الفصل الثاني
في غرفة رئيسة دار النظام
نوب حتب
:
لقد بدأ الكاهن يحاربني حربًا لا حول لي عليه ولا قوة، وسيفوز بما يريده من
الانتقام مني، ولكن هذا أخفُّ على نفسي من وخز الضمير، فإن العذاب في سبيل الشرف
والذمة خير من نعيم هذه الحياة مقرونًا بالعار وسوء السيرة، وما كنت يومًا أقدمت
على مخالفة الكاهن أجهل نتيجة عملي؛ بل كنت أعلم أن الفضيلة المجردة لا بقاء لها
بين هؤلاء الناس، وأني سأذهب ضحية لأطماعهم، ولكني فضلت ما تريده الآلهة؛ فإن أيام
الدنيا قليلة فانية، ويليها نعيم دائم أو عذاب لا خلاص منه.
فلا تتركي المعروف يا نفس واعلمي
بأن لهذا العمر ما طال آخرا
وإن كدرت دار الحياة التي هي
طريقك للأخرى فقد يحمد السرى
ومر مذاق السير لولاه ما غدت
حلاوة وضع الرحل تغري المسافرا
وغاية نيل المجد طلبتك التي
أرتك نياب الدهر سودًا كواشرا
وقد أبت الأيام تتميمها فلا
فؤادك مرتاحًا ولا النجح ظاهرا
كاكا
:
أحد الكهنة يريد مقابلتك يا سيدتي.
نوب حتب
:
دعيه يدخل.
منقرع
:
السلام عليك يا تاج الكمال والشرف.
نوب حتب
:
وعليك السلام يا سيدي الفاضل تفضل.
منقرع
:
لعلك لا تعرفينني يا سيدة نوب حتب.
نوب حتب
:
نعم يا سيدي وسأتشرف بمعرفتك الآن.
منقرع
:
لا تهمك معرفتي، وما جئت إلا لأؤدي خدمة لسيدة اضطهدت لمجرد استقامتها وكمالها،
فدفعني حب الفضيلة إلى مساعدتك دون سابق معرفة، وذلك بإخبارك بما يخبئه لك القدر،
عسى أن ينفعك هذا الإخبار.
نوب حتب
:
تفضل يا سيدي، ولك مني ألف شكر على تكرمك بمساعدتي دون معرفة سابقة.
منقرع
:
تعلمين أيتها السيدة ما فعله الهكسوس ببلادنا المحبوبة، وكيف تغلبوا على القطر
البحري، وخربوا معابده، وهدموا آثاره التي شيدها الفراعنة الأقدمون، واستعبدوا
المصريين، وسخروا من آلهتهم، وكيف ضربوا علينا نحن في القطر القبلي الجزية
واعتبرونا أتباعًا لهم، ثم تغلبت عليهم مدنيتنا، فاقتدوا بنا في عبادتهم، ولكنهم لم
يختاروا من آلهتنا إلا إله الشر سوتيخ، فعبدوه، واضطروا إخواننا في القطر البحري أن
يعدلوا عن عبادتهم للإله رع إله عين شمس المشهور، وأن يعبدوا إله الهكسوس
سوتيخ.
فلما انتصر مولانا الملك — متَّعته الآلهة بالصحة والعافية — في حروبه الأخيرة
على النوبيين والإثيوبيين، خشي ملك أبيبي ملك هؤلاء الهكسوس أن يخرج عليه ملكنا
الفاتح سكنن راع الثالث، فيطرده من بلاد آبائه الفراعنة، فأراد أن يهاجمه قبل أن
تقوى سلطته ويشتد بأسه، فأخذ يرسل إليه الرسول تلو الرسول، ليطلب منه طلبات لا معنى
لها، وما أراد بها ذلك الملك العاتي إلا فتح باب الحرب، وخشي مولانا الملك على أمته
من بأس هؤلاء الطغاة، فأخذ ينفذ للملك أبيبي كل مطالبه معقولة كانت أو غير
معقولة.
نوب حتب
:
نعم يا سيدي أعلم ذلك، ومن بين هذه المطالب الغريبة ألا نعبد نحن سكان القطر
القبلي إلا الإله آمون، وألا نذكر مع اسمه لا زوجته موت ولا ابنه الإله خنسو؛ بل
نقصر عبادتنا على الإله آمون وحده، ومع غرابة ذلك المطلب فقد قام مولانا الملك
بإجابته، وأرسل إلينا أوامره بذلك.
