عين أبولو
كان ذلك البريق الضبابي الفريد، الذي يجمع بين الحَيرة والشفافية في آنٍ واحدٍ، ذلك السر الغامض القابع بين ضفاف نهر التايمز، يتحوَّل أكثر فأكثر من لونه الرمادي إلى بريقه مع صعود الشمس إلى قمة السماء فوق وِستمنستر، حين اجتاز رجلان جسر وِستمنستر. كان أحد الرجُلين فارع الطول والآخر شديدَ القِصَر، حتى إنَّ المرء قد يُشبِّهُهما ببُرج الساعة الذي يعلو البرلمان بخيلائه والكتِفِين المُحدَّبتَين المُنحدرتَين الأكثر تواضعًا من كنيسة وِستمنستر؛ إذ كان القصير يرتدي زيَّ الكَهَنة. بالنسبة للوصف الرسمي للرجل الطويل، فكان إم هيركيول فلامبو، مخبر خاص، وكان مُتَّجهًا إلى مكتبه الجديد الكائن في مجمع شُقق جديد مُطلٍّ على مدخل الكنيسة. أما عن الوصف الرسمي للرجل القصير، فهو المُبَجَّل جيه براون المُلحق لدى كنيسة القديس فرانسيس زافيَر، بكمبرويل، والذي جاء من جلسة اعترافٍ على فراش الموت في كمبرويل لرؤية مكتب صديقه الجديد.
كان المبنى على الطراز الأمريكي في ارتفاعه الشاهق كناطحات السحاب، وأيضًا في تجهيزاته ذات الكفاءة العالية من المصاعد والهواتف. ولكنه لم يكن قد اكتمل بعدُ ولم يكن يعمل به عدد كافٍ من الموظفين، فلم ينتقل إليه سوى ثلاثة مُستأجِرين؛ كان المكتب الذي يعلو مكتب فلامبو مباشرة مأهولًا، وكذلك المكتب الكائن أسفلَه مباشرةً، أما الطابقان العلويَّان الآخران والطوابق الثلاثة السُّفلى الأخرى، فكانت خاليةً تمامًا. لكن من النظرة الأولى إلى هذا البُرج الشاهق، ستلمح شيئًا أكثر جاذبيةً بكثير؛ باستثناء بعض آثار السقَّالات، كان هذا الشيء المُتوهِّج يقِف مُنتصبًا أمام المكتب الذي يعلو مكتب فلامبو مباشرة، وكان عبارة عن مُجسَّم ضخم مَطليٍّ بالذهب لِعَينٍ بشريةٍ تُطوِّقها إشعاعات من الذهب ويشغل مساحة كبيرة تُعادل اثنتَين أو ثلاثًا من واجهات المكتب.
قال الأب براون متسائلًا وهو يقِف ساكنًا بلا حَراك: «ما هذا بحق السماء؟» قال فلامبو ضاحكًا: «أوه! إنه دِين جديد؛ واحد من تلك الأديان الجديدة التي تغفر لك خطاياك بمجرَّد أن تقول إنك لم تقترِف أيًّا منها أبدًا. إنه أشبه بجماعة العِلْم المسيحي على ما أعتقد. في الواقع لقد أخذ شخص يُطلق على نفسه كالون (لا أعرف اسمه الحقيقي، باستثناء أنه يستحيل أن يكون هذا الاسم) الشقة التي تعلو مكتبي مباشرة. ثَمَّة كاتِبَتان على الآلة الكاتبة في المكتب أسفل مكتبي، وهذا الكهل الأفَّاك المُتحمِّس يقطن فوقي. إنه يطلق على نفسه الكاهن الجديد للإله أبولو ويعبُد الشمس.»
قال الأب براون: «دعه ينظر إلى لخارج. لقد كانت الشمس أكثر الآلهة جميعًا قساوة. ولكن إلامَ ترمُز هذه العين المُخيفة؟»
أجابه فلامبو: «حسبما فهمتُ، إنها نظرية خاصة بهم مفادها أنَّ المرء يستطيع تحمُّل أيِّ شيء لو كان عقله في غاية الرصانة والهدوء. والرمزان البارزان لهم هما الشمس والعين المفتوحة؛ فهم يقولون إنه إذا كان الإنسان يتمتع بصحةٍ جيدة حقًّا، فبإمكانه التحديق في الشمس.»
قال الأب براون: «لو كان يتمتع بصحَّةٍ جيدة حقًّا، لما اكترث بالتحديق فيها.»
تابع فلامبو بلا اكتراث: «حسنًا هذا كلُّ ما يمكنني إخبارك به عن الدين الجديد، الذي يزعم بالطبع أنه يُعالج كلَّ الأمراض العضوية.»
سأل الأب براون بفضول جاد: «هل يقدر على مُعالجة المرض الرُّوحاني الأبرز؟»
سأله فلامبو مُبتسمًا: «وما المرض الرُّوحاني الأبرز؟»
قال صديقه: «اعتقاد المرء أنه على خير ما يُرام.»
كان فلامبو مُهتمًّا بالمكتب الهادئ الصغير الكائن أسفلَه أكثر من المعبد المُزَخْرَف الكائن فوقه؛ فقد كان جنوبيًّا بحتًا لا يرى نفسه إلا كاثوليكيًّا أو مُلحدًا، والأديان الجديدة ذات الطابع البَرَّاق والباهِت على حدٍّ سواء لم تكن تُثير اهتمامه كثيرًا. ولكن البشر كانوا نُصب اهتمامه طَوال الوقت، خاصة إذا كان مظهرهم جذَّابًا، كما أنَّ السيدتَين اللَّتَين تعيشان في الطابق الأسفل كانتا صاحبَتَي شخصية مميزة. كان المكتب تديره شقيقتان كلتاهما سمراء البشرة ونحيلة، وكانت إحداهما طويلةً وأخَّاذة، ملامحها داكنة وحادَّة ومعقوفة؛ كانت واحدة من تلك النساء التي تُذكِّرك عندما تُفكِّر في ملامحها بحافة السلاح المُدبَّبة. كانت تشقُّ طريقها على ما يبدو في الحياة بقوة. كان في عينَيها بريق مُخيف، ولكنه كان كبريق الفولاذ لا بريق الألماس؛ وكان قوامها النحيل الممشوق بمثابة ظلٍّ مُتيبِّس لا يعكس جماله ورشاقته. كانت شقيقتها الصغرى كظلٍّ مُصغَّر لها، وكانت أكثر شحوبًا وكآبةً قليلًا، وأقلَّ شأنًا كثيرًا. كانت كلتا الفتاتَين ترتدي بذلة سوداء رسمية ذات أساور وياقة رجالية صغيرة. كانت مكاتب لندن تمتلئ بآلاف السيدات لهنَّ ذات الطابع الجاف والعنيف، ولكن اهتمامهنَّ كان مُنصبًّا على وضعِهنَّ الحقيقي وليس الظاهري.
