الفصل الخامس
وعندما رأى ديجنه أن لا دواء ليأسي، وأنني أرد كل نصح، وأقبع في داري أدرك خطورة الموقف، فجاءني في إحدى الليالي ودلائل الاهتمام بادية على وجهه، فذكر عشيقتي بلهجة المزدري، وأسرف في التقريع بوجهه إلى كل امرأة مجاريًا حوافز عقيدته، وكنت منطرحًا على فراشي فجلست وأسندت رأسي إلى كفي، وأصغيت بكل انتباه لأقواله.
وكانت ليلة، بدأت تهب فيها الرياح فتسمعك أنين المدنفين، وكان المطر يضرب برشاشه زجاج النوافذ، ثم ينقطع فجأة، فتحسب الطبيعة قد فقدت الحياة في فترات السكون.
في مثل هذه الساعات يحكم الألم جميع الكائنات، فتهتز الأشجار كأنها تتلوى في أوجاعها، وتحني رءوسها حزينة عاجزة، وتهرع أطيار الحقول إلى صغيرات الأشجار متزاحمة على الملجأ الأمين، فتقفر الشوارع من كل عابر.
وكنت لا أزال أتألم من جرحي.
لقد كان لي بالأمس حبيبة، وكان لي صديق، فخانتني الحبيبة، وصرعني الصديق فألقاني على فراش الأوجاع، فأصبحت وفي رأسي من الاضطراب ما لا أهتدي معه إلى حقيقة حالي، فكنت أحسب أن ما مر بي لم يكن سوى حلم مروع، وأنني سأجد سعادتي المفقودة إذا ما فتحتُ عيني لأنوار الصباح، ثم أعود فأرى حياتي بأسرها حلمًا طائشًا ساخرًا يتكشف لي بغتة عما استتر فيه من خداع وأكاذيب.
وكان ديجنه جالسًا على مقربة مني وقد أنارت أشعة المصباح وجهه، فلاحت أمارات الجد عليه بالرغم من استمراره على الابتسام كعادته.
وما كان ديجنه بالرغم من صلابته وجموده إلا الرجل المخلص العطوف، غير أن الاختبار كان قد نال منه ونثرت الحادثات طرته، وما جهل هذا الصديق الحياة، فإنه خَبِرها وأسالت كثيرًا من دموعه، غير أنه ادَّرع الصبر، فاستحجرت آلامه، وبات يتوقع الموت.
وقال ديجنه: إنني وقد نفذت ما انطوت عليه سريرتك، أراك تعتقد بالحب كما تصوره القصصيون والشعراء، فأنت إذن تصدق ما يقال لا ما يقع في هذه الحياة. لقد ضللت السبيل السوي في تفكيرك، فإن أمعنت في السير وقفتْ بوجهك المصائب والويلات.
وهل يصور الشعراء الحب إلا كما يجسم النحاتون الجمال، وكما يبدع الموسيقيون الأنغام؟
إن أرباب الفنون وقد دقَّت أعصابهم، ووهبوا الحس المرهف يختارون أنقى عناصر الحياة، وأبدع رسوم المادة، وأروع ما في الطبيعة من نبرات.
قيل: إنه كان في أثينا عدد كبير من الغانيات الفاتنات، فعمد «براكستيل» إلى تصويرهن الواحدة بعد الأخرى، ثم استعرض مجموعته مستبعدًا عيوبها، ومستنبطًا منها مثالًا كاملًا جامعًا للمحاسن على أنواعها، فكان رسم الزهرة آلهة الجمال.
وعلى هذه الوتيرة جرى أول إنسان أوجد آلة للموسيقى مقررًا قواعدها وأحوالها، فإنه ما وضع الأنغام إلا بعد أن تنصت طويلًا إلى تغريد البلابل وحفيف الغصون.
وهكذا أوجد الشعراء أيضًا الأسماء السرية التي مرت على شفاه البشر من جيل إلى جيل، كدفنيس وكلويه وهيرو ولياندر وبيرام وتيسبه.
تلك أسماء لم يبدعها الشعراء إلا بعد أن ابتلوا الحياة، وعرفوا من المحبة سريعها وبطيئها في الزوال، وبعد أن شهدوا إلى أية درجة من الهوس يبلغ الهيام أحيانًا منقيًّا الطبيعة البشرية من أدرانها.