منقرع
:
نعم أيتها السيدة، وقد استعمل الكاهن الأعظم لدير آمون هذا الطلب وسيلة إلى
الإيقاع بك ودبَّر المكيدة لقتلك، فأمر مفتش دور النظام أن يقدم إليه تقريرًا يقول
فيه إنك كفرت بالإله آمون، وأنك تعلِّمين البنات ذلك الكفر، وقدم السيد فتاح
تقريرًا آخر قال فيه: إن الكاهن الأعظم لما اطلع على تقرير المفتش، أرسله ليتبين
الخبر وينصح لك بالعدول عن غيك، فلم تقبلي ذلك، وقلت له إنك لا تسمحين لأحد بالتدخل
في عقيدتك الدينية، وقد قدمت رودوبيس تقريرًا ثالثًا بهذا المعنى، وقدم الكاهن
الأعظم هذه التقارير الثلاثة إلى مولانا الملك — متعته الآلهة بالصحة والعافية —
وطلب منه محاكمتك فلم يعبأ مولانا الملك بهذه التقارير، فأرسل الكاهن إلى الملك
أبيبي ملك الهكسوس خطابًا، يقول له فيه: إن ملك مصر العليا، وإن كان يجيب طلباتك
بالقول إلا أنه لا ينفذها فعلًا، واستدل على ذلك بعدم محاكمتك، مع أنك خالفت
الأوامر الصادرة منه بعبادة آمون وحده وعبدت الثالوث.
نوب حتب
:
يا لها من دسيسة دنيئة! أيخون الكاهن الأعظم بلاده، ويحرض عليها الغاصبين سعيًا
وراء أطماعه ومفاسده؟ فبئس ما فكر ودبر.
منقرع
:
إنه يا سيدتي لا يعرف أمام أطماعه وشهواته لا دِينًا ولا وطنًا، ولهذا فعل فعلته
هذه، غير آسف ولا نادم، وقد أرسل الملك أبيبي إلى مولانا الملك رسولًا، يطلب منه
القبض عليك حالًا، وسجنك تمهيدًا لمحاكمتك على الكفر بآمون إله طيبة الأعظم.
نوب حتب
:
أيتهمني الكافرون بالكفر؟ فيا سبحان الله! لقد انقلبت الحقائق.
منقرع
:
هكذا كان تدبيرهم، وقد اضطر مولانا الملك تلافيًا للخلاف ودفعًا للنكبة عن بلاده،
أن يأمر بالقبض عليك، وسيقبضون عليك بعد ساعتين، وقد جئت لأنصح لك بالهرب، فإن هذه
المحاكمة لا تنجلي إلا بالحكم عليك بالقتل، وسيثور ضدك الشعب المصري متى علم بكفرك،
وهو شديد التمسك بدينه، فبادري إلى الهرب الآن قبل أن يقبض عليك قاضي
التحقيق.
نوب حتب
:
لست بمجرمة حتى أهرب من وجه القضاء، ولا أنا بخائنة بلادي مهما كانت الظروف؛ فإن
هربي الآن قد يثير الظنون حول تصرف مولانا الملك بالنسبة لملك الهكسوس، فيظن ذلك
الملك العاتي أن مولانا الملك هو الذي دبر لي طريقة النجاة، ويتخذ ذلك وسيلة لإشهار
الحرب علينا، وما كنت لأضحي ببلادي في سبيل إنقاذ نفسي، ولهذا سأبقى لينفَّذ في أمر
مولانا الملك، وإن كان في موتي خلاص للبلاد فسأموت باسمة مطمئنة.
منقرع
:
هكذا تكون الشهامة يا سيدة نوب حتب، وهكذا تكون الوطنية، فعسى أن تهيئ لك الآلهة
سبيل النجاة حتى لا تخسر مصر المسكينة مخلصة مثلك، فإلى الملتقى أيتها الضحية
الطاهرة.
