الحركة بأبعاد محدودة
في منتصف تسعينيات القرن العشرين، ذهب مُحررٌ يعمل في صحيفةٍ محليةٍ في مدينة هيوستن، بولاية تكساس، إلى كلية بايلور للطب على أمل أن يتلقَّى المساعدة، فيما يتعلق بمشكلة في يده اليسرى. في الأسابيع السابقة لذلك، كانت أصابع هذه اليد ضعيفةً وكان يشعر بخدرٍ فيها. وبدا للأطباء أن الرجل، الذي كان مُدخنًا شرهًا ومُسرفًا في تناول المشروبات الكحولية، في صحةٍ جيدةٍ بخلاف ذلك. عند ملاحظة التخدر بحث الأطباء في البداية عن عصبٍ متضررٍ في مِعصَمه. وعندما لم يجدوا ذلك فحصوا الحبل الشوكي، مشتبهين في وجود آفةٍ في الأعصاب الشوكية. وعندما جاءت نتيجة ذلك الفحص سلبية، خطا الأطباء خطوةً أبعد وأجرَوا مسحًا على الدماغ. وقد أسفر المسح عن وجود ورمٍ بحجم حبةٍ كبيرةٍ من العنب، يستقر في الجانب الأيمن من السطح المتجعد لدماغ الرجل. كان الورم في المنتصف ما بين الصدغ الأيمن وأعلى رأسه، في منتصف منطقة تُعرف باسم القشرة الحركية.
اكتُشفت القشرة الحركية قبل ١٥٠ سنة تقريبًا، ومنذ ذلك الحين أصبحت موضعًا للعديد من المناقشات الجدلية. لا شك في حقيقة أن الدماغ يتحكم في الجسم؛ إذ أكدت البيانات المستقاةُ من الإصابات هذه الحقيقةَ، منذ عصر بناء الأهرامات في مصر القديمة. لكن كيفية قيامه بهذا تُعد مسألة أخرى.
ببعض الطرق، يُعَد الاتصال الذي يربط بين القشرة الحركية والحركة مباشرًا. وهو اتصال يسلك مسارًا معاكسًا لمسار الدراسة التي أجراها أطباء بايلور؛ تُرسِل الخلايا العصبية الموجودة في القشرة الحركية على أحد جانبَي الدماغ، المُخرَجات إلى الخلايا العصبية الموجودة في الحبل الشوكي على الجانب الآخر، وهذه الخلايا العصبية الموجودة في الحبل الشوكي تتحكَّم مباشرة في ألياف عضلية محددة. يُطلق على النقطة التي تلتقي عندها الخلية العصبية الموجودة في الحبل الشوكي بالعضلة؛ اسم وَصْلة عصبية عضلية. إذا أطلقت هذه الخلية العصبية إشاراتٍ، فإنها تُطلق الناقل العصبي الذي يُدعى أسيتيل كولين في هذه الوصلة. تستجيب الألياف العضلية للأسيتيل كولين عن طريق الانقباض وتحدث الحركة. خلال هذا المسار، يمكن للخلايا العصبية الموجودة في القشرة التحكُّمُ في العضلات مباشرة.
إلا أن هذا ليس المسار الوحيد بين القشرة الحركية والعضلة. تُعد المسارات الأخرى أكثر تعرُّجًا. على سبيل المثال، بعض الخلايا العصبية الموجودة في القشرة الحركية ترسل مُخرَجاتها إلى مناطق وسطانية؛ مثل جذع الدماغ والعُقَد القاعدية والمُخَيخ. من هذه المناطق تمضي الإشارات في طريقها نحو الحبل الشوكي. كل محطة من هذه المحطات تعطي فرصةً لمزيدٍ من المعالجة للإشارة، وهو ما يؤدِّي إلى حدوث تغيُّرٍ في الرسالة التي تُرسَل إلى العضلات. علاوة على ذلك، أكثر المسارات المباشرة لا تكون بسيطة بالضرورة؛ إذ يمكن للخلايا العصبية من القشرة الحركية الارتباطُ بالعديد من الخلايا العصبية المختلفة في الحبل الشوكي، التي يقوم كلٌّ منها بتنشيط وتثبيط مجموعاتٍ مختلفةٍ من العضلات. بهذه الطريقة، يوجد العديد من القنوات التي يمكن للقشرة عن طريقها التواصل مع العضلات، والعديد من الرسائل الممكنة التي يمكن إرسالها. بدلًا من التأثير المباشر، يمكن أن يكون تأثير القشرة الحركية على الجسم موزَّعًا بشكل كبير.
على رأس هذه الحيرة وعدم الوضوح، أثيرت تساؤلات حول مدى أهمية القشرة الحركية. عندما نُزعت القشرة الحركية عن باقي الدماغ، لم تبدأ الحيوانات العديد من الحركات المعقدة من تلقاء نفسها، لكن كان لا يزال بمقدورها القيام ببعض الاستجابات المعتادة التلقائية. على سبيل المثال، ستخدش القطط المنزوعة «القشرة الحركية» بمخالبها إذا قُيِّدت، كما سيظل ذَكَر الفأر قادرًا على التزاوج إذا كانت الأنثى موجودة. ومن ثم، فإن القشرة الحركية تكون غير ضرورية، بالنسبة إلى بعضٍ من أهم سلوكيات البقاء على قيد الحياة.
تلعب الحركة — بوصفها الطريقة الوحيدة التي يمكن للدماغ بها التواصل مع العالم — دورًا لا غِنى عنه في مجال علم الأعصاب. إلا أن الغرض المحدد للقشرة الحركية يُعد مثارًا للنقاش، كما أن تركيبها لا يساعدنا كثيرًا على فَهْمها. من غير هذا التقدم المحرز لفهم القشرة الحركية، تصعب معرفة دور القشرة الحركية بالضبط. لكن نظرًا لوجود العديد من الدوافع المهمة لحل لغز الحركة — كعلاج الأمراض الحركية، وصناعة روبوتات شبيهة بالبشر، وما إلى ذلك — ظل تيارٌ من العلماء يحاول حل هذا اللغز. في الأيام الأولى، اتخذت هذه المحاولات صورة جدالاتٍ مريرة حول نوع الحركة التي تُولِّدها القشرة الحركية. وتبع ذلك استخدام الأساليب الرياضية لفَهْم نشاط خلاياها العصبية. وعلى الرغم من أن بعض المناقشات الأكثر حِدة قد كُبح جماحُها وصارت تحت السيطرة، فإن دراسة القشرة الحركية — ربما أكثر من معظم مجالات علم الأعصاب — لا تزال تعاني من حالةٍ من عدم الاستقرار إلى يومنا هذا.
