الفصل الثالث
وكانت طلائع الموكب جوقة موسيقية يتقدمها سرب من الراقصات، فلما بلغ الموكب إلى أول الميدان اختلجت جوكوندا وقالت: الموسيقى أيضًا وعهدي بالموسيقى أنها وُجِدَت لتسبيح الباري تعالى وتمجيده.
فقال سلفاستروس: ولكن البشر جعلوها من جملة أسلحة الحرب، والشياطين اقتبسوها من البشر.
– إنَّ فؤادي يخفق لهذا اللحن، وأشعر برعشة في بدني، كما كنت أشعر حين تُعزَف الموسيقى في الكنيسة.
– إنه لحن حماسي، هو لحن النصر في الحرب، ولعله مقتبَس من ألحان الكنيسة.
– تَبًّا لهم وألف تبٍّ، يدنسون لحن الكنيسة الطاهر، أكره البقاء هنا يا عزيزي، هَلُمَّ نرجع.
– لماذا لا نحوِّل نحن هذا اللحن إلى تسبيح الباري وتمجيده؟ «وكلٌّ يغني على ليلاه».
– هذا الرقص يشبه الرقص الروماني الذي كنا نرقصه في المدرسة، كما رقصه داود النبي — عليه السلام — أمام تابوت العهد، فهل هؤلاء الراقصات كُنَّ راهبات فأثمنَ؟
– بل هن فنانات التاريخ اللواتي جعلن الرقص عبادة في هياكل الجمال البشري، معابد الشهوات البهيمية، فحُرم لأجلهن الرقص في المساجد الدينية.
– يتراءى لي أنَّ تلك الراقصة الأولى تشبه القديسة تيودورة الملكة زوجة الملك جستين.
– بل هي هي بعينها.
– لا أصدق، لا يمكن أن تنزل قديسة إلى جهنم لكي ترقص فيها.
– بالطبع لا، ولكن تيودورة هي التي أمرت بأن تُعيَّن قديسة، فنفذوا أمرها بعد موتها، وهي قديسة جهنمية.
– هل تعرف تلك الراقصة الأخرى؟
– أظنها كليوبترا، وأظن الثالثة …
– تبًّا لهن جميعًا، كان يجب أن يكن راقصات في السماء أمام العرش الإلهي للتمجيد والتسبيح.
– أظن عرش بعلزبول أكثر احتياجًا للرقص يا عزيزتي، وأما عرش الله فالكون كله تسبيح وتمجيد له.
•••
ثم تلا جوق الموسيقى والرقص صفوفٌ من جنود الزبانية، فدخلوا إلى الساحة، واصطفوا في جوانبها، ودخل الموكب البعلزبولي، فقالت جوكوندا: ويحهم! ما هذا الهودج العظيم على أكتاف هؤلاء المَرَدَة؟
– هو عرش بلعزبول ملك الشياطين، والذين يمشون وراءه هم الرجماء، كقولك وزراء الدولة والحكَّام والموظفون الكبار.
– ويل لهؤلاء الملاعين؛ ملك ووزراء ودولة! كأنهم ذَوو نظام.
– طبعًا نظام شيطاني تعلَّموه من أهل الأرض.
– ويحهم من أشرار! أَمَا كان أحرى بهم أن يكونوا رجال دولة السماء يسبحون الله؟
– وهل تريدين أن تكون جهنم بلا سكان.
– نعم، نعم، كان يجب أن يكون جميع الخلائق في السماء يسبحون.
– يظهر أنَّ السماء لم تُعَدَّ للجميع، فتعين منذ الأزل فريق للسماء وفريق لجنهم.
– إذن لم يكن الناس أحرارًا في اختيار إحداهما.
– صه، صه، لا تدخلي في هذا البحث لئلا تكفري بنعمة الله. احمدي الله أنك ستكونين من الفريق الأول.