نوب حتب
:
مصحوبًا بالسلامة يا سيدي تحرسك الآلهة، فقد أديت لي من المساعدة ما قد يكون فيه
نجاتي دون أن أخون مصر العزيزة أو أفرط في حقوقها، ولكن ألا أتشرف بمعرفة اسمك يا
سيدي؟
منقرع
:
اسمي منقرع.
(يخرج منقرع)
نوب حتب
:
هكذا يبيع هؤلاء الرجال الشرف والوطن والفضيلة في سبيل شهواتهم، فعفوك أيها الإله
المشرق على عباده من سماء ملكوته، نعم عفوك يا آمون ورحمتك، فإني لم أخنك، ولست آسف
أن أفارق تلك الدنيا المدنسة، ولكني كنت أود أن أموت ميتة يعلم منها أبناء وطني أني
ضحيت بحياتي في سبيل هذا الوطن، فأكون بذلك مثالًا لهم في التضحية وحب البلاد، لا
أن أخرج من بينهم كافرة في اعتقادهم مغضوبًا علي من الجميع، فعفوك أيتها الآلهة،
فإني أول من يستحق الرحمة.
كفروا بآمون وألقوا إثمهم
ظلمًا على رأس البريء الآمن
مالوا إلى الإجرام إلا أنهم
ستروا فضائحهم بغدر المائن
يا ويح هذا الحظ في إدباره
يلقي على المطعون ثوب الطاعن
يا مصر كم أوذيت في إرضائك
وهوى بما أرجوه لهو الماجن
لله ما أحلى العذاب إذا أتى
من أجل مصر وفي هواها الكامن
يا رب مصر أغث فتاة أرهقت
واهد الأمين وردَّ كيد الخائن
آمون هل يرضيك ظلم غشومهم
وتنام عينك عن عقاب الكاهن
(تدخل ماريت رع.)
ماريت رع
:
قد أنجزت كتابة الخطابات التي أمرت بها.
نوب حتب
:
دعي هذا جانبًا يا ماريت رع، فإن لدي الآن ما هو أهم منه واجلسي أتحدث إليك، فإنه
سيُقبض علي اليوم بعد ساعتين، وسأُقدم للمحكمة الكبرى بتهمة الكفر، فهل أنت مستعدة
أن تضحي من أجلي، مع العلم إن فعلت فقد ينالك ضرر عظيم.
ماريت رع
:
إن مصلحتي الشخصية قد أصبحت مرتبطة بمصلحتك، فأنا مضطرة أن أضحي في سبيل مصلحتنا
المشتركة بكل ما أستطيع، تضحية اليائس الذي يصدق عليه قول الشاعر:
أنا الغرق فما خوفي من البلل
لأن ما بيني وبين السيدة رودوبيس من العداوة الآن يجعل بقائي بعدك ضربًا من
المحال، ولو بقيت لفعلت بي أشد مما فعلت بك، فأمري بما ترين تجدي مني صديقة
صادقة.
نوب حتب
:
سأخبرك بكل شيء يا ماريت رع؛ لتكوني على علم بالحالة تمامًا، وتستطيعي مساعدتي
بما يعن لك من الآراء، علَّنا نلتمس طريق النجاة، أنت تعلمين ما يقوم به الكاهن
الأعظم من إفساد أخلاق معلمات دار النظام سعيًا وراء شهواته، وكيف كان يقضي معهن
شطرًا من الليل فيما تحرِّمه الآلهة، سواء أكان في هذه الدار المقدسة أم خارجها،
وقد أراد أن يصل إلى غايته هذه في مدة رياستي، فرفضت طلبه رفضًا باتًّا، فعوَّل على
أن يزور رودوبيس في مخدعها خفية، وأرسل إليها خطابًا ولما علمت أن الخطاب من عنده
فضضته واطلعت عليه ثم نقلته في خطاب آخر محاكية خطه بدقة، وسلمت الخطاب الذي كتبته
إلى رودوبيس، واحتفظت بخطابه الأصلي حجة عليه، وها هو الخطاب أقرؤه عليك الآن؛
لتسمعي ما يقوله ذلك الكاهن، الذي ينظف جسمه مرات عديدة في اليوم ليدخل على آمون في
قدس أقداسه طاهر البدن والثياب، وهو ملوث الروح بأفظع القاذورات.