•••
درس كلٌّ من جوستاف فريتش وإدوارد هيتسيج الطب في جامعة برلين، في منتصف القرن التاسع عشر، إلا أن طرقاتِهما لم تتقاطع هناك. وحسبما تفيد القصة، بعد الانتهاء من كلية الطب كان فريتش يعمل جرَّاحًا للدماغ، باعتبار ذلك جزءًا من خدمته في الحرب الدِّنماركية البروسية، حينما أدرك أن تهيُّجاتٍ معينة في الدماغ المكشوف تؤدي إلى تقلصات عضلية في الجانب المقابل لموقع هذه التهيجات في جسم الجندي. على الجانب الآخر، أفاد هيتسيج بأنه كان يدير نشاطًا للعلاج بالصدمات الكهربية، عندما لاحظ أن تعرُّض أجزاءٍ معينةٍ من الدماغ للصدمات تُثير حركات العين. اندهش كل طبيب من ملاحظته الفضولية والاستنتاجات التي قد تترتب عليها. التقى فريتش وهيتسيج أخيرًا عندما عاد فريتش إلى برلين في أواخر ستينيات القرن التاسع عشر. قرَّر الطبيبان توحيد الجهود لاستكشاف أن القشرة يمكنها التحكُّم في الحركة، وهو ما اعتُبر فيما بعد فرضية سخيفة.
لذا، وعلى طاولةٍ في بيت هيتسيج (لم يكن لدى المعهد الفيسيولوجي المرافق اللازمة لهذه التقنية الجديدة)، بدأ فريتش وهيتسيج الاستثارة الكهربية للقشرة الدماغية للكلاب. أعدَّا قُطبًا كهربيًّا بلاتينيًّا، ووصَّلاه ببطارية، ووضعاه على لسان الكلاب لاختبار شدة التيار الكهربي (حسبما ورد كانت شدة التيار «كافية لاستثارة شعور واضح»). بعد ذلك جعلا القطب يلمس مناطق مختلفة من مناطق الدماغ المكشوفة لفترة وجيزة جدًّا. وفي أثناء ذلك كانا يراقبان الحركات التي نتجت عن ذلك. ما استنتجاه هو أن استثارة القشرة المخية قد تنتج عنها حركات؛ عبارة عن تشنُّجات أو تقلصات قصيرة لمجموعة صغيرة من العضلات في الجانب المقابل من الجسم. كما استنتجا أن موقع الاستثارة كان مهمًّا؛ إذ حدد الجزء الذي سيتحرك، إن وُجِد.
ربما كان الاستنتاج الأخير أكثر هرطقةً من الاكتشاف الأول. في ذلك الوقت، حتى حفنة العلماء الذين اعتقدوا أن القشرة المخية قد تلعب دورًا مفيدًا، ظلوا يفترضون أنها تعمل بوصفها كتلةً غير متمايزة، أي شبكة من الأنسجة التي ليس لها تخصُّص وظيفي. لم يكن من المفترض أن يكون لها تنظيم مرتَّب تقع به الوظائف الحركية، على شريط واحد على مقدمة الدماغ. إلا أن هذا ما اقترحته عمليات الاستثارة التي أجراها فريتش وهيتسيج. لاختبار نظريتهما بشكلٍ أكبر، بعد أن حدد فريتش وهيتسيج جزء الدماغ المسئول عن جزء محدد من الجسم، اقتطعا هذا الجزء ولاحظا الآثار السلبية لذلك على الحركة. بشكلٍ عام، لم يتسبب اقتطاع هذا الجزء في إحداث شلل كامل في الجزء المصاب من الجسم، لكنه أضعف تحكُّمه ووظيفته. ومن ثم، كانت الأدلة التي تَدعَم دور القشرة المخية في الحركة تتزايد.
تزامن الجهد البحثي لهذا الثنائي الألماني مع استنتاجات توصَّل إليها طبيب آخر، وهو جون هيولينجز جاكسون، ربطت أيضًا بين هذه المنطقة من الدماغ وبين التحكم في الحركة لدى البشر. هذه الاستنتاجات المشتركة جعلت منتصف القرن التاسع عشر نقطة تحوُّل لدور القشرة المخية في الحركة، كما جعلته نقطة تحول في علم الأعصاب بشكلٍ عام. أجبر العلماء على التعامل مع حقيقة أن القشرة المخية لا يكون لها دور فحسب؛ بل ربما تكون للأجزاء المختلفة من القشرة المخية وظائف مختلفة. مدفوعًا بهذه الأجواء الحافلة، انطلق متدربٌ لدى جاكسون يُدعى ديفيد فيريير، لدراسة القشرة المخية بالتفصيل.
لم يُجرِ فيريير تجاربه على عدد من الأنواع يعادل ما قد يجده المرء في حديقة الحيوان فحسب، كي يتوسع في العمل الذي قام به فريتش وهيتسيج؛ بل حدَّث طريقة الاستثارة. كانت الاستثارة الجلفانية التي استخدمها فريتش وهيتسيج شكلًا من أشكال التيار الكهربي المستمر، وهو ما يمكن أن يكون مدمِّرًا لنسيج الدماغ. ومن ثم، لا يمكن استخدام هذه الطريقة إلا لفترة وجيزة. في النهاية، اتجه فيريير إلى استثارة فاراداي، وهي عبارة عن تيار متردد يمكن استخدامه بشكلٍ متواصل ودون انقطاع. نتيجة لذلك، تمكن فيريير من توصيل القطب الكهربي بالدماغ لثوانٍ عديدة. كما تمكن من إحداث الاستثارة على مستوياتٍ أعلى من التيار الكهربي، تكون وفقًا لفيريير «كافية كي تُعطي شعورًا بالوَخز، لكن يمكن تحمله عند تثبيت الأقطاب الكهربية على طرف اللسان».
يؤدي هذا التغيُّر الكمي في بارامترات الاستثارة إلى تغيُّر نوعي في النتائج. عندما أجرى فيريير الاستثارة على فترات زمنية أطول، لم يحصل على تشنُّجاتٍ عضليةٍ لفترةٍ أطول فحسب. بل أظهرت الحيوانات حركات كاملة ومعقدة؛ وهي حركات تذكرنا بتلك التي كانت هذه الحيوانات تؤديها في حياتها العادية. على سبيل المثال، وفقًا لملاحظات دوَّنها فيريير، وجد أن استثارة جزء من دماغ أرنب تسببت في «انتصاب أذن الأرنب المقابلة لهذا الجزء فجأة، وقد تزامن هذا مع حركة مفاجئة، وكأن الأرنب على وَشْك التحرك للأمام.» في حالة القطة، كانت استثارة منطقة محددة مسئولةً عن «تراجع قدم القطة الأمامية للخلف وتقريبها من جسمها. بدت هذ الحركة، التي نُفِّذت بسرعة خاطفة، أشبه بالحركة التي تؤديها القطة عندما تركل كرة بمخلبها.» عند استثارة منطقة «تقع في النصف الخلفي من التلافيف العلوية والوسطى» للقرد، لاحظ فيريير أن «عينيه تُفتَحان عن آخرهما وتتسع حدقتاهما، كما تتجه الرأس والعينان إلى الجهة المقابلة».
