السَّفر!
قضى الشَّياطين معظم الوقت بعد هذا الاجتماع الطارئ في التدريب والاستعداد … «عثمان» يحرِّك كرته السوداء الجهنمية ويقذفها بقوة يمينًا ويسارًا في اتجاه أهدافٍ مُعيَّنة فيصيبها بدقةٍ، ويكرِّر هذه العملية عدة مراتٍ، بينما انهمك «أحمد» و«فهد» و«قيس» في مراجعة بعض حركات رياضة «الكاراتيه» و«الجودو» التي يمتازون بها، بينما وقف «بو عمير» وحيدًا يصوِّب بمسدسه السريع الطلقات تباعًا إلى هدف متحرِّك … وعلى الجانب الآخر كانت «إلهام» و«زبيدة» و«ريم» يراجعن بعض الشفرات ويجهزن أجهزة الاتصال المتنوعة … كان قصر الشَّياطين كخلية النحل، كلٌّ يعمل في اتجاه في انتظار ساعة التحرُّك حسب الأوامر الصادرة إليهم من رقم «صفر».
عندما اقترب الليل وغربت شمس النهار كان الشَّياطين يتابعون فيلمًا أجنبيًّا عن كيفية تخليص رهينة بأحدث الأساليب … وأمام شاشة العرض الكبيرة استغرق «أحمد» في التفكير، ثم قال مُحدِّثًا الشَّياطين: أرجو من كلِّ واحدٍ منكم أن يحاول التركيز قَدْر المستطاع، فقد نحتاج إلى نفس الخطة لتخليص مصوِّرنا العربي البطل من الأَسْر.
فأجابه «فهد»: ولكن الظروف قد تكون متغيِّرة تمامًا عما نشاهده الآن، ولا تنسَ كذلك المعارك الدائرة هناك مما يجعلنا نتحرَّك تحت وابلٍ من الرصاص والقذائف الصاروخية التي يطلقها المعسكر «الصربي».
وافقه «أحمد» على هذه الملحوظة، وسرعان ما تدخَّلَت «إلهام» في الحديث قائلةً: على كلِّ حالٍ قد تختلف الأساليب باختلاف أرض العمليات، ولكن في النهاية يبقى الهدف واحدًا، وهو تخليص الرهينة من أيدي مختطفيها.
جلس الشَّياطين حول حمَّام السباحة بالمقرِّ السِّرِّي وكانت مياه الحمَّام الزرقاء صافيةً … وحوله دارَ نِقاش طويلٌ عن المغامرة القادمة وكيفية وَضْع الخطة على ضوء المعلومات التي سوف يطلعهم عليها رقم «صفر». كانت الساعة تقترب من التاسعة مساء حين دوَّى جرس الاجتماعات، فاتجه الشَّياطين بسرعةٍ إلى قاعة الاجتماعات الصغرى والملحقة بالدور الثاني.
ما إنْ أخذَ كلُّ واحدٍ منهم مكانه حتى سمعوا جميعًا صوت أقدام رقم «صفر» وهي تقترب من المنصة الدائرية. حيَّاهم الزعيم ثم جلس خلف زجاجها الداكن، وبدأ الحديث قائلًا: لقد حان موعد التحرُّك إلى «يوجوسلافيا». فقد توصَّل عملاؤنا أمس إلى المكان المحتجز فيه المصوِّر الصحفي الشاب.
صمت رقم «صفر» لحظاتٍ وهو يقلِّب في ملف ضخم ممتلئ بالأوراق أمامه ثم قال وهو يمدُّ يده باتجاه زرٍّ أحمر أمامه … هذه هي صور أسيرنا الشاب … وما كاد ينتهي من جملته حتى أُضيئَت لَوْحة خلفيةٌ ظهر فيها شابٌّ طويل القامة قمحيُّ اللون ذو شارب كثيف … كان الشاب يتجوَّل وبيده كاميرا … وتكلَّم رقم «صفر» وهو يُشير باتجاه الصورة المرئية: هذا هو مصوِّرنا الشاب «عبد الرحمن خميس»، ثم اختفت صورة «عبد الرحمن» لتظهر على الشاشة صورة طفلَيه «جاسر» و«باسم»، وفيها أمهما، وأكمل رقم «صفر» تعليقه على الصور قائلًا: وهذان هما أبناء مصوِّرنا الشاب، وهذه هي زوجته، وقد صوَّر هذا الفيلم «الفيديو» عندما كان يعيش «عبد الرحمن» بمنزله بأحد البلدان العربية.
توقفت آلة العرض، وساد الظلام لحظة قبل أن تُضاء الأنوار ويبدأ رقم «صفر» الكلام من جديد عن آخِر الأخبار التي وصلَتْه بشأن المصوِّر المُحتجَز، فقال: لقد أبلَغَنا عميلنا في «يوجوسلافيا» أن «عبد الرحمن» بخيرٍ، وإنْ كان قد تعرَّض لعملية تعذيب بشعة من أجل الحصول على الفيلم، وقال عميلنا أيضًا: إن «عبد الرحمن» موجودٌ بأحد الأبنية القديمة في «سراييفو» بعد أن استولى عليها جنود «الصرب» بعد معارك عنيفة مع مسلمي «البوسنة والهرسك».
