الفصل التاسع
أرجنتوس يقدِّم جوكوندا للملكة فينوموس.
– أقدم لسيدتنا ذات الذكاء الرائع قدس الراهبة القديسة العجائبية القادمة إلينا بالدعوة إلى التوبة!
فرحبت فينوموس بها بكل رحابة قائلة: مرحبًا بالقداسة العجيبة! إنَّ تنازلك لمملكتنا شرف عظيم لها! عسى أن يكون بشيرًا بانقلاب جديد في نظام الأكوان الروحانية!
فقالت جوكوندا: معاذ الله! أستغفر الله! وقانا الله من شر الانقلاب الذي يجعل الأعالي أسافل!
فقال أرجنتوس: أجل، إنَّ الانقلاب من حظ الذين ظلموا، وإنما تعني سيدتنا ذات الذكاء: البشارة بتعديل القضاء الأزلي.
فقالت جوكوندا: بحسب لاهوت القديس توما الأكويني، القضاءُ الأزلي أبدي لا يحتمل تعديلًا، فالأبد القادم كالأزل المنصرم.
– ولكن الله تعالى مشرف على الماضي والمستقبل جميعًا، فيستطيع أن يجعل الماضي مستقبلًا ويجدد فيه أحكامه، وإلا فكيف يجعل الرحمة فوق العدل كما تؤملين يا سيدتي.
فقالت جوكوندا: نعم! نعم! إني واثقة من رحمة الله بكم إذا كنتم تقبلون دعوتي للتوبة إليه تعالى.
فقال أرجنتوس موجِّهًا الخطاب إلى فينوموس: تؤكد لي حضرة القديسة أننا بالتوبة ندخل إلى ملكوت الإنسان بلا نزاع.
فقالت فينوموس: أجوكوندا تدعين يا سيدتي! أنه اسم جميل، ولكنه أقل من أن يرمز عن هذا الجمال البارع! لقد كان جديرًا بأبويك أن يسمياك فنيس!
فابتسمت جوكوندا إعجابًا بنفسها وقالت: هذا ما لقَّبني به الذين انتخبوني ملكة الجمال في العالم كله.
فحملقت فينوموس قائلة بتعجب: ألدى جلالة ملكة أنا؟
ثم انحنت إلى الأرض قائلة: طوبى للعرش الذي حملكِ، وللمملكة التي لمع فيها تاجك! ما أعظم حظك من نعم الله الذي وهبك ملك الجمال! كيف طقت خنوع الرهبنة في الدير الضيق، وأنت جديرة بالتمتع بسُؤْدَد السلطة المطلقة في دولة الحسن العظيمة ومملكة الجمال الواسعة؟!
فتنهدت جوكوندا وقالت: آه! لم أجد غبطة في تلك المملكة الواسعة، فعكفت في الدير أبتغي فيه غبطة لنفسي.
– عجبًا عجبًا! يزعم الفلاسفة أنَّ الجمال مصدر الحب، والحب ينبوع الغبطة؛ وأنت تتبوَّئين عرش الجمال، فكيف لم تجدي الغبطة؟ ألم يكن في يدك صولجان الحب؟
– لا! كنت ملكة على عرش بلا صولجان.
– غريب! هل تجرَّدت القلوب على جمالك فاغتصبت منه صولجانه؟
– لا! بل جمالي تجبَّرَ مزدريًا تلك القلوب، ففزعت منه وتحولت عنه، إلى أن أصبحت ملكة بلا رعية، فاشتريت بصولجاني قلبًا، فإذا به صنم.
– لعلك رمت أن تقايضي بجمالك حبًّا فخابت المقايضة؛ لأن الجمال لا يصلح ثمنًا للحب بل هو غذاءٌ له، لا تصلح المقايضة إلا قلبًا بقلب، فأنت أعطيت جمالًا بلا حب فأخذت صنمًا بلا قلب!
– صدقتِ! لقد كان جمالي في ناحية وقلبي في ناحية أخرى.
– كيف يمكن ذلك؟
– كان جمالي مقيَّدًا بقلب غير القلب الذي كان قلبي مقيَّدًا به.
– عفوًا يا مولاتي! مَن ابتلاك بذلك القيد الجائر؟
– دولة الجمال يا عزيزتي! آه منها دولة متعبة مشقية، دولة البذخ والبطر تحتاج إلى مملكة وافرة الذهب.