تشير الحقيقة، التي تفيد بأن مثل هذه الاستثارة غير المحددة للقشرة الحركية تستحضر حركات سلِسة ومنسَّقة، إلى طريقة فهمٍ تختلف عن فهم فريتش وهيتسيج لهذه المنطقة من الدماغ. إذا كان تحفيز القشرة الحركية يحفِّز بشكلٍ أساسي مجموعات صغيرة منعزلة من العضلات — كما اعتقد العالمان — فستكون مهمتُه بدائيةً نسبيًّا. رأى العالمان أن الأجزاء المختلفة من القشرة الحركية تعمل مثل مفاتيح البيانو؛ كل يُصدر نُوتتَه الخاصة. في المقابل، أفادت استنتاجات فيريير بأن القشرة الحركية عبارة عن مجموعة من الألحان القصيرة، فكل استثارة تنتج عنها أجزاء من الحركة يتطلب تنفيذُها تنسيقًا بين مجموعات العضلات المختلفة. هذا الجدال حول ما إذا كان عمل القشرة الحركية أشبه بنوتات منفردة أم مجموعة من الألحان، أي تشنُّجات منفردة أم حركات منسقة؛ كان بدايةً لمجموعة من المناقشات حول طبيعة القشرة الحركية.
أيًّا كان السبب في ذلك، لم يثِق فريتش وهيتسيج في بحث فيريير، الذي يعرض الأجزاء المنفردة التي تتضمنها عملية توليد الحركة الطبيعية. كما وقفا في صف الاستثارة الجلفانية المختصرة، مُدعيَيْنِ أن استثارة فيريير كانت طويلة جدًّا، وأن استنتاجاته لا يمكن الحصول عليها مرة أخرى عند تكرار التجربة. في المقابل، ظل فيريير مُصرًّا على الاعتقاد بأن تيار فاراداي هو الأفضل، وأن التحفيز الجلفاني المختصر الذي استخدمه فريتش وهيتسيج «لم ينجح في استثارة مزيج محدَّدٍ من الانقباضات العضلية المنسَّقة لتنفيذ حركة أو فعل معين، هذه الانقباضات المنسقة تُعد جوهر رد الفعل ومفتاح تفسيره».
وبينما كانت المعركة مُحتَدِمة حول استثارة القشرة الحركية على نطاق محدود، كان مجال علوم الأعصاب يشهد نقاشًا آخر على نطاق أوسع. تقبَّلت المجموعة البحثية القائمة على دراسة القشرة الحركية بوضوح؛ حقيقةَ أن الوظيفة في القشرة الحركية تتحدَّد حسب الموضع، بمعنى أن المناطق المختلفة في القشرة المخية تلعب أدوارًا مختلفة. لكن في المجتمع على نطاق أوسع، كان هذا التحوُّل الجذري في فهم ذلك لا يزال يجري استيعابُه وإدراكه تدريجيًّا، وقد وضع العديد من الباحثين نصبَ أعيُنهم اختبار حدود هذه النظرية. وعليه، أصبح التقليد العصري آنذاك يتمثل في محاولة استثارة مساحات صغيرة من القشرة المخية قدرَ الإمكان، لمعرفة كيف تختَصُّ كل منطقةٍ بوظيفةٍ محددة. هذا التوجه كان يتماشى جيدًا مع نهج استخدام النبضات القصيرة، الذي اتَّبعه فريتش وهيستيج لتوليد حركات عضلية فردية. وعليه، أصبحت طريقتهما المفضلة هي الطريقة السائدة، لا لأنها الطريقة الصحيحة للإجابة عن السؤال العلمي حول دور القشرة الحركية؛ بل لأن السؤال العلمي تغيَّر. تحت تأثير الهوس بفكرة ارتباط كل وظيفة بموضع محدد، كانت حقيقة أن الحركات العضلية الصغيرة يمكن الاستدلال عليها عن طريق الاستثارة؛ أهمَّ من حقيقة ما إذا كان الدماغ يُنتج الحركة بهذه الطريقة بشكل طبيعي أم لا. ومن ثم، وُضِعت مشكلة «التشنجات مقابل الحركات المنسَّقة» جانبًا لأكثر من قرن.
•••
في الدماغ، تُعَد الخلية العصبية أكثر جزء محدد الوظيفة. صار علماء الأعصاب قادرين على تسجيل نشاط الخلايا العصبية المنفردة، منذ أواخر عشرينيات القرن العشرين. إلا أن القيام بذلك كان يتطلَّب عادةً إعدادًا تجريبيًّا من شأنه أن يمنع دراسة السلوك المتزامن، كإزالة النسيج العصبي من الحيوانات على سبيل المثال، أو على الأقل تخديرها أثناء التسجيل. تغيَّر ذلك في أواخر خمسينيات القرن العشرين، عند تطوير أقطاب كهربية يمكن إدخالها في دماغ قرد مستيقظ ومستجيب، لمراقبة الإشارة الكهربية للخلايا العصبية الفردية. أوضح عالم الأعصاب الرائد فيرنون ماونتكاسل معلقًا على هذا التحوُّل في تاريخ علم الأعصاب بعد مرور ٥٠ عامًا؛ أن مجال الأعصاب «لم يعُد كما كان منذ ذلك الحين، كما أنه من الشائق جدًّا بالنسبة للعلماء، الذين قضوا سنوات طويلة في اللجوء لإزالة نسيج عصبي أو الاعتماد على التخدير، رؤية الدماغ ودراسته أثناء نشاطه!» ربما كان لدراسة التحكم الحركي — في الطريقة التي تُولَّد بها الحركة والسلوك عن طريق الدماغ — النصيب الأكبر من الاستفادة بهذا التقدم التجريبي. وبالطبع، كان لعلماء الحركة السبق في الاستفادة منه.
كان إدوارد إيفارتس أحد هؤلاء الباحثين الأوائل، وهو طبيب نفسي من نيويورك. كان رجلًا كريمًا وصارمًا. وكان يأخذ عمله على محمل شخصي جدًّا، حتى إنه يلجأ إلى الاستبطان والتجارب الشخصية لمساعدته في دراسته العلمية حول النوم وممارسة التمارين الرياضية؛ وكان يتوقع الإخلاص نفسه من الآخرين. في عام ١٩٦٧، بينما كان يعمل في معاهد وطنية للصحة في بيثيسدا، ميريلاند، فرغ من مشروع فردي من ثلاثة أجزاء حول استجابات الخلايا العصبية في القشرة الحركية. ركز الجزء الأخير من دراسته على السؤال الذي سيشكل أساس علم الأعصاب الحركي لعقود تالية: ما جوانب الحركة التي تُمثِّلها الخلايا العصبية في القشرة الحركية؟
لطرح هذا السؤال، استعان إيفارتس بمهمة حركية بسيطة لا تتطلب سوى كمية ضئيلة من الحركة. على وجه التحديد، درَّب القرود على الإمساك بقضيب أُفُقي وتحريكه من اليسار إلى اليمين. أُجبرت القرود على فعل هذا باستخدام مفصل واحد فقط وهو الرسغ. هذا يعني أن الحركة كانت محكومة فقط عن طريق مجموعتَين من العضلات في الساعد، وهما: العضلات القابضة التي تحرِّك اليد نحو الجسم، والعضلات الباسطة التي تحرِّك اليد بعيدًا عن الجسم.
