الأبقار الكروية
يسكن العنكبوت الغازل المداري «سايكلوسا أوكتوتيوبركيولاتا» العديد من المواقع داخل اليابان وحولها. هذا العنكبوت — الذي لا يتجاوز حجمُه حجم ظُفر الإصبع، وتغطيه بقعٌ صغيرة للتخفِّي بألوانٍ ثلاثةٍ هي الأسود والأبيض والبني — يُعد من المفترسات الماكرة. يتمركز العنكبوت الغازل المداري في الشبكة التي غزلها بعناية، وينتظر إلى أن يشعر بالاهتزازات التي تحدثها الفريسة في خيوط الشبكة محاوِلةً الفرار. وبمجرد أن يستشعر العنكبوت هذه الحركة، يندفع في اتجاه الإشارة، مستعدًّا لالتهام فريسته.
في بعض الأحيان، يشيع وجود الفريسة في أحد المواقع على الشبكة أكثر من غيره. والمفترسات الماكرة هي التي تُتابع مرات التكرار هذه وتستغل ذلك. فبعض الطيور، على سبيل المثال، تتذكر الأماكن التي كان الغذاء فيها وفيرًا، وتعود إلى هذه الأماكن فيما بعد. ويفعل العنكبوت الغازل المداري شيئًا مشابهًا، لكن ليس متطابقًا. فبدلًا من تذكُّر الأماكن التي حالفه فيها الحظ — أي بدلًا من أن يخزِّن هذه الأماكن في عقله ويجعل ذلك يُوجِّه انتباهه في المستقبل — يغزل هذا العنكبوت حرفيًّا هذه المعلومات على شبكته. وعلى وجه التحديد، يستخدم أرجُله ليشدَّ الخيوط الحريرية المحددة التي عثر فيها مؤخرًا على الفريسة، جاعلًا هذه الخيوط مشدودةً أكثر من غيرها. تتسم الخيوط المشدودة أكثر بأنها أشد حساسيةً للاهتزازات، وهو ما يُسهِّل عملية اكتشاف الفريسة القادمة على هذه الخيوط.
بإدخال العنكبوت الغازل المداري هذه التغييرات على شبكته، يتخفف من بعض الأعباء المتعلقة بالإدراك ويلقي بها على البيئة. فهو يُطلق معرفته الحالية وذاكرته في صورة مادية مضغوطة، لكنها ذات معنًى، واضعًا بذلك علامة في العالم المادي ترشده في عمله المستقبلي. ويُعد النظام التفاعلي المؤلف من العنكبوت وشبكته أكثر ذكاءً مما يمكن أن يكون عليه العنكبوت بمفرده. ويُطلَق على الاستعانة بمصدرٍ خارجيٍّ من البيئة بهدف الإدراك مصطلح «الإدراك الممتد».
وتعدُّ الرياضيات من أشكال الإدراك الممتد.
عندما يُدوِّن عالم أو عالم رياضيات أو مهندس معادلةً ما، فإنه يوسع نطاق قدراته الذهنية. فهو يخفف من حمل معرفته بالعلاقات المعقدة من خلال تحويلها إلى رموز على الورق. بتدوين هذه الرموز، فإنه يترك أثرًا لتفكيره للآخرين أو لنفسه في المستقبل. يَفترض علماء الإدراك أن العناكب والحيوانات الدقيقة الأخرى تعتمد على الإدراك الممتد؛ لأن أدمغة هذه الكائنات محدودة جدًّا، بحيث لا يمكنها أداء جميع المهام العقلية المعقدة اللازمة كي تزدهر في بيئتها. ونحن لسنا بمنأًى عن ذلك. فبدون أدوات، مثل الرياضيات، كانت قدرتنا على التفكير والتصرُّف بفاعليةٍ في العالم ستُصبح محدودةً بشدَّة.
وتُحسِّن الرياضيات من قدراتنا في بعض الجوانب بالقدر الذي تحسن به اللغة المكتوبة من قدراتنا. إلا أن الرياضيات تتجاوز في تأثيرها لغة الحياة اليومية؛ نظرًا لأنها لغة يمكن تطبيقها عمليًّا. فميكانيكا الرياضيات — ويُقصد بها قواعد إعادة ترتيب الرموز والتعويض عنها وفكُّ الأقواس التي تحتوي عليها — ليست اعتباطية. بل هي طريقة منهجية لنقل عملية التفكير إلى الورق أو الآلات. أعيدت صياغة ما قاله عالم الرياضيات الجليل ألفريد وايتهيد — الذي عاش في القرن العشرين، والذي سنتناول أعماله في الفصل الثالث — على النحو التالي: «يتمثل الهدف الأسمى للرياضيات في التخلص من الحاجة إلى التفكير البشري.»