– وتركتِ قلبك كبشًا على محرقة تلك الدولة يتألم ويستغيث ولا تغيثينه لئلا تفقدي تاج الملك وصولجانه!
فقالت جوكوندا متنهدة: لم يكن إنقاذه ممكنًا ما دامت كتائب أبهة تلك المملكة تحاصر عرش الدولة.
فابتسمت فينوموس وقالت: ما دام ذلك القلب يرقص على مجامر بخور العرش وشجوه، لا يسمع شيئًا في ضجيج موكب تلك الكتائب. فكيف تشكين من حرمان الغبطة ورائحة دخان قلبك الملوع أذكى من البخور؟!
– قسمتي.
– وهل صولة الدولة وحول الملك وطوله تعين القسمة مقلوبة رأسًا على عقب.
– قسمة مقلوبة!
– نعم، لقد خُلِق الجمال غذاءً للحب الذي ينعم به القلب، وأما أنت فقد جعلتِ القلب غذاءً للجمال. كان يجب أن يتبع جمالك قلبك أينما اتجه.
– آه! لو فعلتُ لكنتُ ناكثة عهدًا مقدَّسًا، ونكثه إثم عظيم.
– أي عهد أقدس من العهد الذي يعقده القلب؟
– عقد الزواج.
– أزواج جمالك أم زواج قلبك.
– عقد الزواج الذي يربطني بزوجي الشرعي.
– الزواج الذي استوهب جمالك بدل قلبه الصنمي المذهب؟!
– آه، نعم.
– والزوج الذي بادلك قلبًا بقلب ماذا فعلتِ به؟
– لم يكن ذاك لي زوجًا.
– عفوًا ومعذرة، لقد أسأتِ التعبير يا سيدتي القديسة، كان أقرب إليك من زوج، كان شطرك الآخَر.
– ولكن لم يكن بيني وبينه عقد زواج.
فقالت فينوموس متهكمة: صحيح، فلقتا اللوزة لا تقويان على حجر المكسر؛ لأنه ليس بينهما عقد زواج، وشطرتا الترمسة لا تثبتان بين سبابتي الآكل؛ لأنه ليس بينهما قران، كذا القلبان المتعاشقان لا يصمدان في غلاف واحد؛ لأنه ليس بينهما عقد زواج.
– عقد الزواج شيء مقدس.
– وما رأيك باتحاد القلبين بالحب، أعقد منجس هو؟
– عقد الزواج مقدس بحكم الشريعة.
– الشريعة القائلة: «حيث يكون كنزك فهناك يكون قلبك»؟
– نعم.
– حسن، وهل في منطق هذه الشريعة أنَّ الزوج الغني البغيض كنز أثمن من المحب الحبيب.
– ولكن حدث ارتباط الزوجية من غير استشارة القلب، وبحكم الشريعة لم يَعُدْ ممكنًا فكه.
– رفضتِ مشورة القلب ثم لذت بالشريعة لكي تبرري هذا الرفض، فماذا بقي لك من مستشار فيما بعدُ؟!
– لقد ندمت لإهمالي مشورة القلب أي ندم، ولات ساعة مندم.
– لماذا بعد الندم لم تستشيري الشريعة التي تعتصمين بها؟
– ليس في شريعة الكنيسة حل.
– آ … لقد خفي عليَّ أن عندكم شريعة أسمى من شريعة الله وأقدس هي شريعة الكنيسة.
– لا، لا، أستغفر الله، إنَّ شريعة الكنيسة مستمدة من كلام الله القدوس.
– أمستمدة شريعة الكنيسة من كلمة الله حقيقة؟! و«الله محبة»، والمحبة كلمته، والمحبة شريعته، فهل تعدين عاصية شريعة الله إذا كنت تنقضين عهد جمالك لبعلك إذا كنت تبرين بعهد قلبك لحبيبك؟!
– الكنيسة تحرم الطلاق.
– تعصين شريعة المحبة الإلهية لكي تخضعي لشريعة الكنيسة البشرية!
فقالت جوكوندا متململة: ويحك! أأعصي أمر الكنيسة؟ هذه أعظم الخطايا المميتة.
فضحكت فينوموس ثم قالت: عفوًا يا سيدتي لا تعصي شريعة الكنيسة، بل أعصي شريعة الله، فعصيانها خطية عرضية.
– شريعة الله كشريعة الكنيسة.
– شريعة الله المحبة، والمحبة هي عقد الزواج الشرعي، فحيث لا حب فلا زواج.
