقول: إنني لن أحيا بعد، وهل الحياة إلا وقر ينفس الإنسان عن كربه باطِّراحه؟ ولماذا نقف تجاه الموت مترددين إذا كان قد تحتم علينا الوصول إليه عاجلًا أو آجلًا.
إن المادة لا تفنى، وقد عالج العلماء بكل ما لديهم من الوسائل ذرة منها، فعجزوا عن إخراجها من حيز الوجود إلى العدم. فإذا كان لا مسيطر على المادة إلا تصاريف الصدفة العمياء، فأي شر ترتكبه إذا هي انتقلت من عذاب إلى عذاب آخر، ما دامت عاجزة عن استبدال سيدها المسيطر عليها؟ وهل يهتم الله للشكل الذي أبدو فيه، وللثوب الذي تتشحه أوجاعي؟ إن عذابي مستقر في جمجمتي، وهذا العذاب إنما هو ملكي وأنا حر في القضاء عليه. أما الأكرة العظمية فليست لي، فأنا أعيدها إلى من أودعني إياها، أتخلى عنها للأرض، فليتخذها شاعر كأسًا يحتسي فيها خمرة جديدة.
أية ملامة أستحق إذا أنا فعلت، ومن ذا الذي يوجه هذه الملامة إلي؟ وأي قاضٍ صارم سيحكم بالخيانة عليَّ وهو لا يعلم شيئًا من أمري؛ لأنه لم يكن كامنًا في أحشائي؟
إذا كان قد قضي على كل مخلوق بقسط من العمل لا بد له من القيام به، وإذا كان التمرد على هذا العمل جريمة، فيا للأطفال الذين يموتون على أثداء المرضعات من مجرمين! لماذا يُعفى عن هؤلاء الآبقين؟ ومَن مِن الأحياء يستفيد من الحساب الذي يؤديه الأموات؟
إذا كان وجب على الإنسان أن يعاقب على حياته؛ فإن السماء ولا ريب خالية خاوية، أفما يكفي الإنسان شقاء أن يُقضَى عليه بالحياة؟» ذلك ما قاله فولتير على سرير احتضاره، ومَن أَولَى منه بهذه الصرخة وهي أنين شيخ جاحد قطع من حياته كل رجاء؟
لأية علة يقوم هذا العراك؟ ومن هو يا ترى ذلك المُسرِّح أبصاره من العلياء على هذه المآسي؟ من هذا المشرف متسلِّيًا على مشاهد هذه المخلوقات التي لا ينقطع توالدها، ولا تنتهي مدتها، فيلذ له أن يرى الصروح تشيد، ثم تنبت الأعشاب بين أطلالها، وأن يرى الزارع يزرع ثم تكتسح العاصفات ما زرع، وأن يرى الأحياء يمشون ثم يصرخ بهم الموت: قفوا … وأن يرى الدموع تسيل حينًا ثم تجف على مساكبها، وأن يرى وجه الشبيبة متوردًا بالحب، ثم يراه مُجعَّدًا بالهرم؟
من هو هذا المتلهي بالنظر إلى الناس يجثون أمام السماء باسطين أكف ضراعتهم إليها، فلا تزيد السماء سنبلة واحدة على ما ينبت من السنابل في حقولهم؟
من هو مبدع كل هذه الأشياء ليتمجد وحده بعمله؟ إن جميع ما صنع هباء بهباء.
إن الأرض سائرة إلى الفناء، وقد قال هرشل: إن حياتها ستنتهي بالصقيع، فمن هو يا ترى الرافع على يده هذه القطرة من البخار المتجمد، المحدق بها، منتظرًا انحلالها وتطاير عناصرها، كما يحدق الصياد بوَشَلٍ من مياه البحر يتوقع تبخُّره ليظفر بالملح من راسبه.
إن نظام التجاذب الذي يعلق العوالم في مدارها إنما هو دافعها إلى الفناء قارضًا من أحشائها بشهوة لا حد لها. فما من كوكب إلا ويجر شقوته دائرًا بالأنين على محوره، وكل العوالم تتنادى من أقصى الأفلاك إلى أقصاها مشتاقة إلى راحة السكون، مفتشة عن أول كوكب يتوقف عن مسيره بينها، ولكن الله يمنعها أن تستقر، فهي دائبة أبدًا على عمل لا غاية فيه، ولا نفع منه. إنها تدور وتدور، تتألم وتحترق، تنطفئ وتشتعل، تنحدر وترتفع، تتلاصق وتتجانب، وتتشابك تشابك الحلقات حاملة على سطوحها آلافًا من المخلوقات تتجدد بلا انقطاع. وهذه الكائنات تضطرب وتتلاقى، فيلتصق بعضها ببعض برهة من الزمان، ثم تسقط ليقوم غيرها بعدها. إن الحياة تندفع دائمًا إلى حيث انعدمت الحياة كالهواء يهب أبدًا إلى حيث فرغ الهواء …
كل شيء يسير على ناموس مقرر في هذه الأفلاك، فكل مسلك خط بأسطر من ذهب ومن نار، وكل شيء ذاهب على نغمات الموسيقى السماوية، وهو يتجه أبدًا على صراط لا قبل له بالتحول عنه.