معبودتي رودوبيس
لم تسمح رئيستك اللعينة بدخولي إليكن، وسأنتقم منها شر انتقام، ولكني لا
أستطيع أيتها المحبوبة أن أبعد عنك، ريثما أتخلص من تلك الشريرة، ولهذا دفعني
الشوق العظيم إلى رؤيتك أن أخاطر وأزورك الليلة عند منتصف الليل تمامًا،
وسأتسلق السور الغربي من حديقة دار النظام، فكوني في انتظاري هناك لأسير معك
إلى مخدعك.
عبدك حابي
هذا هو كلام رجل الدين الذي يدعي أنني كفرت بالإله آمون، وهذا هو مقدار إيمانه
بالآلهة العظام، يدنس معابدهم ويعيث فسادًا في أماكنهم المقدسة.
ماريت رع
:
وما الذي تم يا سيدتي في تلك الليلة؟
نوب حتب
:
أمرت خاطي بواب الدار أن يسهر في ذلك المكان من الحديقة، وقلت له إنه بلغني أن
لصًّا سيتسلق ذلك السور في منتصف الليل، وفي الساعة المعينة ذهبت إلى مخدع السيدة
رودوبيس لأعوقها عن الذهاب إلى ذلك المكان، فوجدتها على أهبة الخروج، فبقيت معها
أحادثها بعض دقائق، ثم ذهبت إلى الحديقة، ولما وصلت إلى المكان الذي عينه الكاهن،
وجدت أن خاطي قد قبض عليه، ولما تبين وجهه على ضوء القمر وعرفه خاف منه وخر له
ساجدًا، فذهب الكاهن مسرعًا من حيث أتى وسقط منه أثناء هربه صولجانه الكهنوتي،
فأخذت الصولجان وحفظته عندي دليلًا على جريمته وها هو.
ماريت رع
:
لله ما أفظع هذه الحوادث! وما أقواك يا سيدتي في محاربة هؤلاء العاتين!
نوب حتب
:
ليس هذا كل شيء يا ماريت رع، فقد أرسل الكاهن اليوم خطابًا آخر إلى رودوبيس، يطلب
منها فيه أن تزوره في مخدعه في الدير، فاسمعي ألفاظ ذلك الرجل الديني.
حبيبتي رودوبيس
حضرت حسب وعدي لك في خطابي السابق، فوجدت بواب الدار يترقب حضوري دون أن
أنتبه إلى وجوده، فقبض علي ولكنه لما تبينني خاف مني وتركني، ولا أدري كيف عرفت
تلك الخبيثة خبر مجيئي فاستعدت له؟ فهل أخبرت أحدًا بمضمون هذا الخطاب؟ أم إن
نوب حتب أصبحت تشاطر آلهة الشر في إيذاء الناس؟ لنؤجل هذه الأسئلة لساعة
اللقاء، فإني في شوق عظيم إلى رؤيتك، لا أستطيع الصبر عليه، لهذا أرجو أن تأخذي
تصريحًا بالخروج اليوم بعد انتهاء عملك، وأن تحضري إلى بواب الدير وتبقي في
غرفته إلى نصف الليل، وهناك يرشدك هذا البواب إلى مخدع نومي، وإني أبشرك أن يوم
الانتقام سيكون قريبًا، وسترين بعينيك الجميلتين ما ينال تلك العنيدة من
الإهانة والعذاب، فتخرج من هذه الحياة مغضوبًا عليها من الناس والآلهة
العظام.
ماريت رع
:
أكاد أسمع قصة خرافية، لم أكن لأصدقها لولا صدورها منك، أنت التي لا تعرفين
الكذب، وما الذي تراه سيدتي الآن؟
نوب حتب
:
تعلمين أني علَّمت الأميرة نيفرتاري ابنة مولانا الملك، ولي بها صلة متينة، فخذي
هذه المستندات واذهبي إليها في البيت الأعظم، وخذي معك خاطي وامكثا عند الأميرة إلى
أن تسمعي يوم انعقاد المحكمة لمحاكمتي، فاحضري بمستنداتك هذه كدليل قاطع على كفر
ذلك الكاهن وفجوره، وأخبري الأميرة كل شيء، فهي لا تتأخر عن مساعدتك في مهمتك
الشاقة واحذري أن تخبري أحدًا من حاشيتها بذلك، أو بحقيقة اسمك حتى لا تحوم حولك
الظنون، أما خاطي فاطلبي من الأميرة وضعه في محل أمين والعناية براحته دون أن يُسمح
له بالخروج، فإنه يخشى الكاهن الأعظم، ويظن أن مخالفته كفر بأوامر الآلهة، ومحال أن
يفهم غير ذلك، ولكنه مع هذا كله سيكون شاهدي الوحيد أمام المحكمة.
