طاقم الإغاثة!
كانت السيارة تشقُّ طريقها بسرعةٍ تجاه «سبليت» ويقودها «سلودان» المبتسم دائمًا، بينما راح الشَّياطين يتأمَّلون مدينة «سبليت» الجميلة والتي شهدت عرسين على مدار حياتها، فقد أُقيمَت بها دورة أوليمبية كالتي أُقيمَت في «برشلونة»، وكذلك احتضنت دورة «البحر الأبيض المتوسط» والتي تشترك بها كلُّ الدول التي تطلُّ على البحر الأبيض المتوسط.
كانت الساعة تقتربُ من الثامنة صباحًا حين اقتربت العربة «الزستافا» من مدينة «سراييفو» وعلى بُعد عشراتٍ من الكيلومترات توقَّفَت السيارة وهبط منها «سلودان» وتبعه الشَّياطين … وفي ثوانٍ معدودةٍ قام الشَّياطين الأربعة بتغيير ملابسهم ليرتدوا جميعًا زيًّا أحمر اللون مطبوعًا عليه كلمة «إغاثة دولية» باللون الأزرق ووضعوا قبعاتٍ بلاستيكيةً على رءوسهم عليها نفس الكلمة.
قال «سلودان» وهو ينظر للشياطين: إنكم الآن ضمن طاقم «إغاثة» دولي، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي أضمن بها سلامتكم، فكما تعرفون الوضع ﺑ «سراييفو» في منتهى الخطورة، وربما أسرتكم القوات «الصربية» على حدود «سراييفو»، إذ لم ترتدوا هذه الملابس … ثم أكمل «سلودان»: إن القوات «الصربية» تسيطر الآن على معظم أنحاء «سراييفو»، وربما تسقط كلها في أيديهم خلال أيامٍ، أرجو أن تتملَّكوا أعصابكم وأنتم تشاهدون المناظر المؤلمة، فسترون «المسلمين» و«الكروات» في شتى أنحاء «سراييفو» يعانون من الجوع والتشرُّد في الشوارع فلا تُسرفوا في العواطف، وتأكدوا أنكم مراقبون من ناحية القوات «الصربية»؛ فهي تعرف كيف تؤدِّي فرق الإغاثة دورها … وأي انفعال زائد قد يعرِّض حياتكم للخطر فكونوا حَذِرين.
قال «أحمد» وهو يُطمئن «سلودان»: لا تكُن قلِقًا يا صديقي، فنحن مُدرَّبون على هذه العمليات، وسترى أننا نؤدِّي دَوْرنا بكفاءة تامة.
ما كاد «أحمد» ينتهي من جملته حتى لاحت لهم من بعيدٍ لافتة كبيرة مكتوب عليها باليوجوسلافي: مرحبًا بكم في «سراييفو» … ثم دوَّى صوت انفجارين على التوالي … فصاح «سلودان»: إن الليلة هادئةٌ، فالقوات لا تستأنف عملياتها الحربية إلا مع طلوع النهار، ولعلَّ هذين الانفجارين بداية يوم مليءٍ بالقتلى والجرحى!
انحرفت السيارة الصغيرة يمينًا ويسارًا قبل أن تتوقَّف أمام منزل قديم تحيطه من كلِّ جانب بقايا أطلال منازل أخرى هدمتها القوات «الصربية» … هبط الشَّياطين من السيارة واحدًا وراء الآخَر وساعدهم «سلودان» في حمل حقائبهم، وتوقَّفوا أمام المنزل ليخرج «سلودان» من أحد جيوب سترته كشَّافًا كهربائيًّا، وألقى بضوء الكشَّاف على قفل الباب، ثم دسَّ فيه مفتاحًا صغيرًا، وسرعان ما انفتح الباب لتفوحَ من المنزل رائحةُ الذكريات والصمتُ الحزين.
تقدَّم «سلودان» داخل المنزل، ثم أشعل عود ثقاب ليُضيء إحدى اللمبات التي تعمل بالكيروسين، وصاح مخاطبًا الشَّياطين: معذرة … فليس هناك كهرباء ولا مياه، وستعيشون حياتكم بطريقة بدائية للغاية، فأرجو ألا يُضايقكم هذا.