وبناءً على هذه السمة المفيدة التي تتسم بها الرياضيات، أرست بعض المجالات العلمية — على رأسها الفيزياء — تقاليد تتمحور حول التفكير الكمِّي الدقيق. استفاد العلماء في هذه المجالات من قوة الرياضيات لقرون. فقد كانوا على دراية بأن الرياضيات هي اللغة الوحيدة التي تتسم بالدقة والكفاءة الكافيتَين لوصف العالم الطبيعي. وكانوا على علمٍ بأن الترميز المتخصص للمعادلات يضغط المعلومات ويختصرها، جاعلًا المعادلة أشبه بصورة تَعدِل ألف كلمة. وكانوا على علم أيضًا بأن الرياضيات تحافظ على نزاهة العلماء. فعند التواصل باستخدام الصيغ الرياضية، يُكشف مدى صحة الافتراضات ولا يكون هناك مكان للغموض. وبهذه الطريقة، تفرض المعادلات التفكير الواضح المترابط. في هذا الصدد، كتب برتراند راسل (زميل وايتهيد الذي سنأتي على ذكره في الفصل الثالث): «كل الأشياء تكون مبهمة بدرجةٍ لا ندركها إلى أن نحاول أن نُوَصِّفها بطريقة محددة.»
الدرس الأخير الذي تعلمه العلماء الذين يتبعون التفكير الكمِّي هو أن جمال الرياضيات يكمن في قدرتها على الجمع بين ما هو محدَّد وما هو عامٌّ. على سبيل المثال، يمكن للمعادلة أن تُحدِّد بالضبط كيفية تأرجُح البندول في الساعة البارومترية عند مدخل الوزراء في قصر باكنجهام، ويمكن للمعادلة نفسها وصف الدوائر الكهربية المسئولة عن بث محطات الإذاعة حول العالم. عند وجود تشابهٍ بين آليتَين أساسيتَين، فإن المعادلات تُشكِّل تجسيدًا لهذا التشابه. وكما أن ثمة خيطًا غير مرئي يربط الموضوعات المتباينة معًا، فإن الرياضيات هي الوسيلة التي يمكن من خلالها أن يكون للتطوُّرات في أحد المجالات تأثيراتٌ مدهشةٌ ومتباينةٌ على مجالاتٍ أخرى بعيدة.
استوعب علم الأحياء — بما في ذلك دراسة الدماغ — الرياضيات ببطءٍ أكبر مقارنةً بالمجالات الأخرى. فعلى مدار التاريخ، رَمَق بعضُ علماء الأحياء الرياضياتِ — لأسبابٍ وجيهة وأخرى غير منطقية — بعين الشك. فقد كانوا يَرَوْن أن الرياضياتِ أكثر تعقيدًا من اللازم، وفي الوقت نفسه أبسط من اللازم بحيث لا تَتسنَّى الاستفادة منها كثيرًا.
رأى بعض علماء الأحياء الرياضيات بالغةَ التعقيد؛ لأنهم، نظرًا لكونهم مُدرَّبين على الممارسات العملية المتمثِّلة في إجراء التجارب في المختبر وليس على التفاصيل المجردة التي تتضمَّنها المفاهيم الرياضية، يَرَون المعادلات الطويلة مجرد حبرٍ على ورق. فمن دون رؤية المغزى من الرموز يمكنهم الاستغناء عنها. كتب عالم الأحياء يوري لازيبنيك عام ٢٠٠٢ التماسًا للاستعانة بالمزيد من الرياضيات في مجاله على النحو الآتي: «في علم الأحياء، نستخدم العديد من الحُجج لإقناع أنفسنا بأن المسائل التي تتطلَّب التفاضُل والتكامُل يمكن حلها باستخدام الحساب، إذا حاول المرء جاهدًا وأجرى مجموعة أخرى من التجارب.»