يا كاكا ادعي لي البواب خاطي.
كاكا
:
سمعًا وطاعة.
ماريت رع
:
سأفارقك يا سيدتي بقلب كسير يكاد يفتته الحزن والأسى، راجية من الآلهة أن يسددوا
خطاك، وأن ينصروك على أعدائك نصرًا مبينًا، وكم كنت أود أن أكون إلى جانبك في تلك
الكارثة الأليمة، ولكن هكذا أراد آمون، فصبرًا على ما يريد.
نوب حتب
:
لا تجزعي يا مريت رع، واستقبلي أيام جهادنا هذه بجأش ثابت وصبر جميل، فقد يتغلب
حقنا على باطلهم، ونخرج من مكيدتهم هذه ظافرتين.
(يدخل خاطي)
خاطي
:
السلام عليك أيتها الرئيسة.
نوب حتب
:
وعليك السلام يا خاطي، ألا تزال خائفًا مما فعلته مع الكاهن الأعظم؟
خاطي
:
وكيف لا أخاف، وقد أخسر بغضبه الدنيا والآخرة، وماذا تقول روحي في قاعة العدل،
وهي تدافع عن نفسها أمام الإله أزوريس وقضاته الاثنين والأربعين، وكيف أستطيع أن
أبرئ نفسي وأقول إني لم أغضب كاهن قريتي بعد أن أغضبت الكاهن الأعظم لدير آمون رب
أرباب مصر العظيم.
نوب حتب
:
لا بأس يا خاطي، فسيعفو عنك الكاهن عندما تهدأ ثورة غضبه، أما الآن فليس من
الحكمة أن يقع بصره عليك، فاذهب مع السيدة ماريت رع إلى أن يرضى عنك، وإياك أن
تتعمد مقابلته بنفسك، وإلا كان في ذلك هلاكك، اذهبي الآن يا ماريت وأسرعي قبل فوات
الوقت مصحوبة برعاية الآلهة، وخذي معك خاطي.
كاكا
:
السيدة رودوبيس تريد مقابلتك يا سيدتي.
نوب حتب
:
دعيها تدخل.
رودوبيس
:
وصلني اليوم خطاب من أخي.
نوب حتب
:
نعم أعلم بالخطاب كما أعلم من أين أتى.
رودوبيس
:
عجبًا! وكيف تعلمين ذلك؟
نوب حتب
:
وما هو وجه العجب؟ ألم أستلم أنا بنفسي ذلك الخطاب وأرسله إليك؟ فأنا أعلم
به.
رودوبيس
:
ومن أين تعلمين أنه من أخي؟
نوب حتب
:
ألم تقولي لي الآن إنه من أخيك؟ إذًا أنا أعرف الخطاب كما أعرف من أين أتى، وماذا
تريدين؟
رودوبيس
:
أريد تصريحًا لي بالخروج اليوم؛ لأن أخي يريد مقابلتي لأمر عائلي.
نوب حتب
:
وهل يسر أخاك أن يراك على تلك الصورة من التبرج والزينة؟
رودوبيس
:
إن أخي — ولا شك — يحب أن يراني فتاة جميلة، لا رجلًا فظًّا غليظًا.
نوب حتب
:
وهل تعتقدين أنك أصبحت جميلة بتلك الزينة المصطنعة والتبرج المعيب؟ قد يكون
الجمال يا سيدتي مع بساطة الملبس وحسن اختيار الألوان المتناسقة الجميلة، دون أن
تخرج السيدة على حدود الكمال والأدب، وأنت معلمة يجب أن تكوني قدوة صالحة لتلميذاتك
في الأدب، والكمال، وحسن الاختيار، والصدق في القول، والعمل، وليس من الصدق في شيء
أن تغير المعلمة الحقيقة، حتى في خلقتها الطبيعية، ولا من الدين أن تبطر المعلمة
على ما وهبه لها الآلهة من الجمال الطبيعي، فتستبدل به جمالًا صناعيًّا
ممقوتًا.