– ولكن شريعة الكنيسة مستمدة من كلام الله القائل: «ما جمعه الله لا يفرقه إنسان.»
فقالت فينوموس متمادية في التفلسف: وأنت أيتها الإنسانة فرقت ما جمعه الله! أليس قلبك وقلب حبيبك مجتمعين بقوة المحبة التي هي الله؟ فكيف تفرقين بينهما بزواج جمالك وقلب رجل آخَر غير حبيبك؟ ثم تصرين على هذا التمرد على شريعة المحبة خوفًا من تحريم الكنيسة؟
– تعنين أنه كان يجب عليَّ أن أطلق زوجي لكي أتزوج مَن بادَلْتُه قلبي بقلبه؟ هذا إثم عظيم.
– أَوَليس إثمًا أعظم أن تنكثي عهدًا مقدَّسًا بحرصك على عهد مصطنع؟!
فتبرمت جوكوندا ثم قالت: ولكن قد يعقد الزواج شرعًا وحبًّا، ثم يطرأ ما ينقض الحب أو يقتله … فيبقى عقد الزواج الشرعي رابطًا.
– حينئذٍ يجب أن ينقض عقد الزواج الشرعي حالًا؛ إذ لا فائدة منه بعد أن ينقض قيد الحب، ينقض لأن رابطه — أي الحب — انفصم وإلا صار تمرُّدًا على شريعة المحبة الإلهية، وإن لم ينحل عقد الزواج إنهار بناؤه؛ لأن أساسه قد انهار من تحته، وينهار معه صرح السعادة، إنَّ زواجًا خلوًّا من الحب لهو تجديف وكفر بالله.
– يلوح لي أنك تبررين شريعة الطلاق!
– لا! لا وجود البتة لشيء يُدعَى طلاقًا في مقابل شيء يُدعَى زواجًا أو ضده، لا يوجد في حكم الطبيعة إلا زواج ولا زواج، فالزوجان زوجان طالما هما يتبادلان الحب حتى إذا انتفى حبهما بطل أن يكونا زوجين.
– غريب أمرك! هذا يعني أن لا زواج على الإطلاق، بل حيث يتحاب اثنان يقترنان بلا عقد زواج، فإذا تنافرا افترقا!
– أجل! إنَّ حبهما هو عقد الزواج الحقيقي بعينه، فإذا انتفى الحب انحل العقد من طبعه.
– تعنين أني اليوم أكون قرينة فلان لأني أحبه وغدًا أكون قرينة آخَر لأني أصبحت أحبه دون ذاك، أهذا يُدعَى زواجًا؟!
– وهل يمكن أن يكون الزواج غير هذا؟!
– إذن ما الفرق بيننا وبين الحيوانات؟!
– بينكم وبين الحيوانات فروق كثيرة، وبينكم وبينها تشابهات كثيرة ومنها القران، لماذا يجب أن تفترقوا عن الحيوانات في سنة طبيعية هي أساس الحياة، وأعني بها سنة القران؟ لماذا تكون لكم شريعة للقران غير شريعة الحب، وهي شريعة الطبيعة في الأحياء، لماذا تميزون أنفسكم عن الحيوانات بنقض هذه الشريعة، في حين أنَّ هناك فروقًا عديدة بينكم وبين الحيوانات تميِّزكم عنها إذا شئتم هذا التمييز؟
وانحصرت جوكوندا في هذه الزاوية من الحوار، ولم تُحِرْ جوابًا إلى أن قالت: يجب أن نمتاز عن الحيوانات بشريعة اجتماعية؛ لأننا اجتماعيون والحيوانات غير اجتماعية.
– ألغرامكم بشيءٍ يسمى الاجتماع الإنساني تقيدون أنفسكم بشريعة بشرية أحط من شريعة الحب الإلهية، لكي توهموا أنفسكم أنَّ هذه الشريعة تميِّزكم عن الحيوانات؟!
– لماذا تعتبرين شريعة الزواج أحط من شريعة الحب؟!
