الفصل السابع
وعاد ملك الجحيم وملكته إلى إيوانهما، وتبوءا عرشيهما، والرجماء استووا في كراسيهم، ووفد إلى دار الدولة وفد المتظاهرين يرأسه مأجوج وهو رجيم عتي صلب العود، وتقدَّم مأجوج وزملاؤه عن يمينه وعن يساره وقال: الشعب يطلب حكومة ديموقراطية يا سادة.
فوجف بعلزبول وقال: هل خانت الحكومة الشعب حتى يبتغي الشعب حكومة أخرى؟
– لم تَخُنْ، ولكنها قصَّرت، هي حسنة القصد ولكنها كانت سيئة التدبير، والشعب يريد أن يكون الحُكْم شورى؛ لأن في الشورى الرأي الأسدَّ.
فقالت فينوموس: لتكن إرادة الشعب، وَلْيكن للشعب مجلس نوَّاب يشور على الحكومة فيما تفعل.
فقال مأجوج: ويجب أن تسقط الوزارة وتُؤلَّف وزارة أخرى ينتخبها مجلس النواب.
فقال جستوس: الوزارة لا تسقط إسقاطًا.
– تستعفي.
– الإكراه على الاستعفاء مرادف للإسقاط القهري، كلاهما بمعنى واحد.
– فسِّرْ ما شئت، الشعب غير راضٍ عن الوزارة.
– إذن الشعب يتهم الوزارة، وعليه أن يحاكمها، وعلى الوزارة أن تدافع عن نفسها حتى إذا ثبتت براءتها تستعفي من تلقاء نفسها بريئة شريفة.
– هذا حق، ولمجلس النواب المنتخب أن يصرح بهذا الحق ويقره، وإليه تحتكم الوزارة.
فقالت فينوموس: الحكومة تقبل الوفد نائبًا عن الشعب، والوزارة تحتكم إليه الآن.
فهمس بعلزبول في أذنها: ويحك! أليس المطل أقتل للثورة؟ فَلْنرجئ المحاكمة إلى ما بعد انتخاب النوَّاب؛ إذ تكون حمى الثورة قد بردت.
– لا، لا، إني أحس بدسيسة خبيثة، وأشعر بنار تحت الرماد، فيجب أن نطفئ النار قبل أن يزداد السعير، فالآن يجب أن يُقضَى الأمر، دَعِ الوفد يناقش الوزراء، والوزراء مستعدون للدفاع، والوفد غير مستعد للتجريم. غُرَّ الوفد بسلطةٍ لا يُحْسِن استعمالها.
وفي خلال ذلك كان جستوس يقول: رأي سديد، وثقتنا بعدالة الوفد قوية، فَلْيتفضل الوفد ببسط شكواه، هل يقبل الوفد الرجيم مأجوج متكلِّمًا بالنيابة عنه؟
فقال مأجوج: إني مفوَّض من قِبَل الوفد بالنيابة عنه.
– تفضَّلْ تكلَّمْ.
فطفق مأجوج يتكلم: مرت أدهار ودولة الرجماء وعلى رأسها صاحب الجبروت الرئيس بعلزبول تُمْنِي الشعب الجهنمي باحتلال الأرض، أو امتلاك الملكوت البشري، واستعباد بني الإنسان بحيث يكون لكل شيطان عبد من الناس يأتمر بأمره ويخدم مشيئته، وإلى الآن لم يتحقق شيء من هذه الأمنية، وكان أنه كلما شبت ثورة أو حرب قلتم إنَّ النصر لنا صار قريبًا، وإننا صرنا على أبواب الملكوت البشري، فكانت تنتهي الحرب، وإذا أبواب ذلك الملكوت مقفلة في وجوهنا، فلا نستطيع أن ندخل ملكوت الإنسان فاتحين، ثم أبرقت البروق، وأرعدت الرعود إنذارًا بشبوب حرب عظمى لا تُبْقِي ولا تَذَر، وقلتم هذه آخرة الحروب التي تسقط فيها دولة الإنسان، وتتدمر مملكته، فندخلها ونبني مملكتنا على أنقاضها، ولكن انتهت هذه الحرب الشعواء، ومملكة الإنسان لا تزال قائمة، والإنسان يشتغل في تنظيمها من جديد لتغدو أرسخ بناءً وأكمل سعادة له، فهذه الحرب العظمى التي منيتمونا بالنصر فيها كانت منتهى الفشل لنا، لا يزال باب الملكوت البشري موصدًا في وجوهنا.
