لماذا عثمان؟!
عندما وصلت الطائرة إلى مطار «روما» كانت عقارب الساعة تشير إلى الواحدة صباحًا، حين هبط الشَّياطين الخمسة يتقدَّمهم «أحمد» … ولم تستغرق إجراءات الخروج من المطار سوى بضع دقائق … همس بعدها «عثمان» قائلًا: هذا هو «باريزي»، والتفت الشَّياطين باتجاه إشارة «عثمان»، ثم تقدَّموا صَوْب رجل قويِّ البنية، حادِّ القسمات … يرتدي بذلة سماوية، ويضع قبعة حمراء على رأسه لها شريط أسود.
تقدَّم منه «بو عمير»، وقال بلكنة إيطالية «فرعون».
فابتسم الرجل وهو يرفع قبعته وينحني للأمام مُحيِّيًا «بو عمير»، وسرعان ما استدار وسار ببطء يتبعه الشَّياطين على مسافة ثلاثة أمتار إلى حيث كانت تنتظرهم السيارة الميكروباص الزرقاء، كان محرِّك السيارة معدًّا للانطلاق، وقد جلس خلف عجلة القيادة سائق أشقر اللون يرتدي «تي شيرت» أبيض وبنطلون جينز أسود … وما إنْ صعد «باريزي» صاحب القبعة الحمراء حتى صعد بعده الشَّياطين، وقد ابتسم السائق وهو ينطلق بالسيارة.
في نفس الوقت الذي صافح فيه «باريزي» الشَّياطين وهو يردِّد بلكنةٍ إيطالية سريعة مرحبًا بكم في «إيطاليا» اسمي «باريزي مالدين»، فضحك «أحمد» وهو يقول: لم نتفق إلا على «باريزي» أما «مالدين» هذا فلا نعرفه!
فضحك «عثمان» وتبعه «بو عمير» وضحك هو أيضًا على قفشة «أحمد»، بينما نظر لهما «باريزي» وفي عينه بريق الاستفسار!
كانت العربة الميكروباص الزرقاء تشق الشارع الرئيسي في العاصمة «الإيطالية» عاصمة الجمال والسحر … وبريق الأضواء يغمرها من كلِّ جانبٍ، وأجراس كنائسها العملاقة تتبادل الحديث مع أخريات الليل … والشَّياطين يتأملون في صمت المدينة التاريخية بتماثيلها المتعددة، وذكرى الرسام العبقري «ليونارد ودافنشي» ولوحته الفريدة «الموناليزا» الباكية المبتسمة تملأ مُخيِّلة الشَّياطين.
أوقف «باريزي» السيارة أمام أحد مطاعم البيتزا «الإيطالية» وهو نوع من الفطائر برع فيه الإيطاليون كبراعتهم في صنع المكرونة الاسباجيتي، وتناول «عثمان» ثلاث فطائر ساخنة وسط ضحكات بقية الشَّياطين وذهول «باريزي» ومازح «بو عمير» «عثمان» قائلًا: أخاف أن تلتهم أصابعك فتفسد معدتك!
فانفجر «قيس» ضاحكًا، وهو يردِّد إنني لست خائفًا على «عثمان» بل خائف على نفسي، ثم نظر «قيس» إلى «باريزي» والسائق الأشقر وكرر نفس القفشة بلغة «إيطالية»، وكانت مفاجأة أنهما لم يضحكا.
كانت الساعة تقترب من الثالثة صباحًا بتوقيت «روما»، انتهى الشَّياطين من تناول فطائر البيتزا الشهيرة وتناولوا مشروب البرتقال ذي العلب الورقية وهم في طريقهم إلى السيارة الزرقاء.
أخرج «باريزي» سيجارًا ضخمًا وقدَّمَه للشياطين فرفضوا جميعًا وهم يردِّدون: إننا لا ندخِّن مطلقًا، فالتدخين ضارٌّ جدًّا بالصحة.
ضحك «عثمان» وهو يمزح مع «باريزي» بلكنة «إيطالية» مكسرة: ليتك تستبدل السيجار بفطيرة بيتزا!
ضحك «باريزي» بعنفٍ وأخذ يسعل مع دخان السيجار الضخم الغريب، واستغرب بقية الشَّياطين لضحكات «باريزي» المتصلة.
كان سائق السيارة الميكروباص بارعًا في قيادة السيارة ويدعى «فاكتي»، وأخذ يتمايل مع موسيقى فرقة «البيتلز» الأمريكية، وهو يتجه إلى جنوب «إيطاليا»، والسيارة تهتز مع أضواء الشفق الأحمر التي غمرت المكان على نحو مفاجئ.
خمس ساعات مضت، قطعت فيها السيارة مئات الكيلومترات حتى وصلت إلى مشارف بلدة «باري» الصغيرة على شاطئ البحر «الأدرياتيكي».