ثم أكمل حديثة قائلًا: وأنا سأحاول دائمًا توفير المياه لكم على ألا تستخدموها في الاستحمام، فهي فقط للشرب أو غسيل الوجه على الأكثر … فلا توجد مياهٌ ولا كهرباء هنا في «سراييفو»، بل ولا طعام أيضًا، والناس هنا تعيش على القليل الذي قد تُيسِّره الظروف عن طريق فِرَق الإغاثة التي تُرسلها بعض الدول الأوروبية والإسلامية من شتَّى أنحاء العالم. صمت «سلودان» وهو يفرك عينَيه ثم تحدَّث وهو يتثاءب: إنكم مُرهَقون بكلِّ تأكيد … سأترككم تنامون بعض الوقت وسأعود في التاسعة صباحًا لأكون رَهْن إشارتكم … وانصرف «سلودان» بعد أن ودَّع الشَّياطين وعلى شفتَيه ابتسامة إشفاق.
استسلم «بو عمير» و«قيس» للنوم، بينما ظلَّ «أحمد» و«فهد» يتنقلان داخل المنزل من غرفة إلى غرفة وهما يتحدَّثان.
قال «أحمد»: لعلَّ هذا المنزل كان ملكًا لإحدى الأسر المُسلِمة وتركوه وفرُّوا من بطش «الصرب». ردَّ «فهد»: وهو ينظر لصورة مُعلَّقة على الحائط لشيخ طاعنٍ في السن يرفع يدَيه عاليًا بالدعاء: بل هذا أكيدٌ، ولكن ما يُحيِّرني هو موقف العالم تجاه هذه المأساة المروعة.
قال «أحمد»: لقد وضحت الرؤية تمامًا … لقد أصبح العالم الآن تحكمه المصالح. وانحنى «أحمد» ليلتقط حقيبة جلدية تبدو مهملة منذ فترة طويلة. فتح «أحمد» الحقيبة وكم كانت مفاجأة أن يجدها مليئة بالصور العائلية! طفل صغير يركض بحديقة المنزل، وفتاة تلعب بإحدى المراجيح … وأخرى لرجل يضع نظَّارة فوق عينَيه ويطالع أحد الكتب وصورة لمسجد قديم وبعض الصور الأخرى تمثل أحد الأطفال في مراحل مختلفة من العمر … رتَّب «أحمد» الصورَ من جديد، وقام بتلميع الحقيبة، ثم وضع الصور بداخلها وتنهَّد وهو يضع الحقيبة فوق أحد الدواليب، ويردِّد: ربما عادت الأسرة مرة أخرى لترى صورها.
كان آخِر ما قاله «أحمد» و«فهد» قبل أن يناما: ملعونة الحرب مهما كانت أهدافها، ثم غلبهما النعاس فاستسلما له … وفي الصباح الباكر استيقظ الشَّياطين الأربعة على صوت المعارك وأصوات مدافع الهاون تهزُّ «سراييفو» كلها … اغتسل الشَّياطين بقليل من الماء وتناولوا جميعًا طعام الإفطار وارتدوا ملابس الإغاثة الحمراء ووقف كلٌّ منهم ينظر إلى ساعته في انتظار حضور «سلودان».
قال «أحمد»: عسى ألا يتأخر، ﻓ «سلودان» هو المسئول الأول عن تحركاتنا إلى أن تصدر لنا التعليمات بالتحرُّك بمفردنا.
ردَّ «بو عمير» متسائلًا: وهل معنى ذلك أننا لا نتحرَّك إلا من خلال «سلودان» فقط؟! فهمَ «قيس» ماذا يريد قوله «بو عمير»، فقال مجيبًا عليه: لا تنسَ يا «بو عمير» أننا لا نعرف شيئًا هنا بالإضافة لخطورة الموقف بشكل عام.
توقَّف الشَّياطين عن الحديث عندما اندفع «قيس» ناحية باب المنزل وهو يقول: لقد وصل «سلودان»، لقد سمعت سيارة تتوقَّف أمام منزلنا.
قال «أحمد» وهو يحذِّره من فتح الباب: تريَّث يا «قيس»، قد يكون شخصًا آخَر غير «سلودان»، فانتظر حتى ترى ثم وجَّه حديثه إلى بقية الشَّياطين: كونوا مستعدين فقد يحدث أيُّ شيءٍ لا نتوقَّعه وفهم الشَّياطين معنى كلام «أحمد» فتفرَّق كلُّ واحدٍ منهم باتجاهٍ آخِذًا وَضْع الاستعداد لمواجهة أيِّ موقف جديد … ثوانٍ مرَّت ثقيلة، سمعوا فيها طرقات على الباب الخشبيِّ العتيق، سمعوا بعدها صوت «سلودان» وهو ينادي عليهم تقدم «أحمد» صَوْب الباب ووضع يده اليمنى على مسدسه سريع الطلقات، بينما فتحت اليد اليسرى الباب بحذرٍ … كان «سلودان» يبتسم، دخل من الباب وهو يحمل مجموعة زجاجات من المياه يضعها في حقيبة بلاستيكية.