– لأن الغرض من أي شريعة ضمان السعادة وتلافي التنازع بين الأفراد، وشريعة الزواج التي لا تجيز طلاقًا بلا قيد حتى بالرغم من انتفاء الحب، تنافي ذلك الغرض؛ ما فائدة المجتمع من تعاسة زوجين غير متحابين، وأي ضرر للمجتمع يتلافى بإكراه زوجين متنافرين على البقاء تحت سقف واحد؟ وماذا يضر المجتمع أن تكوني اليوم قرينة فلان السعيدة معه، وغدًا قرينة فلان الآخَر السعيدة معه أيضًا لأنك أصبحت تحبين هذا دون ذاك؟ أليس تقيُّد القران بالحب فقط أنفى للدعارة التي ملأت أرضكم، وأنجى من الخيانة الزوجية التي تعدونها في رأس قائمة الآثام؟
– ولكنك نسيت يا سيدة مشكلة الأولاد التي تنشأ من مسألة إباحة الطلاق متى انتفى الحب؟
– أولاد مَن؟
– أولاد الزوجين.
– ليسوا أولاد الزوجين، هم أولاد الطبيعة أولًا، ثم أولاد المجتمع ثانيًا، وعلى المجتمع تربيتهم، وإلا فما هي وظيفة المجتمع إذا لم يكن أول واجباته العناية بالأولاد.
– أليس في تولي المجتمع تربية الأولاد قتل لعواطف الأبوين الوالدية؟
– لماذا تقتل العواطف؟ بالعكس هي تقوى؛ إذ لا تبقى مهام عائلية تحول دون بثها.
وبقيت جوكوندا مبهوتة برهة بعد هذا الحديث إلى أن قالت: تالله أين أنا! أفي جهنم أم على الأرض؟!
– أنت في جهنم يا سيدتي.
– ولكني أسمع فلسفة أهل الأرض، فأنَّى لك هذه الفلسفة الاجتماعية يا سيدة؟
فابتسمت فينوموس وقالت: أَلَا تدرين يا سيدتي أنَّ فلسفة الأرض مستمدة من حكمة جهنم؟
– عجبًا! أفي جهنم حكمة تفتقر لها الأرض؟
– أنسيتِ التفاحة التي أكلتها جدتك حواء ثم قدمتها لجدك آدم؟
– أوه … لا أنسى أنك أنت أرشدتها إليها.
– ألم تفتح تلك التفاحة أعين جديكما لمعرفة الحكمة: الخير والشر؟
– حقيقي أنَّ تلك التفاحة جلبت المعرفة للبشر، ولكنها جلبت معها الآثام والعقوبات؛ لأنه لو بقي الإنسان جاهلًا غبيًّا لما كان يحاسب.
– ولبقي حيوانًا غير جدير بملكوته الأرضي ولا بطموحه إلى الملكوت السماوي.
ففكرت جوكوندا هنيهة ثم قالت: بالله هل عندكم هنا حبٌّ؟ وهل تحبون؟
– بالطبع نحب!
– بالطبع! لماذا بالطبع؟
لأن الحب سنة كل شكل من أشكال الوجود، فالأجرام السماوية تحوم بعضها حول بعض بقوة عاطفة المحب التي سموها الجاذبية، والعناصر تنتظم في مركبات مختلفة بقوة الألفة التي سموها الألفة الكيميائية، والعناصر الأرضية تتألف في أجسام نباتات وحيوانات بقوة التعاشق. وفي جهنم كما على الأرض نظام كوني مبني على تلك القواعد، فبالطبع نحب.
– إذا كنتم تحبون لا تكونون محرومين من السعادة.
– كلا، نحن نتمتع بسعادة الحب.
– إذن ما الفرق بيننا وبينكم؟
– الفرق أننا نحن أسعد منكم جدًّا.
– عجبًا! إذن كيف يكون عذاب جهنم.
– أخف جدًّا من عذاب الأرض.
فتحيرت جوكوندا، ثم قالت: أخاف أنك تغررين بي لكي تحببي جهنم إليَّ.
– كلا البتة، لست مغررة بك؛ لأنك قديسة وقد نجوت من عذاب جهنم وعذاب الأرض جميعًا، فأغبطك لأنك ستصعدين إلى السماء.
– بالله تخبرينني كيف يكون عذاب أهل الأرض أشد من عذاب أهل جهنم؟
– إنَّ مطمح أهل الأرض أشد جدًّا من مطمح أهل جهنم وأعز منالًا.
– ما هو مطمحكم وما هو مطمحنا؟
– أنتم تطمحون إلى الملكوت السماوي ونحن نطمح إلى الملكوت الأرضي.
