تعلُّم الحَوْسَبة
لكن ربما كانت العقبة المالية هي الأصغر بين العقبات التي اعترضت سبيل إنجاز هذا العمل. فقد تعين على راسل خوض معارك ذهنية أثناء جمع المادة العلمية. ووفقًا لسيرته الذاتية، كان يقضي نهاره يحدق في ورقة بيضاء وليله يفكر في القفز أمام قطار. وقد تزامن تأليف راسل للكتاب مع فسخ عقد زواجه وتوتُّر علاقته بوايتهيد، الذي كان، وفقًا لراسل، يخوض معاركه الذهنية والأسرية آنذاك. تطلَّب الكتاب جهدًا بدنيًّا أيضًا. كان راسل يقضي ١٢ ساعة يوميًّا على مكتبه يدوِّن العلاقات المعقَّدة بين الرموز التي يحتاج إليها؛ لتوصيل أفكاره الرياضية المعقدة، وعندما حان الوقت لتقديم النسخة المكتوبة باليد للناشر، كانت أكبر من أن يتمكن من حملها. على الرغم من كل هذا، تمكن راسل ووايتهيد أخيرًا من إكمال ونشر الكتاب الذي كانا يأملان في أنه سيحدُّ من جموح الرياضيات.
في المجلد الأول من الكتاب المذكور، قدَّم راسل ووايتهيد أقل من دَستَتَين من هذه التعبيرات المجردة. ومن هذه البذور المتواضعة، انبثقت مبادئ الرياضيات على أيديهما. حتى إنهما — بعد عشرات الصفحات المملوءة بالرموز — تمكنا بنجاح من استنتاج أن ١ + ١ = ٢.
•••
عندما كان والتر بيتس، الذي يعود منشؤه لمدينة ديترويت، في الثانية عشرة من عمره دعاه راسل للانضمام إليه، ومواصلة دراسته كأحد طلاب الدراسات العليا في جامعة كامبريدج. حسبما تقول القصة، عثر الفتى الصغير على نسخةٍ من كتاب «مبادئ الرياضيات» بعد أن ركض إلى داخل مكتبةٍ للاحتماء من بعض المُتنَمِّرين. بعد قراءته للكتاب، وجد بيتس ما اعتبر أنها أخطاء في العمل. لذا، أرسل ملاحظاتِه حول الموضوع إلى راسل، الذي لم يكن يعرف عمره على الأرجح؛ ومن ثَم عرض عليه المنصب. لم يقبل بيتس بالعرض. لكن بعد مرور سنواتٍ قصيرة، عندما كان راسل يزور جامعة شيكاغو، ذهب بيتس لحضور محاضراته. بعد هرب بيتس من منزل عائلته الذي تعرض فيه للإيذاء إلى شيكاغو، قرَّر ألَّا يعود. ظل في المدينة مشردًا بلا مأوًى.
لحسن الحظ، كانت جامعة شيكاغو تضم عالم منطق آخر ذا شهرة عالمية لكي ينتقده بيتس، وهو رودولف كارناب. وكتب بيتس ملاحظاتٍ مجددًا، لكنه هذه المرة حدد المشكلات الموجودة في كتاب كارناب الحديث «بِنْية اللغة المنطقية»، وأوصلها إلى مكتب كارناب في جامعة شيكاغو. لم يبقَ بيتس في مكانه فترة كافية كي يعلم بردة فعله، لكن كارناب الذي انبهر بالملاحظات، اقتفى أثر بيتس الذي أطلق عليه اسم «موزع الجرائد الذي يفهم المنطق». في هذه المناسبة، عرض الفيلسوف الذي انتقده بيتس أن يعمل بيتس معه. ومع أن بيتس لم يلتحق رسميًّا بالجامعة عُومل وكأنه طالب دراساتٍ عليا لدى كارناب، وكوَّن علاقة ودية مع مجموعة من الباحثين المهتمين بعلم الأحياء الرياضي.
اتخذ اهتمام وارن ماكولك بالفلسفة شكلًا تقليديًّا أكثر. فقد درس ماكولك، الذي ولِد في نيوجيرسي، الفلسفة (جنبًا إلى جنب مع علم النفس) في جامعة ييل، وقرأ العديد من الأعمال العظيمة. كان مفتونًا جدًّا بإيمانويل كانط وجوتفريد لايبنتس (اللذَين كانت أفكارهما مؤثرة جدًّا بالنسبة إلى راسل)، كما قرأ كتاب «مبادئ الرياضيات» في الخامسة والعشرين من عمره. على الرغم من اللحية التي تحدد وجهه الطويل، لم يكن ماكولك فيلسوفًا؛ بل كان اختصاصيًّا في علم وظائف الأعضاء. ارتاد مدرسة الطب في مانهاتن، ثم واصل ملاحظة مجموعة الطرق التي يمكن أن يَتلَف بها الدماغ، خلال تدريبٍ تلقَّاه في مجال علم الأعصاب في مستشفى بيليفو، وفي مستشفى روكلاند للطب النفسي التابع للدولة. في عام ١٩٤١، انضم لجامعة إلينوي في شيكاغو مديرًا لمختبر البحوث الأساسية في قسم الطب النفسي.
وكما يحدث في جميع القصص الأصلية العظيمة، هناك رواياتٌ متضاربةٌ حول كيفية التقاء ماكولك وبيتس. تزعُم إحدى الروايات حدوث ذلك، عندما تحدث ماكولك أمام مجموعةٍ بحثيةٍ كان بيتس من بين أعضائها. وتنصُّ روايةٌ أخرى على أن كارناب عرَّف كلًّا منهما إلى الآخر. وأخيرًا، زعم أحد المعاصرين للرَّجلَين، وهو جيروم ليتفين، أنه عرَّف كلًّا منهما إلى الآخر واجتمع ثلاثتهم على حب لايبنتز. على أي حال، بحلول عام ١٩٤٢، استضاف ماكولك، البالغ من العمر آنذاك ٤٣ عامًا، وزوجتُه بيتسَ البالغ من العمر آنذاك ١٨ عامًا في منزلهما، وكان الرجلان يقضيان أمسياتهما في شرب الويسكي ومناقشة المنطق.
كان الجدار الذي يفصل «العقل» عن «الجسم» منيعًا بين العلماء في بدايات القرن العشرين. فكان يُنظَر إلى العقل باعتباره شيئًا داخليًّا وغير محسوس، في حين كان الجسم، بما في ذلك الدماغ، شيئًا محسوسًا. على جانبَي هذا الجدار، كان الباحثون يعملون بجدٍّ، لكن بشكلٍ منفصل، على مشكلاتهم البحثية. فعلماء الأحياء، كما رأينا في الفصل الأخير، كانوا يبذلون قُصارى جهدهم للكشف عن الآلية الفيزيائية لعمل الخلايا العصبية، وذلك باستخدام الماصَّات والأقطاب الكهربية والمواد الكيميائية؛ لتفسير الأسباب التي تؤدي لإطلاق جهد الفعل وكيفية إطلاقه. على الجانب الآخر، يحاول الأطباء النفسيون الكشف عن آلية عمل العقل، خلال جلساتٍ مطولةٍ من التحليل النفسي الفرويدي. حاول القليل من الباحثين من كِلا الطرفَين النظر إلى الجانب الآخر من الجدار. كان الطرفان يتحدثان بلُغتَين مختلفتَين، وكانا يعملان من أجل تحقيق أهدافٍ مختلفة. بالنسبة إلى معظم الممارسين، السؤال عن كيفية تكوين بنية العقل عن طريق اللبنات الأساسية العصبية لم يكن من دون إجابةٍ فحسب؛ بل إنه لم يُطرح من الأساس.