تمثلت إحدى الفرضيات البسيطة في أن معدلات إطلاق الإشارات العصبية في القشرة الحركية، ارتبطت ارتباطًا مباشرًا بوضع المعصم في أي لحظة معينة. لو كان الأمر كذلك، كنت سترى بعض الخلايا العصبية تُطلق إشارات بقوة عندما يكون الرسغ منقبضًا؛ بينما لن تفعل ذلك عندما يكون الرسغ منبسطًا، وخلايا عصبية أخرى ستفعل العكس.
في أبسط شكل لهذه التجربة، لا يمكن تمييز هاتَين الفرضيتَين. إذا كانت الخلية العصبية تُطلق إشارات عصبية عندما يكون الرسغ في وضع الانقباض، فهل يرجع ذلك إلى أن الرسغ في وضع الانقباض، أم بسبب القوة اللازمة لإبقائه في هذا الوضع؟ من يدري؟ إذا أراد إيفارتس الإجابة عن هذا السؤال، يتعين عليه الفصل بين جانبَي الحركة هذين. لفعل هذا، أضاف ببساطة أثقالًا موازِنة للقضيب. مثل تعديل الأثقال على جهاز حمل الأثقال في صالة الألعاب الرياضية، إضافة أثقال موازِنة للقضيب تجعل الحركات أسهل أو أصعب. يؤدي هذا إلى تغيُّر مقدار القوة اللازمة لتحريك القضيب للموضع نفسه. عندئذٍ يمكن المقارنة بين معدلات إطلاق الإشارات عندما يكون الرسغ في الموضع نفسه، لكنه يستخدم قوًى مختلفة للوصول لهذا الموضع.
عند النظر إلى الخلايا العصبية البالغ عددها ٣١ خلية عصبية في القشرة الحركية التي سجَّل منها، لاحظ إيفارتس أن ٢٦ منها لها معدلات إطلاق ترتبط بشكلٍ واضح بالقوة. بعض هذه الخلايا العصبية استجابت بقوة أثناء انقباض الرسغ، وزادت من إطلاقها للإشارات عند إضافة أثقال جعلت الانقباض أصعب (أو خفضت من إطلاقها للإشارات عند إضافة ثقل في الاتجاه المقابل، ما يجعل الانقباض أسهل). فيما فضَّلت خلايا عصبية أخرى حركات الانبساط؛ إذ أظهرت النمط نفسه لكن بطريقة معاكسة. أما الخلايا العصبية الخمس المتبقية، فكان من الصعب تفسير نشاطها، لكن أيًّا منها لم يُظهِر نشاطًا يرتبط ارتباطًا مباشرًا بموضع الرسغ. عضدت هذه النتائج من موقف الرأي القائل: إن القشرة الحركية تحمل شفرة القوة.
كان الجهد البحثي لإيفارتس بمثابة الخطوة الأولى، على طريقٍ طويلٍ من محاولات استكشاف الآليات الحركية التي تدخل ضمن عمل الجهاز الحركي. على مدار السنوات اللاحقة، سعَت مجموعات بحثية عديدة إلى إيجاد معلوماتٍ حركية في معدلات إطلاق الإشارات العصبية، بواسطة الخلايا العصبية في القشرة الحركية في أثناء قيام الحيوانات بحركات بسيطة. لا يزال إرث فكرة ارتباط الوظيفة بالموضع واضحًا في هذا المنهج؛ إذ يهدف في نهاية الأمر إلى فَهْم سلوك الخلايا العصبية الفردية، والحركاتِ العضلية الصغيرة المنفصلة. إلا أنه جمَّع هذا الفهم تحت مظلة النظام الرياضي الأشمل، والموجود مُسبقًا، الخاص بعلم الحركة. وفقًا لهذا المنظور، يمكن العثور على العمليات الرياضية الخاصة بالقشرة الحركية، في المعادلات الموجودة في أي كتابٍ قياسيٍّ في الفيزياء.
أسَّس إيفارتس المنهج الحديث لدراسة القشرة الحركية. وقد قدَّم تجربة محكومة جيدًا لاستكشاف كيفية ارتباط نشاط الخلية العصبية المنفردة بنشاط العضلات، وأشار إلى المبادئ الرياضية التي يمكنها تقديم سياق لفهم هذه النتائج. لكن خلال عقود قليلة، سيتم إبطال الغالبية العظمى من إسهامات إيفارتس في علم الحركة، وسيشهد هذا المجال ميلاد حقبة جديدة.
غريب أمر الجهاز الحركي! سواءٌ أكانت النتائج جيدة أو سيئة، لا توجد رؤية متماسكة للوظيفة الحركية لدى علماء أعصاب الأنظمة (أي علماء الأعصاب الذين يدرسون تركيب الأنظمة والدوائر العصبية ووظيفتها) … لا يزال هناك الأشخاص المتعصبون لأهمية العضلة الفردية [الذين] يؤكدون أن النشاط العصبي في الأجزاء الحركية بالكامل، من المُخَيخ إلى القشرة، يُفسَّر بطريقة ما افتراضيًّا بالإشارة إلى تلك العضلة، الحقيقية أو الافتراضية. هذا لا معنى له بالطبع … فنادرًا، إن لم يكن مستحيلًا، ما تتضمَّن الحركات الطبيعية عضلة واحدة فقط.
قال هذه الكلمات أبوستولوس جورجوبولوس، أستاذ علم الأعصاب في جامعة جونز هوبكنز الذي وُلِد في اليونان. قبل أن يذكر جورجوبولوس ذلك عام ١٩٩٨، كان بالفعل قد استمر في إحداث تغييراتٍ هائلة في مجال علم الأعصاب الحركي لأكثر من ١٥ عامًا. ثمة ثلاثة تطورات مفاهيمية ترتبط بجورجوبولوس (وذلك على الرغم من أنه لم يكن مصدرًا لأي منها بمفرده؛ فقد كانت موجودة بالفعل بشكلٍ ما في الأوساط العلمية) ومن بين هذه الإسهامات الثلاثة، ظل هناك إسهامان محوريان في دراسة القشرة الحركية حتى يومنا هذا.