رودوبيس
:
أنا لا أبطر النعمة التي وهبتها لي الآلهة، ولكني أساعدهم على تحسين ما أبدعوه في
نفسي من الجمال.
نوب حتب
:
إن يد الصناعة أعجز عن أن تحسن ما ابتدعته الآلهة من الخلقة الطبيعية، هذا فضلًا
عن أن ضياع الوقت في مثل هذه السخافات، لا يتفق مع ما يجب على المعلمة من صرف وقتها
فيما ينفع تلميذاتها، وظهورها أمامهن بمظهر الكمال المطلق، لتضرب لهن المثل الأعلى
في التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل.
رودوبيس
:
إن مظهر المعلمة لا يدل على فضائلها؛ فقد تكون المتبرجة أكثر عفة واستقامة من
غيرها من المحتشمات.
نوب حتب
:
إن عنوان الشيء دليل عليه، ولو كُتب على باب كلمة مرحاض لما ولجه أحد ليبحث فيه
عن أزهار ورياحين.
رودوبيس
:
لكن أنا بابي مكتوب عليه حديقة غناء، لا مرحاض كما تقولين.
نوب حتب
:
قد يكون ذلك من جهة المادة، أما من الوجهة الأدبية، فهو فوق ما ذكرت، لأن هذا
الزي يبث فساد الأخلاق في نفوس التلميذات، فأنت تجنين على مصر بزيك هذا؛ إذ تفسدين
به أمهات الغد وعماد الأسر في المستقبل.
رودوبيس
:
قلت لك إن الظاهر لا عبرة به، ولا يدل على شيء أكثر من حب التمتع بزينة الحياة،
ولا تُقدر أخلاق الإنسان إلا بما يبطن.
نوب حتب
:
إن ظاهرك يا سيدتي قدوة لتلميذاتك، أما باطنك فلا يعرفه إلا الآلهة ومولانا
الكاهن الأعظم، كما تعلمين.
رودوبيس
:
وماذا تعنين بهذا التهكم؟
نوب حتب
:
أعني أن الآلهة قد وهبوا مولانا الكاهن الأعظم معرفة الغيب، فهو يعرف باطنك، أما
نحن والتلميذات فلا نعرف إلا الظاهر لنا، ومع ذلك فدعينا من تلك المناقشة لأنها غير
مجدية، وما دمت تتمسكين بإصابة رأيك فليس لي إلا أن أقول معك جدلًا بأنك
مصيبة!
رودوبيس
:
أنا لا أفهم كلامك الذي اعتدت أن تقصدي به دائمًا معنيين.
نوب حتب
:
وما الذي لا تفهمينه من كلامي، وأنا أصارحك أنك مصيبة في التعليم، أي إنك يا
سيدتي مصيبة فيما تقولين، عن ظاهرك وباطنك؟ ومع هذا فدعينا من ذلك أيضًا، وبلغي
سلامي لأخيك.
رودوبيس
:
وهل تعرفين أخي؟
نوب حتب
:
طبعًا أعرفه تمام المعرفة.
رودوبيس
:
أنا لا أفهم ألغازك هذه فاصدقيني بحق آمون ماذا تقصدين؟
نوب حتب
:
ألم تقولي لي الآن إن أخاك يحب الجمال؟ فأنا أعرفه لأني عرفت صفة من صفاته، ولهذا
أطلب منك أن تبلغي سلامي لذلك الذي يحب الجمال، وإلى الملتقى يا سيدة
رودوبيس.
(تخرج رودوبيس ويدخل قاضي التحقيق.)
سنفرو
:
جئت بأمر فرعون مصر — متعته الآلهة بالصحة والعافية — لأحقق معك فيما نُسب إليك
من الكفر، الذي لا يليق بمعلمة يجب أن تكون قدوة صالحة لتلميذاتها، في القيام بما
يجب عليها من عبادة الآلهة وتمجيدهم، لا سيما رب الأرباب آمون رع إله طيبة
العظيم.