فقال بعلزبول: لا أنكر أننا حتى الآن لم نفتح الملكوت البشري فتحًا مبينًا بحيث نستطيع أن ندخله طغمات، ولكن هل تنكر يا جناب الرجيم مأجوج أنَّ ألوفًا وربوات من الشياطين تسربوا أفرادًا إلى هذا الملكوت، وتغلغلوا بين أفراده وأسراته وفئاته وطبقاته؛ لكي يفسدوا ويعيثوا وينقبوا في أسس ذلك الملكوت؟
– هذا التغلغل حادث منذ القديم، ولكنه لم يدك ذلك الملكوت، فما هو إلا مهاجرة بطيئة من جهنم إلى الأرض، والمهاجرون لا يزالون غرباء يخزيهم الناس ويطردونهم مُهَانين، فنحن لا نرضى بفتح باب المهاجرة، بل نريد فتحًا مبينًا ونصرًا كاملًا وامتلاكًا تامًّا للملكوت.
– إنَّ ذلك الملكوت مؤيَّد بقوة عظمى، فلا يسهل فتحه ما لم تصبح جميع قلوب بني الإنسان محتلة بالشياطين، ونحن لا نألو جهدًا في الوصول إلى هذه الغاية.
– مرت أحقاب وأنتم تدعون هذه الدعوى، فأي جهد بذلتم في هذا السبيل؟!
– لو حضرتم مؤتمرنا منذ بدء انعقاده، وسمعتم مجمل تقارير رجال الدولة لعلمتم أننا فعلنا أكثر مما يلوح في بالكم.
– لقد حضرت المؤتمر من أوله، وسمعت تقارير البعض فما توسمت منها إلا تقرير أعمال تمهيدية، فكأننا في أول المهمة، وقد تنقضي أدهار ونبقى حيث نحن. إلى الآن لم تفعلوا الفعل الحاسم؛ لذلك نريد إنشاء حكومة جديدة تنتقل من دور التمهيد إلى دور البت.
عند ذلك انبرى ذو البهاء أرجنتوس وقال: استأذن سيدتنا ذات الدهاء وسيدنا ذا الجبروت وزملائي أن أجاوب الأخ مأجوج، وأشرح له الأعمال المجيدة التي عملناها، وأبرهن له أننا تجاوزنا دور التمهيد من زمان، وأننا في دور العمل الناجز، وأنَّ حرب البشر العظمى لم تَنْتَهِ بفشلنا كما يتوهم، بل انتهت بفاتحة دور النصر لنا. إنَّ جهادنا الماضي أفضى إلى تلك الحرب الشعواء التي زعزعت ملكوت الإنسان، وأصبحنا الآن في دور تهديم جدران ذلك الملكوت جدارًا جدارًا ونقض أحجاره حجرًا حجرًا؛ لكي يسهل بعد ذلك كشف الأساس الذي نبني عليه دولتنا، لقد فعلنا كثيرًا يا سيدي مأجوج، بل فتحنا ذلك الملكوت، ونحن على أهبة أن نبني ملكوتنا فيه، حتى متى تَمَّ بناؤه دخلنا إليه باحتفال عظيم، جيوش الحرب تفتح أولًا والأمة تدخل بعد الفتح آمِنَة.
فقال مأجوج: ويحك! هل تحسب إنشاء جمعية الأمم التي ستكون أساسًا لاتحاد الشعب هدمًا لملكوت الإنسان؟! هل تحسب تنبُّه طبقات الشعوب لحقوقها من حيث الحرية والمساواة زعزعة لأركان ذلك الملكوت؟! هل تحسب نهضة العوام لتنظيم الأمور الاقتصادية على قاعدة الاشتراكية تهديمًا لجدران ذلك الملكوت؟!
– مهلًا، مهلًا، وتؤدة يا عزيزي مأجوج، دعني أشرح لك مقدمات النصر واحدة واحدة إلى أن نبلغ إلى هذه الظاهرات الاجتماعية، وحينئذٍ ترى ظاهرات هدم ذلك الملكوت.