يمكن توقع إسهامه الأول من اقتباسه: التركيز على الحركات الطبيعية. تدرَّب جورجوبولوس مع عالم الأعصاب الحسية فيرنون ماونتكاسل، وتأثر بشدة بطريقته في التفكير. اتخذ ماونتكاسل منهجًا شُموليًّا لدراسة الدماغ. تساءل عن كيفية تمثيل الأحاسيس الجسدية في كل خطوة؛ بدءًا من الخلايا العصبية التي تستشعر اللمس في الجلد، ووصولًا إلى استخدام الوظائف الإدراكية العليا في الدماغ لهذه المعلومات الحسية. أراد جورجوبولوس دراسة التحكم الحركي باستخدام النهج الراسخ المحترَم الذي وضعه ماونتكاسل في مجال الأنظمة الحسية. وخلال سعيه نحو ذلك، كان جورجوبولوس على علم بأنه يتعين عليه التخلص من الدراسات الخاصة بالحركات المفصلية غير السلسة. لفهم كيفية تمثيل معلومات الحركة ومعالجتها بواسطة الدماغ، احتاج إلى دراسة ذلك في سياق الحركات الطبيعية بكل تعقيداتها الكاملة، التي تتضمن العديد من العضلات. من أجل ذلك، اتجه إلى واحدةٍ من أهم وأكثر الحركات الأساسية في ذخيرة الرئيسيات، وهي: الوصول أو الاستهداف.
للوصول إلى شيءٍ أمامك، تعتمد على مجموعةٍ من العضلات التي تُحيط بمرفق الذراع. ولا عجب في أن هذا يتضمن عضلات العضُد؛ مثل العضلات ثنائية الرءوس والعضلات ثلاثية الرءوس. كما يتضمن العضلة الصدرية الأمامية (مجموعة من الأنسجة العضلية تمتد من منتصف الصدر إلى الذراع)، والعضلة الدالية (قطاع يقع أمام الإبط مباشرة)، والعضلة الظهرية العريضة، التي تمتد من أسفل الظهر حتى الإبط. وبناءً على تفاصيل عملية الوصول، قد تتطلب الرسغ والأصابع أيضًا. تختلف الحركة التي تتضمن مجموعة من العضلات المنفردة اختلافًا كبيرًا عن تجارب ثَنْي المِعصَم، التي أجراها إيفارتس.
لدراسة هذه المهمة المتعددة الأوجه، درَّب جورجوبولوس القرود على تنفيذ مهمة على منضدة مضيئة صغيرة. أمسك كل قرد في يده قضيبًا، تمامًا كما تُمسك ملعقةً خشبية عند التقليب في قِدْر كبيرة. كان هذا القضيب موصَّلًا بجهاز قياس، وعند تشغيل الضوء للإشارة إلى الموضع الذي يمكن للقرود الوصول إليه، حرَّكت القرود القضيب إلى هذا الموضع. رُتبَت الأضواء في شكل دائرة، كما تُرتب الأرقام على وجه الساعة، وكان طول نصف قطر الدائرة يقارب طول بطاقة اللعب. كانت القرود تعود دائمًا إلى مركز الدائرة قبل أن تصل إلى الموضع التالي. ونظرًا لوجود ثماني بقع من الضوء تفصلها مسافات متساوية على الدائرة، حركت القرود أذرعها ثماني حركات في اتجاهات مختلفة. أصبح هذا الإعداد البسيط جزءًا من تقليد دراسة «الوصول من المركز إلى الهدف المحدد» في علم الأعصاب الحركي.
أما عن إسهامه الثاني، فقد استهدف جورجوبولوس نظرية الحركيات أو الكينتيكا التي قدمها إيفارتس، واستبدل بها منظوره الخاص حول ما تُمثِّله الخلايا العصبية في القشرة الحركية.
كان إيفارتس قد استخدم حركة الرسغ السريعة، ليلاحظ أن النشاط العصبي يُمثِّل القوة، لكن بعض العلماء وجدوا أن هذه العلاقة لم تكن موثوقة. فخلال الحركات الأكثر تعقيدًا على الأخص، يتغير مقدار القوة التي تنتجها العضلة مع تغيُّر حركة المفاصل والعضلات المحيطة بها. على سبيل المثال، تحريك الكتِف يغير آلية حركة المرفق. وهذا ما يجعل سلسلة التأثيرات، التي تبدأ بالنشاط العصبي ثم تنتقل إلى نشاط العضلات وتنتهي بتوليد قوةٍ، أقلَّ قابليةً للتفسير، ويجعل النظرية الحركية أقل تأثيرًا. كانت هناك مؤشراتٌ أيضًا على أن الكثير من الخلايا العصبية لا تهتم بالضرورة بتوليد قوةٍ في الجسم.
لذا عكس جورجوبولوس منظوره. فبدلًا من أن يكتفي بدراسة النشاط العصبي الذي يرتبط بعضلات منفردة، اهتم بدراسة النشاط العصبي الذي يتحكم في الحركة ككل. وقد وجد في أكثر من ثُلث الخلايا العصبية في القشرة الحركية علاقةً واضحة ومباشرة جدًّا بين النشاط العصبي، والاتجاه الذي يتحرك فيه الذراع. على وجه التحديد، وجد أن هذه الخلايا العصبية لها اتجاه مفضل. وهذا يعني أنها تُطلق إشارات عصبية أكثر، عندما يصل الحيوان إلى ذلك الاتجاه، لنفترض أن هذا الاتجاه المفضل يكون عند الساعة الثالثة، وسينخفض معدل إطلاق الإشارات كلما كانت الحركة أبعد عن هذا الاتجاه (يكون الإطلاق أقلَّ في اتجاه الساعة الثانية والرابعة، ويكون أقلَّ أيضًا في اتجاه الساعة الواحدة والخامسة، وهكذا). هذا الاستنتاج المتعلق ﺑ «انتقائية الاتجاه» أوضح ضِمنيًّا أن القشرة الحركية تهتم بالكينماتيكا (مواضع الحركة وأنماطها) أكثر من الكينتيكا (القُوى التي تتضمنها الحركة). بعد الجدال حول ما إذا كان عمل القشرة الحركية مجرَّد تشنجاتٍ فردية أم حركات مُنسَّقة، أصبح الجدال حول ما إذا كان دور القشرة الحركية يرتبط أكثر بالكينتيكا أم بالكينماتيكا؛ هو النقاش الكبير التالي في علم الأعصاب الحركي.
تختص الكينماتيكا بدراسة السمات الوصفية للحركة، التي تتحدد بصرف النظر عن القوى التي تولِّدها. بهذه الطريقة، توضح المتغيرات التي تتضمنها الكينماتيكا النتيجة المرجوَّة من حركة الذراع، لكنها لا توضح التعليمات الخاصة بكيفية توليد هذه الحركة. الانتقال من نموذج يفترض أن القشرة الحركية تحمل شفرة الحركة من منظور الكينتيكا (القُوى المؤثرة على الحركة) إلى نموذج يفترض أنها تحمل شفرة الحركة من منظور الكينماتيكا (الأنماط والمواضع)؛ غيَّر من طريقة توزيع العمل في الجهاز الحركي. حين يتعلق الأمر بأحد متغيرات الكينتيكا، وهو القوة، نجد أن العلاقة بين هذا المتغير والمستوى الفعلي لنشاط العضلات تتحدد من خلال عملياتٍ حسابيةٍ بسيطة؛ في المقابل، نظرًا لأن قيم الكينماتيكا لا تحدد سوى الموضع الذي لا بد أن يكون فيه الذراع في الفراغ، فإنها تُمثِّل تحديًا أكبر لبقية الجهاز الحركي. تقع مسئولية تغيير النظام الإحداثي على التراكيب التي تلي القشرة الحركية؛ أي أخذ مجموعة من المواضع التي نرغب في الانتقال إليها خارج الجسم، وترجمتها لأنماطٍ من النشاط العضلي. أصبح جورجوبولوس مُدافعًا عنيدًا لا يتوانى في الدفاع عن هذا المنظور الكينماتيكي، لوظيفة القشرة الحركية لعقود تالية.