أكملَ رقم «صفر» حديثه: إن الحراسة المشدَّدة المفروضة على مصوِّرنا الشاب جعلَت الاتصال به أمرًا في غاية الصعوبة؛ فالصربيون يتميَّزون بالعنف ولا يُرهبهم شيءٌ، وقد أعدوا لحراسة «عبد الرحمن» مجموعة من القنَّاصة يُطلقون عليهم «قناصة الموت»؛ نظرًا لقدرتهم الفائقة على استعمال الأسلحة النارية، فضلًا عن إجادتهم فنون القتال بالأيدي … بل إن معظمهم كانوا أبطالًا في لعبة «الكاراتيه» و«المصارعة»، وهذا مما يزيد من صعوبة الأمر … إن التفوُّق على هؤلاء الرجال مرهونٌ بعنصر المفاجأة والتخطيط السليم … ولذا أقترح عليكم الذهاب بمجموعة التحدِّي التي تتألَّف من «بو عمير» و«قيس» و«فهد»، بالإضافة إلى «أحمد» و«عثمان» … على أن تبقى بقية المجموعة في حالة تأهُّب قصوى؛ لاحتمالات التطورات المتوقَّعة وغير المتوقَّعة!
ثم أكمل رقم «صفر» حديثه قائلًا: الآن سأعرض عليكم مواصفات المكان الذي سوف تقتحمونه عندما تحين الفرصة، وكذلك سوف أشرح لكم أماكن الحرَّاس، وكيفية تبادل نوبات الحراسة على ضوء آخِر تقرير وصلَني بهذا الشأن من رجالنا في «سراييفو».
صمت رقم «صفر» لحظات … راح خلالها يقلِّب فيها أوراق الملف الضخم الذي أمامه، ثم توقَّف عن التقليب بعد قليل ليقول: إن البناء الذي سوف تقتحمونه عبارةٌ عن منزل قديم مكوَّن من طابقَين، وتحيطه مجموعةٌ من الأشجار الضخمة … وسطح المنزل ليس أفقيًّا كمعظم الأسطح … لكنه مائلٌ على الجانبين كسقف الخيمة، وبه مدخنتان؛ واحدة للمطبخ والأخرى للمدفأة … أي على الطراز الأوروبي … أما مكونات المنزل من الداخل، فالطابق الأول يتكوَّن من ثلاث غُرف وأربع صالات واسعة الاتساع، كانت تُستخدَم كقاعات استراحة، وللاجتماعات الضرورية لصاحب المنزل … وهو رجل أعمال ثري «روسي» الأصل، «يوجوسلافي» الجنسية.
أما الطابق الثاني في المنزل … فيتكوَّن من مجموعة غرف، تبلغ الثلاث، وهي مُخصَّصة للنوم فقط، ومُجهَّزة بأحدث أساليب الراحة والترفيه … ولم يحدِّد تقرير عميلنا في «يوجوسلافيا» مكان «عبد الرحمن» بالتحديد … ولكن من المرجَّح أن يكون في الطابق الثاني؛ لسهولة حراسته … وإحباط أية محاولة لهروبه. أما عن عدد الحراس، فهناك خمسة منهم يختبئون بين غصون الأشجار العالية والتي تخطَّت بمراحل ارتفاع المنزل، الأمر الذي يجعلهم يُسيطرون بإحكام على شتَّى جوانبه … ويتبادل الحراس نَوْبات الحراسة كل ست ساعاتٍ، أمَّا الحرَّاس الموجودون بأسفل المنزل فعددهم أقل، فواحد فقط يرافق «عبد الرحمن» وحسب توقُّع رجالنا هناك، ومن المرجَّح أن يكون مكان إقامته في الطابق الثاني، بينما يوجد حارسان في الطابق الأول لا يكُفَّان عن التجوُّل حول المنزل في فترات متقطِّعة … أما من ناحية التسلُّح … فإن مجموعة «قناصة الموت» تتسلَّح عادةً برشاشات سريعة الطلقات، وهي صغيرة الحجم «يوجوسلافية» الصنع، تُحمل على الكتف، ويمكن طي أجزائها لتوضع مُعلَّقةً بحزام السروال.
سكت رقم «صفر» لحظات أغلقَ فيها الدوسيه الضخم، ثم وجَّه حديثه إلى الشَّياطين قائلًا: هذا كلُّ ما توصَّل إليه رجالنا هناك … ولكم الآن حرية وَضْع الخطة المناسبة على ضوء ما سمعتم، على أن يكون لنا لقاءٌ قبل السفر لأُطْلعكم على آخِر الأخبار، وما يمكن أن يقدِّمه لكم رجالنا هناك حسب إمكانية ذلك.
فالأمر في غاية الصعوبة، والحياة في «سراييفو» شِبه متوقِّفة … وأخيرًا لكم شُكري ودعواتي، ولنا لقاءٌ آخَر قبل سفركم!