– ماذا عساك أن تشرح لنا أعظم من شرح ذات الدهاء وشروح ذوي الحنكة وذوي الصولة وذوي الفن، مما لم نرَ فيه إلا دعوى التمهيد للجهاد في سبيل الفتح، حتى صرنا نرى النصر أبعد عنَّا من الفرج عن اليائس ومن الحقيقة عن الحالم.
– بل سأريك نصرنا قاب قوسين أو أدنى.
– كيف تريني النصر وأنتم إلى الآن لم ترونا الجهاد الذي لا بد منه مقدمة للنصر؟!
– أما أنا فقد جعلت النصر مقدمة للجهاد.
– وي وي، لماذا الجهاد إذا كان النصر قد تَمَّ؟!
– لم أقل أنه قد تم، بل جعلته هدفًا للجهاد، فهو في حكم الواقع حتمًا، فقل معي: «النصر تم».
– أراك تهيئ الإسطبل قبل أن يُولَد الحصان.
– أي نعم، لو لَمْ أَبْنِ الإسطبل لما وُلِد الحصان المطهم.
فقهقه مأجوج في إبَّان حماسته ونزقه وقال: أَرِنا الإسطبل لنرى المطهم الذي فيه.
– بل أُرِيك المطهم وقد ابتلع الإسطبل.
– زه، زه، أنَّى كان لك صُنْع المعجزات يا ذا البهاء أرجنتوس؟ حتى ما تتباطأ عن قيادتنا في موكب النصر إذا كان في وسعك أن تأتي بهذا العجب العجاب، إنَّ مَن يستطيع فعل المستحيلات يستطيع أن يغزو لا الأرض فقط، بل السموات أيضًا.
– وهو ما فعلت يا عزيزي مأجوج.
فحملق فيه مأجوج مشدوهًا ثم قال: أراك ثورًا يكسر قرنيه نطاحًا للصخرة وهو يحسب الصخرة تتكسر، أرى كأنك الزمان يجري في الفضاء، وهو يتوهم أنه يطوي في أذياله رحاب الفضاء، أو كأنك البيضة تظن أنها خلفت فرخًا، وهي لا تدري أنها نتجت من فرخة.
– بل أنا الشيطان الذي يخلق آلهة لبني الإنسان.
– ويحك لا تزد. نكاد نخشى أن تزلزل الأرضين والسموات، وتدكها دكًّا فوق رءوسنا، فتردم بأنقاضها جهنم «حاسب».
– لا تخف، إني عملت عمل الحارث الذي يقلب الأرض بطنًا على ظهر، إني لرافع جهنم من تحت الأرض إلى فوقها.
– حتى ما «الفشار» قل ماذا فعلت إن كنت لم تجن بعدُ.
– أبدلت إلهًا بإلهٍ للبشر، خلقت لهم إلهًا برَّاقًا يأخذ بالألباب والأبصار، فما إن لمع لعيونهم حتى صرفوا قلوبهم وألبابهم عن خالقهم، وسجدوا لهذا الإله الجديد، وطفقوا يتفانون في عبادته.
– أمن العدم خلقته؟
– بل من طين الأرض استخلصته وصنعته تمثالًا بديعًا.
– أظنك نفخت فيه نسمة الحياة.
– بل نفثت فيه سمًّا زعافًا، فظاهره بهاء وجمال، وباطنه شقاء ثم اضمحلال.
– وهل له يسبحون ويمجدون؟
– وهل لغير المال يسبح أهل الأرض الآن؟
فصاح بعلزبول: مرحى مرحى يا أرجنتوس. إنَّ إله المال رب الأجيال وسيد الآجال والقابض على أَزِمَّة الآمال.
فقال مأجوج: لبئس إلهًا خلقت يا أرجنتوس، إله يُسعِد الناس على الأرض ولا يحرمهم سعادة السماء، فأنت هدَّام دولة الزبانية وباني مملكة البشر.
– بل هو يحرمهم سعادة الدارين معًا، فعبادتهم له اقتتال في تنازع ذراته.
– أما أفنوه بتنازع ذراته حتى الآن؟
– يفنون هم ويبقى هو.
– مهما كان برَّاقًا جذَّابًا فما هو إلا مادة ترابية، ولا قوة للتراب؛ إذن لا سلطة له عليهم.
فهز أرجنتوس رأسه مصرًّا وقال: بل هو إله قدير على كل شيء يا عزيزي مأجوج وحاضر في كل مكان، فحيثما ظهر كان صاحب السُّؤْدَد الذي تخضع لسلطانه الجبابرة، وتخر لصولته الجموع.