– ولماذا طموحنا إلى السماء أشق من طموحكم إلى الأرض؟
– أنتم تطمحون إلى السماء ولا تريدون أن تتخلوا عن الأرض، وتودون أن تأخذوا الأرض معكم إلى السماء، حتى إذا عزَّ عليكم أخذها معكم ووددتم أن تستنزلوا السماء إليها، تحاولون أن تملكوا الملكوتين معًا، تتشبث يسراكم بالسماء وتبقى يمناكم قابضة على حطام الأرض.
– أراكِ يا هذه تزعمين مزاعم باطلة لا حجة لك فيها، ليست حياتنا في الملكوت الأرضي الزمني إلا استعدادًا لبلوغ الملكوت السماوي الخالد.
– أي نعم، تبتغون أن يبتدئ الخلود على الأرض، فبنيتم الأهرام، وحنطتم الأجسام، ونصبتم الأنصاب، وأعليتم الأبراج، محاولين أن تصلوا الدنيا بالآخرة، أن تصلوا إلى هذه من غير أن تجتازوا عتبة الموت.
– هذا بهتان، ولا مؤاخذة، بين الدنيا والآخرة حجاب لا ينفذ إلا من باب واحد، الموت هو الباب الذي تنتهي عنده الحياة الدنيا وتبتدئ بعده الحياة الأخرى الأبدية، فلا بد من اجتياز هذا الباب.
– لقد نسفت قدرتكم الحجاب والباب معًا، وأصبح الاتصال بين الدارين حرًّا طليقًا.
– هذا إفك وليس للإنسان قدرة على زعزعة حجر واحد من ذلك الحجاب.
فقالت فينوموس ضاحكة: لا تستطيعين يا ذات الجلالة أن تصمي أذنيك عن المفرقعات التي تحطم الصخور وتفتح الأنفاق في الجبال، أفلا تستطيع أن تدرك ذلك الحجاب؟
فقالت جوكوندا بسخط: هذا هذيان شرير.
– عفوًا وحلمًا يا ذات الجلالة، إذن لماذا تحاولون أن تحصلوا على سعادة الآخرة من غير أن تتركوا ملذات الدنيا وتقمعوا شهواتكم؟
– دعوى باطلة بلا دليل.
– عجبًا يا ذات الجلالة! لا أظنك تجهلين أنكم تتنافسون في ادخار حطام الدنيا، وكثيرون منكم قد ادخروا منها ما لا تفنيه دهور الخلود، كأنهم يجهلون أنهم سيموتون عاجلًا، تتهالكون في سبيل الادخار بغية أن تتزودوا من ملذات الدنيا للآخرة، كأنكم تخافون أن تجوعوا في السماء.
– أستغفر الله، في السماء من النعيم ما لا يبقي في النفس من حاجة إلى ملذات الدنيا الدنيئة.
– ولكنكم لا تشبعون من ملذات الدنيا فتبتغون أن تنقلوها معكم.
– هذا كلام فارغ، لا يستطيع الإنسان أن ينقل معه ذرة من حطام الدنيا إلى الآخرة.
– يستحيل يا سيدتي أن تكون هذه عقيدة الإنسان وهو يتصرف بعكسها، لو كان يعتقد أنَّ بين الدنيا والآخرة بابًا هو الموت، وأنه لا يستطيع أن يجتاز هذا الباب وهو مثقل بحطام الدنيا لما كان يقاتل أخاه الإنسان من أجل هذه الحطام، أَلَا تقتتلون في سبيل ادخارها؟
– لا أنكر أنَّ بيننا دنيويين يتنازعون الثراء اقتتالًا، وأما الأتقياء الصالحون فيزدرون تلك الحطام ويتطلعون إلى النعيم السماوي.
فقالت فينوموس ضاحكة: ليتك يا ذات الجلالة تزورين معبد القديسة جوكوندا العجائبية؛ لكي تري ماذا فيه من كنوز، أحطام دنيوية هي أم نعم سماوية؟! وهو أقل المعابد والصوامع والمناسك كنوزًا، ليتك تشاهدين كنوز الإكليروس من تيجان وصلبان وطيلسان في مدينة يسوع ومدينة خلفائه، وليتك تطلعين على دفاتر الأملاك من متاع وعقار ومال؛ لكي تعلمي كم هو نصيب طغمات الصالحين منها، وقد انتقلوا إلى الآخرة ومعهم صكوك امتلاكها إلى اليوم وغدًا، فهم في السماء كما كانوا على الأرض من ذوي الأملاك في السماء وفي الأرض.