فإذا أنت فتشت في الواقع عن مثل هذا الحب المطلق الثابت؛ فكأنك تفتش في ميادين الجماهير عن نساء يضارعن الزهرة في روعة جمالها، أو كأنك تكلف بلبلًا إنشاد أجمل مقطوعات بيتهوفن إيقاعًا.
ليس الكمال من هذا الوجود، وكفى الذكاء البشري أنه فاز بتصوره، فإذا ما طمع في الحصول عليه رمت به شهوته إلى الخبل والجنون.
افتح نافذة غرفتك، يا أوكتاف، وتطلع! أفما تشرف منها على مدى لا نهاية له، فتشعر أن لا حد لهذه الآفاق؟ ولكن هل لك بالرغم من تصديق عقلك لشعورك أن تتصور ماهية اللانهائية؟ أيمكنك أن تدرك ما لا يُحدُّ وأنت ولدت في الأمس وغدًا ستموت؟
لقد جن الكثيرون في أنحاء العالم أمام هذا المدى الفسيح، وما نشأت الأديان إلا من الاستغراق في أسراره. ما قطع كاتون عنقه، وما استسلم المسيحيون للأسود، والبروتستانت للكاثوليك، إلا لإدراك المطلق المتعالي عن كل حصر وتحديد.
إن جميع شعوب الأرض يبسطون الأكف نحو هذا المدى الفسيح قاصدين الارتماء إليه، وفاقد الرشد يطمح إلى امتلاك السماء، أما العاقل فيكتفي بالإعجاب والخشوع، ويرتمي جاثيًا على ركبتيه كابحًا جماح شوقه.
إذا كان فسيح المدى يعجز إدراكنا، فكيف نتوسل به إلى نيل الكمال، وقد حتم علينا ألا نتجه إليه في أي شيء، وألا نتطلبه من أي شيء، لا في المحبة، ولا في الجمال، ولا في السعادة، ولا في الفضيلة، ولكننا مع ذلك ملزمون أن نتوق إليه لنبلغ في المحبة والجمال والسعادة ما يمكن لنا أن نناله.
افترض، يا أوكتاف، أن في غرفتك لوحة من ريشة رفائيل، لوحة تحسبها سالمة من كل عيب، فاقتربت منها يومًا مدققًا فيها، فوجدت في رسم أحد أشخاصها خطأ فاضحًا كعضو مكسور، أو عضلة نافرة من مركزها الطبيعي — كما يقال عن إحدى العضلات في ساعد مصارع فيها — فإنك لتشعر بالكدر ولا ريب، ولكنك لا ترمي بلوحتك إلى لهيب الموقد من أجل هذا العيب، بل تكتفي بأن تقول: إنها غير كاملة، وإن في أقسامها الأخرى ما يثير الإعجاب.
إن في العالم نساء تردهن طبيعتهن وما في عواطفهن من الإخلاص عن اتخاذ عشيقين في زمن واحد. ولقد خيل إليك أن عشيقتك من هذه الفئة، ولقد كان خيرًا لك لو أنها منها، ولكنك تحققت خيانتها، فهل في ذلك ما يدعوك إلى احتقارها، والإساءة إليها، وإلى الاعتقاد بأنها تستحق حقدك ونقمتك؟
افترض، يا أوكتاف، أن عشيقتك لم تخدعك، وأنها لا تزال تحبك دون سواك، أفلا ترى حتى في هذه الحالة أن حبها بعيد جد البعد عن الكمال، وهو حب بشري حقير يتحكم فيه خبث هذا العالم وأضاليله؟ أفتنكر أن هذه المرأة قد استسلمت قبل ما نلتها أنت إلى رجل ورجال، وأن غيرك سينالها بعدك أيضًا؟
ارجع إلى رشدك! إن ما يدفعك إلى اليأس الآن إنما هو اعتقادك بكمال كنت حليت به من تحب، فإذا هي ساقطة لا حلية لها.
ولكنك إذا ما رأيت اعتقادك على حقيقته، واتضح لك أنه توهم واغترار بشري، تدرك أن لا فرق بين السقوط دركة، وبين التدهور دركتين على شفير العيوب البشرية.