لكن ماكولك منذ وقت مبكر من وجوده في مدرسة الطب انغمس وسط حشدٍ من العلماء، الذين اهتموا بهذا السؤال ومنحوه حيزًا للتفكير فيه. في النهاية، من خلال ملاحظاته الفسيولوجية، جاء بفكرة. فقد رأى إمكانية رَبْط المفاهيم الناشئة في علم الأعصاب بمفاهيم المنطق والحوسبة التي راقَت له كثيرًا في الفلسفة. فالتفكير في الدماغ باعتباره جهازًا حاسوبيًّا يخضع لقوانين المنطق، وليس مجرد حقيبةٍ من البروتينات والمواد الكيميائية، سيفتح الباب أمام فَهْم التفكير فيما يتعلَّق بالنشاط العصبي.
ومع ذلك، لم تكن المهارة التحليلية هي الجانب الذي برع فيه ماكولك. فقد ذكر بعض معارفه أنه كان أكثر شاعرية من أن تُحجِّمه هذه التفاصيل. لذا، رغم أنه قضى سنواتٍ في العبث بهذه الأفكار في عقله أو بالحديث مع غيره (حتى أثناء تدريبه في بيليفو، اتُّهِم «بمحاولة كتابة معادلة لآلية عمل الدماغ»)، واجه ماكولك العديد من المشكلات الفنية الخاصة بكيفية تطبيق هذه الأفكار. في المقابل، كان بيتس غير منزعج من الجانب التحليلي. لذا، بمجرد أن تحدث معه عن هذا، علم بيتس بالمناهج المطلوبة لصياغة أفكار ماكولك. ولم تمضِ فترة قصيرة على لقائهما، حتى كُتبت واحدة من أكثر الأوراق البحثية حول الحوسبة تأثيرًا.
تبدأ الورقة بمراجعة الخواص البيولوجية للخلايا العصبية التي كانت معروفة آنذاك، وهي: أن الخلية العصبية تتكون من جسم الخلية والمحور العصبي، وأن الخلية العصبية تتصل بأخرى عندما يلتقي المحور العصبي للأولى بجسم الثانية، وخلال هذا الاتصال أو الارتباط تُمِدُّ إحدى الخلايا الخلية الأخرى بمدخَلات، ويتطلب إطلاق الخلية العصبية لإشارات عصبية كهربية قدرًا معينًا من المدخلات، والخلية إما أن تُطلق إشارات عصبية كهربية أو لا تطلق على الإطلاق، ولا يوجد احتمالٌ بين هذا وذاك، كما أن المدخلات الواردة من بعض الخلايا العصبية، أي الخلايا العصبية المثبِّطة، لها القدرة على منع الخلية من إطلاق جهد فعل.
بعد ذلك، واصل ماكولك وبيتس شرح كيف أن هذه التفاصيل البيولوجية تتماشى مع المنطق البولياني. الأساس الذي بُني عليه ادعاؤهما هو أن حالة نشاط الخلية العصبية، سواء تُطلِق إشاراتٍ عصبية كهربية أو لا تُطلق، مماثلة لقيمة الحقيقة لقضية منطقية، أي كونها صحيحة أو خاطئة. على حسب وصفهما، اعتبرا «استجابة الخلية العصبية مكافئة في الواقع لقضية منطقية تطرح المثير المناسب».
بكلمة «المثير المناسب» كانا يُشيران إلى شيءٍ عن العالم. تخيَّل خليةً عصبيةً في القشرة البصرية للدماغ يُمثِّل نشاطها العبارة التالية: «المثير البصري الحالي يشبه البطة». إذا أطلقت هذه الخلية العصبية إشاراتٍ عصبيةً كهربيةً تكون هذه العبارة صحيحة، وإذا لم تطلق الخلية العصبية إشاراتٍ عصبيةً كهربيةً تكون العبارة خاطئة. تخيَّل الآن خليةً عصبية أخرى في القشرة السمعية للدماغ، تُمثِّل العبارة: «المثير السمعي الحالي يُبَطْبط مثل البطة». مرة أخرى، إذا أطلقت الخلية العصبية إشاراتٍ عصبية كهربية تكون العبارة صحيحة، وخلاف ذلك تكون العبارة خاطئة.
الآن، يمكننا استخدام هذه الوصلات بين الخلايا العصبية لتطبيق العمليات البوليانية. على سبيل المثال، بإعطاء خليةٍ عصبية ثالثة مدخلات من كلتا هاتَين الخليَّتَين العصبيتَين، يمكننا تطبيق قاعدة «إذا كان المثير يشبه البطة ويُبَطْبط مثل البطة، إذن فهو بطة». كل ما علينا فعله هو تصميم الخلية العصبية الثالثة، بطريقةٍ تجعلها لا تُطلق إشاراتٍ إلا إذا أطلقت الخليتان العصبيتان المُدخِلتان الإشاراتِ العصبية. وبهذه الطريقة، لا بد أن تكون عبارتا «يشبه البطة» و«يُبَطْبط مثل البطة» كلتاهما صحيحتَين؛ كي تكون النتيجة التي تمثلها الخلية العصبية الثالثة («إنها بطة») صحيحة.
هذه الدوائر العصبية، التي يُفترض بها تمثيل ما يمكن للشبكات العصبية الحقيقية فعله، أصبحت تُعرف باسم الشبكات العصبية الاصطناعية.
كانت القدرة على رَصْد المنطق في تفاعلات الخلايا العصبية معًا نابعةً من عين ماكولك البصيرة. ونظرًا إلى أنه اختصاصيٌّ في علم وظائف الأعضاء، كان يعلم أن الخلايا العصبية أكثر تعقيدًا من رسومه البسيطة والمعادلات التي اقترحها. فهي تحتوي على أغشية وقنوات أيونية ومسارات متشعبة للزوائد الشجيرية. لكن النظرية لم تتطلب هذا التعقيد بالكامل. ومن ثم، فإنه، كأي رسام انطباعي يكتفي برسم الخطوط والأشكال الضرورية فقط، لم يُبرِز سوى عناصر النشاط العصبي الضرورية في القصة التي يريد أن يقُصها. ومن خلال ذلك، يكون قد أظهر البراعة الفنية التي تُعد جزءًا لا يتجزأ من بناء النموذج؛ فتقرير الحقائق التي يتعين علينا إبرازها يُعد عملية ذاتية خلاقة.
القصة الجذرية التي حكاها ماكولك وبيتس باستخدام نموذجهما، أن الخلايا العصبية تُجري حسابات منطقية، كانت أول محاولة لاستخدام مبادئ الحوسبة، لتحويل مُعضِلة العقل والجسد إلى اتصال العقل بالجسد. أصبحت شبكات الخلايا العصبية الآن متأثرةً بقوانين نظامٍ منطقيٍّ شكلي. ومثل سقوط سلسلة متعاقبة من قِطع الدومينو، بمجرد إدخال قيم الحقيقة إلى مجموعةٍ من الخلايا العصبية (لِنقُل عن طريق أعضاء حسية)؛ تمكنت سلسلة من التفاعلات من استنتاج قيمة الحقيقة لعباراتٍ جديدةٍ ومختلفة. كان هذا يعني أنه يمكن لمجموعة من الخلايا العصبية تنفيذ عمليات حسابية لا نهائية؛ إذ يمكنها تفسير المدخلات الحسية، والوصول إلى استنتاجات، ووضع الخطط، والاستدلال من خلال الحجج، وإجراء العمليات الحسابية، وما إلى ذلك.
بهذه الخطوة في بحث ماكولك وبيتس، أحرزا تقدمًا في دراسة التفكير البشري، وفي الوقت نفسه أسقطاه من على عرشه. فقد «العقل» مكانته باعتباره لغزًا محيرًا وسماويًّا بمجرد أن هبط من عليائه إلى أرضٍ صلبة، أي بمجرد أن اختُزلت قدراتُه العظيمة في عملية إطلاق الخلايا للإشارات العصبية. بتطويع اقتباس ذَكَره ليتفين، يمكن وصف الدماغ بأنه «آلة، صحيح أنها من لحم ودم وإعجازية، لكنها في النهاية تظل آلة». وبجرأةٍ أكبر، أشار لاحقًا مايكل أربيب، تلميذ ماكولك، إلى أن هذا العمل «قتل ثُنائية العقل والجسد».