قدم جورجوبولوس تغييرًا أخيرًا في كيفية فحص البيانات. إذا كانت الخلايا العصبية تتوافق مع اتجاه الحركة العام، فإن هذا يعني أن كل خلية عصبية لا يمكنها بمفردها التحكُّم في عضلة أو مجموعة من العضلات. إذن، لِمَ يتعيَّن علينا فحص كل خلية عصبية على حِدة؟ سيكون من المنطقي أكثر فحص نشاط جميع الخلايا العصبية، أو مجموعة الخلايا العصبية بالكامل.
أثبت هذا المنهج، القائم على مستوى «مجموعةٍ من الخلايا» لتفسير البيانات، أنه قوي؛ وربما قوي جدًّا. بعد هذا الجهد البحثي، ظهرت عدة دراسات توضح معلومات أخرى يمكن استخلاصها من القشرة الحركية، إذا وضعت مجموعة الخلايا بالكامل في الاعتبار، بما في ذلك معلومات حول حركة الأصابع وسرعة الذراع والنشاط العضلي والقوة والموضع، وحتى المعلومات الحسية حول الإشارات المرئية التي توضح أين ومتى نتحرك. على الرغم من أن الاتجاه كان واحدًا من المتغيرات الأصلية التي يمكن فك شفرتها باستخدام هذا المنهج، فإنه لم يكُن المتغير الوحيد. كان اكتشاف متغيرات كنتيكية وكنماتيكية (بالإضافة إلى أنواع أخرى من المعلومات) في النشاط؛ ضربةً سُددت إلى نظرية جورجوبولوس، التي أفادت بأن القشرة الحركية تقتصر على تمثيل معلوماتٍ حول أنماط الحركة (كينماتيكا) فقط. من المفارقة أن إحدى مساهماته الخاصة — أي التركيز على مجموعة الخلايا العصبية — هي التي قوضت نظريته.
انخفضت ثقتنا أكثر وأكثر في الرؤى التي تمدُّنا بها المعلومات التي نستخلصها من القشرة الحركية عن وظيفتها، من خلال استخدام المناهج الحاسوبية. تمكَّن العلماء الذين شيَّدوا نماذج للجهاز الحركي بهدف تمثيل المتغيرات الكنتيكية، من توضيح أنه يمكن الحصول على متغيرات كينماتيكية من هذه النماذج أيضًا. أحد هؤلاء العلماء، وهو إيبرهارد فيتز، ذهب إلى حد المقارنة بين البحث عن تمثيلات المتغيرات المختلفة في القشرة الحركية والعرَّافين المحظوظين: «مثل الوصول إلى التنبُّؤات من خلال الأنماط التي يراها العرافون في أوراق الشاي، يمكن استخدام هذا المنهج للوصول إلى تفسير من خلال تطبيق الأُطُر المفاهيمية على الأنماط التي لها مغزًى».
هذه الاستنتاجات كشفت عن افتراض كان كامنًا دومًا تحت السطح مباشرة، وهو أن الخلايا العصبية في القشرة الحركية لا تحمل شفرة قيمة واحدة فقط. فالخلايا العصبية في القشرة الحركية لا تحمل شفرة الحركة من منظور الكنماتيكا وحدها ولا الكنتيكا وحدها؛ بل مزيج منهما، وتشمل ما هو أكثر من ذلك. بعدة طرق، كانت هذه الحقيقة واضحة لفترة طويلة. يمكن ملاحظة هذه الحقيقة في الخلايا العصبية التي لا تُظهر استجابات مُنمَّقة، ومنظمة للقوة أو الاتجاه، أو الخلايا العصبية التي تُظهر تغيُّرات كبيرة في استجاباتها عند إجراء تغييراتٍ طفيفةٍ في التجربة، أو ببساطة في سلسلةٍ ممتدةٍ لعقود من الباحثين الذين يجدون دليلًا لصالح أحد الطرفَين (الكنماتيكا) وآخرَ لصالح الكنتيكا مرات ومرات.
وفقًا لبعض الآراء، ضل مجال الدراسة عن طريقه؛ لأنه سلك بشكلٍ أعمى الطريق الذي رسمه علماء آخرون، وهو اعتبار أن دراسة الأنظمة الحسية التي ألهمت جورجوبولوس تُعد نظامًا ضعيفًا لكيفية فهم الحركة. لم يُحَلَّ الجدل بشأن السؤال عن المتغيرات التي تحمل شفرتها القشرة الحركية، لا لأن السؤال كان صعبًا؛ بل لأن صيغة السؤال كانت خاطئة منذ البداية. لا يتعين على الجهاز الحركي تتبُّع بارامترات الحركة، كل ما عليه هو القيام بحركات.
كما تبيَّن في الفصل السابق، كونُ العلماء قادرين على ملاحظة هيكل للنشاط العصبي فقط؛ لا يعني بالضرورة أن الدماغ يستخدمه. ثمة تشبيه شائع يقارن بين القشرة الحركية ومحرك السيارة. المحرك مسئول بالطبع عن حركة السيارة. إذا أراد أحدهم قياس نشاط أجزائه المختلفة — المكبس وأحزمة المحرك، إلى آخره — فمن المحتمل أن بعض هذه القيم، في ظل بعض الظروف، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقوة الناتجة عن السيارة أو بالاتجاه الذي تتجه إليه. لكن هل يمكننا وصف وظيفة المحرك باعتبارها متأثرة بهذه المتغيرات أو انعكاسًا لها؟ أم إن تمثيل المتغيرات مجرد ممارسة مقبولة ربطها العلماء بالقشرة الحركية، وهؤلاء العلماء هم أنفسهم الذين يفهمون الحركة من خلال مفاهيم القوة والميكانيكا والفيزياء؟ كتب عالم الأعصاب الحركية جون كالاسكا عام ٢٠٠٩: «عَزْم دوران المفصل هو بارامتر ميكانيكي يُنسب إلى العالِم نيوتن، ويعرِّف قوة الدوران المطلوبة لإنتاج حركة مفصل معينة … من المستبعد جدًّا أن تكون الخلية العصبية [في القشرة الحركية] على عِلم بالنيوتن متر، أو كيفية حساب عدد وحدات النيوتن متر اللازمة لأداء حركة معينة».