إنك لن تستطيع أن تنكر أن حبيبتك قد نالها غيرك قبلك، وسينالها غيرك بعدك أيضًا، ولكنك ستقول لي: إنك لا تهتم لهذا ما دام حبها لا يشرك بك أحدًا. أما أنا فأقول لك: إذا كان سواك قد تمتع بها، فما يهمك أن يكون وقع ذلك في الأمس أو منذ سنتين؛ وبما أن سواك سيتمتع بها بعدك، فما يهمك وقوع ذلك في هذا المساء أو بعد سنتين. إذا كانت هذه المرأة لن تحبك إلا إلى حين، فما يهمك إن قصر حبها على ليلة أو طال إلى سنين.
ألست رجلًا يا أوكتاف؟! أفما ترى الأوراق تتساقط عن أغصانها، والشمس تشرق فتغرب؟ أفما تسمع نبضات ساعة الزمان في كل خفقة من خفقات فؤادك؟ فأي فرق لدينا إذن بين غرام سنة وغرام ساعة من الزمان؟ أفليس مجنونًا من يتطلَّع من نافذة تقدرها الكف ليرى المدى الذي لا نهاية له.
أنت تلقب المرأة التي تحبك عامين دون أن تخونك بالمرأة الشريفة، ولعل لديك مقياسًا خاصًّا تعرف منه ما تقتضيه قبلات الرجال من الزمن لتجف على شفاه النساء.
إنك لتجد فرقًا كبيرًا بين المرأة التي تستسلم للحصول على المال، وبين من تستسلم طلبًا للذة، وتجد مثل هذا الفرق أيضًا بين من تبذل نفسها إجابة لداعي الكبرياء، ومن تبذلها في سبيل إخلاصها. إن بين من تشتري من النساء مَن تُقدِّر لها ثمنًا يزيد على ثمن سواها، وبين اللواتي تطلب فيهن تمتع حواسك من تنال ثقتك دون سواها، وبين من يدفعك الغرور إلى نيلهن من تباهي بالظفر بها بأكثر مما تُباهي بامتلاك أخرى سواها، وبين من تخلص لهن أنت من تهبها ثلث قلبك، في حين أنك لا تهب الأخرى سوى ربعه، وتهب غيرهما نصف هذا القلب، وذلك تبعًا لما تقدره لإحداهن من التهذيب والعادات، وما تراه لها من كرامة الأصل، وروعة الجمال، واعتدال المزاج، وتبعًا للظروف الطارئة أيضًا لما يقوله الناس، وبحسب تأثير الساعة وما تناولت من مشروب مع عشائك.
إن النساء يستسلمن إليك، أيها الصديق، لا لسبب إلا لأنك في شرخ الشباب المتقد، ولأن استدارة وجهك لا عيب فيها، ولأن شعرك مُسرَّح باعتناء، ولكنك لاتِّصافك بهذه الصفات لا تعرف من هي المرأة.
إن أول ما ترمي الطبيعة إليه إنما هو استبقاء النوع؛ لأن الحياة أينما تجلت من قمم الراسيات إلى قعر البحار تفزع من الموت، وتنفر من الفناء، وما فرض الله هذا الناموس إلا استبقاء لخليقته، فوضع اللذة العظمى في الاتصال الجنسي بين الأحياء.
إن النخيل يرتعش غرامًا عندما يرسل إلى أُنثاه ذرات الحياة تحملها سافيات الرياح، وإذا قاومت الوعل أنثاه فإنه لا يني ينطحها حتى يبقرها، والحمامة تنتفض تحت جناحي زوجها كأرق العشيقات إحساسًا.
وهكذا الرجل، عندما يضم رفيقته بين ذراعيه أمام عظمة هذا الوجود يشعر بالشرارة الإلهية التي خُلق منها تهب مشتعلة في صميم فؤاده.
أيها الصديق، إذا ما ضممت إلى صدرك امرأة ملؤها الصحة والجمال، وشعرت بسكرة الغرام تفجر الدمع من مآقيك، وبالخلود في صميم فؤادك يدفع إلى شفتيك بالقسم تزفره زفرًا بثبات حبك إلى الأبد، فلا تكبح جماح نفسك، حتى ولو كانت المرأة التي تضم بين ذراعيك من بنات المواخير، ولكن حذار ألا تميز بين الخمرة التي تكرعها، والثمل الذي يسود مشاعرك منها، ولا تحسبن الكأس هي الكوثر الذي تشربه. وهكذا لن تتفجع إذا ما رأيت هذه الكأس محطمة أمامك في إحدى الليالي، فما المرأة إلا وعاء من صنعة الخزاف سريع سقوطه، وسريع انحطامه.