كان معروفًا عن راسل أسفُه على التأثير الطفيف لكتاب «مبادئ الرياضيات» على علماء الرياضيات الممارسين، رغم أنه استغرق فيه ٢٠ عامًا، ورغم تأثيره على علماء المنطق والفلاسفة. فقد كان واضحًا أن تناوله الجديد لقواعد الرياضيات لم يعنِ الكثير للذين يجرون العمليات الحسابية: أي إنه لم يُغيِّر شيئًا من عملهم اليومي. الشيء نفسه يمكن أن ينطبق على أثر اكتشاف ماكولك وبيتس على علماء الأعصاب في ذلك الوقت. فعلماء الأحياء واختصاصيو علم وظائف الأعضاء وعلماء التشريح — أي العلماء الذين يتولَّوْن مهمة التحليل الفيزيائي للخلايا العصبية للحصول على تفاصيل حول آلية عملها — لم يستفيدوا كثيرًا من النظرية. ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن ماهية التجارب التي تترتب على هذه النظرية لم تكن واضحةً. قد يكون ذلك نابعًا من اعتماد الورقة على الصيغ العلمية المتخصصة وافتقارها إلى أسلوب الكتابة الجذاب. في مراجعةٍ كُتبت حول التوصيل العصبي بعد ذلك بثلاث سنوات، أشار الكاتب إلى أن ورقة ماكولك وبيتس البحثية «ليسَت للقارئ العادي» وأوضح أنه كي يؤتي مثل هذا العمل ثماره لا بد «أن يتعرَّف اختصاصيُّو علم وظائف الأعضاء على التقنيات الرياضية، أو أن يفسِّر علماء الرياضيات، على الأقل، النتائج التي توصلوا إليها بلُغةٍ أقل صعوبة». ربما انهار الجدار الفاصل بين العقل والجسد، لكنَّ الجدار الفاصل بين علماء الأحياء وعلماء الرياضيات لا يزال شامخًا.
كانت هناك مجموعة منفصلة من الأشخاص — مجموعة لديها المعرفة التقنية المطلوبة — الذين اهتموا بالحسابات المنطقية للخلايا العصبية. خلال حقبة ما بعد الحرب، جمعت سلسلة من الاجتماعات التي استضافتها مؤسسة مايسي الخيرية كُلًّا من علماء الأحياء وخبراء التكنولوجيا، الذين تمنى الكثير منهم استخدام النتائج البيولوجية لبناء آلات محاكية للدماغ. كان ماكولك أحد المنظمين لهذه الاجتماعات، وقد تضمَّن الزملاء الحضور نوربرت وينر — الأب الروحي لعلم السيبرانية — وجون فون نيومان مخترع معمارية الحاسوب الحديث، الذي استوحى تصميمها مباشرة من نموذج ماكولك-بيتس المحاكي للخلايا العصبية. بعد مرور ٤٠ عامًا، أشار ليتفين إلى ما يأتي: «تجاهل العاملون في مجالَي طب الأعصاب وعلم الأحياء العصبي بالكامل كُلًّا من بنية نظرية ماكولك-بيتس ومضمونها وشكلها. في المقابل، كان الذين وجدوا في النظرية مصدر إلهام لهم هم أولئك المتحمسين لمشروع جديد، يُطلق عليه الآن الذكاء الاصطناعي.»
نُشر هذا الملخص، المأخوذ من مقالة بعنوان ««دماغ» إلكتروني يعلِّم نفسه»، في العدد الصادر بتاريخ ١٣ يوليو ١٩٥٨ من صحيفة «نيويورك تايمز»، في العمود المقابل لخطابٍ إلى المحرر بشأن النقاش الدائر حول ما إذا كان التدخين يسبب السرطان أم لا. لم يتوقف فرانك روزنبلات، المُشرف على المشروع والبالغ من العمر ٣٠ عامًا، عند حدود تدريبه في علم النفس التجريبي؛ بل تخطاها من أجل صنع كمبيوتر ينافس التكنولوجيا الأكثر تقدمًا آنذاك.
كان الكمبيوتر المشار إليه ضخمًا؛ إذ كان يفوق طولًا وعرضًا المهندسين الذين تولوا تشغيله. كان مغطًّى من الطرفَين بلوحات التحكُّم وآليات عرض النتائج. طلب روزنبلات تعيين ثلاثة «اختصاصيين» وفريق من الموظفين الفنيِّين ذوي الصلة لمدة ١٨ شهرًا لبنائه، وكانت التكلفة المقدَّرة نحو ١٠٠ ألف دولار أمريكي (نحو ٨٧٠ ألف دولار أمريكي في الوقت الحالي). كلمة «بيرسيبترون»، التي عرَّفها روزنبلات، عبارة عن مصطلح عام يُطلق على فئةٍ معينةٍ من الأجهزة يمكنها «التعرُّف على أوجه التشابه أو التطابق بين أنماط المعلومات البصرية أو الكهربية أو السمعية». ومن ثم، فإن جهاز «بيرسيبترون»، أي الكمبيوتر الذي صُنع عام ١٩٥٨، من الناحية التقنية، عبارةٌ عن فئةٍ فرعيةٍ تُعرف باسم «البيرسيبترون الضوئي»؛ لأنه يتخذ مدخلًا له مخرجات كاميرا مثبتة على حاملٍ ثُلاثي القوائم عند أحد طرفَي الجهاز.
كان «البيرسيبترون»، كما هي الحال في النماذج المقدمة في ورقة ماكولك-بيتس البحثية، عبارة عن شبكة عصبية اصطناعية. كان نسخة مبسطة لما تقوم به الخلايا العصبية الحقيقية وكيفيةِ اتصالها معًا. لكن بدلًا من أن يظل نسقًا رياضيًّا لا يتعدى كونه معادلات مكتوبة بحبر على ورق، كان من الممكن تنفيذ «البيرسيبترون» في العالم المادي. قدمت الكاميرا للشبكة ٤٠٠ مدخل التُقطت بواسطة مستشعرات ضوئية مُرتَّبة في صورة شبكة مساحتها ٢٠ × ٢٠. بعد ذلك، جرى توصيل مخرجات هذه المستشعرات بالأسلاك توصيلًا عشوائيًّا ﺑ ١٠٠٠ وحدة من «وحدات التجميع» — وهي دوائر كهربية صغيرة تُجمِّع مدخلاتها وتعطي النتيجة إما «تشغيل» أو «إيقاف»، تمامًا كما هي الحال في الخلية العصبية. تصبح مخرجات وحدات التجميع هذه مدخلات ﻟ «وحدات الاستجابة»، التي يمكن أن تكون هي نفسها في حالة «تشغيل» أو «إيقاف». كان عدد وحدات الاستجابة مكافئًا لعدد الفئات المتنافية التي يمكن أن تنتمي إليها الصورة. إذن، إذا أرادت القوات البحرية استخدام البيرسيبترون، على سبيل المثال، لتحديد ما إذا كانت هناك طائرة نفاثة في صورة أم لا، فعندئذٍ سيكون هناك وحدتا استجابة: إحداهما خاصة بوجود طائرة، والأخرى خاصة بعدم وجود طائرة. في نهاية الجهاز المقابل للكاميرا، كانت هناك مجموعةٌ من المصابيح الكهربائية للسماح للمهندس بمعرفة وَحْدة الاستجابة التي جرى تنشيطها، أي الفئة التي ينتمي إليها المدخَل.