•••
كونُ السؤال عن الشفرات التي تحملها القشرة الحركية، ليس السؤال الصحيح الذي يجب طرحه لفهم القشرة الحركية لا يعني أن الإجابة ليس لها قيمة. بالفعل، محاولة فك شفرة المعلومات التي تحملها القشرة الحركية قد تكون مفيدةً بعض الشيء، لا لمساعدتنا في فَهْم الجهاز الحركي، بل لتجاوز ذلك والذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك تمامًا.
في غرفة صغيرة خارج بروفيدنس عاصمة ولاية رود آيلاند، عندما قرَّبت امرأة بالغة من العمر ٥٥ عامًا تُدعى كاثي هاتشينسون كوبًا من القهوة من فمها، وأخذَت رشفة، كانت أول مرة تفعل فيها ذلك منذ أكثر من ١٥ عامًا. كانت أيضًا أول مرة يحقق فيها شخص مصاب بالشلل الرباعي هذا الإنجاز. أصيبت هاتشينسون بالشلل من الرقبة لأسفل الجسم، عندما كانت في التاسعة والثلاثين من عمرها، بعد أن تعرَّضت لسكتةٍ دماغيةٍ أثناء الاعتناء بالحديقة في يوم ربيعي عام ١٩٩٦. وفقًا لحوار أجرته مع مجلة «وايرد»، سمعت عن «برين جيت» — وهي مجموعةٌ بحثيةٌ مقرها جامعة براون تستكشف استخدام واجهات تربط بين الدماغ والكمبيوتر، لتمكين المرضى من استعادة الحركة — من صديقٍ لها يعمل في المستشفى. سجلت هاتشينسون في تجربتهم الإكلينيكية.
وكجزءٍ من دراستهم البحثية، زرع علماء «برين جيت» جهازًا في دماغ كاثي — عبارة عن قطعة مربعة من المعدن أصغر من زر القميص — يتكون من ٩٦ قطبًا كهربيًّا مثبتًا في منطقة التحكم بالذراع في القشرة الحركية اليسرى. تُضخ أنشطة الخلايا العصبية المسجَّلة من خلال هذه الأقطاب الكهربية، عن طريق سلكٍ يصل ما بين رأسها ونظام حاسوبي. يتصل هذا النظام الحاسوبي بذراع روبوت مثبت على حامل إلى يمين كاثي. كان الذراع نفسه غريبًا؛ إذ كان منتفخًا وغير تقليدي وأزرق لامعًا، لكن اليد في نهايته يمكن تمييزها بسهولة أكبر، وتحتوي على مفاصل دقيقة مفصَّلة باللون الفضي غير اللامع. عندما تحكمت كاثي فيها، كانت حركاتها غير سلسة. توقف الذراع وتحرك للخلف قبل أن يُحضر القهوة لها أخيرًا. لكنه في نهاية الأمر أنهى المهمة، واكتسبت المرأة التي فقدت القدرة على تحريك أطرافها، القدرة على تحريك هذا الذراع.
على الرغم من أن هذا التحكم يبدو سهلًا وغير مثالي، فإنه لم ينشأ ما بين طَرفة عينٍ وانتباهتها. فلكي تعرف الآلة كيفية الاستماع للقشرة الحركية لكاثي، لا بد أن تتدرَّب على ذلك. وقد حققت مجموعة «برين جيت» هذا بجَعْل كاثي تتخيل تحريك ذراعها في اتجاهات مختلفة. وعليه، فإن الأنماط في النشاط العصبي يمكن أن ترتبط بأوامر تحريك الذراع في اتجاهاتٍ مختلفة. وبهذه الطريقة، يعتمد التحكم في هذه الواجهة التي تربط بين الدماغ والكمبيوتر على وجود انتقائية الاتجاه في القشرة الحركية. بمعنى أنه إذا لم يكُن من الممكن قراءة اتجاه الحركة والنوايا الأخرى؛ كالإمساك بشيء أو تركه، من مجموعة من الخلايا العصبية الموجودة في القشرة الحركية؛ فلن تعمل الواجهة التي تربط الدماغ بالكمبيوتر.
تعتمد هذه الأجهزة أيضًا على العديد من الأدوات الرياضية الثقيلة التي تعمل في الخلفية. لمحاولة أداء حركات سلسة قدر الإمكان، استخدمت مجموعة «برين جيت» خوارزمية تدمج مدخلات من النشاط العصبي بمعلومات حول اتجاه الحركة السابقة. علاوة على ذلك، بعض الحركات الدقيقة ليد الروبوت ومِعصمه أُعدِّت برمجتها مُسبقًا في الجهاز، بحيث يمكن للمستخدم بدءُ سلسلةٍ كاملةٍ وتفصيلية من الحركات، من خلال تخيُّل أوامر بسيطة. هذا حلٌّ عملي لمدى صعوبة فَهْم أوامر الحركة التفصيلية من نشاط مجموعة من الخلايا العصبية.
في حين أن هذه الجهود المضنية لبناء أجهزة حركية يتحكم فيها الدماغ، تعطي بعضَ الأمل للمرضى، فإنها تعكس مدى ضآلة فَهْمنا للدور الذي تلعبه القشرة الحركية في الحركة السليمة.
•••
إذا كان فك الشفرة، إذا ما قورن بالفهم، أكثر إفادة في الحصول على تطبيقات هندسية عملية، فما الذي يمكننا استخدامه لفهم القشرة الحركية؟
ظل التركيز على مجموعات الخلايا العصبية شائعًا، ولهذا سبب وجيه. لا بد أن الخلايا العصبية في القشرة الحركية تعمل معًا إلى حدٍّ ما لتوليد حركاتٍ، فالقشرة الحركية في نهاية الأمر قد خُصِّص لها مئات الملايين من الخلايا العصبية، للتحكم في ٨٠٠ عضلة فقط من عضلات الجسم. لكن هذا يمثل تحديًا أمام العلماء: كيف يمكنهم فَهْم نشاط مئات الخلايا العصبية التي سُجِّلت بشكلٍ طبيعي خلال التجربة؟ في منهج مُتَّجه مجموعة الخلايا العصبية الذي انتهجه جورجوبولوس، تكون الأفكار حول ما تفعله الخلايا العصبية جزءًا لا يتجزأ منه: إذا كانت الخلايا العصبية تحمل شفرة الاتجاه، فإن الاتجاه هو ما سنستخلصه من النشاط العصبي. لكن مع محاولة علماء الأعصاب الحركية الانتقال من السؤال عما تحمل القشرة العصبية شفرته، إلى السؤال عما تفعله القشرة الحركية، لم تعد المناهج التي تعتمد على استخلاص معلومات محددة منطقية. تعيَّن عليهم إيجاد وسيلة جديدة للنظر إلى مجموعة الخلايا العصبية.
