الفصل الثامن
وكانت الأخت جوكوندا تسمع تلك المناقشات ذاهلةً مدهوشة، وصديقها الراهب سلفستروس يهزها كل برهة قائلًا: «هلمي نَعُدْ. لقد حان ميعاد صلاة العصر.» وهي تجاوبه: «لا بأس من تأجيل فرض الصلاة ريثما ينتهي هذا الاجتماع لنرى ماذا يكون من أمره.» وأخيرًا استأذنها سلفستروس لكي ينفرد بعيدًا للصلاة، وبعد ذلك انفض الاجتماع، وامتزج الأبالسة بعضهم ببعض.
وكانت جوكوندا معجبة بدهاء أرجنتوس وفصاحته وبلاغته في الدفاع، فندر أن حولت نظرها عنه، فلفت نظره انتباهها الدائم له، فلما انحل عقد الاجتماع رآها تومئ إليه أن يقترب، فتقدَّمَ إلى تحت الشرفة التي كانت جالسة فيها وقال: هنيئًا لحضرة الحسناء الموموقة، لقد رأيتك يا سيدتي منتبهة جد الانتباه لمناقشاتنا، لعل مؤتمرنا كان تفكهة لك.
– بل أثار نفسي وجعلها مضطربة إشفاقًا عليكم ومنكم؛ لأنكم عبثًا تجاهدون لأجل فتح ملكوت الإنسان واحتلاله بالوسائل الشريرة.
فقال: بماذا نفتحه إذن؟ أبالصلاة والصوم؟ ذلك الملكوت الأرضي هو جنة لنا، وقد طُرِدنا من الجنة طردًا، فاضطررنا أن نحارب أهل ذلك الملكوت لكي نفتحه ونحتله، ولا سلاح لنا إلا الشر.
فقالت: أَلَا تعلمون أنَّ الله حارس ذلك الملكوت؟! فكيف تؤملون أن تفتحوه وتحتلوه؟!
– يلوح لي يا حسناء أنَّ دائرة علمك مرسومة في بقعة محدودة من الأرض، ولا تعلمين أنَّ الله المقيم في أعلى السماوات مشرف على الكون العظيم، لا يكاد يفطن لوجود الأرض، وهي ليست أكثر من ذرة في الكون المشتمل على ربوات الأجرام التي أصغر جرم منها يمكن أن يبتلع الأرض ويقول لم أبتلع شيئًا. يمكن الحوت أن يحس بوجود ميكروب في بطنه أكثر مما يحس أي نجم بالأرض إذا دخلت في جوفه، فلا تبقى الأرض في بال الله وهو يرعى ربوات الأجرام في أفلاكها.
فقالت متجهمة: لا أفهم هذا الهذيان أيها الرجيم أرجنتوس! إنَّ الأرض أهم جرم في الكون؛ لأنها تحتوي على الإنسان الذي هو أهم مخلوقات الله.
– عفوًا ومعذرة يا سيدتي، لا أدري ما هي الفلسفة النسائية التي تلقنتها لكي أتجنب القول الذي يبدو لك هذيانًا.
– كنت راهبة في الدير، وقد تعلمت اللاهوت وعلمت كل شيء عن قدرة الله وعلمه وقداسته.
– مرحى مرحى! لا ريب أنك فيلسوفة بارعة، وفلسفتك الباهرة جعلت الكون كله متقلصًا حتى شملته الكرة الأرضية التي هي ملكوت الإنسان.
فقاطعته قائلة: والسماء ملكوت الله، وجهنم ملكوت الشيطان.
– أي نعم، وأما ملايين النجوم فليست إلا مسامير ذهبية، ترصع قبة السماء اللازوردية.
– بل هي مصابيح أنوار الله تستنير بها الأرض.
– لله ما أسعد حظ الأرض التي خصها الله بمصابيح أنواره!
– إنَّ الله جعل كل ما في الكون لمسرة الإنسان حتى الملائكة، جعلهم خدَّامًا للناس الصالحين.
– لله ما أسعد الإنسان وأعظمه حتى جعل الله كل همه مسرة الإنسان!
– طبعًا؛ لأن الإنسان يمجد الله.
– طبعًا، طبعًا، ولا يظهر مجد الله إلا إذا مجَّده الإنسان.
– طبعًا؛ لأن الإنسان وحده يفهم قدرة الله وقداسته.