تنفيذ خلية عصبية اصطناعية بهذه الطريقة كان أمرًا هائلًا ومرهقًا، ومليئًا بالمفاتيح ولوحات التوصيل وأنابيب الغاز. وربما كانت الشبكة نفسها المكونة من خلايا عصبية حقيقية أصغر من حبة ملح البحر. لكن إنجاز مثل هذه الشبكة في الواقع كان أمرًا مهمًّا. فهو يعني أنه يمكن اختبار صحة النظريات التي تتناول الآلية التي تُجري بها الخلايا العصبيةُ الحساباتِ في العالم الحقيقي على بيانات حقيقية. فبينما كان عمل ماكولك-بيتس يدور حول إثبات إحدى النقاط نظريًّا، وضع البيرسيبترون هذه النقطة قيد التنفيذ.
يُطلق على نوع التعلم الذي تنخرط فيه شبكات «بيرسيبترون» «التعلم بالإشراف». فمن خلال تقديم أزواج من المدخلات والمخرجات — لنقل مجموعة من الصور وما إذا كانت تحتوي على طائرة نفاثة أم لا — تتعلم شبكات «بيرسيبترون» كيفية اتخاذ قرار بمفردها. وهي تفعل هذا من خلال تغيير قوة الاتصالات — التي تُعرف أيضًا باسم «الأوزان» — بين وحدات التجميع والنواتج.
- (١)
إذا كانت وحدة النواتج في وضع «إيقاف» في الوقت الذي ينبغي أن تكون فيه في وضع «تشغيل»؛ تُزاد قوة الاتصال بين وحدات التجميع التي تكون في وضع «تشغيل» ووحدة النواتج هذه.
- (٢)
أما إذا كانت وحدة المخرجات في وضع «تشغيل» في الوقت الذي ينبغي فيه أن تكون في حالة «إيقاف»، فتُضعَف قوة الاتصال بين وحدات التجميع التي تكون في وَضْع «تشغيل» ووحدات المخرجات هذه.
باتباع هاتَين القاعدتَين، ستبدأ الشبكة بربط الصور بالفئة التي تنتمي إليها ربطًا صحيحًا. إذا تمكَّنت الشبكة من تعلم هذا جيدًا، فستتوقف عن ارتكاب الأخطاء وستتوقَّف الأوزان عن التغيُّر.
كان إجراء التعلم هذا، في العديد من النواحي، الجزء الأبرز في شبكات بيرسيبترون. فقد كان المفهومَ المفتاحي الذي يمكنه فتح جميع الأبواب. فبدلًا من الاضطرار إلى إخبار الكمبيوتر عن كيفية حل مسألة بالضبط، كل ما عليك فعله هو أن تعرض عليه أمثلة محلولة لهذه المسألة. كان لهذا القدرةُ على إحداث ثورة في إجراء العمليات الحسابية، ولم يخجل روزنبلات من التصريح بهذا. فقد أشار في تصريح لصحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن شبكات «بيرسيبترون» ستكون «قادرة على التعرُّف على الأشخاص واستدعاء أسمائهم» و«سماع نص منطوق بلغة وترجمته على الفور لكلام منطوق أو مكتوب بلغة أخرى». وقد أضاف أيضًا أنه «سيصير ممكنًا بناء أجهزة «بيرسيبترون» يمكنها إعادة إنتاج نفسها في خط التجميع، وتكون مدركة لوجودها». أقل ما يقال عن هذا التصريح أنه كان تصريحًا جريئًا، وهذه الجرأة العلنية لم تلقَ ترحيبًا من الجميع. إلا أن فحوى الادعاء — بأن الكمبيوتر الذي يمكنه التعلُّم من شأنه أن يسرع حل أي مشكلة تقريبًا — يبدو في محله.
أصبح جهاز «بيرسيبترون» وإجراء التعلم الخاص به موضوعَين شائعَين للدراسة في مجال الذكاء الاصطناعي المتنامي. عند الانتقال من دراسة جهاز مادي محدد (جهاز «بيرسيبترون») إلى مفهوم رياضي مجرد (خوارزمية بيرسيبترون)، جرى التخلص من طبقات المدخلات والتجميع المنفصلة. بدلًا من ذلك، اتصلت وحدات المدخلات التي تمثِّل البيانات الواردة بوحدات الخرج، ومن خلال التعلم، تغيرت قوة الاتصالات هذه لجعل الشبكة تؤدي مهمتها بكفاءة أكبر. الكيفية التي يمكن بها لشبكة «بيرسيبترون» في هذه الصورة المبسطة أن تتعلم وما يمكنها تعلُّمه؛ أُحيطَت بالدراسة من كل زاوية. فقد استكشف الباحثون آلية عملها رياضيًّا باستخدام الورقة والقلم، وفيزيائيًّا من خلال بناء أجهزة بيرسيبترون خاصة بهم، وإلكترونيًّا — عندما أصبحت أجهزة الكمبيوتر الرقمية متاحةً أخيرًا — من خلال محاكاتها.
بعثت شبكات «بيرسيبترون» الأمل في قدرة البشر على بناء آلات تتعلم مثلنا، وبهذه الطريقة جعلت إمكانية تحقيق الذكاء الاصطناعي قريبة المنال. وفي الوقت ذاته، قدمت طريقة جديدة لفهم الذكاء البشري. فقد أوضحت أن الشبكات العصبية الاصطناعية بمقدورها إجراء عمليات حسابية، دون الامتثال لقواعد المنطق الصارمة. إذا تمكنت شبكة «بيرسيبترون» من الإدراك دون استخدام القضايا أو المؤثرات المنطقية، فإن هذا يعني أن كل خليةٍ عصبيةٍ وكل اتصالٍ في الدماغ لا يتطلَّبان قاعدةً محددةً فيما يتعلق بالمنطق البولياني. بدلًا من ذلك، من المحتمل أن الدماغ يعمل بطريقةٍ أكثر عشوائية، تكون فيها الوظيفة التي تؤدِّيها الشبكة موزَّعة على خلاياها العصبية، وتنبثق عن قوة الوصلات بين هذه الخلايا، كما هي الحال في البيرسيبترون. عُرف هذا المنهج الجديد في الدراسة باسم «الاتصالية».
•••
المُخَيخ عبارة عن غابة. هذا الجزء من الدماغ، المطوي بعنايةٍ بالقرب من موضع دخول الحبل الشوكي إلى الجمجمة، عبارةٌ عن جزءٍ سميكٍ يحتوي على أنواعٍ مختلفةٍ من الخلايا العصبية، أشبه بأنواعٍ مختلفةٍ من الأشجار، تعيش جميعًا في انسجامٍ عشوائي. فمثلًا خلايا بركنجي كبيرة الحجم، ويمكن تمييزها بسهولة، كما أنها شديدة التشعُّب؛ فالزوائد الشُّجَيرية تمتد لأعلى من أجسام هذه الخلايا مثل أيادٍ غريبة ممدودة بالدعاء. أما الخلايا الحُبيبية فهي متعددة وصغيرة الحجم — يكون حجمُ أجسام هذه الخلايا أقلَّ من نصف حجم أجسام خلايا بركنجي — لكنها تمتدُّ لمسافاتٍ واسعة. في البداية تنمو محاورها العصبية لأعلى بالتوازي مع الزوائد الشُّجَيْرية لخلايا بركنجي. بعد ذلك تنعطف نحو اليمين انعطافًا حادًّا كي تمرَّ مباشرة من خلال تفرُّعات خلايا بركنجي، مثل مرور خطوط الكهرباء فوق قمم الأشجار. هذا هو الموضع الذي تتصل عنده الخلايا الحُبَيبية بخلايا بركنجي؛ إذ تحصل كل خليةٍ من خلايا بركنجي على مدخلاتٍ من مئات الآلاف من الخلايا الحبيبية. الألياف المتسلقة عبارة عن محاور عصبية تتبع مسارًا أطول في طريقها إلى خلايا بركنجي. تمتدُّ هذه المحاور العصبية من خلايا موجودةٍ في منطقةٍ مختلفةٍ من الدماغ — وهي الزيتونة السفلية — حيث تقطع كل هذه المسافة منها إلى الأجزاء السفلية من أجسام خلايا بركنجي وتلتف حولها. بالالتفاف حول قاعدة الزوائد الشجيرية، كاللبلاب المتسلق، تكوِّن الألياف المتسلقة وصلات. وعلى عكس الخلايا الحبيبية، تُستهدف كل خلية من خلايا بركنجي من واحدةٍ فقط من الألياف المتسلقة. لذا تكون خلايا بركنجي محوريةً في نطاق المُخَيخ. تمر عشرات الخلايا الحُبَيبية عبرها وتتصل بها من الأعلى، كما تقترب منها مجموعةٌ صغيرة لكنها دقيقة من الألياف المتسلقة من الأسفل.