نصف ساعة أخرى قضتها السيارة في السير بشوارع «باري» النظيفة، وتوقفت بعد منحنًى كبير أمام أحد الفنادق الصغيرة … كان كلُّ شيءٍ معدًّا تمامًا لاستقبال الشَّياطين ولم تستغرق إجراءات السكن سوى دقائق معدودة، صعدوا بعدها إلى غرفهم وألقوا بأجسادهم المتعبة على فراش الفندق المريح وراحوا جميعًا في سُبات نوم عميق متناسين تمامًا تفاصيل الخطة التي تُحتِّم عليهم مغادرة «باري» صباح نفس اليوم إلى «سبليت» عَبْر رحلة بحرية بمصاحبة «باريزي».
استيقظ «أحمد» بعد ساعتَين من النوم العميق فزعًا وهو ينظر إلى ساعته، وأخذ يوقظ الشَّياطين في عجلة، وفجأةً وقعت عيناه على ورقة صغيرة أسفل الباب فاتجه إليها وانحنى ليلتقطها … كانت الورقة مكتوبة باللغة «الإيطالية» … ومنها فهم «أحمد» أن ميعاد السفر إلى «سبليت» لقد تأجَّل للمساء لسوء الأحوال الجوية صباح هذا اليوم مما يؤثر على إبحار القارب الصغير بالبحر «الأدرياتيكي» … وسيكون ميعاد الإبحار في الساعة العاشرة مساءً في نفس اليوم، وطالبهم بالاستعداد لذلك.
أكمل الشَّياطين نومهم حتى الساعة الخامسة مساءً … حين استيقظوا … توجهوا جميعًا إلى حمَّام السباحة الملحق بالفندق. وبعد ساعةٍ قضوها في المياه الباردة أحسوا بالانتعاش … جلسوا بعدها يتناولون وجبة الغداء من السمك البوري المقلي بالزبد مع مجموعةٍ من سلطات الطعام التي تشتهر بها «إيطاليا» … أيضًا راجعوا بعدها خطة السفر إلى «سبليت» مع أقداح الشاي الساخن.
في تمام الساعة التاسعة والنصف نهض الشَّياطين ليرتدوا ملابسهم ويستعدوا للرحلة البحرية … ولم تكَد تصل الساعة إلى العاشرة حتى سمعوا طرقات خفيفة، سمعوا بعدها كلمات «باريزي» وهو يُلقي عليهم تحية المساء … ثم ركبوا بعد ذلك قاربًا صغيرًا بمحرِّك عبر البحر «الأدرياتيكي» باتجاه «سبليت» … ساعتان إلا ربع قطع فيها القارب الصغير عدة أميال باتجاه شواطئ «يوجوسلافيا» تحت جنح الظلام، وانعكست بعض الأضواء الساهرة على صفحة المياه المضطربة.
كان الجو صافيًا ونسمة هواء حانية داعبت وجوه الشَّياطين، بينما كان «عثمان» مُنهمِكًا في الغناء السوداني، كان «باريزي» ينصت له باهتمامٍ برغم أنه بالطبع لم يكُن يفهم ماذا يغنِّي.
لقد كان صوت «عثمان» رائعًا ومُتمشِّيًا مع جو الرحلة العام … هدَّأ القارب من سرعته عندما اقترب من شواطئ «يوجوسلافيا»، واستعدَّ الشَّياطين للهبوط مع تعليمات «باريزي» التي تُشدِّد عليهم مراعاة الدقة، ثم فجَّر المفاجأة التي لم يتوقعها الشَّياطين والتي كانت تعني تغيير الخطة من جديدٍ، فقد صدرت الأوامر من رقم «صفر» باستبعاد «عثمان» من المغامرة لأن لونه أسمر سيكون محل شكٍّ، وربما يساعد على كشف أمر الشَّياطين، وكان عليه بالعودة وبصحبته «باريزي» إلى فندق «هابي أوتيل»، على أن يبقى مستعدًّا للاستدعاء فورًا عندما تقتضي الحاجة.
قابل الشَّياطين قرار الاستبعاد بوجومٍ، وكان «عثمان» أكثرهم وجومًا، ولكن سرعان ما انتشرت بينهم ضحكات المرح إثر إشارةٍ من «باريزي»، تعني أن «عثمان» خارج اللعبة مؤقتًا!
عندما احتضنت شواطئ «يوجوسلافيا» قارب الشَّياطين الصغير كان دويُّ المدافع يأتي من بعيدٍ متقطِّعًا عميقًا حزينًا.
صاح «أحمد» وهو يخاطب «باريزي» بالإيطالية عن المسافة بين «سبليت» و«سراييفو» … وكانت إجابة «باريزي» تقريبيةً؛ إذ تتراوح بين مائة ومائة وخمسين كيلومترًا.
كان «سلودان» أحد عملاء رقم «صفر» بانتظار الشَّياطين بعد ما علم بتأخير الرحلة عن طريق «باريزي» … صافح الشَّياطين بحرارةٍ واتجه بهم إلى السيارة «الزستافا» «اليوجوسلافية» والتي سرعان ما انطلقت بعد أن ودَّع الشَّياطين «عثمان» وهو في طريقه للعودة إلى «باري». بينما أشار لهما «باريزي» بعلامة انتصار وهو يتأبَّط ذراع «عثمان» ويبتسم!