أما عن بولين ستاسي، الشقيقة الكبرى، فكانت في الواقع وريثة لشعار نَبالة ونصف أراضي إحدى المقاطعات إلى جانب ثروةٍ هائلة؛ وقد نشأت بين القلاع والحدائق، قبل أن تقودها شراسة قاسية (تُميِّز المرأة العصرية) إلى ما اعتبرَتْه وجودًا أسمى وأكثر صلابة. والواقع أنها لم تتخلَّ أبدًا عن أموالها، وهو الأمر الذي كان يُعبِّر عن نزعة رومانسية أو رهبانية تتنافى تمامًا مع طبيعتها النفعية المُستبدَّة. وقد احتفظَتْ بثروتها لنفسها، حسبما تقول، من أجل استثمارها في أغراضٍ اجتماعية عملية، ووضعَتْ جُزءًا منها في عملها، الذي كان بمثابة نواةٍ لمركزٍ ضخْم للطباعة على الآلة الكاتبة؛ وجزء منها وُزِّع على العديد من الجمعيات والروابط والحملات من أجل الارتقاء بهذا العمل بين النساء. لا أحد يعرف بالضبط إلى أيِّ مدًى تشاركها شقيقتها وشريكتها جوان في هذه المثالية المُملَّة إلى حدٍّ ما، ولكنها تتبع خُطى قائدتها تمامًا كالكلب الوفي الذي يتبع صاحبه، وهو ما كان يحمل جاذبية، بطريقةٍ أو بأخرى، بما يتخلَّله من لمحة التراجيديا، فاقت جاذبية شقيقتها الكُبرى ذات الطبع الحاد والحماسي، فلم يكن لدى بولين ستاسي ما تقوله للتراجيديا؛ وكان مفهومًا أنها تُنكر وجودها.
في أول مرة يدخل فيها فلامبو البِناية، أُعجِب بتسرُّعها المُتعنِّت ونفاد صبرها الفاتر؛ فقد تلكَّأ أمام المصعد في رَدْهة المدخل في انتظار عامل المصعد الذي عادةً ما يرشد الغرباء إلى الطوابق المختلفة، ولكن تلك الفتاة التي كان لها عينان لامعتان كعينَي الصقر رفضت علانيةً أن تتحمَّل مثل ذلك التأخير المشروع، وقالت بحِدَّة إنها تعرف كلَّ شيءٍ عن تشغيل المصعد وإنها لا تعتمد على صِبيةٍ أو رجال. وعلى الرغم من أن شقَّتها كانت بالطابق الثالث فقط، استطاعت خلال رحلة الصعود التي لم تستغرِق سوى ثوانٍ أن تُعطي فلامبو قدرًا هائلًا من آرائها الجوهرية بأسلوب فظٍّ طليق، وكان الانطباع العام من هذه الآراء أنها امرأة عاملة عصرية وتُحبُّ آلات العمل العصرية. وكانت عيناها السوداوان اللامعتان تشتعلِان بالغضب الجمِّ ضدَّ أولئك الذين يَهزءون بالعلوم الميكانيكية ويطالبون بعودة الرومانسية؛ فعلى الجميع، على حدِّ قولها، أن يكونوا قادرين على استعمال الآلات، مِثلما استطاعت أن تستعمل المِصعد. بدا عليها الامتِعاض إلى حدٍّ كبير عندما فتح لها فلامبو باب المصعد، ثم صعد ذلك السيد النبيل إلى شقته مبتسمًا وبداخله مشاعر مُختلطة نوعًا ما كلما تذكَّر تلك المرأة المُستقلة ذات الطِّباع النارية الحادة.
بالطبع كان لها طبع لاذع وعملي نوعًا ما؛ فقد كانت إيماءات يدَيها النحيفتَين الرائعتَين حادَّة أو قد تصل حتى إلى حدِّ التدمير. ذات مرة دخل فلامبو مكتبها بخصوص مهمة مُتعلقة بالكتابة على الآلة الكاتبة، ووجدها تقذِف بنظارة أختها على الأرض في منتصف الغرفة وتسحقها بقدمِها. كانت في خِضَمِّ خطبة أخلاقية مُسهِبة عنيفة كانت تُلقيها على مسامع أختها عن «المبادئ الطبية الباعِثة على الغثيان» وعن الاعتِراف البغيض بالضَّعف مُتمثلًا في مثل هذه الأداة الزجاجية، وتحدَّتْ شقيقتها أن تأتي بمِثل هذه القمامة الصناعية المُضرَّة إلى المكتب مرة أخرى. سألت شقيقتها إذا ما كانت تتوقَّع منها أن ترتدي ساقًا خشبية أو شَعرًا مُستعارًا أو عينًا زجاجية؛ وبينما كانت تتحدَّث، لمعتْ عيناها كبلورة شديدة اللمعان.
ووسط ذهوله من هذا التعصب، أبى فلامبو أن يُحجم عن سؤال الآنسة بولين (بمنطقه الفرنسي المباشر) لماذا تكون النظارة علامةً بغيضة على الضَّعف أكثر من استخدام المصعد، ولو كان من شأن العلم أن يساعدنا في مسعًى ما، فلِمَ لا يساعدنا في مسعًى آخر؟
قالت بولين ستاسي بتعالٍ: «ذاك أمر مختلف تمامًا. إنَّ البطاريات والمُحركات وكل تلك الأشياء هي علامات تدلُّ على قوَّة الرجل، يا سيد فلامبو، وتدلُّ على قوة المرأة أيضًا! يجب أن يأخذ كل منَّا دوره على هذه المحركات العظيمة التي تلتهم المسافة وتتحدَّى الوقت. وذاك شيء عظيم ومُبهر؛ وهذا هو العلم الحقيقي. أما هذه الدعامات واللاصقات الكريهة التي يبيعها الأطباء، فهي ليست سوى شاراتٍ تدلُّ على الجُبن، يلصقها الأطباء على سيقاننا وأذرعنا كما لو كنا جئنا إلى الحياة مُعاقين وعبيدًا مُعتلِّين. ولكنني يا سيد فلامبو وُلِدتُ حرة! كل ما في الأمر أن الناس يعتقدون فقط أنهم بحاجةٍ إلى هذه الأشياء؛ لأنهم دَرَجوا على الخوف بدلًا من القوة والشجاعة، تمامًا كما تُخبر المُربِّيات السخيفات الأطفال ألا يُحدِّقوا بالشمس؛ ومن ثمَّ لا يستطيعون أن يُحدِّقوا بها دون أن تطرف أعينُهم. ولكن لماذا لا بدَّ أن يكون هناك نجم بين النجوم لا أراه؟ فالشمس ليست ولِيِّي، وسأفتح عينيَّ وأُحدِّق بهما وقتما أشاء.»