– كفى إطنابًا بصولة إلهك هذا الذي اخترعت، فقد رأيناه في أشد الأزمات أضعف من خنفسة، يوم حبس جمال باشا السفاح القمح عن لبنان كان الرغيف أعظم قيمة وأسمى شأنًا من مثل وزنه ذهبًا.
– لأن جمالًا جرَّدَ صفة المال من الذهب وجعله صفةً للقمح، صار القمح مالًا يتضرع إليه الجياع.
– إذن، مالك هذا الذي تؤلهه ليس إلا صنمًا أصم أبكم لا عقل له ولا إرادة، فلا تأثير له على حرية البشر، بل هم يجردونه من صفات الألوهية متى أرادوا، وينسبون هذه الصفات لغيره متى شاءوا.
فعاد أرجنتوس يهز رأسه اعتدادًا واعتزازًا وقال: بل هو الإرادة المطلقة التي تسيِّر الأنام، وما كان جمال السفاح إلا أداة في يد هذا الإله ينفذ إرادته.
عندئذٍ انبرى آدميٌّ إلى رحبة المناقشة وصاح بملء فيه: أنا جمالٌ السفاح! أقِرُّ وأعترف أني كما قال ذو البهاء البعل أرجنتوس: أداة بيد المال الذي خلقه، وكنت بقوته أفعل وبإرادته أتحرك، ولولا المال الذي وضعت نفسي وجيشي تحت أمره لما استطعت أن أميت لبنان المتمرد جوعًا، فالمجد والتسبيح لإله المال.
فقال أرجنتوس: شكرًا لشهادتك الناصعة في حينها يا جمال يا بطل الأبطال.
فانبرى هأجوج زميل مأجوج وقال: كفى سفسطة يا هؤلاء! تعزون للمال عقلًا وإرادة وسلطانًا، وما هو إلا نتيجة عمل الإنسان، فإذًا الإنسان متسلط على ماله يتصرف به كما يشاء.
فقال أرجنتوس: مهلًا أُرِكَ! إنَّ مال الإنسان متسلط على الإنسان. لما صار المال ينوب عن نتيجة العمل أو يمثل العمل، رأى الإنسان أنه في وسعه أن يقتني بماله ما يشتهي؛ فأحب المال وعشقه، شغف به وألَّهَه، وصار يتفانى في سبيل جمعه وادِّخاره، شعر أنَّ في يده قوة تُخضِع له مَن لم يكن ذا مال.
فقاطعه يأجوج قائلًا: إذن جعلت المال حصانك المطهم يمتطيه فارسه الإنسان.
– بل جعلت الإنسان حصانًا يمتطيه المال ويكزه في خاصرتيه حتى يدميهما؛ فهناك عابد للمال طامع به، يتفانى في سبيل جمعه بكل وسيلة، يضحي لأجله براحته وقوته وذمته وشرفه، ثم يضن به على الرحمة والصدقة، ويقتر على نفسه حرصًا عليه، ولا يكف عن الحرص والجهد والتقتير والبخل إلى أن يموت ويفنى، والمال هو الحي الباقي. وهناك كافر بالمال سفيه يبدِّد ما جمعه منه غيره إنفاقًا على شهواته وملذاته الجسدية التي تتلف جسده ونفسه معًا، إلى أن يهجره إلهه هذا نقمة عليه، حتى متى عضَّهُ نابُ الفقر هرع إلى هيكل المال متضرعًا مستغيثًا تائبًا، ولكن هذا الإله حقود قاسٍ لا يقبل توبة التائبين، وهناك مسترزق لم يكن يعلم صولة المال، ولكنه في يوم عصيب احتاج إلى غوثه، فلجأ إلى هيكله متوسِّلًا إلى كاهنه الذي يمجده أن يقرضه رأس مال يستعين به على إدارة عمله، يقترض برِبا، ولا يلبث هذا الغبي أن يرزح تحت عبء الدين، فيشقى في الجهاد لتسديد رأس المال والربا معًا، وعبثًا يسعى ويجاهد؛ لأن ذلك الكاهن المتعبد للمال يتسلط عليه بقوة المال، ويمتص دمه ويرتوي بعرق جبينه.