– صدقتِ، ما كان أسخف عقل داود صاحب المزامير حين قال: السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه. لأن السموات والأفلاك لا عقل لها لتفهم قدرة الله وقداسته، فكيف تمجد الله؟! لقد أخطأ داود بهذا القول خطيئة لا يُعَدُّ قتلُه لِأوريا لكي يحتظي امرأته شيئًا بإزاء هذه الخطيئة المميتة.
– داود عنى أنَّ الإنسان حين يتأمل عظمة الخليقة يمجد الله الذي جعل كل ما في الكون لمسرته.
– إذن، الله والإنسان يتبادلان المسرة بالتمجيد، وإذن فضل الإنسان على الله أكبر من فضل الله على الإنسان.
فقالت جوكوندا محتدة: صمتًا! ما هذا التجديف الخبيث.
– أين التجديف يا سيدتي؟ من كلامك أستنتج مقالي.
– لم أقل أنَّ للإنسان فضلًا على الله، أستغفر الله.
– أليس التمجيد أعظم من المسرة يا سيدتي؟ أَوَليس الإنسان فاعل التمجيد والله فاعل المسرة؟!
– الإنسان لا يستطيع أن يفعل شيئًا إلا بقوة الله، فلا فضل له بتمجيده الله، بل التمجيد والتسبيح واجبان عليه، والله يثيبه عليهما مسرة في الدنيا وسعادة في الآخرة.
– لله درك لاهوتية؛ فيلسوفة قديرة في الجدال، فاسمحي لي أن أستفيد من علمك العظيم، كيف يمجد الناس الله ويسبحونه؟
– يمجدونه ويسبحونه في الكنائس والمعابد بالصلاة والترتيل.
– كم من الناس يدخلون المعابد والكنائس؟
– ألوف وألوف.
– الناس يعدون بالملايين لا بالألوف؛ إذن الذين لا يدخلونها ملايين وملايين، وهل تعتقدين أنَّ أولئك الألوف المصلين المرتلين المسبحين الممجدين لم يكونوا في أثناء صلاتهم وترتيلهم مفكرين باختراع الدسائس والمكائد بعضهم لبعض، حتى إذا انصرفوا من معابدهم يشرع بعضهم بإيذاء البعض؟!
– الله فاحص القلوب، يجازي كلًّا حسب عمله، فينقل الصادقين إلى السماء، ويرذل المنافقين إلى جهنم النار.
فضحك أرجنتوس ملء شدقيه وقال: هل رأيتِ في السماء قديسين كثيرين؟!
– السماء مكتظة بهم.
– وما ظنك بنسبة مساحة السماء إلى مساحة جهنم؟!
– ما الغرض من هذا السؤال السمج؟!
– قصدي أن تعلمي منه أنَّ السماء كقمة الهرم وجهنم كقاعدته، وكلتاهما مكتظتان بأهلهما.
– وهَبِ الأمر كما تقول، فماذا فيه؟
– قصدي أن أسأل: أَمَا كان في وسع الله أن يجعل كل الناس صادقين، فينقلهم إلى سماء أوسع وأرحب من قاعدة الهرم، فتصبح جهنم أضيق من قمة الهرم؟!
– إنَّ الله خلق الإنسان حرًّا في سلوكه يختار مصيره لنفسه لكي يستحق السماء أو جهنم.
– إذن لم أخطئ حين قلتُ: إنَّ الله بعد أن خلق الإنسان على الأرض وزوَّده بالحرية ليختار مصيره تركه في عهدة حريته، ولم يَعُدْ يبالي بالأرض الحقيرة، ولعله نسيها؛ لأنه منشغل بإدارة الأكوان العظيمة.
– لا تؤاخذني، لا أستغرب هذيانك هذا؛ لأنك تجهل أنَّ الله لا يهتم بالأكوان عُشْر معشار اهتمامه بالأرض التي خلق فيها أعز مخلوقاته عنده — أعني الإنسان — لكي يمجده، فما نسيها كما تقول، وإلا لما كان يرسل لها كل حين بعد آخَر الرسل والأنبياء لكي يعلنوا مشيئته للناس، ويدعوهم للتوبة ولعبادته وتمجيده.