قال فلامبو بانحناءةٍ غريبة: «عيناكِ ستُبهران الشمس.» وجد فلامبو مُتعةً في امتداح هذا الجمال القاسي الغريب، وهو ما قد يُعزى جُزئيًّا إلى أنه قد أفقدها توازُنها بعض الشيء. ولكن عندما صعد إلى الطابق الذي يقع به مكتبه، أخذ نفسًا عميقًا وزفرَهُ مُصدِرًا صوتَ صفير قائلًا لنفسه: «إذن لقد وقَعْتِ في يدَي هذا المشعوذ ذي العين الذهبية القابع بالأعلى.» فبرغم قلَّة اهتمامه بدِينِ كالون الجديد وعدم معرفته الكثير عنه، فقد سمع أن كالون لدَيه نظرية خاصَّة عن التحديق بالشمس.
وسرعان ما اكتشف أنَّ الرابط الروحاني بين الطوابق أعلاه وأسفلَه كان وثيقًا وفي تزايُد. كان الرجل الذي يدعو نفسه كالون مخلوقًا مَهيبًا يستحقُّ أن يكون كاهن أبولو لما يحمِله من صفاتٍ جسدية. كان في نفس طول فلامبو تقريبًا، ولكن أكثر منه وسامة، وكانت له لحية ذهبية وعينان شديدتا الزُّرقة وشعر طويل كثيف يُغطي عنقه من الخلف كلُبدة الأسد. كان في بُنيانه يُشبه وحش نيتشه الأشقر، ولكن كل هذا الجمال الحيواني كان يتضاعف ويتلألأ ويزداد نعومةً بذكائه ورُوحانيته الحقيقيَّين. لو كان يُشبه أحد ملوك ساكسونيا العظام، لكان أشبه بأحد الملوك القدِّيسين. كل هذا بالرغم من الطابع السُّوقي المُناقض الضارب في مُحيطه؛ فالواقع أنه كان لديه مكتب يتوسَّط إحدى البنايات الكائنة في شارع فيكتوريا، ولديه موظف (وهو شابٌّ عاديٌّ يرتدي بذلة رسمية) يجلس في الغرفة الخارجية الواقعة بين مكتب كالون والممر، وكان اسمه محفورًا على طبقٍ نحاسي، ورمز عقيدته المُذَهَّب مُعلقًا فوق البناية في الشارع، كإعلان عن طبيب عيون. لم تُفلح كل هذه الخشونة والسوقية في أن تنزِع عن هذا الرجل طغيانه وتأثيره المُلهِم الواضحَين بقوة، والمُنبثقَين من رُوحه وهيئته الجسدية. وبرغم كل ما قيل، كان المرء يشعُر في حضور هذا المشعوذ أنه في حضرة رجل عظيم. حتى وهو يرتدي سترة البذلة المصنوعة من الكتَّان كزيٍّ رسمي في مكتبه، كان يبدو بهيئةٍ أخَّاذة ومهيبة؛ وعند ارتدائه زيَّه الكهنوتي الأبيض مُتوَّجًا بحلية الرأس الذهبية التي يرتديها عند تحية الشمس يوميًّا، يبدو حقًّا في أَوْج هيبته، حتى إنَّ ضحكات المارَّة في الشارع تخفُت على شفاههم فجأةً في بعض الأحيان؛ إذ يخرج عابد الشمس الغريب ثلاث مراتٍ في اليوم إلى شرفته الصغيرة، مُواجِهًا وِستمنستر بأكملها، مُردِّدًا بعض الابتهالات لإلهِهِ الساطع؛ مرة عند طلوع الفجر، ومرة عند الغروب، ومرة عند الظهيرة. كانت أصداء أجراس الكنيسة في الظهيرة لا تزال تتردَّد بخفوتٍ بين أبراج البرلمان والكنيسة، حين نظر الأب براون، صديق فلامبو، إلى أعلى للمرة الأولى ورأى قسَّ أبولو بردائه الأبيض.
كان فلامبو قد رأى ما يكفي وزيادة من هذه التحيات التي يُرسلها يوميًّا إلى أبولو، واندفع إلى رَدْهة المبنى الشاهق دون حتى أن ينتظر صديقه الكاهن ليَتبعَه. ولكن الأب براون، سواء من مُنطلق اهتمامه بالشعائر النابع من طبيعة مهنته، أو لاهتمامٍ شخصي قوي بالأشياء التافهة، وقفَ وحدَّق في شرفة عابد الشمس وكأنه يقف ويُحدِّق في عرضٍ للعرائس. كان الرسول كالون واقفًا بالفعل مُرتديًا ملابس فضيَّةً ويرفع يديه وكان صوته المُجلجِل على نحوٍ غريب مسموعًا في أرجاء الشارع المُزدحم وهو يتلو ابتهالاته للشمس. كان بالفعل في منتصف ابتهالاته، وعيناه مُثبَّتتان على قُرص الشمس المُشتعل. من غير المؤكد أن يكون قد رأى أيَّ شيءٍ أو أيَّ شخصٍ على هذه الأرض، ولكن من المؤكد إلى حدٍّ كبير أنه لم يرَ قسًّا ذا وجه مستدير تبدو عليه آثار الذهول في الحشد المجتمع بالأسفل، يتطلع إليه وهو يرمش بعينَيه. ولعلَّ هذا كان الاختلاف الصارخ بين هذين الرجُلين المختلفَين إلى حدٍّ بعيد؛ فلم يكن بمقدور الأب براون أن ينظر إلى أيِّ شيء بدون أن تطرف عينُه؛ أما كاهن أبولو فكان يستطيع النظر إلى وهَج الشمس في سماء الظهيرة دون أن يرجف له جفن.
صاح الرسول قائلًا: «أيتها الشمس، إنك لَنَجم أعظم من أن يبقى وسط باقي النجوم! أيتها النافورة التي تنساب على استحياء في هذه البقعة السريَّة التي تُسمَّى الفضاء. الأب الأبيض لكلِّ الكائنات الحيَّة البيضاء، والنيران البيضاء، والزهور البيضاء، والقمم البيضاء. أنت الأب الأكثر نقاءً من أكثر الأطفال نقاءً وهدوءًا؛ منبع الصفاء، حيث السلام الذي …»
كان ثَمَّة جَلبة واندفاع كأن صاروخًا تجذبه الجاذبية للأرض شقَّهُما صراخ مدوٍّ ومتوالٍ؛ إذ اندفع خمسة أشخاص داخل بوابة البناية بينما اندفع ثلاثة آخرون خارجها، ودوَّت أصواتهم في لحظة حتى كاد يُصِمُّ بعضهم بعضًا. بدا الشعور المفاجئ بالرعب للحظةٍ وكأنه قد ملأ نصف الشارع بأنباء غاية في السوء؛ إذ لا أحد يعرف ماهية تلك الأنباء. بقِيَ شخصان ساكنَين بعد كل هذه الجَلبة؛ كاهن أبولو الأبيض الواقف في الشرفة بالأعلى، وكاهن المسيح الدميم بالأسفل.
