الفصل الخامس
وكان بعلزبول يترنح طربًا من حديث عقيلته الفتانة فينوموس، فلما استوت على عرشها مزهوة تيهًا وافتخارًا، قال بعلزبول: نسمع الآن تقرير صاحب الصولة فيرومارس وزير الحرب، لا بد أن يكون حديثًا يشرح الصدر.
فوقفت فينوموس وقالت: أظن أن الترتيب الأنسب يقضي بأن نسمع صاحب الحنكة ميديوموس وزير الخارجية والمواصلات؛ لأني أعتقد أن مساعيه الحميدة بين الجحيم والأرض كانت من أهم العوامل في إثارة الحروب البشرية.
فوقف ميديوموس وطفق يتكلم: أرى لزامًا عليَّ أن أستهل خطابي بالثناء على سيدتنا المجيدة ذات الدهاء؛ لأن أعمالها الحكيمة فتحت لنا الطريق العريض للسعي والعمل، فقد قبضَتْ على الشهوات وما زالت تبذرها في قلوب بني آدم وبنات حواءَ حتى خالطت منهم اللحم والدم، فأخرجت شظأها في صدور النساء وأزهرت زهور فتنة وإغراء أخَّاذ في ملامحهن وسائر تصرفاتهن، ونبتت في قلوب الرجال، فأمرعت وأينعت ثمار طمع وشره في ظاهرات نشاطهم، أما الفتنة فكانت ازورار الزور في كحل عيونهن، وخطوط المين في تزجيج حواجبهن، وتلون الغايات في تفاح خدودهن وعندم شفاههن، وحلاوة الخلاعة والتهتك في رمان نهودهن، ووقيد الشهوة في ميس قدودهن ونواحل خصورهن وارتجاج أردافهن، وإيماآت الإغراء في أزياء ملابسهن، وبواعث الغواية في حُلِيهن، وعاصفات الأشواق في غمزاتهن وتمايل أعطافهن.
وأما نشاط الطمع والشره في الرجال فكان باديًا في صلابة عضلاتهم، ومفتول سواعدهم، وحوافز الطموح في شوامخ أنوفهم، ومغاور النهم فيما لا حد له من أطماعهم، وقواضم الافتراس في جوارحهم، ومناسج الكيد في نزوات رءوسهم، ومعامل سلاح التنازع في خلايا أدمغتهم.
وصفوة القول أنَّ فنون فتنتهن كانت عواصف تثير لجج نشاط الرجال اغتنامًا للمال بأي الوسائل؛ لكي يقايض الآدميون بذهبهم الرنان جمال الحواءات الفتان، وبهذه المقايضة تتغذى شهوات الفريقين ولكن بلا شبع.
إنَّ شهوة الفريقين إذن هي المحرك لطلب المال والحرص عليه، إنَّ هذه الشهوة التي زعزعت ملكوت الإنسان كانت من بذار سيدتنا المبجلة ذات الدهاء فينوموس.
(وهنا دوى المكان بالتصفيق والهتاف لذات الدهاء)، هذا المحرك القدير للطمع بالمال مهَّدَ لنا الطريق للعمل، فشكرًا لسيدتنا الموقرة (هتاف لها)، فمنذ خرج أبو الإنسان من الفردوس شرع الطمع يفعل فعله العجيب، شرع الراجم يستغل تعب المرجوم بألف أسلوب وأسلوب، ولا متسع لتعداد الأساليب، ومعظمها يرجع إلى استخدام النعرة الدينية للاستغلال. باستخدام حمير المطامع ابتدأ عملي.
فقال بعلزبول مقاطعًا: هل تعني أنك جعلت المطامع حميرًا يمتطيها الطامعون.
– لا يا مولاي، بل بالعكس، جعلت الناس حميرًا تمتطيها المطامع، فكل مطمع يستكد حماره بالموكز في حلبة السباق لكي ينال القسط الأوفر من الغنيمة؛ لذلك تجري حمر السباق، تتزاحم وتتصادم ويثب بعضها على بعض، ويدوس قويها ضعيفها، وينهش لاحقها سابقها؛ لكي تملأ بطون مطامعها من غنائمها.
فاعترض الفيلسوف جسنوف وزير القضاء قائلًا: هذا يكون في حالة الفوضى، ولكن حميرك مارسوا النظام حتى صار خلة لهم، فكيف كنْتَ تُفسِد نظامهم؟!