فقاطعه مأجوج قائلًا: تعني أنَّ الناس في دولة المال فريقان: فريق يشقى، وفريق ينعم على حساب شقاء ذاك؟
فقال أرجنتوس: بل الفريقان يشقيان معًا؛ ذاك قَلِق على ماله، وهذا يبذل عرق جبينه في إناء ذاك حيث يتبلور مالًا، وكلا المالين يُقدَّمَان في هيكل المصرف محرقة للإله.
– ولكن إلى الآن لم نفهم كيف جاهد حصانك المطهم في حرب الفتح؛ فتح ملكوت الإنسان؟!
– إنَّ هذا الحصان يا عزيزي مأجوج مجاهد في حرب دائمة بلا انقطاع منذ عهد آدم إلى اليوم، وسيبقى مجاهدًا حتى يهلك هو وفارسه معًا، وقد اختُرِعَت المصارف لتكون من جملة الهياكل التي يعبد فيها المال، وفيها يقدِّم العاملون والمتحايلون على استقطار عرق العاملين، قرابينَ جهادهم العنيف في جمع المال، وهناك يركعون ويسجدون لتماثيل المال ويصلون لإله المال؛ لكي تنمو ثرواتهم وتكثر متوالدة وتملأ الأرض!
– تتوالد؟!
– نعم، جعلت المال يُولَد ويَلِد مالًا وينمو ويتكاثر، أليست المرابحة والمراباة مولودي رأس المال؟! ثم لا يلبث الربح أن يشب ويترعرع ويصير رأس مال كأبيه يلد أرباحًا، وهكذا دواليك!
– ولكنك قلتَ إنَّ المال نتيجة العمل، هو عرق الجبين المتبلور مالًا، فكيف يُولَد المال بلا عمل؟!
– فأجاب: المال المولود من العمل يتغذى من دم العامل، وأما المال المولود من رأس المال فأغذيه من الهواء!
– ويحك! إذن جعلت الهواءَ قوة مال في أيدي البشر، فأنت تقوي البشر!
– نعم، لو كان الهواء قوة، ولكن ليس إلَّا هواء أو هوسًا، وأهل المال يبنون فيه قصور ثرواتهم الشامخة الباذخة! وأي بناءٍ يثبت في الهواء؟!
– إذن؟
– إذن الإله الذي يتغذى هواءً لا يكون أقنومه إلا الريح، فذوو المال يقبضون الريح.
– لم أفهم: كيف يتغذى إله المال بالهواء؟!
حلمًا يا عزيزي وتعطفًا بالإصغاء! استنبطت هياكل تُقدَّم إليها قرابين الأموال، ومذابح تقدم لها ضحايا الجهل والعمل حيث تطبخ لتغذية إله المال.
فقال مأجوج ضاحكًا هازئًا: إني أشم رائحة زكية شهية في مطابخك يا أرجنتوس.
– إنها لشهية جدًّا يا عزيزي! فأول مذبح هو مذبح الشركات المالية، تضحى فيها رءوس الأموال الكبيرة، وتطبخ طبخًا ينضج في عمل كبير يشتغل فيه ألوف العاملين، هؤلاء يكدون ويكدحون ورءوس المال تجني عرق جبينهم أرباحًا، والمساهمون كالعاملين يَشْقَون في تغذية إله المال، وهذا الإله يضخم وينتفخ في هيكل الشركة، ولكن ما هو؟ هو إله هوائي أثيري، ليس إلا قيودًا في دفاتر المصارف والأسهم والسندات، وأما نتاج العمل فالنزر اليسير منه يستهلكه هؤلاء بتقشف، وأولئك ببذخ وتهتك، والوافر منه مخزون لكي يستهلكه السوس والصدأ وعفونة البلى.
– حقًّا ويقينًا أني أشتم رائحة العفونة الكريهة من هذا المطبخ، وأرى السوس والدود والجراثيم تكثر وتملأ الأرض على حساب العمل ورأس المال. فعسى أن تكون رائحة المطبخ الآخَر نكهة يا أرجنتوس!
– أما المذبح الآخَر الذي أغذي بقرابينه إله المال فهو يا عزيزي أعظم من ذاك وأفخم! والقدور فيه أشد غليانًا، ومطبخه سوق الأوراق المالية.
– الأوراق المالية! وماذا جرى بالتمثال الذهبي البديع الجميل الذي ابتدعته أولًا للعابدين؟!