وأخيرًا ظهر فلامبو بقامته الطويلة وطاقته الهائلة في مدخل البناية وتمكَّن من السيطرة على الحشد الصغير، وراح يتحدَّث بأعلى صوته كصافرة الإنذار، مُطالبًا بأن يأتي أحدهم بجرَّاح؛ وبينما هو عائد إلى المدخل المظلم والمزدحِم، لَحِق به الأب براون غير مكترث. حتى وهو يخُوض طريقه وسط هذا الحشد مُحاولًا تفاديه، كان لا يزال يسمع النغمة المهيبة ذات الوتيرة الواحدة لكاهن إله الشمس وهو لا يزال يُناشد إلهَهُ السعيد رفيق النوافير والزهور.
وجد الأب براون فلامبو وستَّة أشخاص آخرين يقِفُون حول المكان المُخصَّص لهبوط المصعد عادةً، ولكن لم ينزل المصعد، بل شيءٌ آخر؛ شيء كان من المُفترَض أن يهبط عبر المصعد.
ظلَّ فلامبو ينظُر إلى هذا الشيء على مدى الدقائق الأربع الأخيرة، ليجد جسد الفتاة الجميلة التي كانت تُنكر وجود التراجيديا مُهشَّمَ الرأس ومُخضَّبًا بالدماء. لم يكن لديه أدنى شك أنها بولين ستاسي، وبالرغم من ذلك أرسل في استدعاء طبيب، ولم يكن لديه أدنى شك في أنها قد فارقت الحياة.
لم يستطع أن يتذكَّر يقينًا هل كان مُعجبًا بها أم يكرهها؛ فقد كان بها الكثير مما يبعث على الإعجاب بها وكراهيتها على حدٍّ سواء. ولكنها كانت تعني له شيئًا، وراحت أحزان التفاصيل والاعتياد التي لا تُحتَمَل تطعنه بخناجر الفجيعة الصغيرة. تذكَّر وجهها الجميل وحديثها المُتعجرف بوضوحٍ سرِّي مفاجئ مما زاد من مرارة موتها. وفي غمضة عين، وكصاعقةٍ من السماء، اندفع هذا الجسد الجميل والجريء عبر بئر المصعد ليستقرَّ ميتًا في قاعِه. أكان هذا انتحارًا؟ يبدو هذا الاحتمال مستحيلًا مع فتاةٍ متفائلة بها كل هذا القدر من الغطرسة. أكانت جريمةَ قتل؟ ولكن مَن كان موجودًا في هذه الشُّقَق المأهولة بالكاد؟ بدفقةٍ من الكلمات المتدافعة التي خرجت بصوتٍ أجش، وكان من المُفترَض أن تبدو قويةً ولكن خرجت واهنة، تساءل عن ذلك الشخص الذي يُدعى كالون، ليأتيَه صوت هادئ وعميق بطبيعته يؤكد له أن كالون كان في شرفته على مدار الخمس عشرة دقيقة الماضية يعبد إلهه. عندما سمع فلامبو الصوت وشعر بيد الأب براون، أدار وجهه الداكن وقال بَغْتة:
«إذن لو كان موجودًا هناك طوال الوقت، فمن فعلها؟»
قال الأخير: «ربما يجب أن نصعد إلى أعلى ونعرف ما يجري. لدَينا نصف ساعة قبل أن تأتي الشرطة.»
اندفع فلامبو عبر الدَّرَج إلى مكتب الآلة الكاتبة تاركًا جثمان القتيلة صاحبة الإرث الضخم في عُهدة الجرَّاحين، ليجد المكتب خاليًا، ثم هرول إلى مكتبه بالأعلى. وما إن دخله حتى عاد فجأةً لصديقه بوجهٍ غريب شاحِب.
قال بجدية بغيضة: «يبدو أن شقيقتها قد خرجت للتمشية.»
أومأ الأب براون برأسه قائلًا: «أو لعلَّها صعدت إلى مكتب ذلك الرجل الذي يعبد الشمس. لو كنتُ مكانكَ، لتحقَّقتُ من ذلك، ولنناقش الأمر جميعًا في مكتبكَ بعد ذلك.» ثم أضاف وكأنما خطر بباله شيء: «لا! ألن أتمكن يومًا من التغلُّب على حماقتي تلك؟ لا شكَّ أنهما في مكتب الآلة الكاتبة بالأسفل.»
حدَّق فلامبو في الفراغ، لكنه تبع الأبَ الضئيل الجسد إلى أسفل وصولًا لشقة الشقيقتَين ستاسي الخاوية، حيث اتَّخذ ذلك القسُّ الغامض مكانه على أريكة كبيرة من الجلد الأحمر الموجودة في مدخل المكتب، بحيث يستطيع أن يرى السُّلَّم ومُنبسطاته وانتظر. ولم يَطُلِ انتظارُه كثيرًا؛ ففي غضون أربع دقائق هبط ثلاثة أشخاص مُتشابهون فقط في وَقارهم. كانت الأولى هي جوان ستاسي، شقيقة المُتوفَّاة — وكان واضحًا أنها كانت بالطابق العلوي في معبد أبولو المؤقَّت — أما الثاني فكان كاهن أبولو بنفسه، وكان قد فرغ من ابتهالاته، وهبط السُّلَّم مُسرعًا في عظمة مُطلقة؛ كان في ثيابه البيضاء ولحيتِه وشعره المفروق من المُنتصف شيء جعله يُشبه لوحة دوريه التي تُجسِّد المسيح وهو يغادر بلاط القيصر؛ أما ثالثهم، فكان فلامبو وكان مُكفهِرَّ الوجه، حائرًا بعضَ الشيء.
توجَّهت الآنسة جوان ستاسي، وكانت ذات بشرةٍ داكنة ووجهٍ عابس وشعر أصابه الشَّيب قبل الأوان، مباشرة إلى مكتبها وعدَّلت أوراقها بأسلوبٍ عملي، وكان ذلك كفيلًا بأن يجعل الجميع يستعيدون صوابهم مرة أخرى. لو كانت الآنسة جوان ستاسي مجرمة، فهي مجرمة في غاية البراعة. راح الأب براون يتأمَّلها لبعض الوقت وعلى وجهه ابتسامة بسيطة وغريبة، ودون أن يرفع عينَيه عنها، خاطب شخصًا آخر.
قال، ومن المُفترض أن حديثه مُوجَّه إلى كالون: «أيها الرسول، كنتُ أتمنَّى لو حدَّثْتني أكثر عن دينك.»
قال كالون وهو يحني رأسه الذي لا يزال مُكلَّلًا بحلية الرأس: «سأكون فخورًا بذلك، ولكنني لستُ متأكدًا من تفهُّمي لما تقول.»