– تبًّا هذا تجديف لا أطيق سماعه.
– عذرًا يا مولاتي، أكف عما لا تطيقين سماعه، وإنما أرجو أن تسمحي لي باستفهام واحد.
– استفهمي بلا تجديف.
– قلتِ إنَّ الحياة الزمنية إنما هي استعداد للحياة الأبدية، فكيف يكون هذا الاستعداد؟
– بالتعبد لله.
– السموات تحدث بمجد الله والأفلاك تسبحه، فبماذا يمتاز تعبدكم؟
– ليس التعبُّد بالتسبيح والتمجيد فقط، بل بالصلاة والصوم أيضًا.
– حسن، ليتك يا ذات القداسة تفحصين قلوب المصلين الصائمين؟
– لماذا؟
– لكي تري أنَّ أنجح برامج من برامج الكيد والدس والختل والخداع هو الذي يفكر به المتعبدون في أثناء الصلاة والصوم.
– لا يقبل الله صلاةً وصيامًا إذا كانا ستارين للخداع.
– إذن لم يَبْقَ شيء من التعبد لله غير تسبيح السموات وتمجيد الأفلاك.
– وطاعة الإنسان وصايا الله أيضًا.
– تعنين وصايا الله العشر التي لولاها لما وجدت الخطيئة على الأرض؟
فوجفت جوكوندا فرقًا، وقالت: ما هذا التجديف يا هذه؟ لو لم يخطئ الإنسان لما وضع الله له وصاياه العشر لكي يردعه بها عن المعصية.
– سلي فيلسوف اللاهوت بولس الرسول ينبئك أنه لولا الوصية لما وجدت الخطيئة.
– مستحيل، القديس بولس عني بقوله ذاك أنَّ الله عالِم أنَّ الإنسان سيخطئ، فحذره من الخطأ بوصاياه العشر التي إذا لم يطعها جَلَبَ على نفسه الشقاء في الدارين معًا.
– أشكر لك تفسيرك كلام الرسول، فَلْنَرَ هل فهم الناس تلك الوصايا كما عني بها الله؟ وهل أطاعوها كما نصَّ عليها؟ أولها: «أنا الرب إلهك لا يكن لك إله غيري.»
فقالت جوكوندا: لا إله غيره تعالى.
فقالت فينوموس على الفور: لا إله غيره في كل مكان إلا …
فقاطعتها جوكوندا قائلة: إلا في جهنم طبعًا.
– لا لا، لا إله غيره حتى في جهنم، وإنما لا إله غيره إلا على الأرض؛ حيث توجد آلهة أخرى سواه.
– ويحك! الأرض ملأى معابد لله لا لسواه.
– بل إلى جانبها معابد لإله آخَر أضخم وأفخم منها، فهجر الناس تلك إلى هذه.
فقالت جوكوندا متذكرة تقرير أرجنتوس: فهمت، تعنين معابد المال التي بناها الداهية أرجنتوس على الأرض، ولكن عباد هذه هم الأشرار الدهاة الذين لا حظ لهم في السماء.
– وعباد معابد الله أشد دهاءً من هؤلاء؛ لأنهم يخدعون الله والناس.
– ويلكم! إنَّ ينبوع الخداع في جهنمكم؛ ولذلك يشدد الله العذاب لكم.
– كلا يا سيدتي، لا لزوم عندنا للخداع حتى ولا لمعصية وصية من وصايا الله البتة.
– عجبًا! مَن هو إلهكم؟!
– لا إله إلا الله وحده خالق الكون هيولى وأرواحًا.
– أَلَا تحلفون؟
– لسنا مضطرين إلى الكذب لكي نؤيد كذبنا بالقسم بالله، كلامنا النعم نعم، واللا لا.
– غريب، أَلَا تسرقون؟
– ليس عندنا مال يسرق، وليس لأحد منا حاجة بمتاع لكي يسرقه، كل شيء عندنا مشاع للجميع.
– عجيب! أَلَا تقتلون؟
– ليست لنا مطامع نتنازعها لكي نقتتل لأجلها.
– ألا تزنون؟
– لا! ما هو الزنى؟
– عجبًا! ألا تعرفين ما هي رذيلة الزنى؟
– ماذا تعنون بها؟
– نعني بها أن يقترن الرجل بامرأة ليست زوجة له أو زوجة رجل آخَر، وأن تحب المرأة غير رجلها أو بعل امرأة أخرى.