وكل هذا ليس شيئًا! وكل هذا هباء!
ونحن، نحن الأشباح التعسة التي لا اسم لها، الأشباح الناحلة المثقلة بأوجاعها، السائرة كالوهم في هذا الكون الفسيح، وما نفخت فيها نسمة الحياة إلا لتلد الموت، لا نفتأ نبذل الجهود لنثبت أن لنا مهمة كبرى، وأن هنالك من يشعر بوجودنا، فنتردد في إطلاق رصاصة على رأسنا، كأننا إذا فعلنا وهززنا كتفنا نأتي أمرًا فريًّا …
وكأن موتنا سيخرج هذا الكون عن نظامه.
لقد كتبنا وأملينا الشرائع الإلهية والإنسانية ونحن نقف واجمين خائفين مما كتبنا.
يعيش واحدنا ثلاثين سنة صابرًا على أوجاعه وهو يعتقد أن تجلده مقاومة وكفاح، في حين أنه لو أطلق على هيكل تفكيره قبضة من البارود المشتعل لاستنبت على أحد القبور زهرة ناضرة.
وكنت وأنا أتفوه بهذه الكلمات أصوب السكين إلى بريجيت، وألقي رأس النصل على صدرها، وبت فاقدًا رشدي كالمحموم، ورفعت الغطاء لأهدي السكين إلى منبض قلب خليلتي، فإذا بصليب صغير من الأبنوس يلتمع بسواده بين نهديها، وإذا بي أتراجع مذعورًا وقد تراخت أناملي عن مقبض السلاح فسقط من يدي.
وكانت عمة بريجيت هي التي أعطتها هذا الصليب في ساعة احتضارها، وما كنت قد رأيته على صدرها قبل هذه المرة، ولعلها علقته في عنقها عندما عزمنا على السفر كتعويذة تقيها الأخطار.
وشبكت كفًّا بكف فجأة والتوتْ ركبتاي، فإذا أنا راكع أهتف والارتعاش يهزني: أكنت هنا، يا سيدي؟ أكنت هنا وأنا لا أدري؟
ليقرأ هذه الصفحة من لا يؤمنون بالسيد المسيح، لقد كنت أنا أيضًا لا أؤمن، فما كنت ارتدت المعابد لا بأيام الطفولة ولا بأيام المدرسة، ولا عندما أصبحت رجلًا، فلم يكن لديني — لو صح أن تُدعى عقيدتي دينًا — رموز ولا طقوس؛ إذ لم أكن أعتقد إلا بإله لا وحي منه ولا طرق لعبادته؛ لأنني تسممت منذ مراهقتي بآداب العصر، ورضعت من أثدائه ما درَّت على الناس من عقيم الإلحاد، فكانت الكبرياء البشرية إلهة الأنانية تمنع فمي أن يتفوه بالصلاة، فتندفع روحي في ارتياعها طالبة العزاء في الكفر والجحود.
وبت كالثامل قد أضاع رشده عندما رأيت رمز المسيح على صدر بريجيت، فتراجعت منها مذعورًا لا لإيماني، بل لعلمي بأنها تؤمن به.
وقفت يدي وما شُلَّت لرهبة سنحت عبثًا، كنت في الليل منفردًا وحدي ولا تراني عين إنسان، فما كانت معتقدات الناس لتنال من روعي، وكنت أملك تحويل عيني عن هذه القطعة الخشبية، بل أملك القبض عليها وإلقاءها في الرماد، ولكنني بدل طرحها هي طرحت سلاحي.
إن ما شعرت به في تلك اللحظة نفذ إلى أعماق روحي ولما يزل مستقرًّا حتى اليوم فيها.
ما أشقى الناس الذين يهزءون بما يمكنه أن ينقذ حياة إنسان! وما يهم الاسم والشكل والإيمان. أفليس كل ما هو صالح مقدسًا؟ فبأية قحة يتطاول المخلوق على خالقه؟
وشعرت في داخلي بينبوع يتدفق من ذرى تفكيري كالجداول المنسربة من ذوبان الثلوج على القمم، وقد لمحتها عين الشمس المنيرة المحرقة، وارتفع الندم من عذابي ارتفاع البخور من مجامره.