قال الأب براون بأسلوبه الذي يبدو فيه التشكُّك الصريح: «الأمر هكذا. لقد تعلَّمنا أن الإنسان حين تكون مبادئه الأساسية سيئةً حقًّا، فلا بدَّ أن هذا خطؤه جزئيًّا. ولكن بالرغم من ذلك، نستطيع أن نُفرِّق بين إنسانٍ يُهين ضميره الحيَّ وبين إنسانٍ ذي ضمير لوَّثته المُغالطات بدرجةٍ ما. والآن، هل تعتقد أن القتل خطيئة من الأساس؟»
تساءل كالون بهدوء شديد: «أهذا اتهام؟»
أجابه براون بلُطف مُماثل: «لا. إنني أُحيل الكلمة لك للدفاع عن نفسك.»
وسط هذا الصمت الطويل والمشدوه الذي خيَّمَ على الغرفة، نهض رسول أبولو ببطء؛ وكان نهوضه أشبه بشروق الشمس؛ فقد ملأ تلك الغرفة بنورِه وحيويَّته بطريقةٍ تجعل المرء يشعر وكأنه يستطيع أن يملأ سهل ساليسبري؛ فقد بدا زِيُّه وكأنه يُزين الغرفة بأسرها بستائر كلاسيكية، وبدت إيماءاته الملحمية وقد أضفَتْ على الغرفة أبعادًا أكثر ضخامة، حتى بدا هيكل هذا القسِّ العصري الضئيل المُتَّشِح بالسواد وكأنه خلل وتطفُّل؛ كلطخة سوداء مُستديرة تُلطِّخ روعة وفخامة بلاد الإغريق.
قال الرسول: «أخيرًا التقَيْنا أيها الكاهن. إن كنيستَك وكنيستي هما الحقيقتان الوحيدتان على الأرض. أنا أعبُد الشمس وأنت تحجُب ضوءها؛ أنت كاهن الإله الفاني وأنا كاهن الإله الخالد. إن عملك الحالي في الشكِّ والافتراء جدير بهذا المِعطَف وهذه العقيدة. وكنيستكَ هذه ليست إلا شرطة مُتَّشِحة بالسواد؛ فما أنتم إلا مجموعة من الجواسيس والمُخبرين يسعَون إلى انتزاع الاعتراف بالذَّنب من الناس، سواء عن طريق الغشِّ أو التعذيب. أنت تُدين الناس بالجريمة، بينما أنا أحكم عليهم بالبراءة؛ أنت تُحرِّضُهم على الخطيئة وأنا أُحرِّضهم على الفضيلة.
أيا قارئ كتُب الشر، ثَمَّة كلمة أخيرة قبل أن أعصف بكوابيسكَ التي لا أساس لها إلى الأبد. لا يُمكنك أن تتصوَّر ولو قليلًا كم أنني لا أكترِث إن كان بإمكانك أن تُدينني أم لا. إن الأشياء التي تُطلِق عليها عارًا أو إعدامًا مُروِّعًا أراها في نظري كما يرى المرء الغُول في قصة للأطفال بمجرَّد بلُوغه. لقد قلتَ إنك تُحيل الكلمة لي للدفاع عن نفسي. وأنا لا أكترث كثيرًا لعالم الخيال والأحلام في هذه الحياة حتى إنني سأُحيل لك كلمة الادِّعاء. لا يُوجَد إلَّا شيء واحد فقط يمكن أن يُقال ضدِّي في هذه القضية وسأقوله بنفسي. إنَّ السيدة المُتوفَّاة كانت حبيبتي وعروسي، ليس وفقًا للمنظور الذي تراه كنائسكم الزائفة شرعيًّا؛ بل وفقًا لقانون أنقى وأقوى مما يُمكنك إدراكه. لقد كنَّا نسير في عالم مُختلف عن عالمكم، ووطأنا قصورًا من البِلَّور بينما كنتم تمشُون بخطواتٍ متثاقلة عبر الأنفاق والأروقة الطوبية. حسنًا، أعرف أن رجال الشرطة واللاهوتيِّين وغيرهم دائمًا ما يُخيَّل لهم أنه أينما وُجِد الحب، يجب أن تُوجَد الكراهية في أقرب وقت، وَمِن ثَمَّ لدَيك أول نقطة لأجل الادِّعاء، ولكن النقطة الثانية أقوى ولن أبخل عليك بها. إن بولين لم تكن تُحبُّني فحسب، بل إنها كتبَتْ وصيةً صباح اليوم قبل أن تقضي نَحْبها وتركَتْها على تلك المنضدة، تركت لي ولكنيستي الجديدة بموجبها نصف مليون جنيه إسترليني. هيا، أين الأصفاد؟ هل تعتقد أنَّني أكترِث للحماقات التي تفعلها معي؟ إن عقوبة الأشغال ستكون أشبه فقط بانتظارها في محطة على قارعة الطريق. ومقصلة الإعدام ستكون أشبه بالذهاب إليها في عربةٍ طائشة.»
كان يتكلَّم بثقةٍ تقشعرُّ لها الأبدان كخطيبٍ مُفوَّه، وظلت جوان ستاسي وفلامبو يُحدِّقان به في إعجابٍ مُمتزج بالذهول. لم يبدُ على وجه الأب براون أيُّ تعبيرٍ سوى الأسى الشديد؛ فكان ينظر إلى الأرض وقد بدا على جبهته تقطيبة تدلُّ على الألم. اتكأ رسول الشمس على المُستوقد بارتياحٍ واستأنف حديثه.
«لقد عرضتُ أمامكَ الحُجة المُقامة ضدِّي — بل هي الحُجَّة الوحيدة — في بضع كلمات. وفي عدد كلماتٍ أقلَّ سأعصف بها حتى تتفتَّت ولا يبقى لها أثر. بشأن ما إذا كنتُ قد ارتكبتُ هذه الجريمة، إليك الحقيقة في جملة واحدة: من المُستحيل أن أكون قد ارتكبتُ هذه الجريمة. لقد هوَتْ بولين ستاسي من هذا الطابق إلى الأرض في تمام الساعة الثانية عشرة وخمس دقائق. وسيَمثُل كثيرون على مِنصَّة الشهود ويقولون إنني كنتُ واقفًا في شرفة شقَّتي من قبل منتصف الظهيرة وحتى الساعة الثانية عشرة والربع، وهي الفترة المُعتادة لصلواتي العلنيَّة. سيُقسِم مساعدي (وهو شابٌّ وقور قادم من كلافام، لا تربطني به أي صلة) أنه كان يجلس بمكتبي الخارجي طوال النهار ولم يحدُث أي اتِّصالٍ بيني وبين أي شخص. وسيُقسِم أنني قد وصلتُ قبل الساعة الثانية عشرة بعشر دقائق كاملة؛ أي قبل انطلاق أي ثرثرةٍ بشأن الحادث بنحو خمس عشرة دقيقة، وأنني لم أُغادر مكتبي أو شرفتي طوال هذه المدة. لم يسبق أن امتلك أحدٌ حُجة غيابٍ كاملة هكذا من قبل؛ أستطيع أن أستدعي نصف سكان وِستمنستر للمُثول أمام المحكمة. أعتقد أنه يُستحسن أن تعيد الأصفاد إلى موضعها مرة أخرى؛ فالقضية أوشكتْ على النهاية.