وجِّه شكرك لله؛ لأنه سمح لك بأن تلمح السماء، فلا يخدعنك في جوانحك خفقان تحسبه خفوق جناح؛ فإن الأطيار نفسها لا يُمكنها أن تخترق السحاب، وفي الأعالي طبقات لا هواء فيها. أفما رأيت القنبرة ترتفع محلقة إلى مسارح الضباب وهي تُغرِّد لترتمي بعد تحليقها ميتة إلى أخاديد الحقول؟
اكرع من الحب ما يكرعه الشارب المعتدل، وإياك أن تصبح سكيرًا.
إذا كانت عشيقتك أمينة مخلصة، فأحببها من أجل أمانتها وإخلاصها، وإذا لم تكن فيها هذه الصفات وكانت فتية وجميلة، فأحببها من أجل فتوتها وجمالها، وإذا لم يكن لها مزية سوى الملاحة وخفة الروح، فأحببها من أجل ذلك أيضًا، وإذا لم يكن لها شيء من جميع هذه الصفات، ولها تعلقها بك؛ فلا تمنع حبك عنها، فما يجد الرجل في كل مساء امرأة تتعشقه.
وإذا ما عرفت أن لك مزاحمًا في حب من تهوى؛ فلا تشد ناصيتك، ولا تعلن أنك ستنتحر. إن غرورك يخدعك فيخيل إليك أن حبيبتك تخونك بالتصاقها بسواك، غير أنك إذا عكست نظريتك المكذوبة فقلت في نفسك: إن حبيبتك تخون مزاحمك بالتصاقها بك؛ فإنك لترى النصر في جنبك لا في جنبه.
إياك أن ترسم لنفسك خطة تلتزم سلوكها، فلا تقل إنك تريد حبًّا مطلقًا لا شرك فيه؛ لأنك إذا قلت بهذا المبدأ ستضطر — وأنت إنسان متقلب بالطبع — أن تستدرك خطأك فتضيف إلى قولك كلمة: «على قدر المستطاع.»
كن راضيًا بالزمان كما يجيء، وبالهواء كما يهب، وبالمرأة على ما هي عليه.
إن المرأة الإسبانية، وهي من الطراز الأول في النسوية، تحب بلا شك، فقلبها مخلص مضطرم، ولكنها تخفي خنجرًا تحت أثوابها فوق هذا القلب، والإيطالية تتقد شهوة، ولكنها تفتش عن عريض المنكبين، وتقدر قدر عشيقها كما يأخذ الخياط قياس زبائنه، والإنكليزية متحمسة تستسلم للكآبة، ولكنها باردة متعجرفة، والألمانية رقيقة الشعور، ولكنها باهتة جامدة. أما الفرنساوية فإنها ظريفة رشيقة، ولكنها أكذب من الشيطان.
لا تلقِ على المرأة تبعة ما هي عليه؛ لأننا نحن أوجدناها في حالتها بتشويهنا في كل سانحة ما أوجدته الطبيعة فيها، وما الطبيعة بغافلة في عملها، فإنها تعد العذراء للعشق، حتى إذا خرج الولد من أحشائها تساقط شعرها، وهبط نهدها، واحتفظ جسمها بآثار جراحه، فالمرأة لم تُخلَق إلا لتكون أُمًّا. ولقد يبتعد الرجل عنها بعد أن تكون أدت مهمتها، فيستفزه الجمال المفقود، ولكن طفله يتعلق بأذياله، ويشده إلى مسكنه باكيًا. هذي هي الأُسرة، وذلك هو الناموس الطبيعي، وما يهتدي إلى السبيل السوي مَن تحول عنه.
إن فضيلة أهل القرى قائمة على أن المرأة في مجتمعهم إنما هي آلة للتوليد وللإرضاع، كما أنهم هم أنفسهم آلات حرث وزرع. فليس هنالك شعور مستعارة ولا أصباغ ولا أدهان، غير أن العشق عندهم سليم من الجرب، فلا يخيل لهم أنهم في اقترانهم يكتشفون عالمًا جديدًا، وإذا كانت نساؤهم محرومات من الحس المرهف في الشهوة؛ فإنهن سليمات من العلل، وإذا ما خشنت ملامس أيديهن؛ فإن خشونتها لم تتطرق إلى قلوبهن.