بطريقتها العضوية الملتوية تُظهر الدوائر العصبية في المخيخ تنظيمًا ودقة غير متوقعَين من نظام بيولوجي. ففي طريقة اتصال الخلايا العصبية هذه رأى جيمس ألبوس، أحد طلاب الدكتوراه في الهندسة الكهربية يعمل في وكالة ناسا، مبادئَ «بيرسيبترون» تلوح في الأفق.
يلعب المخيخ دورًا بالغ الأهمية في التحكم الحركي؛ إذ يساعد على الاتزان والتنسيق والأفعال المنعكسة وغيرها. ويُعد إشراط رفَّة العين واحدًا من أهم قدرات المخيخ التي حظِيَت بالدراسة على نطاقٍ واسع. وهو فعل منعكس جرى التدريب عليه ويمكن رصده في الحياة اليومية. على سبيل المثال، إذا أصرَّ أحد الوالدين أو أحد زملائك على إيقاظك في الصباح بفتح الستائر، فستُغمض عينَيك بشكلٍ غريزيٍّ استجابةً لضوء الشمس. بعد أيامٍ قليلةٍ من تكرار هذا الفعل، سيصبح مجرد صوت فتح الستائر كافيًا لجعلك تغمض عينَيك مُسبقًا.
في المختبر، دُرست هذه العملية في الفئران، واستُبدِلت أشعة الشمس المتطفلة وحل محلها نفخة صغيرة من الهواء على العين (لكنها مزعجة بما يكفي للتأكد من أن الفئران ستحاول تجنبها). بعد محاولات عديدة من تشغيل صوت (كإشارة صوتية قصيرة من نغمة نقية) تتبعه نفخةُ الهواء الصغيرة هذه، تعلم الفأر أن يغمض عينَيه مباشرة بمجرد سماع النغمة. إذا أسمعت الحيوان صوتًا جديدًا (على سبيل المثال صوت تصفيق صاخب) لم يُقترن بنفخة هواء، فلن يغمض الحيوان عينَيه. هذا يجعل من إشراط رفة العين مهمة تصنيف بسيطة، يتعيَّن على الفأر تحديد ما إذا كان الصوت الذي يسمعه مؤشرًا على تلقِّي نفخة هواء لاحقة (في هذه الحالة ستُغلَق العينان حتمًا) أو إذا كان الصوت محايدًا (في هذه الحالة من الممكن أن تبقى العينان مفتوحتَين). إذا حدث تلفٌ في المخيخ، فلن تتعلَّم الفئران هذه المهمة.
تمتلك خلايا بركنجي القدرة على إغلاق العينَين. على وجه التحديد، حدوث انخفاضٍ مؤقتٍ في معدل إطلاق الإشارات العصبية الكهربية المرتفع بطبيعته في خلايا بركنجي، يؤدي بدوره إلى إغماض العينَين، وذلك عبر وصلاتٍ تمتد من خلايا بركنجي إلى خارج هذه المنطقة. بناءً على هذا التشريح، رأى ألبوس أن خلايا بركنجي تقوم بدور عرض الناتج، بمعنى أنها توضِّح ناتج التصنيف.
تتعلم شبكة «بيرسيبترون» عبر الإشراف؛ فهي تحتاج إلى مدخلات ووسوم لهذه المدخلات كي تعلم متى أخطأت. رأى ألبوس هاتَين الوظيفتَين تتحققان من خلال نوعَين من الروابط بين خلايا بركنجي والخلايا الأخرى. تنقل الخلايا الحُبيبية إشاراتٍ حِسِّية؛ على وجه التحديد، تُطلق الخلايا الحبيبية المختلفة الإشارات العصبية الكهربية بناءً على الصوت المسموع. أما الألياف المتسلِّقة، فتخبر المخيخ عن نفخة الهواء؛ فهي تطلق إشارات عصبية كهربية عند الشعور بالانزعاج من ذلك. والأهم أن هذا يعني أن الألياف المتسلقة تشير إلى حدوث خطأ. فهي توضِّح أن الحيوان ارتكب خطأً بعدم إغلاق عينَيه، عندما كان يتعيَّن عليه فعل هذا.
لمنع حدوث هذا الخطأ لا بد من تغيير قوة الروابط التي تصل الخلايا الحُبَيبية بخلايا بركنجي. تحديدًا، توقَّع ألبوس أنه لا بد من إضعاف اتصال أي خلايا حُبيبية كانت نشطة قبل أن يجري تنشيط الألياف المتسلقة (أي قبل الخطأ) بخلية بركنجي. بهذه الطريقة، في المرة التالية التي تطلِق فيها الخلايا الحبيبية إشارات عصبية، أي المرة التالية التي يُشغَّل فيها هذا الصوت، لن تتسبب في إطلاق إشارات عصبية كهربية في خلايا بركنجي. هذا الانخفاض المؤقت في معدل إطلاق خلايا بركنجي لإشارات عصبية كهربية سيؤدي إلى إغلاق العينين. من خلال تغيير قوى الروابط، يتعلم الحيوان من أخطائه السابقة ويتجنب إدخال نفخات الهواء في عينيه.
بهذه الطريقة، تكون خلية بركنجي أشبه برئيس يتلقى المشورة من مجموعة المستشارين تمثلهم الخلايا الحُبيبية. في البداية تستمع خلية بركنجي إليهم جميعًا. لكن إذا اتَّضح أن بعض الخلايا تعطي مشورة خاطئة؛ أي إن المُدخل الوارد منها تعقبه أخبارٌ سلبية توصلها الألياف المتسلقة، فيضعف تأثيرها على خلية بركنجي. ومن ثم، ستؤدي خلايا بركنجي دورها بطريقة أفضل في المستقبل. هذه العملية تُعد انعكاسًا مباشرًا لقاعدة تعلُّم شبكة بيرسيبترون.
تقدِّم شبكة البيرسيبترون، بقواعدها الواضحة التي تتعلق بكيفية استمرار التعلم في شبكة عصبية، أفكارًا واضحة وقابلة للاختبار يمكن لعلماء الأعصاب البحث عنها — والتوصل إليها — في الدماغ. وبهذا، تمكنت من ربط العلوم في مختلف النطاقات. اكتسبت أصغر التفاصيل المادية — عبور أيونات الكالسيوم إلى داخل خليةٍ عصبية، على سبيل المثال — معنًى أكبر في ضوء دورها في الحوسبة.
•••
وُضِعت نهاية سريعة لعهد شبكات بيرسيبترون عام ١٩٦٩. ولسخرية القدر أن أجلها جاء على يد كتاب يحمل الاسم نفسه.