ألقى «سلودان» تحية الصباح على الشَّياطين، ثم قال: الآن يمكنكم الذهاب معي إلى «القلعة»! فسأله «أحمد» أية قلعة تقصد؟!
فضحك «سلودان» وهو يقول: لا أعرف اسمها، ولكني أعرف الطريق إليها.
لم ينطق «أحمد» ونظر إلى الشَّياطين وعيناه تملؤها الدهشة والتساؤل.
تحرَّكَت السيارة الصغيرة وبداخلها الشَّياطين الأربعة بملابس رجال الإغاثة الدولية، وانطلقت السيارة لتقطع شارع الماريشال «تيتو»، ثم تنحرف يمينًا وتستمر في السير بشارع ضيِّق، ثم تتجه الناحية العكسية للشارع الضيق، ثم تبطِّئ من سَيْرها وهي تجتاز بعض الأبنية المهدمة، ثم ينحرف «سلودان» بها يسارًا لتقف تحت إحدى الأشجار العالية، ويهبط «سلودان» من السيارة ويتبعه الشَّياطين بملابسهم الحمراء وبيدهم حقائب بيضاء مرسوم عليها شعار لجان «الإغاثة الدولية»، سار «سلودان» أمام الشَّياطين عشر دقائق قبل أن يتوقَّف وهو يشير بيده إلى منزل مُكوَّن من طابقَين ويحيطه سور عالٍ، وقد ارتفعت هامات الأشجار من خلف السور فحجبت معظم المنزل عن الرؤية.
قال «سلودان» وهو يشير إلى المنزل المختفي وراء الأشجار: هذه هي القلعة، فلنقترب قليلًا حتى تروها جيدًا … واقترب الشَّياطين بخطوات محسوبة للأمام، ثم توقفوا مرة أخرى عندما مرَّت أمامهم سيارة حربية يطل منها بعض الجنود بملابسهم المزركشة، حيُّوا الشَّياطين وهم يلوحون بأسلحتهم ويشيرون بعلامات النصر.
قال «سلودان»: هؤلاء جنود «صربيون» يتجهون إلى ساحة القتال … ثم أشار حوله وهو يقول: إن معظم «سراييفو» أصبحت في قبضة «الصربيين» ويحاولون الاستيلاء على ما تبقَّى منها.
سأل «أحمد» «سلودان»: أظنُّ مهمتك انتهت الآن يا صديقي!
فضحك «سلودان» قائلًا: أعتقد ذلك يا سيدي!
قال «أحمد»: وهل السيارة ستكون معنا أم سترحل بها؟
فقال «سلودان»: لقد حدث سوء تفاهمٍ، إنني لن أترككم إلا عندما ترحلون، ولكن مهمتي انتهت بشأن القلعة، وأشار مرةً أخرى باتجاه المنزل، ثم أكمل: ومنذ هذه اللحظة، فأنا أعمل تحت لوائكم.
فقال «أحمد»: إذَن اذهب وأحضِر السيارة إلى هنا!
غاب بعدها «سلودان» قليلًا، وسُرعان ما ظهر بالسيارة «الزستافا» الصغيرة. توقَّفَت أمام «أحمد» ليجلس هو على عجلة القيادة وأشار ﻟ «بو عمير» أن يصعد معه، بينما ظلَّ «فهد» و«قيس» وبصحبتهما «سلودان» … تقدَّم «أحمد» بالسيارة باتجاه المنزل، ودار حوله مرَّتين بطريقة خادعة حتى لا يلفت نظر أحد … ثم عاد من جديد حيث ينتظره «فهد» و«قيس» ومعهم «سلودان» وركبوا جميعًا السيارة واتجهوا إلى المنزل الذي يسكنون فيه … وقد قاد «أحمد» السيارة بتوجيهات من «سلودان» حتى يتعرَّف على الطريق.
وما إن اقتربت السيارة من المنزل حتى سمع الشَّياطين ما يشبه حديثًا بعيدًا!
اقترب الشَّياطين أكثر، وظهر الصوت بوضوح كانا لرجلين يتحدَّثان بلهجة «يوجوسلافية» ويضحكان وكأنهما في رحلة خلوية.
تقدَّم «أحمد» من الباب وقبل أن يدفعه انفتح الباب بمفرده، وكانت المفاجأة التي لم يتوقعها أحدٌ!