فأجاب ميديوموس: لم أفسد نظامهم، بل بالعكس كنت أزيِّن لهم حُسْن النظام والانتظام في جماعات، لكي يتصادموا جماعات لا أفرادًا؛ لأني لم أقنع بالربح القليل من «القطاعي»، بل بالكسب الوافر من «الجملة»، وهكذا جعلت النظام بين الأفراد والفوضى بين الجماعات لهذه الغاية.
فقالت فينوموس: لله درك من سياسي محنك، تستنبط الفوضى الكبرى من الأنظمة الصغرى، إنك لصانع معجزة هي أغرب من لغز أبي الهول، فكيف حللت هذا اللغز؟!
– ضربة واحدة على المقتل يا سيدتي حلت اللغز، وهل ثمة مقتل أضعف من الدماغ، مهما تكن الضربة هناك ضعيفة فهي تصرع. وماذا في الرأس غير العقيدة؟! لقد ضربت العقيدة ضربة واحدة فتفتت إلى عقائد، وبتفتتها انقسمت الأسرة الإنسانية إلى أقوام تزَعَّمَ كلًّا منها زعيم، وكل زعيم يزعم أنَّ عقيدته محض الحق والصواب، بل هي الشرط المستقيم المؤدي إلى النعيم الأبدي، وبهذه الدعوى أخذ كل زعيم يستفز قومه للجهاد في سبيل العقيدة التي يدينون بها، ومن هنا كان منشأ النزاع.
لقد كان لبني آدم إله واحد، ولكنهم بهذا الانقسام أصبحوا ولهم آلهة عديدة حجبت عنهم ذلك الإله القوي الجبار، كما تحجب السحب الشمس، الشمس تملأ رحاب الكون نورًا ولكن الذين تحت السحب لا يرونها، بَيْدَ أنهم كانوا يغالطون أنفسهم ظانين أنهم يرونها وما هم راءون إلا أوهامهم وغيهم الذي فيه يعمهون.
وكان الملكوت السماوي ميراثًا للنوع البشري كله، فلما تفتت الأسرة البشرية بتفتت عقيدتها صار كل زعيم يدعي الملكوت لقومه وحدهم، فراحت الأقوام وهي على الأرض تتنازع مملكة السماء، ويقاتل بعضها بعضًا لامتلاكها، حتى إذا غلبت أمةٌ أمةً أخرى احتلت الملكوت، ونصبت رايتها فيه، وطردت الأمة المغلوبة منه.
فالجنة التي أعدها الله في السماء، وجعل الأنهار تجري من تحتها، واصطفى لها الأبرار من عباده، أنزلها العباد إلى الأرض، وجعلوها ساحات للوغى تجري فوقها الدماء.
والملكوت السماوي الذي ملأه الله منازل لقديسيه اغتصبه وكلاؤه الأرضيون المزعومون، وعرضوه للمساومة في سوق البيع والشراء.
فقالت فينوموس ضاحكة: أما قيل كما في السماء كذلك على الأرض؟ وكان الأصوب أن يقال كما على الأرض كذلك في السماء.
– لكلا القولين مفاد واحد يا سيدتي؛ لأن تقسيم ملكوت السموات حصصًا للعباد ألهى حمير العامة عن تقاسم الخاصة الملكوت الأرضي، ففيما كان وكلاء الله من كهان وحكام يتناهبون أمتار الأرض، كان حميرهم منهمكين بتقاسم أشبار السماء، والمحبة التي أقامها الله ناموسًا للإنسانية أطلقها عباده على البهيمة، فإذا بها تصبح ثوبًا قشيبًا للرثاء، وإذا بحبل المحبة الذي يربط القلوب يصبح في أيدي الأسياد قيدًا لإرهاب العبيد وسوطًا لتعذيبهم، وإذا بالتسامح يصبح تمثالًا والمغفرة جمرة حقد.
ولكن مهما طال الشتاء فالصيف وراءه يطارده، والسحب لا تستطيع الثبات تحت حر الشمس، فانقض الشتاء وانقشعت سحب الغباوة، وامتدت شمس المعرفة تجلو الحقائق …
فانبرى صاحب الصولة فيرومارس قائلًا: ويحك! حديثك ينذرنا بالفشل؛ لأن المعرفة خير يمحق الشر الذي نحن جنوده.