– إذا كان هذا ما تعنونه فهو فضيلة.
– ويحك يا هذه! الزنى فضيلة!
– لا! لست أعني أن الزنى فضيلة، بل إنَّ هذا الذي تعنونه ليس زنى!
– لله من هذا البهتان! إذن ما هو الزنى؟!
– إنَّ استئثار الرجل بامرأة لا تحبه بل تحب سواه لهو الزنى، واستئثار المرأة برجل لا يحبها بل يحب سواها لهو الزنى أيضًا! لذلك لا زنى عندنا؛ لأنه لا رجل يستأثر بامرأة لا تحبه، ولا امرأة تستأثر برجل لا يحبها!
– ويلك! تسوغين الحب المشاع!
– لا، بل أكرر لك القول السابق أنَّ الحب قاعدة الزواج، فنحن لا أنتم طائعون وصايا الله! لا شيء البتة عندنا من الآثام والمعاصي التي عندكم!
– يا لله! إنك تصورين لي جهنم كالسماء.
فقالت فينوموس باسمة: أي نعم! هي نسخة من السماء، ولكنها مقلوبة كما لو كنت ترين السماء من كوة عدسة التصوير الشمسي!
وبقيت جوكوندا مبهوتة برهة إلى أن قالت: إذا كان أمركم كذلك، فأبشرك أنَّ رحمة الله بكم أقرب إليكم من قاب قوسين.
– أستغرب أن تكون رحمة الله على مقربة منا هكذا ولا نقتنصها، في حين أيدينا طويلة تمتد إلى قلوب البشر على الأرض، فأين هي؟
– لم تروها؛ لأن شركم كغبار الحرب يحجبها عن أبصاركم.
– نعقد هدنة ساعة لكي يصفو الجو فهل نرى رحمة الله، أم نراها سرابًا، كلما تقدَّمْنا إليه ابتعد عنَّا!
– لا تكفي الهدنة، بل يجب أن تكون توبة أبدية عن كل شر، فترون حينئذٍ رحمة الله في منال يدكم مهما كانت يدكم قصيرة.
– لا نستطيع أن نفرط بتوبة كهذه بلا ضمانة؛ لئلا نخسر المعركة بيننا وبين البشر، ولا نحصل على الرحمة!
فقالت جوكوندا متحرية: ضمانة! ماذا تعنين بالضمانة؟
– أعني ضمانة الرحمة لقاء التوبة؛ هل تبيعين سلعة إذا كنت غير واثقة من قبض الثمن؟
– طبعًا لا!
– ونحن لا نبيع توبة ما لم نقبض رحمة حالًا.
– العادة أن يستلم الشاري البضاعة، ثم يدفع الثمن ولو بعد حين.
– وإذا كان البائع قليل الثقة طلب ضمانة، فنحن نطلب ضمانة أننا ننال رحمة الله حتمًا بعد تقديم التوبة إليه.
فقالت جوكوندا: أنا أضمن!
فقالت فينوموس الداهية: أأنت تضمنين الله تعالى خالقك يا ذات الجلالة العليا؟ قبلنا الضمانة.
وخرَّت فينوموس إلى الأرض ساجدة وقالت: عزمنا على إجراء عملية التوبة منذ الآن.
فارتعدت جوكوندا وقالت: ويحك يا فاجرة! لقد هورتني بدهائك، واستدرجتني إلى تجديف بالله تعالى لا يُغتفَر؛ ربي غفرانك! أثمت عن غير قصد مني لقصر نظري.
– أي تجديف هذا؟
– استدرجتني إلى أن أضمن الله، والله ضامن الصديقين، وهل يخلف الله وعده حتى تطلبي ضمانة له؟
وسجدت جوكوندا إلى الأرض مستغفرة، ورسمت إشارة الصليب على صدرها مرارًا ثم قالت: تبًّا لك! أيساوَم الله على رحمته؟! معاذ الله.
فقالت فينوموس جادَّة: نعم يا ذات الجلالة! ألم تكن مساحات السماء في زمن من الأزمنة معروضة للمساومة؟ أما كانت تباع بأثمان وتسجل بصكوك وحجج كضمانة لحصول الشارين لها عليها؟ فلماذا تستنكرين علينا طلب ضمانة أو صك على الأقل؟ اتفقنا أن نتوب إليه تعالى! فما هي الضمانة لنا أو الحجة بامتلاك حق الرحمة؟
فوجفت جوكوندا تغيظًا من هذا التلميح إلى عهد صكوك الغفران وقالت: قلت لك إنَّ الله لا يساوم على رحمته؛ توبتكم هي حجتكم وضمانة لكم؛ لأنه تعالى وعد التائبين بالمغفرة رحمة بهم.