ألِّف كتاب «بيرسيبترون» على يد عالِمَي الرياضيات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: مارفن مينسكي، وسيمور بابيرت. كان الكتاب يحمل العنوان الفرعي «مدخل إلى الهندسة الحاسوبية»، وكان غلافه يحمل تصميمًا تجريديًّا بسيطًا. انجذب مينسكي وبابيرت نحو الكتابة عن موضوع شبكات بيرسيبترون بدافع التقدير لاختراع روزنبلات، والرغبة في استكشافه أكثر. في الواقع، التقى مينسكي وبابيرت في مؤتمر كانا يعرضان فيه نتائج متشابهة توصَّلا إليها، خلال محاولاتهما لاستكشاف كيفية تعلُّم شبكة بيرسيبترون.
يعود منشأ بابيرت إلى جنوب أفريقيا، وله وجنتان ممتلئتان ولحية مهذبة، ويحمل درجتَي دكتوراه في الرياضيات لا درجة واحدة. طوال حياته، كان لديه اهتمام بالتعليم، وكيف يمكن تحويله عن طريق الحوسبة. كان مينسكي يكبر بابيرت بعام واحد فقط، وكانت له ملامح أكثر حدة ويرتدي نظارة كبيرة الحجم. ارتاد مينسكي، الذي يعود منشؤه إلى نيويورك، مدرسة برونكس الثانوية للعلوم مع فرانك روزنبلات، وكان يتلقى التوجيه من ماكولك وبيتس.
اتفق مينسكي وبابيرت مع ماكولك وبيتس في رغبتهما في تنظيم عملية الفكر، وفقًا لقواعد محددة. كانا يعتقدان أن إحراز تقدم حقيقي في فهم الحوسبة ينبع من الاشتقاقات الرياضية. كان النجاح التجريبي لشبكة بيرسيبترون برُمته — أيًّا كانت العمليات الحسابية التي يمكنها إجراؤها أو الفئات التي يمكنها تعلمها — لا يعني شيئًا دون فهم رياضي للسبب وراء عملها وآلية عملها.
تشتمل صفحات كتاب «بيرسيبترون» بشكل أساسي على براهين ونظريات واشتقاقات. وكلٌّ من هذه العناصر من شأنه المساهمة في قصة عن شبكة «بيرسيبترون»؛ إما من خلال تعريف مفهوم هذه الشبكات، أو ما يمكنها فعله أو كيفية تعلُّمها. ومع ذلك، فإن الرسالة التي تلقاها الجمهور من نشر هذه الصفحات البالغ عددها نحو ٢٠٠ صفحة، والتي تُعد عبارة عن دراسة تفصيلية لجميع الجوانب المتعلقة بآلية عمل شبكة بيرسيبترون؛ كانت إلى حدٍّ كبير تتمحور حول أوجه القصور المتعلقة بشبكة بيرسيبترون. ويرجع ذلك إلى أن مينسكي وبابيرت أوضحا، بشكلٍ حاسم، استحالة إجراء شبكة بيرسيبترون ببعض العمليات الحسابية البسيطة المعينة.
لنفترض شبكة بيرسيبترون لها مدخلان، وكل مدخل يمكن أن يكون في وضع «تشغيل» أو «إيقاف». نريد الشبكة أن تخبرنا بما إذا كان المدخلان متماثلين؛ أي أن تجيب بنعم (بمعنى أن تكون وحدة المخرجات بالقيمة «تشغيل») إذا كان المدخلان في وضع «تشغيل» أو إذا كان المدخلان في وضع «إيقاف». لكن إذا كان أحد المخرجَين في وضع «تشغيل» والآخر في وضع «إيقاف»، فستكون وحدة المخرجات في وضع «إيقاف». وكفرز الجوارب من الغسيل، لا تستجيب شبكة بيرسيبترون إلا إذا رأت زوجَين متماثلَين.
للتأكد من أن وحدة النواتج أو القراءات لن تُطلِق إشارات عصبية كهربية، عندما يكون مدخل واحد فقط في وضع «تشغيل»، لا بد أن يكون وزن كل مدخل منخفضًا بما يكفي. على سبيل المثال، يمكن أن يكون كل وزن مساويًا لنصف القيمة اللازمة؛ كي يكون الناتج في وضع «تشغيل». بهذه الطريقة، عندما يكون المدخلان بالقيمة «تشغيل»، فستطلق وحدة النواتج إشارات عصبية كهربية، ولن يحدث ذلك إذا كان مدخل واحد في وضع «تشغيل». في هذا الإعداد، تستجيب وحدة النواتج بشكلٍ صحيح لثلاثٍ من أصل أربع حالات محتملة للمُدخلات. إلا أنه في الحالة التي يكون فيها المدخلان في وضع «إيقاف» سيكون الناتج في وضع «إيقاف»، وهو تصنيف غير صحيح.
كما يتضح، مهما تلاعبنا وغيَّرنا في قوة الاتصال، فليست هناك طريقة لتلبية كل احتياجات التصنيف في آنٍ واحد. لا يمكن لشبكة بيرسيبترون ببساطةٍ فعل هذا. والمشكلة هنا تتمثَّل في أن أي نموذجٍ جيد للدماغ — أو نموذج ذكاء اصطناعي واعد — لا يمكنه أن يخفق في مهمةٍ بسيطةٍ كتقرير ما إذا كان شيئان متماثلين أم لا.
كان ألبوس، الذي نشر ورقته البحثية عام ١٩٧١ يعلم أوجه قصور شبكة بيرسيبترون، كما كان على علم بأنه رغم أوجه القصور هذه، فإن شبكة بيرسيبترون لا تزال قويةً بما يكفي لتكون نموذجًا لمهمة التعلُّم الشرطي لرفَّة العين. لكن هل يمكن أن تصبح نموذجًا للدماغ البشري بالكامل، كما وعد روزنبلات؟ هذا غير ممكن.
الصورة التي رسمها مينسكي وبابيرت أجبرت الباحثين على رؤية القدرات التي تمتاز بها شبكة بيرسيبترون بوضوح. فقبل هذا الكتاب، كان بإمكان الباحثين استكشاف ما يمكن لشبكة بيرسيبترون فعله بطريقة عشوائية، على أمل أن حدود قدراتها كانت لا تزال بعيدة، هذا إن كان لقدرتها حدودٌ من الأساس. لكن ما إن اتَّضحت معالم شبكة بيرسيبترون، حتى بات من المؤكَّد وجود هذه الحدود؛ بل تبيَّن أيضًا أنها أقربُ بكثيرٍ مما كان متوقعًا. في الواقع، كل ذلك أدَّى بدوره إلى فَهْم شبكات بيرسيبترون، وهو بالضبط ما شرع مينسكي وبابيرت في فعله. لكن نهاية الجهل بشبكات بيرسيبترون أدى إلى نهاية الحماس بشأنها. في هذا الصدد، أوضح البحث ما يأتي: «مصير المرء حين يُفهم قد يكون سيئًا كالموت.»
عُرفت الفترة التي تلت نشر كتاب «شبكات بيرسيبترون» بفترة «عصور الظلام» للاتصالية. فقد تميَّزَت هذه العصور بانخفاضٍ كبيرٍ في تمويل البرامج البحثية التي بُنيت على العمل الذي أنجزه روزنبلات. فقد أُخمِد نهج الشبكات العصبية القائم على بناء نماذج للذكاء الاصطناعي. وكان لا بد من التراجع عن الآمال والوعود والدعاية الصاخبة. لقيَ روزنبلات نفسُه حتفَه في حادثٍ بالقارب بعد نشر الكتاب بعامَين، وقد ظل المجال الذي ساعد في تأسيسه في سُباتٍ عميقٍ لأكثر من ١٠ سنوات.