فأجاب صاحب الحنكة ميديوموس: مهلًا مهلًا يا صاح، لقد سبق حديث سيدتنا ربة الدهاء أنَّ الخير والشر توءمان منذ الأزل، لا ينفصل أحدهما عن الآخَر، فإذا لم يكن ثمة خير ونحن جنود الشر فمَن نحارب؟!
– إذن، ماذا نفعل حين تمحق حرارة شمس المعرفة سُحُبَ الغباوة فتنجلي الحقائق؟!
– إنَّ زفرة واحدة من أنفاسي ملأت الفضاءَ قتامًا، جعل أشعة الشمس الذهبية حمراء كالدماء.
– لله درك، أما كان في وسعك أن تجعل ذلك القتام كثيفًا يصد أشعة الشمس صدًّا ويعيد الظلمة إلى سطح الأرض، فتغيب المعرفة وتبقى الغباوة.
– متى ظهرت المعرفة وانجلت الحقائق، عندئذٍ لا تستطيع قوة أن تقصيها عن فضاء العقول، فليس لي إذن إلا أن أستخدم المعرفة نفسها سلاحًا لي لا سلاحًا عليَّ.
احمرت صفحة الشمس غضبًا لمكر الذين عاثوا في الملكوت فسادًا، وإذا أولئك الحمير العميان قد انفتحت أعينهم، وجعلوا يتبينون الملكوت في الكون، فإذا هم لا يرون ملكوتًا لا في السماء ولا في الأرض.
رصدوا الأكوان كلها، وإذا الملكوت الذي منَّاهم به أسيادهم وقادتهم في الجهاد، إنْ هو إلا ظلهم يهرب أمامهم كلما أسرعوا وراءه.
رصدوا جنة السماء، فإذا هي قصِيَّة عنهم لا يبلغ إليها نور الشمس إلا بعد ألوف ملايين السنين، وإذا جنة الأرض جرداء ليس فيها غرس للهناء، وإذا هم لا يملكون إلا مساحة متر مربع سبقهم الدود إليه.
وهنا حدث رد الفعل، فقد صار الاحترام احتقارًا، والعبادة تجديفًا، والغيرة على الدين إلحادًا، والطاعة تمردًا، والجهاد ثورة.
فقال الفيلسوف جستوس: لله منها نفخة نفختها يا أستاذ فأغضبت الشمس، إنَّ ذلك القتام الذي نفخته لسر عجيب.
– ما هو سر يا عزيزي الفيلسوف، إنْ هو إلا دخان القلوب التي أحرقتها الشهوات النابتة من بذار سيدتنا ربة الدهاء في الصدور، إنَّ هذه الشهوات لهي المعدن العجيب الذي نصنع منه أسلحتنا كلها.
فقال صاحب الصولة فيرومارس: وكان المنتظر أن تقوض تلك الثورة ملكوت الإنسان على الأرض؛ لكي نشيد على أنقاضه ملكوتنا، ولكن خاب الرجاء.
فقال ذو الحنكة ميديوموس: لم تكن تلك الثورة لتقويض الملكوت الأرضي بل لتقويض المثل الأعلى الذي شُيد في قلب الإنسان — الملكوت السماوي — ولذلك وجهت الضربة إلى العروش والكراسي التي كانت أنصابًا لهذا المثل الأعلى، فدكتها الثورة دكًّا، ولكن النوع البشري لا يكف عن طلاب مثل أعلى يوجه أبصاره إليه، فلكيلا يعود فاشلًا، ينحت تماثيل أخرى لمثله الأعلى — الملكوت السماوي — جعلت أوري زناد القرائح بالشهوات لكي تقدح شرر مثل أعلى آخَر يقوم مقام ذاك.
فقال جستوس: طبعًا لم يَعُدْ مهماز التحريض يستكد غيرة الدين للجهاد، فكيف يثير الأسياد عبيدهم للقتال في سبيل المغانم؟
– لما زهدت الأقوام في الملكوت السماوي صارت تطمع بالملكوت الأرضي، ولما جابت شهوة النفوس ثارت شهوة البطون، فقام الفتح والاستعمار مقام الغزو والسلب، وانتهز الزعماء اضمحلال المثل الأعلى، ونصبوا بدلًا منه مثلًا أعلى آخَر، أقاموا تمثال الوطن مقام تمثال الدين، أصبح الوطن دين الناس الجديد، وصار شعارهم «حب الوطن من الإيمان». حل الوطن محل الإله، وتحوَّل الجهاد في سبيل الدين إلى جهاد في سبيل الوطن.