– لما عظم هذا التمثال الذهبي واستنفد كل ذهب الأرض نصبته في قدس أقداس الخزائن الحديدية؛ حيث لا يصل إليه إلا كهنة المال، ويبقى محجوبًا عن عباده؛ لأن حجبه عن الأعين يزيده قيمة ومهابة وسموًّا، ويذكي نار الشوق إليه، واصطنعت بدله من الورق أيقونات وصورًا رامزة له، فعباد المال يسجدون الآن للورق بدل الذهب!
فقال مأجوج: تعني أنهم يسجدون للصور بدل التماثيل! ولكن موسى قال: لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا ولا صورةً ما ممَّا في السماء أو على الأرض، فأنت لم تكسر إلا حرفًا واحدًا من الناموس.
– كسرت الحرف الآخَر؛ إذ جعلت الصكوك وقيود الحسابات في الدفاتر تنوب عن عملة الورق، فأصبح البشر حافظي شريعة موسى حرفيًّا، لا يعبدون التمثال ولا الصورة؛ صورة البنكنوت، بل يعبدون حِبْرًا على ورق الدفاتر فقط!
فقال هأجوج مقهقهًا: لا يستبعد أنك ترينا يا أرجنتوس عباد الإله الجديد يسجدون للتراب والهواء والماء.
– والنار أيضًا يا عزيزي! ستراهم كالفراش يحوم حول لهيب المصباح إلى أن يحترق فيه، سترى إلههم الجديد لهيبًا يلتهمهم!
– مرحبًا بهم! عندنا لهيب لا يطفأ!
– إنهم لفي غنًى عن لهيبنا يا صاح! إني لجاعلهم هشيمًا ملتهبًا، يأكل بعضه بعضًا.
فقال مأجوج: حقًّا إني أحسُّ بحرارة مطبخ آخَر شديد اللسع، فما هو المطبخ الآخَر؟
– إي وربك! إني أره متورمًا جدًّا من شدة سمنته.
– أجل هو كالمنطاد المنتفخ وجوفه مملوء غازًا، فلا يلبث أن يتمزق من شدة الانتفاخ فيسقط ويكون سقوطه عظيمًا.
– ولكن هذا المطبخ لا يغذي إلا فئة الرأسماليين، أو هو هيكل لا يحتوي إلا المتمولين، كأن إله المال حرم العامة من الغذاء.
– لا، لا، لقد بنيتُ للعامة هياكل تأويهم جميعًا، وهم يتزاحمون فيها كأولئك لتقديم القرابين والأضاحي على مذابحها.
فمنها هياكل التأمين (السيكورتاه) ضد الحريق، يقدِّم المتمولون كبارًا وصغارًا عشور عقارهم وسلعهم قرابين لشركات التأمين في هيكل العوام هذا، فالمحتال منهم يحرق عقاره أو متجره خلسة، ويأخذ قيمته من مجموع أعشار المغفلين الآخرين الذين لا يعرفون أساليب الاحتيال، وتبقى لرأس المال بقية وافرة تسمن بها الشركة، ومنها هياكل التأمين على الحياة تغري العوام المجاهدين في تحصيل الرزق بوفر كبير من المال لقاء أقساط صغيرة يدفعونها، حتى إذا عجز المؤمن عن تسديد الأقساط التهمت الشركة القسم الأكبر مما دفعه، وهكذا تنمو الشركة وتعظم وتتضخم على حساب العامة المغفلين. وهناك شركات لفنون التأمين العديدة، وكلها أداة نصب يحتال بها لقنص نتاج العامة المغفلين.
– تعني أن المحتالين يتنعمون على حساب المغفلين؟
– لا يتنعم أحد؛ لأن المحتالين يحتال بعضهم على بعض أيضًا في هيكل المضاربات حيث لا يطمئن لهم بال، فهم كالذئاب يتربصون بعضهم لبعض. ثم استنبطت هيكلًا آخَر جذابًا، لا يضل عنه الفقير المعدم، يطمع بالربح منه كل معلل نفسه بالآمال حتى من الهواء، يؤمل أن تهبط الثروة عليه من الفضاء الخالي!
– لقد فقت في اصطناع المعجزات موسى الذي استخرج من الصخرة ماء؛ لأنك تستخرج ثروة من الهواء، كأنك تجعل الهواء يتبلور ذهبًا!