لقد ذهبت الحضارة مذاهب لا تأتلف والنظم الطبيعية، فإن العذراء الكاعب سجينة وراء الأقفال، وهي المخلوقة للشمس والهواء الطلق، ومن حقها أن تشهد مصارعة الشباب كما كانت تشهدها بنات لاسيديمونيا لترجح حرة وتحب مختارة، ولكن سجنها لا يحول دون تطرق العشق إليها، فإنها تجد الفساد في وقوفها أمام مرآتها، فيدب إليها النحول من جمودها، ويذوي في سكون الليالي جمالها المختنق متشوقًا إلى الهواء، إلى أن يأتي يوم تسحب فيه من سجنها فجأة وهي لا تعرف شيئًا، ولا تحب شيئًا، وتشتهي كل شيء، وتتولى إحدى العجائز تعليمها بإلقاء كلمة سفيهة في أذنها، ثم تؤخذ بعد هذا الدرس لتُلقى على فراش رجل مخبول يغتصبها اغتصابًا.
ذلك هو الزواج، أو بالأحرى ذلك هو منشأ الأسرة المتمدينة …
وتمر الشهور فإذا بالفتاة تقذف إلى الوجود بطفلها، وإذ بشعرها يتساقط وبصدرها يتدلى فوق جسم شوهته التجاعيد.
لقد فقدت هذه المسكينة جمال العاشقات قبل أن تعشق، فهي لا تعرف لماذا حبلت، ولماذا أصبحت أمًّا …
يقدم الطفل لهذه المرأة ويقال لها: أنت الآن أمٌّ، فتجيب قائلة: لست أمًّا. اذهبوا بهذا الطفل إلى مرضع فما في ثديي لبن له.
وهل يدر اللبن صدر مثل هذا الصدر المغتصب؟
ويؤيد الزوج هذا الرأي معلنًا أن تعلُّق الطفل بأمه ينفره منها.
تجلس هذه المرأة على سرير مخاضها الدامي، فيُوشَّى بالأطالس، وتُبذل العناية لشفائها من داء أمومتها، وما يمر الشهر حتى تراها تجوب المسارح، وتنتقل من مرقص إلى مرقص، ويُرسَل الطفل إلى مرضع في إحدى القرى. أما الزوج فيدلج إلى المواخير تحت جنح الظلام.
ويدور بالمرأة عشرات الشباب يتدفق بيانهم بكلمات الحب والإخلاص والوله والعناق الدائم، فتسمع من أفواههم كل ما كان يدور في خلدها، فلا تلبث أن تختار أحدهم لتضمه إلى صدرها، ويندفع هذا المختار إلى تدنيسها، ثم يتحول عنها ليداعب الحظ في مؤسسات القراطيس المالية.
قضي الأمر، فليس لهذه المرأة أن تعود أدراجها، تستخرط في البكاء ليلة، ثم ترى أحداقها حمراء مما ذرفت من دموع، فتتخذ عشيقًا آخر تسلو به همها، فيسلمها الثاني إلى ثالث إلى أن تبلغ الثلاثين أو تتجاوزها، فيدب الفساد قاضيًا فيها حتى على الاشمئزاز، وتصادف في ليلة من ليالي جموحها يافعًا يتدفق الجمال من محياه، وتتدلى طرته السوداء على إشراق جبينه، ترسل عيناه شرارات الحياة، وتخفق في فؤاده الأماني العذاب، فترى فيه جمال شبابها، وتتذكر ما تحملت من شقاء، فتسارع إلى تلقين هذا الفتى ما تلقنته هي من الحياة، فتقضي عليه بألا يحب طوال عمره.
هذه هي المرأة كما أردناها، وما عشيقاتنا إلا من هذا الطراز، ولكننا نمضي معهن أطيب الأوقات. فإذا كنت ذا حزم ولك ثقة برجولتك، فاتبع ما أشير به عليك، استسلم بلا وجل لتيار الحياة، تمتع ببنات الحانات والمواخير، وبسيدات البيوت والقصور. كن ثابتًا ومتقلبًا، كن حزينًا ومرحًا في وقت واحد، ولا تبالِ أخدعتك المرأة أم حفظت عهدك، ما دمت واثقًا من أنها أَولَتْك حبها.