ارتفعت راية الوطن وانخفضت رايات العقائد الدينية، وصار ترنيم مختلفي العقائد «الدين لله والوطن للجميع»، فتأبط الله تعالى دينه وتوارى غاضبًا، واحتضن الوطن قومه لكي يتغذى بضحاياهم من غير شبع.
خمدت حروب الأديان، واحتدمت حروب الأوطان، وصارت أناشيد الوطن «تنازع البقاء»، وترانيمه «البقاء للأفضل»، وأغانيه الحربية «السيادة للسوبرمان».
تقيَّأ الجنس البشري «الملكوت السماوي»، وهو يغص الآن بالملكوت الأرضي، ولم يَبْقَ لنا إلا ركلة واحدة لكي ندحرجه من ملكوت سعادته إلى جحيم شقائه الأبدي.
(هتاف وتصفيق حادان).
ثم انبرى صاحب الصولة فيرومارس وقال: لا تتسرعوا يا إخوان، لم نَزَلْ في أول الجهاد، لم يَزَلْ النصر للمستقبل.
فقال ميديوموس: لم أَعْنِ أنَّ جهادنا قد انتهى هنا، ولا أنَّ مهمتي قد انتهت؛ لأن عملية الاستعمار لو نجحت لباء وزراؤكم بالفشل، ولكن يستحيل أن تنجح ما دام نجاحها لقوم لا يكون إلا على حساب هلاك قوم آخرين؛ ولذلك كاد حمير المطامع يفطنون إلى أنَّ الوطن المعبود إنْ هو إلا آلة في أيدي القادة، كما كان الدين المفسود آلة في أيديهم؛ لأن إله الوطن ولَّد إلهًا جديدًا أقوى من كل إله؛ إله المال، والفضل في ولادته لدهاء زميلنا صاحب الأبهة أرجنتوس وزير المال، وهو يشرح لكم لاهوته.
فوقف أرجنتوس وقال: أشكر لصديقي صاحب الحنكة ميديوموس تنويهه هذا، فهو قد استمر بتمهيد الطريق الذي شَقَّتْه لنا سيدتنا ذات الدهاء، وأرجو أن لا تظنوا أنَّ عمله قد انتهى هنا.
فقالت فينوموس: إني عالمة أنَّ صاحب الحنكة ميديوموس لم يشرح لنا تفاصيل عمله، وإنما أجمل نُقَطه الأساسية، فأرجو منه أن يتم شرحه.
فقال ميديوموس: كنت أعتمد في عملي دائمًا على سلاح الشهوات، ولم يَبْقَ من نقطه الأساسية شيء غير مشروح سوى نقطة واحدة، وهي أني كنتُ أُقِيم من أمكر أهل الأرض سفراء لنا ينفذون دسائسنا؛ ولذلك أنشأت نظام الجاسوسية، ووكلت أمره لهؤلاء السفراء الذين خدموا جهادنا جليل الخدم، ولا متسع لذكر أبطالهم وخدمهم، وإنما أذكر واحدًا منهم كان أدهى الدهاة، وقد استشهد في سبيل خدمه، وجاء إلينا يستقيل من منصبه بالرغم منه، فأقدمه لكم عسى أن تكافئوه جزاء عمله وتشجيعًا لغيره، هو الأخ رسبوتين الراهب الروسي الداهية العظيم.
وأومأ ميديوموس إلى رسبوتين، فتقدَّمَ هذا، وقدَّمَه إلى الرئيس بعلزبول قائلًا: بارك يا سيدي عبدك الأمين.
فبسط بعلزبول يده قائلًا: مرحى مرحى يا عزيزي رسبوتين، باسم دولة جهنم أشكرك وأمنحك الجنسية الجهنمية وأرقيك إلى رتبة رجيم، وأقلدك حسام الرجامة، فأنت منذ الآن في مصف الرجماء، ولك جميع حقوق الرجامة الجهنمية.
فقَبَّلَ رسبوتين يدي بعلزبول وغمغم بكلمة شكر، ورمق فينوموس بنظرة حادة، فبسطَتْ له يدها فقبَّلَها قُبْلة حارة.
عند ذلك قال بعلزبول: نسمع الآن تقرير عزيزنا صاحب البهاء أرجنتوس وزير المال.