– ولكنه لم يَعِد الملائكة الساقطين بمغفرةٍ لقاءَ توبةٍ، وإلا لتبنا من زمان، وكنا خدام جلالته.
– لا تخافي أن تذهب توبتكم سدًى، إنَّ رحمة الله تعالى أوسع من الأرض وجهنم وسائر الأكوان، فإذا تبتم أتشفع لديه تعالى بكم فيشملكم برحمته، وسبحانه يقبل شفاعة القديسين.
فسجدت فينوموس إلى الأرض وقالت: حمدًا لله وشكرًا لشفاعتك أيتها القديسة، إني أول مَن يزمع التوبة، فعليك بإقناع سائر الرجماء الزعماء، ومتى اقتنعوا يتبعهم الأبالسة والشياطين، ثم نعقد حفلة التوبة تأهبًا لدخول الملكوت الأرضي سالمين.
فقالت جوكوندا متهللة: وحينئذٍ تنقطع وسوستكم، وينتفي الشر عن الأرض بتاتًا.
– وأظن أنه يسمح لنا حينئذٍ أن ننتقل مع البشر الصالحين.
– وهل عندك شك بذلك؟ ويكون فرح عظيم في السماء؛ لأن جميع الأرواح التي خلقها الله تابت إليه، واشتركت جميعًا بتسبيحه، لله منه يومًا حين يدوي فيه «خوروس» (جوقة موسيقية) الأبرار بترنيمة انتصار الفضيلة على الرذيلة، ومحو القداسة لدرن كل دنس.
– لا ريب أنه سيكون يومًا سعيدًا لا نهاية له، بمجرد تصوره أشعر بغبطة فائقة ما شعرت بمثلها قط!
– فكيف بك حين تتمتعين بالسعادة الحقيقية إذن؟
– وا شوقاه! متى يكون ذلك؟
– حين نخرج من جهنم بموكب عظيم مرنمين مسبحين ممجدين الله.
فقالت فينوموس وهي تتلوى دلالًا: ولكن لا تنسي يا ذات الجلالة.
– ماذا؟
– الصف الأول من ذلك الموكب العظيم.
– كيف يكون؟
– صف الرجماء.
– طبعًا.
– وهل تعلمين أني ملكة جهنم؟
– لم أجهل هذا.
– إذن.
– ماذا؟
– أين أكون في الموكب؟
– طبعًا قدام الصف الأول، هذا مفهوم.
– وأنت؟
– أنا؟
– نعم، أين تكونين جلالتك في الموكب.
– هذا ما لم أفكر به قَطُّ.
– أظن هذه نقطة جوهرية في الرسميات يا ذات الجلالة، يجب أن نقررها منذ الآن؛ لئلا يقع خلاف حينئذٍ، فيضطرب الموكب، وتزدحم البوابة، فيقفلها الملائكة في وجوهنا.
– لا بأس أن أكون وراء الموكب.
فقالت فينوموس بدلال وغنج: هذا لا يليق بملكة الجمال.
– رأيك إذن؟
– رأيي أن تكوني في مقدمة صف قومك الأرضيين الذين كانوا من نصيب جهنم.
– فكرة حسنة.
– بقيت نقطة أخرى جوهرية.
– أراك تفتقين قطبة بعد قطبة.
– الشرط نور يا عزيزتي، وإلا أفسد الخلاف المشروع.
– «طيب» ماذا؟
– أي صف يكون في المقدمة؟ أصف الرجماء ووراءه الأبالسة، ثم صفكم أنتم الأرضيين، أم العكس؟
– هذه مسألة بسيطة، إذا كنتِ تفضلين أن تكونوا أنتم في الصف الأول فلا أعارض، ولكن أيحسن أن يواجه الشياطين الله أولًا؟
– ماذا يمنع؟ إنَّ الله في رأيكم صديق الخطاة، وهو يقبل التائبين بترحاب، وإلا فهو حقود.
– بل هو رحيم يسر بتوبة العصاة، فتقدموا أنتم في الصف الأول.
– اتفقنا، تفضلي بثي دعوتك بين الرجماء وعليَّ بالرئيس بعلزبول.