وفي الوقت نفسه، تُعتبر الرياضيات أبسط بكثير من أن تستوعب الثراء الساحق الذي تتسم به الظواهر الحيوية. وقد أبرزت إحدى النكات القديمة المتبادلة بين علماء الفيزياء المستوى السخيف من التبسيط الذي تتطلَّبه بعض النُّهُج الرياضية في بعض الأحيان. تبدأ النكتة بأحد المزارعين في مزرعة ألبان يواجه صعوبات في إنتاج الألبان. وبعد أن جرَّب كل شيء خطر بباله، كي يجعل أبقاره الحبيبة تدرُّ مزيدًا من اللبن، قرر أن يطلب المساعدة من عالم فيزياء يعمل في الجامعة المحلية. استمع عالم الفيزياء إلى المشكلة بعناية وعاد إلى مكتبه كي يفكر. بعد بعض التفكير، عاد إلى المزارع وقال: «وجدت حلًّا. أولًا: علينا أن نفترض وجود أبقار كُرَوية في الفراغ …»
المقصد من هذه النكتة هو أن تبسيط المشكلة لأبسط صيغة هو ما يسهل تحليلها رياضيًّا، لكن هذا التبسيط يؤدي إلى فقدان بعض التفاصيل البَيولوجية حتميًّا، عند تحويل المشكلة من أرض الواقع إلى معادلة. نتيجةً لذلك، يتعرَّض الذين يتبعون النُّهُج الرياضية للاستخفاف بهم من آنٍ لآخر؛ نظرًا لكونهم لا يُعيرون مثل هذه التفاصيل اهتمامًا. في كتابه «نصيحة لباحث شاب» الصادر عام ١٨٩٧، كتب سانتياجو رامون إي كاخال (الأب الروحي لعلم الأعصاب الحديث الذي سنتناول إسهاماته في الفصل التاسع) عن العلماء النظريين الذين يتجنَّبون الحقيقة، في فصل بعنوان: «عِلل الإرادة». وقد عرَّف أعراض هذه العِلَل على النحو الآتي: «سهولة الشرح التفصيلي، والخيال الإبداعي المضطرب، والنفور من المختبر، والكراهية الشديدة للعلم المحسوس، والبيانات التي يتضح ظاهريًّا أنها غير مهمة.» وقد تحسَّر كاخال أيضًا على تفضيل العلماء النظريين للجمال على حساب الحقائق. يدرس علماء الأحياء الكائنات الحية التي تتوفر فيها سمات محددة، واستثناءات دقيقة لأي قاعدة. أما علماء الرياضيات، الذين تحكمهم البساطة والتنظيم وتسهيل الأشياء كي تسهل إدارتها، فيقضون على هذه الوفرة عند تمثيل هذه المواقف الحياتية في صورة معادلات.
يمثل التبسيط المفرط والوَلَع بالجماليات العراقيل التي ينبغي تجنبها عند تطبيق الرياضيات على العالم الواقعي. وفي الوقت نفسه، ثراء علم الأحياء وتعقيده هما ما يجعلانه في حاجة إلى الرياضيات.
لنتأمل مسألةً بيولوجية بسيطة. ثمة نوعان من الحيوانات في الغابة، وهما الأرانب والثعالب. تتغذى الثعالب على الأرانب، وتتغذى الأرانب على الحشائش. إذا احتوت الغابة منذ البداية على عدد محدد من الثعالب وعدد محدد من الأرانب، فماذا سيحدث لهاتَين الجماعتَين؟
ربما تلتهم الثعالبُ الأرانب بشراسة، متسبِّبة في انقراضها. لكن الثعالب ستموت جوعًا وستهلك تلقائيًّا بعدما ينضب مصدر غذائها. هذا يخلِّف لنا غابة فارغة. في المقابل، قد لا تكون جماعة الثعالب نهِمةً بدرجةٍ كبيرة. ربما تُخفِّض أعداد الأرانب إلى عددٍ يقترب من الصفر، لكنه ليس صفرًا. سيقلُّ عدد الثعالب بينما يكافح كلُّ واحدٍ منها للعثور على الأرانب المتبقِّية. بعد ذلك، مع تساقط معظم أعداد الثعالب، يمكن للأرانب العودة مرةً أخرى والتجمُّع. بالطبع يصبح غذاء الثعالب وفيرًا مرةً أخرى، وإذا تبقَّى عددٌ كافٍ، يمكن أن تزداد أعدادها مرة أخرى أيضًا.
فيما يتعلق بمعرفة انعكاسات هذا الأمر على الغابة، ثمة قيدٌ واضح يُقلص اعتمادنا على الحدس. فمحاولة التأمل في هذا السيناريو، بهذه البساطة، باستخدام الكلمات والقصص وحدها؛ تُعد أمرًا غير كافٍ. لتحقيق تقدُّم، علينا تعريف الحدود أو الأطراف بدقةٍ وصوغ العلاقة بينها بالضبط، وهذا يعني أننا نؤدي عملياتٍ حِسابية.