•••
ووُضِعَ عرش بعلزبول في إيوانه المرتفع، وامتثل أمامه كبار الرجماء، ووقف وراءهم بعض مشاهير الأرضيين، وكان سلفاستروس يسمِّي بعضهم لجوكوندا؛ انظري ذاك نيرون، وذاك إسكندر الكبير، وذاك نبوخذ نصر، وذاك نابوليون، وهذاك رسبوتين، وذاك جزار عكاء، وسنرى مَن هم الآخرون.
– كيف عرفت مَن ذكرت أسماءهم؟
– من أزيائهم ومن رسومهم التي شاهدتها.
•••
وتكلم بعلزبول قائلًا: النصر النصر، ما ألذَّ النصر! بعد جهاد ألفي سنة، ألفا سنة قضيناها في الاستعداد لهذه الحرب العالمية التي زعزعت أركان السلام، السلام الذي قال به رب السلام على الأرض، وكان نصرنا عن أيدي المنتمين إليه، فهل هناك نصر أعظم من هذا؟!
وكانت إلى جنب بعلزبول عقيلته المتوجسة، فقالت: إنه لنصر عظيم ولكنه ناقص …
فسألت جوكوندا صديقها سلفاستروس: من هذه المتكلمة إلى جنب الملك الجهنمي بعلزبول؟
فأجاب سلفاستروس: هي فينوموس زوجة بعلزبول الداهية، التي تزيَّتْ بزي أفعى، وأغوت جدتنا حواء، أَلَا تذكرين الحكاية؟
– وي، وي، لعنة الله عليها، هي سبب الشر كله، لا أطيق أن أراها، تتراءى لي أنها تتلوى كالأفعى الآن.
– هو الغنج الذي اكتسبته بنات حواء من هذه الملعونة.
وكان جواب بعلزبول على قول زوجته: نعم، إنه نصر ناقص ولكنه سيتم بحرب أخرى لا تُبْقِي ولا تَذَر، فصبرًا يا عزيزتي، نعم تزلزلت أركان السلام، ولكن صرح السلام لم يتهدم بعدُ، يجب أن يتهدم وأن تتبعثر أنقاضه، ولي أمل عظيم بهمة فيرومارس وزير الحرب، وانفنتوروس وزير الاختراع، وجستوروس وزير القضاء، وأرجنتوس وزير المال، وسائر الوزراء النشيطين؛ أننا سنهدم مملكة السلام على الأرض، ونبني على أنقاضها مستعمرة جهنمية عظيمة، تناظِر مملكة السماء، ونقيم إمبراطورية هائلة تغزو إمبراطورية السماء.
فصاحت جوكوندا: ويحك يا سلفاستروس! سيغزون ملكوت السماء، فإلى أين نهرب؟
– نبقى في المطهر، فلماذا أنت خائفة؟
– وأهل السماء إلى أين يهربون؟
– يرتفعون إلى سماء أخرى أعلى وأمجد؛ لأن أبانا الذي في السموات عنده سماوات كثيرة لأبراره.
فتنفست جوكوندا الصعداء، وقالت: لقد طمأنتني، وإنما ستصبح الشقة بين المطهر والسماء العليا أبعد.
– وماذا يهمك إذا كانت الملائكة تحملك ولا تتعبين؟ على أني أطمئنك بأن أهل جهنم لا يقدرون أن يغزوا السماءَ حتى ولا الأرض، بل أهل الأرض يغزون جهنم، إنَّ بعلزبول «يفشر ويمعر» لكي يستفز جنوده ليس إلا.
وكان بعلزبول لا يزال يتكلم ويقول: وما بغيتنا الرئيسية من هذا الاحتفال إلا أن نسمع تقارير رجالنا العظام، الذين جاهدوا في هذه الحرب الشعواء، ونترنم بأعمالهم البطلية المجيدة، ولكي نكافئهم على جهادهم الشريف المقدس.
فوكزت جوكوندا سلفاستروس، وقالت: ويحك! اسمع ما يقول هذا البعلزبول الملعون، جهاد شريف مقدس! كبرت كلمة خرجت من فمه النجس الرجس الدنس.