لقد كنت على وشك ارتكاب جريمة، ولكنني ما رأيت آلة الإجرام تسقط من يدي حتى شعرت ببراءة نفسي، فقد كفَتْ لحظة لأستعيد السكون والقوة والهدى، فتقدمت إلى السرير وانحنيت على خليلتي مُقبِّلًا صليبها على صدرها، قائلًا لها: نامي بسلام، فإن عين الله ساهرة عليك. لقد مر بك أعظم خطر وأنت تبتسمين في أحلامك.
ولكن اليد التي هددت حياتك لن تمتد يومًا للإضرار بأي مخلوق، وها أنا ذا أقسم بمسيحك نفسه أنني لن أقتلك ولن أنتحر، فما أنا إلا مجنون، ما أنا إلا ولد حسب نفسه رجلًا. أنت لا تزالين حية — والحمد لله — ولسوف تستعينين بصباك وجمالك على نسياني، وإذا ما قدرت على منحي العفو لما أورثتك من داء؛ فإن عفوك نفسه سيشفيك من دائك.
نامي بأمن إلى الصباح يا بريجيت، وغدًا ستنطقين بحكمك فأرضخ لأي قرار تتخذين.
وأنت أيها المسيح، أنت يا من كنت لها منقذًا، جُدْ لي بغفرانك ولا تقل لها ما رأيت. لقد ولدت في عصر ملحد جاحد، فيا لشدَّ ما يحق عليَّ من كفارة أيها المنبثق من روح الله! إن الناس قد نسوك فما علمني أحد أن أحبك. إنني ما طلبتك يومًا في المعابد، ولكنني وجدتك الآن حيث لا أملك التغاضي عن رهبتي وخشوعي، وقد ظفرت شفتاي ولو مرة قبل موتي بتقبيلك على صدر ممتلئ بالإيمان بك؛ فليكن إيمانها حارسًا لها. وأنت يا سيدي اذكر هذا البائس الذي لم يجسر على اقتحام الموت عندما رآك مسمَّرًا على صليبك. لقد أنقذتني من الشر وأنا كافر، ولو كنت مؤمنًا لأنزلت على روحي العزاء. اغفر لمن جعلوني ملحدًا بعد أن جُدْتَ بالندامة عليَّ. اغفر لجميع المُجدِّفين؛ لأنهم لم يروك في ساعة يأسهم.
إن المسرات البشرية تقوم على السخرية ولا رحمة فيها، والسعداء في هذه الحياة يظنون أنهم في غنى عنك أيها المسيح، فإذا هم جدفوا عليك في كبريائهم؛ فإنهم سيقادون يومًا إلى معمودية الدموع. أشفقْ عليهم لأنهم يرون أنفسهم في مأمن من عواصف الحياة، ولأنهم يحتاجون إلى تأديب المصائب ليهرعوا إليك.
ليست حكمتنا وشكوكنا إلا ألاعيب أطفال في يدنا؛ فاغفر لنا لأننا نتوهم أننا كافرون. اغفر لنا أيها المبتسم على جلجلة الفداء. إن أشدَّ ما ينزل بنا من شقاء في حياتنا العابرة كالظل إنما هو محاولة غرورنا أن ينساك، وأنت تعلم — وما تخفى خافية عليك — أن هذا الغرور وَهْمٌ تبدده نظرة منك. أفما كنت رجلًا؟ وهل رفعك إلى مرتبة الألوهية غير العذاب؟ إن مرقاتك إلى السماء كانت آلة تعذيب رُفِعت منها فاتحًا ذراعيك إلى أحضان مصدرك الأسنى، ونحن على مثالك يقتادنا الألم إليك كما اقتادك إلى أبيك. إننا لا نتقدم للانحناء أمام رسمك إلا وعلى جباهنا أكاليل الشوك، ولا نلمس رجليك الداميتين إلا بأيد دامية، فإنك بعذاب الشهداء اكتسبت محبة البائسين!
٢٥ ديسمبر
عندما تصل إليك رسالتي هذه أكون بعيدة عنك، ولعلها لن تصل إليك أبدًا. إن حظي مرتبط بحظ رجل ضحيت في سبيله كل شيء؛ فهو لا يطيق الحياة بدوني، ولسوف أحاول أن أموت من أجله. إنني أحبك، الوداع. أشفق عليَّ.
إلى هنري سميث في بلدة ن … نافذة البريد.