في الواقع، النموذج الحسابي الذي يمثل العلاقة بين المفترس والفريسة، الذي يمكنه مساعدتنا في هذه الحالة يُطلق عليه نموذج «لوتكا-فولتيرا»، وقد طُوِّر في عشرينيات القرن العشرين. يتكون نموذج «لوتكا-فولتيرا» من معادلتَين: إحداهما تصف معدل زيادة أعداد الفرائس بدلالة أعداد الفرائس والمفترِسات، والأخرى تصف معدل زيادة أعداد المفترِسات بدلالة أعداد المفترِسات والفرائس. باستخدام نظرية النظم الديناميكية، وهي مجموعة من الأدوات الرياضية التي وُضِعت لوصف العلاقات المتبادلة بين الأجرام السماوية، يمكن لكلٍّ من هاتَين المعادلتَين أن يخبرنا عما إذا كانت الثعالب ستنقرض، أم الأرانب هي التي ستنقرض، أم سيستمرُّ تزايد إحدى المجموعتَين وتناقص الأخرى إلى الأبد. بهذه الطريقة، يساعدنا علم الرياضيات على فَهْم علم الأحياء على نحوٍ أفضل. ومن دونه، سنصبح مقيَّدين بمواهبنا المعرفية الفِطرية. في هذا الصدد، كتب لازيبنيك ما يأتي: «فَهْم نظام [معقد] دون أدوات تحليلية شكلية يتطلب عباقرة، وهم نُدرة، حتى خارج مجال علم الأحياء.»
النظرُ إلى بعض موضوعات علم الأحياء ومعرفةُ كيفية اختصارها في صورة متغيراتٍ ومعادلات يتطلَّبان إبداعًا وخبرة وحُسن تمييز. يتعيَّن على العالِم أن ينظر عن كثَب إلى تفاصيل العالَم الواقعي المبعثرة هُنا وهُناك، ويُحدد الهيكل الأساسي الذي تُبنى عليه هذه التفاصيل. ولا بد أن يكون كل مكوِّن من مكونات النموذج مُعرَّفًا تعريفًا صحيحًا ودقيقًا. وبمجرد أن يوجد الهيكل الأساسي وتُكتب المعادلة، تصبح ثمار هذا النظام واضحة جَلِية. النماذج الرياضية تُعد طريقة لوصف نظريةٍ تتناول آلية عمل نظام بيولوجي بدقة تكفي لتوصيل هذه الآلية للآخرين. فإذا كانت هذه النظرية صالحة، يمكن استخدامُ النموذج أيضًا للتنبُّؤ بنتائج التجارب المستقبلية ولتجميع النتائج السابقة. وبحلِّ هذه المعادلات على الكمبيوتر، تقدِّم لنا هذه النماذج «مختبرًا افتراضيًّا»، أي طريقة تُمكِّننا من التعويض بقيم مختلفة، لنرى كيف يؤدي ذلك إلى الحصول على سيناريوهاتٍ مختلفة، حتى إنها تمكننا من إجراء المعادلات التي لا تزال تتعذَّر في العالم الواقعي. بالتعامل مع هذه السيناريوهات والافتراضات ومعالجتها رقميًّا بهذه الطريقة، تساعد النماذجُ العلماء على تحديد عناصر النظام التي تؤدي الغرض منها، والأهم من ذلك، تلك التي لا تؤدي الغرض منها.
تفرض المعادلات على النموذج الدقة والاكتمال والاتساق الذاتي، كما تُتيح فهم تضميناته الكاملة. ليس من الصعب إيجاد نماذج كلامية تبدو منطقية في خاتمة الأوراق البحثية الأقدم التي تتناول موضوعاتٍ في علم الأعصاب، إلا أننا عند التعبير عنها في صورة نماذج رياضية، يتضح أنها متناقضة ولا يمكن التعامل معها. الصياغة الرياضية لنموذج ما تُحتم عليه أن يكون مُتَّسقًا مع ذاته، وعلى الرغم من أن الاتساق الذاتي لا يُعد حقيقة بالضرورة، فإن التضارب الذاتي يُعد خطأ.