إذا كنت رجلًا عاديًّا لا مزية لك، فكن محترسًا في اختيارك، وعلى كلٍّ لا تضع نصب عينيك أية صفة من الصفات التي تتمنى وجودها في عشيقاتك.
أما إذا كنت ضعيفًا، وفي فطرتك صفات المسود لا مزايا السيد، وإذا كنت تشعر أن في جذورك اندفاعًا إلى التغلغل حيث تعثر بحفنة من تراب، فالأجدر بك أن تتخذ عدتك للمقاومة؛ لأنك إذا ما استسلمت لضعفك، فلا تتوقع نمو فروعك حيث علقت أصولك؛ لأنك ستجف كالنبتة العليلة لا تورق أغصانها، ولا تنور أزهارها، فينسرب نسغ حياتك إلى الجذوع الغريبة، وتبقى أوراقك كأوراق الصفصاف باهتة متراخية صفراء، وعندئذ لن تجد ما يرويك غير دموعك، وما يغذيك سوى قطع قلبك.
أما إذا كنت متحمسًا تؤمن بالأحلام، وتطمح إلى تحقيقها؛ فإنني أقول لك بكل صراحة: إن الحب وهم لا حقيقة له.
وما أنا بمنكر عليك صحة مذهبك في الحب؛ لأنه عبارة عن أن يهب الإنسان جسده وروحه معًا، بل هو اندغام شخصين في ذات واحدة تتمشى تحت الشمس، وتجول في الحقول المزهرة، تلتف بأربعة معاصم، وتفكر برأسين، وتشعر بقلبين.
ما الحب إلا إيمان وعقيدة بوجود السعادة على هذه الأرض.
ما الحب إلا المثلث المتألق بالنور على قبة هيكل الوجود، فإذا أنت أحببت مشيت حرًّا تحت قبة هذا المعبد، وإلى جنبك المرأة التي لا يفوتها إدراك سر خشوعك عند وقوفك لفكرة تخطر لك، أو عند زهرة تلمحها، فتتوجه بنظرة استغراق إلى هذا المثلث السماوي.
إن خير ما في الوجود هو أن يتمتع الإنسان ببذل ما أعطي له من قوة؛ لذلك كانت العبقرية أروع ما يستهوي النفوس، ولكن إذا ما ضاعف الإنسان هذه القوة بضمِّه فكرًا إلى فكره، وعاطفة إلى عاطفته؛ فإنه يبلغ السعادة العظمى، وفيها يتناهى ما وهب الله للناس في هذه الحياة؛ لذلك كانت المحبة أفضل من العبقرية.
تلك هي المحبة، فقل لي الآن إذا كانت العاطفة العليا هي ما نسميه محبة في قلوب نسائنا.
وكيف يكون حبهن حبًّا؟ وما المحبة في نظرهن إلا الخروج مقنَّعات من بيوتهن، وتوجيه الرسائل السرية، والسير بذعر على رءوس الأقدام، وإنشاء الدسائس، وبذل التهكم، ورشق اللحاظ الفواتر، وإرسال تنهدات العذارى، وارتداء الأثواب النفيسة، وخلع هذه الأثواب أخيرًا وراء الأقفال لإذلال مزاحم، وخيانة زوج، والنكاية بعشيق.
أجل، ما المحبة في نظر نسائنا إلا التلهي بالأكاذيب كما يتلهى الأطفال بلعبة الكمين. تلك هي فحشاء القلب، وهي أقبح من الدعارة الرومانية، وذلك هو المسخ المولود سفاحًا من الفضيلة والرذيلة، تلك هي مهزلة الحياة التي تمثل بالهمس والغمز؛ حيث يتجلى كل شيء صغيرًا لا شكل له في رشاقته، فكأنه تمثال صيني لخلقة من عجائب المخلوقات، تلك هي الجنة تتحكم في الجمال والقبح، وفي كل ما هو سماوي وجهنمي في الأرض، تلك هي الأظلال التي لا حقيقة لها، بل هي رمة العظام المتداعي من كل هيكل أقامه الله في الحياة.
هذا ما قاله ديجنه بعباراته اللاذعة متوهجة تحت جنح الظلام.