وكما كانت الضجة حول شبكات بيرسيبترون مفرطةً وغير مدروسة، كان رد الفعل ضدها عنيفًا أيضًا. كانت أوجه القصور في بحث مينسكي وبابيرت صحيحة؛ إذ كانت شبكات بيرسيبترون بالشكل الذي كانا يدرُسانها به غير قادرةٍ على القيام بالكثير من الأشياء. لكن لم تكن هناك ضرورةٌ لإبقائها على هذه الصورة. على سبيل المثال، يمكن حل المسألة الخاصة بتحديد ما إذا كان المدخلان متماثلَين أم لا، من خلال إضافة طبقةٍ إضافيةٍ من الخلايا العصبية بين طبقتَي المدخلات والنواتج. يمكن أن تتألَّف هذه الطبقة من خليتَين عصبيتَين؛ إحداهما لها أوزانٌ تجعل الخلية تُطلق إشارات عصبية كهربية، عندما يكون المدخلان في وضع «تشغيل»، والأخرى لها أوزان تجعل الخلية تُطلق إشارات عندما يكون المدخلان في وضع «إيقاف». وبهذا يتعيَّن على الخلية العصبية التي تعرض الناتج، والتي تحصل على مدخلاتها من هاتَين الخليتَين العصبيتَين في المنتصف، الإطلاق إذا كانت إحدى الخليتَين الوسطيتَين نشطة.
•••
أعيدَ إحياء الاتصالية مرةً أخرى عام ١٩٨٦. فقد نُشرت الورقةُ البحثيةُ التي تحمل عنوان «تعلُّم التمثيلات عن طريق الانتشار العكسي للأخطاء»، والتي كتبها كلٌّ من عالِمَي الإدراك ديفيد روميلهارت ورونالد ويليامز من جامعة كاليفورنيا سان دييجو، وعالم الكمبيوتر جيفري هنتون من جامعة كارنيجي ميلون، في التاسع من أكتوبر في دورية «نيتشر». قدَّمت الورقة البحثية حلًّا للمشكلة التي واجهت هذا المجال، وهي كيفية تدريب الشبكات العصبية الاصطناعية المتعددة الطبقات. أصبحت خوارزمية التعلم الواردة في الورقة البحثية، ويُطلَق عليها «الانتشار العكسي»، تُستخدم على نطاقٍ واسعٍ في الأوساط العلمية آنذاك. واستمرَّت إلى يومنا هذا الطريقةُ السائدةُ التي تُدرَّب بها الشبكات العصبية لإنجاز مهامَّ ممتعة.
يمكن تطبيق قاعدة تعلم شبكة بيرسيبترون الأصلية؛ لأنه في حالة وجود طبقتَين فقط يكون من السهل معرفةُ كيفية إصلاح الخطأ الذي حدث. إذا كانت الخلية العصبية التي تمثِّل وَحْدة الناتج في وضع «الإيقاف» عندما يتعيَّن عليها أن تكون في وضع «التشغيل»، فلا بد أن تكون الروابط من طبقة المدخلات إلى هذه الخلية العصبيَّة أقوى، والعكس صحيح. وبهذا تكون العلاقة بين هذه الوصلات والناتج المترتب عليها واضحة. أما خوارزمية الانتشار العكسي، فتختصُّ بحلِّ مسألةٍ أصعب. في الشبكة التي تتضمَّن العديد من الطبقات بين المدخلات والنواتج، تكون العلاقات بين قوى الوصلات والنواتج غير واضحة. وبدلًا من أن يكون لدينا رئيسٌ ومستشاروه، أصبح لدينا رئيسٌ ومستشاروه وموظفو مستشاريه. مقدار ثقة المستشار في أي موظف، أي قوة الاتصال ما بين الموظف والمستشار، سيكون له تأثير في النهاية على ما يفعله الرئيس. لكن يكون من الأصعب ملاحظةُ هذا التأثير مباشرة وإصلاحه إذا شعر الرئيس بحدوث خطأ ما.
كانت هناك حاجةٌ إلى طريقةٍ صريحةٍ لحساب مدى تأثير أي اتصالٍ في الشبكة على طبقة الناتج أو المخرجات. كما اتَّضح، قدمت الرياضيات طريقة منظمة لفعل هذا. لنفترض شبكة عصبية اصطناعية تتضمَّن ثلاث طبقات: طبقة المدخلات، والطبقة الوُسطى، وطبقة النواتج. كيف تؤثر الوصلات من طبقة المدخلات إلى الطبقة الوسطى في طبقة النواتج؟ نحن نعلم أن نشاط الطبقة المتوسطة يكون نتيجةً لنشاط الخلايا العصبية في طبقة المدخلات، وأوزان اتصالات هذه الخلايا بخلايا الطبقة الوسطى. بهذه المعطيات، تكون كتابة معادلةٍ لكيفية تأثير هذه الأوزان على نشاط الطبقة الوسطى أمرًا مباشرًا. نحن نعلم أيضًا أن الخلايا العصبية في طبقة النواتج تتبع القاعدة نفسها؛ إذ يُحدد نشاطها بناءً على نشاط الخلايا العصبية في الطبقة الوسطى وأوزان وصلات الخلايا العصبية في الطبقة الوسطى بخلايا طبقة النتائج. ومن ثم، يصبح من السهل التوصُّل إلى معادلةٍ تصف كيفية تأثير هذه الأوزان على طبقة النتائج. الشيء الوحيد المتبقِّي هو إيجاد طريقةٍ للربط بين هاتَين المعادلتَين. ومن ثم، سنحتاج إلى معادلة تخبرنا مباشرة بالكيفية التي تؤثِّر بها الوصلات من طبقة المدخلات إلى الطبقة الوسطى في النتائج.
عند تكوين قطار في لعبة الدومينو، لا بد أن يكون العدد الظاهر على مؤخرة قطعة دومينو مطابقًا للعدد الظاهر على بداية القطعة المجاورة؛ كي يتسنَّى الربط بينهما. الأمر نفسه ينطبق على ربط المعادلتَين معًا. العامل المشترك الذي يربط بين المعادلتَين هو «نشاط الطبقة الوُسطى»؛ فهو يحدد نشاط الخلايا في طبقة النتائج، كما أنه يتحدَّد وَفقًا لاتصال طبقة المدخلات بالطبقة الوسطى. بربط هاتَين المعادلتَين عن طريق نشاط الطبقة الوسطى، يمكن حساب تأثير اتصال الخلايا العصبية في طبقة المدخلات بالخلايا العصبية في الطبقة الوسطى على طبقة النتائج مباشرة. وهو ما يُسهِّل فَهْم كيفية تغيُّر هذه الوصلات عندما يكون الناتج خاطئًا. في التفاضل والتكامل، يُعرف هذا الربط بين العلاقات باسم «قاعدة السلسلة»، وهذا هو الأساس الذي تعتمد عليه خوارزمية الانتشار العكسي.
اكتُشِفت قاعدة السلسلة منذ أكثر من ٢٠٠ عام على يد الفيلسوف والمثقف جوتفريد لايبنتس، الذي اعتبره ماكولك وبيتس أحد الرموز المقدسة. نظرًا لمدى جدوى القاعدة، لم يكن تطبيقها من أجل تدريب الشبكات العصبية الاصطناعية المتعددة الطبقات؛ أمرًا مثيرًا للدهشة. في الواقع، تبيَّن أن خوارزمية الانتشار العكسي ابتُكرت ثلاثَ مرات منفصلة على الأقل قبل عام ١٩٨٦. إلا أن الورقة البحثية المنشورة عام ١٩٨٦ صاحبَتْها عواملُ عديدة ضمِنت انتشار نتائج هذه الورقة على نطاق واسع. العامل الأول هو محتوى هذه الورقة نفسه. فهي لم تكتفِ بتوضيح أنه من الممكن تدريب الشبكات العصبية فحسب، بل حلَّلت آليات عمل الشبكات المدرَّبة على العديد من المهام الإدراكية، مثل فَهْم العلاقات بين الأفراد في شجرة عائلة. من عوامل النجاح الأخرى زيادة القوة الحاسوبية التي جاءت في ثمانينيات القرن العشرين؛ وقد كان هذا الأمر مهمًّا لتمكين الباحثين من تدريب الشبكات العصبية المتعددة الطبقات عمليًّا. وأخيرًا، في العام نفسه الذي نُشرت فيه الورقة البحثية نَشر أحد مؤلفيها، أي روميلهارت، كتابًا عن الاتصالية تضمَّن خوارزمية الانتشار العكسي. هذا الكتاب الذي ألفه مع أستاذ آخر في جامعة كارنيجي ميلون، وهو جيمس ماكليلاند، بيع منه نحو ٤٠ ألف نسخة بحلول منتصف تسعينيات القرن العشرين. وقد أصبح عنوان الكتاب، أي «المعالجة الموزعة المتوازية»، مقترنًا بالبرنامج البحثي المعنيِّ ببناء شبكات عصبية اصطناعية في نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن العشرين.