– نعم، على مذبح «اليانصيب» (اللوترية) يتبلور الهواء ذهبًا، بل ماسًا! استنبطت مشروع اليانصيب ليغوى به الهائمون وراء الثروة، ينشدونها بقوة البخت، فيتمادون في شراء أوراقه، وكلما خابوا أملًا مرة تجدَّد أملهم بالربح من «نصيب» آخَر فيشترون، فهم يقترون على أنفسهم لكي يقدموا جهادهم ضحايا على مذبح الإله. وقد تفننت «بالنصيب» فنونًا، وجعلته ضروبًا مغرية للجمهور، حتى إني جعلت هذا الاختراع الشيطاني أداة للمشروعات الخيرية، يمتص به دم الفقير بدعوى الإحسان إلى الفقير، بل سخَّرت به القصد الخيري لغرض «النصب»، وابتدعت إلى جنبه فنون المراهنات والقمار المختلفة كوسائل لاستنزاف دماء الناس؛ لكي تحرق على مذبح إله المال!
فقال مأجوج: نعمَّا هذا الإله الذي خلقت يا أرجنتوس! ولكنه إله يُسعِد فريقًا على حساب فريق آخَر، فما زالت السعادة ترفرف على الأرض، وقد تدفقت على فئة، وإن كانت قد نضبت عن أخرى!
– بل جعلتها سعادة ضئيلة مضطربة، لا يكاد نورها يلمع لقوم حتى ينطفي وينسدل عليهم ظلام الشقاء الدامس، فتكون منفعتهم أعظم من لذتهم، فيهبون لمقاتلة بعضهم بعضًا «تنازعًا لها»، فهم منذ خلقت لهم هذا الإله الفتان منشغلون في حرب دائمة عن خالقهم، حتى صار في عالم نسيانهم، وفيما هم لاهون في آمالهم ينغمسون في شقائهم، وفيما أنَّ خيرات ربهم الأرضية تغمرهم غمرًا يكدحون أي كدح في جمعها؛ لكي يحرقوها على مذبح الإله الذي خلقت، حتى إذا فاضت عليهم أتلفوها في حروبهم. لقد بلغ الشقاء منهم منتهاه حتى كفروا بخالقهم وهم يجدفون عليه، أليسوا لأجل المال يقتتلون؟ إذن لقد ابتدعت المال فتنة لبني آدم وجعلته أداةً للآثام والمعاصي، لولاه لما عصي البشر وصايا موسى العشر، بل لولاه لما وجدت تلك الوصايا! أليس لأجل المال يسرق ابن آدم ويقتل ويكذب ويشهد زورًا … إلخ؟ أزل المال فلا يبقى لزوم للوصايا العشر التي نحتها موسى في اللوحين الحجريين، فهل نصرٌ أعظم من هذا يا سادة؟!
فدوى المكان بالتصفيق ثم بالهتاف: مرحى مرحى، أرجنتوس خالق إله المال الشيطاني!
وبقي مأجوج مبهوتًا برهة إلى أن قال: ولكن بين البشر حكماء كلما أدركوا أنَّ إله المال شيطاني، وأنَّ الوطن إله إبليسي، قاموا يدعون الناس إلى الاشتراكية التي تكسر تماثيل المال، كما كسر موسى تمثال أخيه هارون الذهبي، وإلى «الأممية» (إنترناسيوناليسم)؛ أيْ تآخي الأمم الذي يحطم أسلحة الحرب، فإذا نجح هؤلاء الحكماء عاد البشر إلى خالقهم، وأسبغ عليهم سعادة لا تنقضي، سعادة الألف سنة الأبدية.
– هذه مهمتنا منذ اليوم، وهي أن نحبط مساعي هؤلاء الحكماء، ولنا الأمل الكبير بإحباطها ما دامت الشهوة التي زرعتها سيدتنا ذات الدهاء يانعة في القلوب!
لهذا نريد أن تكون لنا حكومة ديموقراطية تستمد قوتها من مشورة الشعب؛ لكي تنجح في إحباط مساعي الحكماء.
فقالت فينوموس: إني أحبذ هذا الاقتراح، فَلْينتخب الشعب برلمانه منذ الغد، والحكومة تنزل على إرادة الشعب.
فهتف الجمهور لذات الدهاء فينوموس.