– كيف يمجدونه؟ وأين؟ وبماذا؟ أفي المواخير والحانات والمراقص والمقاصف وأندية القمار ودور المضاربات؟ أم في فظائع الحروب والاستبداد والاستعباد؟
فقاطعته: كل هؤلاء الذين تشير إليهم ليسوا من عباد الله الصديقين.
– مَن بقي من الناس غير هؤلاء؟ هل تعرفين أحدًا غيرهم؟
– أعرف كثيرين من الكهنة والرهبان والراهبات والأتقياء.
فتبسم أرجنتوس وتلمظ لعابه ثم قال: تعنين بالأتقياء أمثالك؟
– نعم، وهم كثيرون.
– وعندنا منهم كثيرون أيضًا دعينا منهم، واسمحي لي بسؤال: أَمَا كانت تلوح في بالك أفكار شريرة حين كنت تصلين؟
فترددت جوكندا في الجواب ثم قالت: لا أنكر هذا.
– أَوَما كان يخطر ببالك أن تبحثي عن سبب تلك الأفكار؟
– طبعًا، سببها الشيطان، وكنت أخزيه برسم إشارة الصليب على صدري.
– أَوَليس لهذا يُكثِر الأتقياء رسم إشارة الصليب لكي يطردوا الأفكار الشريرة؟
– طبعًا.
– يا تُرَى لو رسموها ألف مرة كل دقيقة هل كانت تكفي لخزي الشياطين، إذا كانت كل إشارة واحدة كافية لطرد فكر شيطاني واحد.
– إشارة واحدة تطرد مليون شيطان.
– كيف يستطيع الشيطان أن يصل إلى قلب النقي حين يكون مصليًّا؟
– الشيطان ملعون لا يكل عن مصادرة قلوب الناس.
– والله يا سيدتي الشيطان ليس زائرًا متطفلًا، فلا يأتي إلى قلب إنسان إذا لم يستدعِه ذلك الإنسان إليه، ولو كان أولئك المتعبدون يبتغون دائمًا أن يخزوا الشيطان برسم إشارة الصليب لكانوا مضطرين أن يرسموها كل هنيهة مدى الحياة، ولو كانت إشارة الصليب تطرد الشياطين لفرغت جهنم منهم؛ لأن فيها الآن من ذوي الصلبان كثيرين، ولا تزال الصلبان معلَّقة على صدورهم.
فسخطت جوكوندا: هذا الكلام كله كذب، الصديق لا يدعو الشيطان إلى قلبه أبدًا، بل هو يتوسل إلى الروح القدس أن يحتل نفسه، ولكن الشيطان اللعين يحاول أن ينجس نفسه ويفسدها.
– أنا معك، أسلم بهذا، وإذن فالشيطان أنجح من الروح القدس في احتلال القلوب، وإلا لما كانت جهنم مكتظة بالخطاة.
فتململت جوكوندا وقالت محتدة: إنَّ أولئك الذين رُذلوا إلى جهنم طبيعتهم شريرة، فلم يطلبوا الروح القدس لكي يطهرها من الشر …
فأتم أرجنتوس الكلام: … فطلبوا الشياطين، فلبَّتْ طلبهم واحتلت قلوبهم.
واسترسلت قائلة: وأما الأبرار الصديقون فلا تستطيع الشياطين أن تحتل قلوبهم.
– أين الروح القدس؟ لماذا لا يحتل جميع القلوب ويطهرها من الشرور؟
– الروح القدس لا يدنو إلى إنسان جعل قلبه منزلًا للشياطين.
– إذن أتعتبين على الشيطان إذا وجد قلبًا خاليًا فتمكَّن فيه.
– تبًّا للشياطين الملاعين، لا أفهم ماذا يريدون من تدنيس قلوب الناس.
– عجبًا! كيف لا تفهمين يا حسناء! أما فهمتِ بعدُ أنهم يغزون ملكوت الإنسان لكي يفتحوه ويحتلوه!
– لا يستطيعون أبدًا؛ لأن الله ساهر على شعبه، يجدد قلوبهم كلما دنستها الآثام.
– ونحن ساهرون في نضالنا، فنظل نفسد أهل الأرض، إلى أن يملَّ الله سهره عليهم، ويتخلى عنهم وعن ملكوتهم، وعنده كون عظيم أجدر منهم بعنايته.
– لا يمل الله العناية بشعبه؛ لأنه وعد أن يجعل الأرض دار السلام وهناء ألف سنة، وسنة السلام ملايين الأحقاب، فلا يكف عن بث الفضيلة في الناس إلى أن يصلحوا لذلك الدور السعيد.