لأسبابٍ مماثلةٍ نوعًا ما، أخذت حكاية الشبكات العصبية الاصطناعية منعطفًا أكثر دراماتيكية، بعد انقضاء عقدٍ من الألفية الجديدة تقريبًا. فقد اتحدَّت أكوام البيانات المتراكمة في عصر الإنترنت مع القوة الحاسوبية التي يتمتع بها القرن الحادي والعشرون؛ لتسريع وتيرة التقدُّم في هذا المجال. وفجأة أصبح من الممكن تدريب الشبكات التي تتضمن طبقات أكثر على مهامَّ أكثر. تعمل مثل هذه النماذج الموسعة — التي يُشار إليها باسم «الشبكات العصبية العميقة» — حاليًّا على إحداث تغييرات ملحوظة في الذكاء الاصطناعي وعلم الأعصاب على حدٍّ سواء.
في المجمل، يمكن تدريب الشبكات العصبية العميقة للتعرف على عناصر في الصور، ولعب الألعاب، وفهم التفضيلات، والترجمة ما بين اللغات المختلفة، وتحويل الكلام المنطوق إلى كلمات مكتوبة، وتحويل الكلمات المكتوبة إلى كلام منطوق. وكما هي الحال في جهاز «بيرسيبترون»، تشغل أجهزة الكمبيوتر التي تعمل عليها هذه الشبكات غُرفًا بأكملها. وتقع في مراكز الخوادم حول العالم، حيث تُصدِر ضوضاء أثناء معالجة بيانات الصور والبيانات النصية والصوتية حول العالم. ربما كان روزنبلات سيسرُّه أن يرى أن بعض وعوده الكبيرة لصحيفة نيويورك تايمز تحققت بالفعل. كانت فقط تتطلب نطاقًا يعادل ما كان متاحًا لدية آنذاك ١٠٠٠ مرة تقريبًا.
كانت خوارزمية الانتشار العكسي ضروريةً لتحسين أداء الشبكات العصبية الاصطناعية لنقطة، يمكن أن تصل فيها هذه الشبكات لمستويات أداء قريبة جدًّا من المستوى البشري في بعض المهام. كقاعدة تعلم للشبكات العصبية، تؤدي هذه الخوارزمية دورها على أكمل وجه. لكن لسوء الحظ، هذا لا يعني أنها تعمل مثل الدماغ. ففي حين أنه كان يمكن ملاحظة فعالية قاعدة تعلم البيرسيبترون بين الخلايا العصبية الحقيقية، لا يمكن ملاحظة خوارزمية الانتشار العكسي. فهي مُصمَّمة لتكون أداة رياضية لجعل الشبكات العصبية الاصطناعية تعمل، لا لأن تصبح نموذجًا لكيفية تعلُّم الدماغ (وكان مبتكروها واضحين جدًّا بشأن هذه النقطة منذ البداية). السبب وراء هذا أن الخلايا العصبية الاصطناعية عادةً ما يكون لديها فكرة عن نشاط الخلايا العصبية التي تتصل بها مباشرة فقط، لكنها لا تعلم شيئًا عن نشاط الخلايا العصبية التي تتصل بها تلك الخلايا العصبية وما إلى ذلك. لهذا السبب، لا توجد طريقة واضحة يمكن بها لهذه الخلايا العصبية الحقيقية تطبيق قاعدة السلسلة. لا بد أن هذه الخلايا تفعل شيئًا مختلفًا.
بالنسبة إلى بعض الباحثين — لا سيما الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي — لا تمثل الطبيعة الاصطناعية للانتشار العكسي مشكلة. فكان هدفهم بناء أجهزة كمبيوتر يمكنها التفكير بأي وسيلة تكون ضرورية. لكن بالنسبة إلى علماء آخرين — وتحديدًا علماء الأعصاب — يُعد إيجاد خوارزمية تعلم للدماغ أمرًا أسمى. نحن نعلم أن الدماغ بارع في تحسين أدائه؛ يمكننا ملاحظة هذا عندما نتعلم عزف آلة موسيقية أو كيفية القيادة أو قراءة لغة جديدة. والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكنه ذلك؟
ونظرًا لأن الانتشار العكسي هو خوارزمية التعلم التي نعرفها، ينطلق بعض علماء الأعصاب من هذه النقطة. فهم يبحثون عن علامات توضح أن الدماغ يقوم بأمر مماثل للانتشار العكسي، حتى وإن كان لا يقوم به بالضبط. ما حفزهم لفعل هذا هو نجاحهم في رصد آلية عمل شبكة «بيرسيبترون» في المخيخ. ففي المخيخ، كانت هناك أدلة تشريحية؛ إذ أشارت المواضع المختلفة للألياف المتسلقة والخلايا الحبيبية إلى الأدوار المختلفة لكلٍّ منها. تعرض مناطق الدماغ الأخرى أنماط الاتصال التي قد تعطي تلميحًا عن كيفية تعلمها. على سبيل المثال، في القشرة المُخِّية الجديدة بعض الخلايا العصبية لها زوائد شُجَيرية يمكنها أن تمتدَّ بعيدًا لأعلاها. تُرسل المناطق البعيدة من الدماغ مدخلاتٍ لهذه الزوائد الشُّجَيرية. هل تحمل معها معلومات عن الكيفية التي أثرت بها هذه الخلايا العصبية على الخلايا العصبية التي تليها في الشبكة العصبية للدماغ؟ هل يمكن استخدام هذه المعلومات لتغيير قوة اتصالات الشبكة. تشبَّث كلٌّ من علماء الأعصاب والباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي بالأمل في العثور على نسخة الانتشار العكسي الخاصة بالدماغ، وعندئذٍ يمكن نسخها لتكوين خوارزميات تتعلم أفضل وأسرع من الشبكات العصبية الاصطناعية الموجودة في يومنا هذا.
الباحثون المعاصرون، في سعيهم لفهم كيفية تعلم الدماغ عن طريق الإشراف، يحذون حَذو ماكولك. فهم ينظرون إلى أكوام الحقائق التي لدينا حول بيولوجيا الدماغ، ويحاولون أن يجدوا فيها بنيةً حاسوبية. في يومنا هذا، يتم توجيههم من خلال طريقة عمل الأنظمة الاصطناعية. وغدًا، ستوجه النتائج المستخلصة من علم الأحياء بناء الذكاء الاصطناعي مرة أخرى. تبادل الأدوار هذا يحدد العلاقة التكافلية بين المجالين. يمكن للباحثين الذين يتطلعون إلى بناء شبكات عصبية اصطناعية الاستلهام من الأنماط الموجودة في تلك الشبكات البيولوجية، وفي الوقت نفسه، يمكن لعلماء الأعصاب النظر في دراسة الذكاء الاصطناعي، لتحديد الدور الحاسوبي للتفاصيل البيولوجية. بهذه الطريقة تحافظ الشبكات العصبية الاصطناعية على ارتباط دراسة العقل بالدماغ.