يُعد الدماغُ — الذي يتكون (في حالة البشر) من نحو ١٠٠ مليار خلية عصبية، وتعدُّ كلُّ خلية عصبية مَصنعًا مُفعمًا بالحيوية من المواد الكيميائية والكهرباء، وتتواصل جميع الخلايا العصبية بعدة طرقٍ مع الخلايا المجاورة لها، القريبة منها والبعيدة — المثالَ الأبرز على الأجسام البيولوجية المعقدة لدرجة أنه لا يمكن فهمها دون رياضيات. الدماغ هو مركز الإدراك والوعي. فهو مسئول عن آلية الشعور والتفكير والحركة وإدراك الذات. وهو المكان الذي يَجري فيه التخطيط للأحداث اليومية وتخزين الذكريات، وهو مصدر الشعور بالعواطف، والمكان الذي تُتَّخَذ فيه القرارات، وتُقرأ الكلمات. وهو مصدر الإلهام للذكاء الاصطناعي، ومصدر الاعتلال النفسي. فَهْمُنا لكيفية إنجاز مجموعة من الخلايا الفردية كلَّ هذه الأمور، لتصبح بذلك حلقة الوصل بين الجسم والعالم الخارجي، يتطلبُ نماذج رياضية على عِدة مستويات.
في الوقت نفسه، لا يمكننا أن نتجاهل تمامًا تخوُّفات علماء الأحياء من النماذج الرياضية. يقول عالم الإحصاء جورج بوكس في بداية عبارته الشهيرة: «كل النماذج مغلوطة.» بالفعل كل النماذج «مغلوطة»؛ لأن كل النماذج تتجاهل بعض التفاصيل. كل النماذج مغلوطة أيضًا؛ لأنها لا تُمثِّل إلا وجهة نظر مُتحيِّزة للعمليات التي تزعم أنها تتناولها. كل النماذج مغلوطة؛ لأنها تفضل البساطة على الدقة المطلقة. جميع النماذج مغلوطة على النحو الذي تكون به القصائد مغلوطة؛ فهي تركز على الجوهر حتى وإن لم يكُنِ الحقيقةَ التامة. يقول بوكس: «كل النماذج مغلوطة، لكن بعضها مفيد.» لو كان المزارع ذكَّر عالم الفيزياء بأن الأبقار ليست كُرَوية الشكل في حقيقة الأمر، لأجابه عالم الفيزياء قائلًا: «ومن يهتم؟» أو لمزيد من الدقة: «هل علينا أن نعبأ بهذا؟» فالتفصيل، لا لشيءٍ إلا للتفصيل فحسب، ليس فضيلةً في حد ذاته. الأمر أشبه بخريطة المدن، إذا كانت في حجم المدن تمامًا وتعرض ما في المدن بالتفصيل، فلن تفيدنا عمليًّا. تكمن المهارة عند تكوين النماذج الرياضية في تحديد التفاصيل المهمة، وتجاهل التفاصيل التي ليست لها أهمية.
الفصول مرتبة من المستويات الأدنى للمستويات الأعلى؛ بدءًا من فيزياء الخلايا الفردية، ووصولًا إلى رياضيات السلوك. تتضمن الحكايات في هذه الفصول العقبات التي كانت تقف في طريق الجمع بين علم الرياضيات وعلم الأحياء، والعلماء الذين واجهوا تلك العقبات. أوضح هؤلاء العلماء أن النماذج تستفيد من التجارب العملية في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى تستفيد التجارب العملية من النماذج. كما أوضحوا أن النموذج قد يتراوح من بضعة معادلات مكتوبة في صفحة واحدة إلى كُود من عدد لا نهائي من السطور، يتم تشغيله على أجهزة كمبيوتر فائقة. ومن ثم، فإن الكتاب أشبه بسجادة جدارية مُطرَّز عليها الأشكال المختلفة التي تتخذها النماذج الرياضية الخاصة بالدماغ. وعلى الرغم من أن الموضوعات والنماذج التي يتناولها الكتاب متنوعة، فثمة أفكار مشتركة تتكرر عبر الصفحات.
بالطبع، قد يكون كل شيء في هذا الكتاب مغلوطًا. قد يكون مغلوطًا لأنه يتناول موضوعات علمية، وفهمنا للعالَم في تطور مستمر. وقد يكون مغلوطًا لأنه يتناول أحداثًا تاريخية، وثمة طرق متعددة تُروَى بها الحكاية الواحدة. والأهم من ذلك، قد يكون مغلوطًا لأنه يتناول الرياضيات. أنماط العقل الرياضية لا تُسهم في تكوين نسخة طبق الأصل تمامًا من الدماغ، ونحن لا نُكرِّسها لذلك من الأساس. ومع هذا فإنه في حالة دراسة أكثر الأجسام تعقيدًا في العالم المعروف بأسره لا تكون النماذج الرياضية مفيدة فحَسْب؛ بل تصبح ضرورة. فلا يمكن فَهْم الدماغ من خلال الكلمات وحدها.