ولكن في النهاية، بما أنه لم يبقَ في الهواء أي ذرَّة لهذا الشك الأحمق، سأخبرك بكل ما تريد أن تعرف. أظنُّني أعرف كيف قضتْ صديقتي التعيسة نحْبَها. يمكنك أن تُلقي باللوم عليَّ، إذا شئتَ، أو على عقيدتي وفلسفتي على الأقل؛ ولكن بالتأكيد لا تستطيع أن تحتجزني. من المعروف تمامًا لدى جميع طلاب الحقائق العُليا أن بعضًا من العباقرة والمُستنيرين عبر التاريخ قد بلغوا القدرة على الاسترفاع، أي القدرة على التحليق ذاتيًّا في الهواء بقوة الإرادة. وما هذا إلَّا جزء من ذلك السعي العام لقهر المادة الذي يُعدُّ العنصر الرئيسي في معرفتنا بأسرار ما وراء الطبيعة. كانت بولين المسكينة ذات طابعٍ يغلب عليه الطموح والاندفاع. ولكي أكون صريحًا، أعتقد أنها كانت تظنُّ أنها مُتعمقة في الألغاز والأسرار بعضَ الشيء أكثر مما كانت في الحقيقة؛ وكثيرًا ما كانت تقول لي حين كنا نهبط بالمصعد معًا، إن المرء إذا كانت إرادته قوية بما يكفي، فباستطاعته أن يطفوَ هابطًا إلى أسفل كالريشة دون أن يلحق به أيُّ ضرَر. لديَّ اعتقاد قوي أنها في نشوةٍ من الأفكار النبيلة حاولت القيام بهذه المعجزة. بالتأكيد خذلها إيمانها أو إرادتُها في اللحظة الحاسمة وانتقم القانون الأدنى للمادة أبشعَ انتقام. هذه هي القصة كلها أيها السادة، قصة حزينة، وأيضًا وقِحة وملعونة للغاية كما قد تعتقدون، ولكنها بالتأكيد ليست جريمة أو لها صِلة بي بأيِّ حال. في لُغة المحاكم الشرطية المختصرة، كان من الأفضل أن تُطلِق عليه انتحارًا، أما أنا فدائمًا ما سأُطلق عليه إخفاقًا بطوليًّا من أجل رِفعة العِلم والصعود المُتمهِّل إلى السماء.»
كانت المرة الأولى التي يرى فيها فلامبو الأب براون مهزومًا. كان لا يزال جالسًا ينظر إلى الأرض مُقطِّبًا حاجبَيه في ألمٍ وأسًى، كأنما يشعر بالخِزي. كان محالًا أن يتجنَّب الشعور الذي تولَّد في نفسه جرَّاء كلمات هذا الرسول المُنمَّقة البليغة، ذلك الشعور بأن ثَمَّة شخصًا عابسًا يحترف الاشتباه في الجميع قد قهرَتْه روحٌ أكثر إباءً ونقاءً تؤمن بالحرية والصحة الطبيعيَّين. وأخيرًا قال وهو يطرف بعينَيه كما لو كان يُعاني ألمًا جسديًا: «حسنًا، إذا كان الأمر كذلك يا سيدي، فأنت لا تحتاج للقيام بشيءٍ سوى أن تأخُذ ورقة الوصية التي تحدَّثتَ عنها وترحل. ترى أين تركتْها السيدة المسكينة؟»
قال كالون ببراءةٍ شديدة بدت وكأنها تُبرِّئه تمامًا: «أعتقد أنها ستكون هناك على مكتبها بجوار الباب. لقد أخبرتْني بهذا خاصة أنه كان مُزمَعًا أن تكتُبها هذا الصباح، وقد رأيتُها بالفعل هذا الصباح تكتب عندما كنتُ في المصعد مُتَّجِهًا إلى شقَّتي.»
سأل القس وعينُه مُوجَّهة إلى زاوية البُسُط: «هل كان باب مكتبها مفتوحًا وقتها؟»
قال كالون بهدوء: «نعم.»
قال الآخر مُستأنفًا تأمله الصامت للبساط: «آها! إذن فقد كان مفتوحًا منذ ذلك الحين.»
قالت الآنسة جوان المُتجهِّمة في صوتٍ غريب بعض الشيء: «تُوجَد ورقة هناك.» واتجهت نحو مكتب شقيقتها بجانب المدخل وكانت تحمل في يدَيها فرخًا من الورق الكبير الأزرق. كان على وجهها ابتسامة بغيضة بدَتْ غير ملائمة لمشهدٍ أو موقفٍ كهذا، ونظر إليها فلامبو في عبوس.
وقف الرسول كالون بعيدًا عن الورقة بتلك البراءة الخالصة التي كانت مُعينًا ومُنجيًا له. ولكن فلامبو أخذ الورقة من يدِ السيدة وقرأها في ذهول بالغ. بدأت الوصية بالفعل بالديباجة المعهودة، ولكن فجأة توقفت الكتابة بعد كلمات «أهبُ وأوصي بكلِّ ما أملك عند وفاتي …» وتلتها مجموعة من الخدوش دونما أثر لاسم المُوصى له. ناول فلامبو الوصية المبتورة في تعجُّبٍ لصديقه القس الذي ألقى عليها نظرةً سريعة وأعطاها لكاهن الشمس في صمت.
بعد لحظاتٍ كان الأسقف بزيه الفخم العظيم، قد اجتاز الغرفة في خطوتَين واسعتَين وانحنى فوق جوان ستاسي، وعيناه الزرقاوان تجحظان من رأسه.
صاح قائلًا: «أيُّ حيلةٍ خبيثة تلك التي تُحيكينها هنا؟ هذا ليس ما كتبتْهُ بولين.»
أصابهما الذهول وهما يسمعانه يتحدَّث بصوتٍ مختلف كُليًّا ظهرتْ فيه تلك النبرة الأمريكية الصاخبة المُزعجة؛ لتسقط عنه إنجليزيته النبيلة الرفيعة كالقناع.
قالت جوان وهي تواجهه بمنتهى الثبات وعلى وجهها الابتسامة الشريرة ذاتها: «هذه الورقة هي الشيء الوحيد الذي على مكتبها.»
وفجأةً انفجر الرجل في وابلٍ من البذاءات وانطلق منه طوفان من كلمات التشكيك. كان في سقوط هذا القناع الذي كان يرتديه شيءٌ صادم؛ وكأن إنسانًا يتساقط جِلد وجههِ الحقيقي.