– ونحن نظل نفسد الأرض لكي نبعد ذلك الدور السعيد، وندخل الأرض فاتحين، فإما أن ننعم بذلك الدور السعيد مع البشر، أو أن يتخلى الله عنهم، ويترك ملكوت البشر، فنحتله نحن ونستعبد البشر.
– وكيف تنتظرون أن تبقى الأرض جنة لكم إذا تخلَّى الله عنها؟
– تبقى أهنأ لنا من جهنم!
فتململت جوكوندا وبقيت صامتة هنيهة مفكرة ثم قالت: سمعًا يا سيد أرجنتوس!
– وطاعة يا ذات البهاء.
– خطر لي اقتراح بديع.
– حبذا بداعته! فما هو؟
– أنتم تريدون فتح ملكوت الأرض واحتلاله!
– نعم.
– فلماذا لا تتوبون عن شركم، وتمجدون الله تعالى وتسبحونه، فيقبلكم الله في الملكوت الأرضي مع أبناء الإنسان، وحينئذٍ يزول من الأرض الشر الذي تبثونه فيها، ويدنو دهر الألف سنة سلام، وتعيشون مع الناس بسلام ووئام وصلاح، والله يفتح ملكوت السماء للجميع؟!
– والله إنه لاقتراح بديع جدًّا يا ذات الطهر، ولكن الله طردنا من فردوسه طردًا مؤبَّدًا، فكيف يمكن أن يقبل توبتنا ويعدل عن حكمه الجازم؟
– إنَّ الله رحوم شفوق غفور، يقبل توبة التائبين.
– أجل، يقبل توبة التائبين الذين أمهلهم، وحدَّد أجلًا لتوبتهم، وأما نحن فلم يمهلنا الله ولا حدَّد لنا أجلًا للتوبة، بل أصدر حكمه علينا على الفور، وأنهى أمرنا ولا مرَدَّ لحكمه. أفلا ترين أنَّ الله ظلمنا بعدم إمهاله لنا، ورحم أبناء آدم بإمهالهم؟ مع أننا كنا ملائكة أشرف طينة من طينة البشر، أفلا ترين أنَّ الله لم يعدل بيننا وبين الإنسان؟ إنه لظالم.
فصاحت جوكوندا مذعورة: استغفر الله، استغفر الله، الله عادل ورحيم أيضًا، عدل معكم ورحم الإنسان، عدل معكم ولم يرحمكم كما رحم الإنسان؛ لأن إثمكم أعظم جدًّا من إثم الإنسان، أنتم تكبرتم على الله، وحدثتكم نفسكم أن تشاركوا الله في ملكه، وهذه «خيانة عظمى» تستحق القصاص بالهلاك الأبدي، فما رحمكم ولا ظلمكم، بل عدل بكم. وأما الإنسان فماذا أثم؟ أثمٌ بسيط جدًّا، قال الله له: لا تأكل من هذه الشجرة. فعصى نهيه وأكل، فطرده من الفردوس إلى الأرض عسى أن يتوب فيقبل توبته، ومنذ ذلك الحين شرعتم تفسدون الإنسان لكي تردوه عن التوبة، وتحولوا دون مغفرة الله له، وبذلك تضيفون إلى إثمكم إثمًا آخَر، فكيف تنتظرون أنَّ الله يرحمكم؟
– والله يا سيدتي لا نحن أثمنا ولا الإنسان أثم، وإنما الله أناني يريد أن يحتكر المعرفة لنفسه، وغيور فلا يطيق أن يكون أحد غيره ذا معرفة، وإلا لما كان يعاقب الإنسان ولا ذنب له إلا أنه أكل من شجرة المعرفة كأن ابتغاء المعرفة جريمة، وإذا كان الطمع بالمعرفة رذيلة فما هي الفضيلة إذن، وهو حكم علينا ذلك الحكم الجائر؛ لأنه اعتبر معرفتنا جريمة. إنه حاكم مستبد وإلا لكان يمهلنا حتى نتوب كما أمهل الإنسان، لقد ندم على أنه خلقنا عالمين مثله الخير والشر؛ ولذلك خلق الإنسان جاهلًا لكيلا يغلط بالخليقة غلطة أخرى، وكذلك ندم على أنه تسرع بحكمه علينا، فأمهل الإنسان لكيلا يغلط غلطة التسرع مرة أخرى، لذلك أقول: إنه ظلمنا ورحم الإنسان، فما هو عادل، بل هو ظالم متحيز.