نوب حتب
:
حاشا يا سيدي أن أكفر بالآلهة أو أقصر فيما يجب لهم من التمجيد والإطراء.
سنفرو
:
لا فائدة من الإنكار الآن، فقد شهد عليك بالكفر ثلاثة من أفاضل الناس، أولهم مفتش
معاهد الدير، إذ يقول إنه رآك بنفسه تسخرين أمام التلميذات من الإله آمون، وتقولين
إنك لا تمجدين إلا الإله سبك، وقد شهدت السيدة رودوبيس بما يؤيد شهادته، وقد تفضل
مولانا الكاهن الأعظم لدير آمون، وأرسل إليك السيد فتاح النبي الثاني للدير؛ لينصح
لك بالعدول عن غوايتك، فلم تعبئي بنصحه، بل سخرت منه وأسأت الأدب في الرد عليه، وقد
جئت الآن بأمر من مولانا الملك سكنن رع الثالث — أمدته الآلهة بالنصر — لأحقق معك
فيما اتُّهِمت به، فأرجو أن تجيبي على أسئلتي باختصار تام، وألا تخرجي في إجابتك عن
السؤال قيد أنملة (إلى الكاتب): اكتب السؤال
الأول.
س: هل فتَّش الكاهن سوتيخ على المعهد هذا العام؟
ج: نعم فتش، ولكن ما علاقة هذا بالتهمة؟
سنفرو
:
هذا خروج عن السؤال، فاكتب أيها الكاتب الشطر الأول من إجابتها فقط.
س: هل حضر إلى مكتبك السيد فتاح موفدًا من قبل مولانا الكاهن؟
ج: نعم حضر لا لينصح لي، ولكن ليطلب مني ما لا أرضاه.
سنفرو
:
لا تكتب إلا الشطر الأول من إجابتها فقط؛ لأنها تخرج كثيرًا عن السؤال، والجميع
يتهمونها بحب الطعن في الأعراض بلا مبرر، ونحن هنا لا نسمح لها بذلك.
س: ألم يخرج السيد فتاح مغضبًا من مكتبك؟
س: ألم تختلفي كثيرًا مع السيدة رودوبيس؟
ج: نعم اختلفت معها؛ لأنها مثال سيئ لتلميذاتها.
سنفرو
:
قلت لك لا تخرجي عن السؤال؛ لأننا لا نريد إلا الإجابة المختصرة، ولا نكتب غيرها
فامضي إذًا على إجابتك.
نوب حتب
:
لم يكتب الكاتب شيئًا يصح أن أمضي عليه.
سنفرو
:
لقد كتب الشطر الأول من إجابتك، ويجب أن تمضي عليه؛ لأنه صحيح لا تغيير
فيه.
نوب حتب
:
ولكنه لا يفيد شيئًا.
سنفرو
:
ليس تقدير هذا من شأنك أنت؛ بل هو من شأن القضاة.
(تمضي نوب حتب.)
سنفرو
:
اكتب أيها الكاتب أن التحقيق أسفر عن اعتراف السيدة نوب حتب بكل ما اتُّهِمت به،
فقد قالت إن الكاهن سوتيخ فتَّش هذا العام على دار النظام، كما اعترفت بأن الكاهن
الأعظم قد أرسل إليها السيد فتاح، وأنه خرج من مكتبها مغضبًا، ولا يمكن أن يكون
لغضبه هذا من سبب إلا إصرارها على الكفر، وعدم اهتمامها بنصيحته، كما اعترفت أيضًا
بأنها اختلفت كثيرًا مع السيدة رودوبيس، وليس لهذا الخلاف من سبب، إلا ما كانت
تظهره أمام السيدة رودوبيس من الكفر بالآلهة، ولهذه الأسباب يا سيدة نوب حتب آمر
بالقبض عليك الآن؛ لثبوت التهمة ضدك.
نوب حتب
:
إنك تقبض علي يا سيدي؛ لأنك تريد ذلك، لا لأن التهمة ثبتت ضدي.
سنفرو
:
هذا طعن في القضاء المقدس، الذي لا يجوز أن ينتقده إنسان، وأنا لا أسمح لك ولا
لغيرك بمس كرامة العدالة، التي نسهر نحن القضاة على حراستها فاقبضوا عليها أيها
الجنود.