صاح في لهجةٍ أمريكية بذيئة وهو يلهث من كثرة السِّباب: «انظري إليَّ! ربما أكون مغامرًا، ولكنني أُخمِّن أنكِ قاتلة. نعم يا أيها السادة، هنا يكمن لغز مقتلها وبدون أيِّ قوى استرفاع. لقد كانت الفتاة المسكينة تكتُب وصيةً لي، ودخلت شقيقتُها الملعونة تشاجرت معها وأخذت منها القلم وسحبتها نحوَ بئر المصعد وألقتْ بها قبل أن تنتهي من كتابتها. يا للهول! أعتقد أننا نحتاج إلى الأصفاد برغم كلِّ شيء.»
أجابته جوان بهدوءٍ غير مريح: «كما أشرتَ بالفعل؛ إن مُساعدكَ شابٌّ غاية في الاحترام ويعرف طبيعة القسَم، وسيُقسِم في أي محكمة أنني كنتُ في مكتبك أقوم بترتيب بعض الأعمال التي تحتاج إلى الآلة الكاتبة لمدَّة خمس دقائق قبل وقوع الحادث وحتى خمس دقائق بعد وقوع الحادث. وسيخبرك السيد فلامبو أنه وجدَني هناك.»
ساد الصمتُ المكان.
صاح فلامبو قائلًا: «إذن، لقد كانت بولين بمفردها عندما سقطت، وكان هذا انتحارًا!»
قال الأب براون: «كانت بمفردها عندما سقطت، ولكنه لم يكن انتحارًا!»
قال فلامبو وقد نفد صبره: «إذن كيف ماتت؟»
«لقد قُتِلَت.»
اعترض المُحقِّق قائلًا: «ولكنها كانت بمفردها.»
أجاب القس: «لقد قُتِلَت عندما كانت بمفردها تمامًا.»
حدَّق به الجميع، ولكنه ظلَّ جالسًا في نفس وضعيته القديمة الكئيبة، بتقطيبةٍ توسطت جبينَه المستدير، ومظهر يبدو عليه الخِزي والأسى، وقد خيَّم على صوته الكآبة والحزن.
أخذ كالون يصيح ويسبُّ قائلًا: «ما أريد أن أعرفه متى ستأتي الشرطة لتأخذ هذه الشقيقة الدموية الملعونة. لقد قتلَتْ لحمها ودمها، وسلبتْني نصف مليون جنيه إسترليني كانت حقًّا مُقدَّسًا لي شأنها شأن …»
قاطعه فلامبو بنوعٍ من السخرية: «مهلًا، مهلًا أيها الرسول؛ تذكَّر أن كلَّ هذا العالم ما هو إلا أرض خيال وأحلام.»
بذل كاهن إله الشمس جهدًا ليستعيد هيبته مُجدَّدًا، وصاح قائلًا: «الأمر لا يتعلق بالمال فحسْب، على الرغم من أن هذا من شأنه أن يدعم القضية حول العالم، كما أنها رغبة حبيبتي. لقد كان كلُّ هذا مقدسًا بالنسبة إلى بولين. ففي نظر بولين …»
وفجأة هبَّ الأب براون واقفًا، فإذا بكُرسيه يقع مُنبطِحًا خلفه. كان شاحبًا كالمَوتى، ولكنه كان لا يزال مُشتعلًا بالأمل؛ ولمعت عيناه.
صاح في صوتٍ واضح: «هذا ما في الأمر! هذه هي البداية. في نظر بولين …»
تقهقر الكاهن الطويل القامة أمام الأب براون الضئيل في اضطرابٍ شِبه هستيري، وأخذ يصيح مِرارًا: «ماذا تعني؟ كيف تجرؤ؟»
أخذ الأب براون يُكرر عبارته وعيناه تزدادان لمعانًا: «في نظر بولين، أكمل، باسم الرب أكمل. إن أشنع الجرائم التي حرَّض عليها الشيطان على الإطلاق تصير أهونَ بعد الاعتراف بها، وأنا أتوسَّل إليك أن تعترف. أكمل، أكمل — في نظر بولين …»
صاح كالون في صوتٍ هادر كالرعد، وأخذ يُصارع كعملاق مُكبَّل بالأصفاد: «دعني أذهب أيها الشيطان. من أنت أيها الجاسوس اللعين لتنسج شباكك حَولي كالعنكبوت، أنت تُحاول الإيقاع بي بكلِّ مكر! دعْني أذهب.»
تساءل فلامبو وهو يثِب ناحية باب الخروج «هل عليَّ أن أوقفه؟» إذ كان كالون بالفعل قد فتح الباب بعنف على مصراعيه.
قال الأب براون بتنهيدةٍ عميقة وغريبة بدت وكأنها آتية من أعماق الكون: «دع قابيل يرحل؛ فهو ملك للرب.»
خيَّم صمتٌ طويل على الغرفة حين غادرَها وذهب، دارت خلاله تساؤلاتٌ مُضنية ومطولة في ذهن فلامبو بحكم فراسته القوية، فيما أخذت الآنسة جوان تُرتِّب الأوراق على مكتبها بكلِّ برود.
وأخيرًا قال فلامبو: «أيها الأب، إن واجبي، وليس فضولي فحسْب، يُحتِّم عليَّ أن أعرف من ارتكب هذه الجريمة.»
سأل الأب براون: «أي جريمة؟»
أجابه صديقُه وقد نفد صبره: «تلك الجريمة التي نحن بصدد التعامُل معها بالطبع.»
قال براون: «نحن نتعامل مع جريمتَين مُختلفتَين تمامًا في وطأتهما ومرتكبَيهما.»
جمعت الآنسة جوان ستاسي أوراقها ووضعتها جانبًا ثم شرعتْ في إغلاق دُرجها. وتابع الأب براون حديثه، دون أن يُلقي لها بالًا مثلما لم تُلقِ له بالًا.
علَّق قائلًا: «لقد ارتُكبتِ الجريمتان باستغلال نقطة الضعف ذاتها للشخص ذاته، في خِضَم صراع من أجل أموالها. ولكن مرتكب الجريمة الكُبرى وجد نفسه قد تعثَّر بسبب الجريمة الصغرى، ومرتكب الجريمة الصُّغرى حصل على المال.»
قال فلامبو مُتذمِّرًا: «أوه، لا تكن في حديثك كالمُحاضِر، وأَوْجز الأمر في بضع كلماتٍ مفيدة.»
أجابه صديقه: «أستطيع أن أُوجزه في كلمةٍ واحدة.»
ارتدَتِ الآنسة جوان ستاسي قُبعتها السوداء على رأسها وعلى وجهها تقطيبة سوداء قُبالة مرآة صغيرة، ومع استمرار المحادثة، حملتْ حقيبة يدِها ومظلتها على مهلٍ، وغادرت الغرفة.