فصاحت جوكوندا به: صه، كفى تجديفًا على الله خالق السموات والأرض وما فيها، إنه كريم؛ لأنه خلقكم ذوي علم، ولكنكم اغتررتم بعلمكم، فطمعتم في أن تساووا الله في مجده فرذلكم بعدل، وخلق الإنسان جاهلًا لكي يمنحه العلم رويدًا ولا يرتكب إثمًا كإثمكم، ولذلك أوصاه أن لا يأكل من شجرة المعرفة بنفسه، بل هو يطعمه إياها ثمرة ثمرة، فعصى الإنسان أمره وأكلها، فما عاقبه لأنه أكلها، بل لأنه عصى أمره؛ لذلك أمهله لكي يتوب فيغفر له. ومع أنَّ الإنسان عصى أمره تعالى ما زال يعظمه ويقدسه ويمجده ويستغفره؛ ولذلك يرحمه الله بأن يقبل توبته، وأنتم لو كنتم تتوبون عن وقاحتكم في مقاومة خيره وإفساد شعبه، لكان يغفر لكم ويرحمكم.
– والله يا سيدتي هذا حد علمي أنَّ الله يقبل توبتنا، فإن كنتِ مستوثقة منه أن يقبلها نتب.
– إني واثقة أنه يقبلها، فتوبوا.
– كيف تستوثقين وحكمه علينا قد نفذ فينا؟!
– أتشفع بكم عنده.
– تتشفعين بنا عنده!
– نعم، وهو يقبل شفاعتي.
– مَن تكونين حتى يقبل شفاعتك بمنبوذين منه إلى الأبد؟
– إني قديسة وكثيرًا ما عملت عجائب.
– قديسة! تعملين عجائب!
– نعم، بقوة الله أعمل العجائب، ولي أمل وطيد أنه يقبل شفاعتي بكم ويرحمكم ويقبل توبتكم.
– إذا كان الأمر كذلك، فإني أؤكد لكِ أننا نجعل جهنم أقل شرًّا من الأرض وأطهر عبادة لله، وأحرَّ صلاة له تعالى، فهل تتنازلين وتأتين لمقابلة سيدتنا ذات الذكاء فينوموس وتفاوضيها بهذا الموضوع؟ وهي بلا شك ترحب بكِ، وتسعى لتنفيذ اقتراحك الذي تضمنين نجاحه، ولا ريب أنَّ الله تعالى جعلك رسولًا لدعوة أهل الجحيم إلى التوبة، هل تتفضلين وتنزلين؟ هاتي يدكِ انزلي على عاتقي.
وفيما كانت الأخت جوكوندا تنزل على عاتق أرجنتوس، كان الراهب سلفستروس مسرعًا إليها وهو يصرخ: ويحك! إلى أين، أإلى سقر وبئس المستقر؟!
فالتفتت إليه وقد أصبحت على عاتق أرجنتوس وقالت: نعم يا عزيزي سلفستروس، إلى سقر بمهمة عظيمة جدًّا، بإلهام الله تعالى.
– ويحك! ماذا تقولين؟
– أقول: إنَّ الله تعالى انتدبني رسولًا إلى جهنم لدعوة أهلها إلى التوبة، فانتظرني في المطهر إلى أن أعود ظافرة بتوبة أهل الجحيم، ثم أذهب لكي أقدمها إلى الله.
– إنك لساذجة يا أختي، لا تعلمين أنَّ سعيك عقيم، بل هو سعي معكوس، الله لا يقبل توبة الأبالسة، وهم لا يتوبون.
– سترى، سترى، إنهم يتوبون، وإنه تعالى يقبل شفاعتي بهم، ويقبل مسعاي الحميد كفارة عن ذنوبي المطهرية، ويكون رضاؤه عليَّ عظيمًا جدًّا، وسأعود من جهنم إلى السماء مباشرة، وأصطحبك معي إن شاء الله، والله لا يرفض حينئذٍ شفاعتي بك.
وكانت جوكوندا قد نزلت عن عاتق أرجنتوس إلى أرض جهنم، وسلفستروس يكفكف دموعه أسفًا عليها.