فضحك سلفاستروس وقال: أما سمعت مثل هذا الكلام من أهل الأرض كثيرًا، أما سمعته ممَّن صاروا ضيوف جهنم، أما سمعت ساسة الأرض وحكَّامهم يستنفرون العامة الجَهَلة الساذجين إلى القتال وسفك الدماء وترميل النساء وتيتيم الأطفال بأغاني الجهاد الشريف المقدس؟ أَمَا كان أحد الملوك يحمل أيقونة في مركبة، ويطوف بها في الشوارع لكي يستثير شعبه للحرب؟ أَوَمَا كان رجال الدين يرافقون الجنود إلى ساحة الحرب لكي يصلوا لهم ويدعوا لهم بالنصر، كأن الحرب عمل شريف مقدَّس. فبعلزبول لم يخترع الشرف والقداسة من عنده، إنما هو يقتبس لغة شياطين الأرض.
وتابع بعلزبول كلامه قائلًا: وبعد ذلك نبحث في المشروع الأعظم الذي نقضي به على مملكة السلام الأرضية القضاء الأخير، ولا بد أن يكون وزرائي قد استفادوا في هذه الحرب اختبارات كثيرة، وعلموا من السياسيين والحربيين والعلماء الأرضيين فنونًا جديدة، يمكننا استخدامها في الحرب القادمة، فَلْنسمع أولًا تقرير عزيزي وزير الحرب فيرومارس، وكيف كانت براعته في التنكيل والتدمير.
فاعترض أرجنتوس وزير المال قائلًا: أظن حُسْن الترتيب يقتضي يا سيدي الزعيم أن نسمع أولًا تقرير مسبب الحرب.
فتلفت بعلزبول هنا وهناك وتلفت الجميع من حوله لكي يعلموا إلى مَن يشير أرجنتوس، إلى أن قال: مَن هو مسبب الحرب؟ لا أدري أنَّ هنا رجيمًا خاصًّا لهذه المهمة، كلنا سعى إلى الحرب وهيَّأ أسبابها.
فقال أرجنتوس: نعم، كلنا نسعى إلى هذه الغاية الشريفة، ولكن بيننا مَن اختص بالقسط الأكبر من هذا المسعى الحميد.
فقالت جوكوندا لصديقها: اسمع، اسمع، يقول هذا اللعين: «بالسعي الحميد»! وهل يعرف هؤلاء الأشرار شيئًا حميدًا؟!
فقال سلفاستروس: طبعًا، وهل شيء أحمد من الوصول إلى الغاية المنشودة، أَمَا كان سعي يسوع إلى الصليب حميدًا؟ فلماذا لا يكون سعي اليهود إلى صلبه حميدًا أيضًا؟ إنَّ الحميد شيء نسبي يا عزيزتي، وقد شرح أينشتاين النسبية لكي نفهم كيف يكون سعي الأبالسة إلى الحرب حميدًا.
– مَن أينشتاين هذا؟
– هو أعظم إبليس من أبالسة العلم والفلسفة، كاد يستكنه سر الوجود المادي، ويظفر بالمبدأ الأول الذي يتوارى الخالق عزَّ وجلَّ وراءه عن أبصارنا.
– لله دره، إنَّ الذي يعلن قدرة الله يجازى في السماء بأفضل منزل.
– مَن قال لك أنَّ الله يرضى أن يعلن عنه مخلوق، إنَّ إعلان ذاتية الله لأعجوبة أعظم من عجائبك مليون مليون مرة.
– إذن أيريد الله أن تبقى ذاتيته مجهولة؟ لا بد من مخلوق يختاره الله ليظهرها.
– لقد اختار الله لإظهارها نبيًّا، ومع ذلك لم يستطع ذلك النبي أن يظهرها إلا بالإشارة.
– مَن هو؟
– داود النبي القائل:السماوات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه. فهل لإعلان ذاتية الله أبلغ وأفصح من هذا الشعر البديع الفلسفي؟!