قال الأب براون: «الحقيقة تتلخَّص في كلمة واحدة قصيرة: بولين ستاسي كانت كفيفة.»
أعاد فلامبو كلمة «كفيفة!» ونهض ببطءٍ حتى وقف بكامل قامته الضخمة.
تابع براون حديثه: «لقد كانت عُرضةً للعمى بحكم الوراثة؛ فقد كانت شقيقتُها ستشرع في ارتداء نظَّارة لو كانت سمحتْ لها بولين بذلك؛ ولكن فلسفتها أو بالأحرى بِدعتها تقضي بأنَّ المرء لا بدَّ ألا يشجِّع مثل هذه الأمراض بالخضوع والاستسلام لها. لم تكن لتعترِف بالغيمة التي تحجُب بصرَها، أو لعلَّها حاولت أن تزيلها بقوة الإرادة؛ لذا ساءت حالة عينَيها أكثر فأكثر مع الإجهاد، ولكن كان الإجهاد الأسوأ آتيًا. لقد أتى مع هذا الرسول المُبجَّل أو أيًّا كان ما يُطلقه على نفسه، الذي علَّمها أن تُحدِّق بالشمس الحارقة بعينَيها مُجرَّدتَين، كان هذا ما يُسمَّى بتقبُّل أبولو. آه لو استطاع هؤلاء الوثنيون الحديثون أن يكونوا كالوثنيين القُدامى، لكانوا أكثر حكمة! لقد كان الوثنيون القُدامى يعرفون أن عبادة الطبيعة المُجردة يكون لها جانب قاسٍ لا محالة. وكانوا يعرفون أن عين أبولو يمكن لها أن تُسبِّب الدمار والعمى.»
صمت الأب براون لبرهة، ثم تابع حديثه في صوتٍ هادئ بدا فيه الانكسار؛ «سواء كان ذلك الشيطان قد قادها إلى فقدان بصَرِها عن عمدٍ أم لا، فلا شكَّ أنه قد تعمَّد قتلَها مُستغلًّا فقدانها البصر. إن الجريمة من فرْط سذاجتها تُثير الاشمئزاز. لعلك تعلم أنهما كانا يصعدان ويهبطان في تلك المصاعد دون مساعدة رسمية من قِبَل عامل المصعد؛ وتعرف أيضًا كيف ينزلق المصعد في انسيابيَّة وسُكون دون أن يُصدر صوتًا. استدعى كالون المصعد إلى الطابق الذي تقطن به الفتاة، ورآها عبر الباب المفتوح وهي تكتُب وصيَّتَها التي وعدَتْه بها بطريقتها البطيئة المعهودة لكونها لا ترى، ونادى عليها بابتهاجٍ ليُخبرها بأن المصعد جاهز، وأن عليها أن تخرج حين تُصبح جاهزة، ثم ضغط على الزر وأغلق باب المصعد دون أن يُصدر صوتًا وصعد به إلى مكتبه، ثم سار عبر مكتبه وخرج إلى شُرفته، وكان يُصلي في سلامٍ أمام الشارع الذي يضجُّ بالناس في نفس الوقت الذي هرولَتْ فيه الفتاة المسكينة، بعد أن أنهتْ عملها، خارجةً في ابتهاج إلى حيث من المُفترض أن يكون حبيبها والمصعد في انتظارها، وخطت …»
صاح فلامبو: «كلا!»
واصل الأب براون الضئيل الجسد بذات الصوت الكئيب الذي كان يتحدَّث به عن مثل هذه الفظاعات: «كان من المُفترَض أن يحصل على نصف مليون جنيه إسترليني بضغطةٍ على ذلك الزر. ولكن تحطَّم كل ما قام به؛ تحطم بسبب وجود شخصٍ آخر كان يريد المال هو الآخر، وكان على علمٍ أيضًا بسرِّ الحالة البصرية لبُولين المسكينة. يُوجَد شيء بشأن هذه الوصية أعتقد أن أحدًا لم ينتبِهْ له: على الرغم من أن الوصية ناقصة وبدون توقيع بولين؛ فقد قامت الآنسة ستاسي الأخرى وخادمة لها بالتوقيع عليها كشهود. قامت جوان بالتوقيع أولًا قائلةً إن بولين ستنتهي منها لاحقًا، في احتقارٍ أُنثوي مُعتاد للصِّيَغ القانونية. لماذا؟ خطر ببالي حالة العمى، وراودني شعور أكيد أنها أرادت أن تُوقِّع بولين على الوصية على انفراد، لأنها أرادتْ ألَّا تُوقِّعها على الإطلاق.
إن الأشخاص على شاكلة الشقيقتَين ستاسي دائمًا ما يستخدمون أقلام الحبر، غير أنَّ ذلك كان شيئًا فطريًّا بالنسبة إلى بولين على وجه الخصوص؛ فبحُكم العادة وإرادتها وذاكرتها القويَّتَين، كانت لا يزال بمقدورها أن تكتب بالكفاءة ذاتها التي كانت ستكتُب بها لو كانت مُبصرة، ولكنها لم تكن تعرف متى يحتاج قلمها إلى ملئه بالحبر. لذلك، كانت أقلامها الحِبرية جميعًا تُملأ بعناية بواسطة شقيقتها عدا ذلك القلم الذي استُخدِم يومَها؛ فلم تملأه شقيقتها بعناية كعهدها، وصمدت بقايا الحبر لبضعة سطورٍ إلى أن فرغ تمامًا. وخسر الرسول خمسمائة ألف جنيه إسترليني وارتكب واحدةً من أكثر الجرائم وحشيةً ودهاءً في تاريخ البشرية مُقابل لا شيء.»
اتَّجه فلامبو نحو الباب المفتوح وسمع أفراد الشرطة يصعدون الدرَج، فاستدار وقال: «لا بدَّ أنك قد تتبَّعتَ كل شيء بدقة بالغة لكي تُنسب الجريمة إلى كالون في عشر دقائق على هذا النحو.»
بدا الأب براون مجفلًا:
قال: «أوه! أنسبها إليه. كلا؛ لقد كان عليَّ أن أتتبَّع عن كَثَبٍ لأكتشف أمر الآنسة جوان وقلم الحبر. ولكنَّني كنتُ أعلم أن كالون هو المُجرم قبل أن أدخل من الباب الأمامي.»
صاح فلامبو: «لا بدَّ أنك تمزح!»
أجابه الأب بروان: «أنا جادٌّ تمامًا، بل إنني علمتُ أنه مَن فعلها قبل أن أعرف ماذا فعل.»
«ولكن لماذا؟»
قال براون مُتأملًا: «هؤلاء الرواقيون الوثنيون دائمًا ما يفشلون بسبب قوَّتِهم. لقد جاء صوت ارتطام وصراخ عبر الشارع، دون أن يجفل كاهن أبولو أو ينظر حوله. لم أكن أعلم ما يدور، ولكنني علمتُ أنه كان يتوقَّعه.»