الفرق الجوهري بين دراسة القشرة الحركية باستخدام منهج الخلية العصبية المنفردة، في مقابل دراستها باستخدام منهج مجموعة الخلايا العصبية هو عدد الأبعاد. في حين أن الفضاء الذي نعيش فيه ثلاثي الأبعاد، فإن الكثير من الأنظمة التي يدرسها العلماء لها أبعادٌ أكثر بكثير. على سبيل المثال، نشاط مجموعةٍ مكونةٍ من ١٠٠ خلية عصبية سيكون له ١٠٠ بُعد.
يمكن أن تكون معرفة كيفية ارتباط هذا الفضاء العصبي المجرد العالي الأبعاد من الأساس، بالفضاء الواقعي الملموس؛ أمرًا صعبًا. لكن يمكننا الاعتماد على حدسنا بالفضاء المادي، من خلال اعتبار أن مجموعة الخلايا العصبية تتكوَّن من ثلاث خلايا عصبية فقط. على وجه التحديد، بالاستعاضة عن الأمتار أو الأقدام بعدد الإشارات العصبية الكهربية التي تُطلقها الخلية العصبية، يمكن وصف نشاط مجموعة من الخلايا العصبية باعتبارها موضعًا في فضاء. على سبيل المثال، عند أداء حركة، قد تُطلق أول خلية عصبية في المجموعة خمس إشاراتٍ عصبية كهربية، وتطلق الثانية ١٥ وتُطلق الثالثة تسعة. هذا يعطي إحداثياتٍ في الفضاء العصبي، بالطريقة نفسها التي تصف بها خريطة الكنز عدد الخطوات المطلوب اتخاذها نحو الأمام، ثم نحو اليمين، ومدى العُمق الذي نحفر به. سيشير نمطٌ آخر من أنماط النشاط العصبي إلى موضع آخر. بالنظر إلى النشاط العصبي للقشرة الحركية عبر مجموعةٍ متنوعة من الحركات، يمكن للعلماء السؤال عما إذا كانت المواضعُ المختلفةُ في هذا الفضاء، تقابل أنواعًا أو مكوناتٍ مختلفة للحركة.
إلا أن تخيُّل هذا النشاط يصبح أمرًا صعبًا. فنظرًا لكوننا نحن البشر نعيش في عالم ثلاثي الأبعاد، فإننا نواجه مشكلةً في التفكير فيما هو أبعد من ذلك. ما الذي كان سيبدو عليه الفضاء العصبي، إذا أضيفت خلية عصبية رابعة إلى المجموعة؟ ماذا لو احتوى الفضاء العصبي على ١٠٠ خلية عصبية أو ١٠٠٠؟ في هذه الحالة ينهار حدسنا. يُقدِّم عالم الكمبيوتر جيفري هنتون نصيحةً بشأن هذه المشكلة: «للتعامل مع المستويات الفائقة في فضاءٍ مكوَّنٍ من ١٤ بُعدًا، تخيل فضاء ثلاثي الأبعاد وقُل لنفسك إنه «ذو ١٤ بُعدًا» بصوت مرتفع».
لحسن الحظ أن هناك حلًّا لمشكلة وجود أبعاد كثيرة، وهو تخفيض الأبعاد. تخفيض الأبعاد عبارة عن تقنية رياضية يمكن من خلالها تناول المعلومات الموجودة في فضاءٍ كثير الأبعاد، وتمثيلها باستخدام أبعادٍ أقل. يعتمد ذلك على الفرضية التي تفيد بأن بعض هذه الاتجاهات الأصلية مكرر، وهو ما يعني أن العديد من الخلايا العصبية تقول الشيء نفسه. في مجموعة أبعادها ١٠٠ بُعد، إذا تمكنت من إيجاد أنماط النشاط العصبي الأساسية لهذه المجموعة، والأنماط الأخرى التي تُعَد إعادة تدويرٍ لهذه الأنماط الأساسية، فستتمكَّن من وصف هذه المجموعة العصبية باستخدام أقل من ١٠٠ بُعد.
فكِّر في الشخصية. كم عدد الأبعاد الموجودة في شخصية الإنسان؟ تحتوي اللغة العربية على قائمة من الأوصاف المحتملة: مقبول ومرِن، ومنتقِد لذاته، وطيب ومتسامح، ومبدِع وساحر وهادئ، ومنظم وعنيف، ودقيق وجاد وذكي، وما إلى ذلك. يمكن اعتبار كل صفة من هذه الصفات بُعدًا منفصلًا؛ بحيث يوصف كل شخص وفقًا لموضعه في فضاء الشخصية العالي الأبعاد، بناءً على تقييماتهم في كلٍّ من هذه الأبعاد. لكن يتضح أن بعض السمات الشخصية ترتبط ببعضها. على سبيل المثال سمة «المهارة» يمكن أن تُعتبر أيضًا «سرعة بديهة». قد يكون من الأنسب أن نفكِّر في المهارة وسرعة البديهة باعتبارهما مقياسَين للسمة الأساسية، التي ربما نطلق عليها «الذكاء». إذا كان الأمر كذلك، فإن البُعدَين اللذَين يُمثلان المهارة وسرعة البديهة يمكن أن يحل محلَّهما البُعد الذي يمثِّل الذكاء. هذا يخفِّض الأبعاد. في حالة وجود شخص مصادفةً يتسم بالمهارة لكنه ليس سريع البديهة، أو سريع البديهة لكنه ليس ماهرًا، فإن هذا التخفيض لن يؤدي إلى التضحية بمعلومات جوهرية. فبالنسبة إلى الغالبية العظمى من الأشخاص، وصفهم بالذكاء وحده سيخبرنا عما نحتاج إلى معرفته عن هذه الجوانب من شخصيتهم.
بالفعل، يعتمد معظم اختبارات الشخصية الشائعة على فرضية أن عددًا قليلًا من السمات الأساسية كافٍ لتفسير التنوع البشري. على سبيل المثال، اختبار «مايرز بريجز» الشهير يدَّعي أن الشخصية لها أربعة أبعاد فقط: الحدس مقابل الإحساس، والشعور مقابل التفكير، والانطواء مقابل الانبساط، والإدراك مقابل الحُكم. وُضِع نهج قائم على أسس علمية أكثر (يُعرف باسم سمات الشخصية الخمس الكبرى) يضع خمسة أبعاد للشخصية: الوفاق والعصابية والانبساط والضمير والانفتاح. يُشار إلى هذه باسم العوامل «الكامنة»؛ لأنه يمكن التفكير فيها باعتبارها السمات الأساسية التي تولِّد العديد من أنماط الشخصية المختلفة التي نراها.
لكن هذه التقنية تعمل من خلال التركيز على «التباين». يشير التباين إلى مدى تشتت نقاط البيانات المختلفة. على سبيل المثال، على مدار ثلاث ليالٍ، إذا نام شخص ثماني ساعات، وثماني ساعات وخمس دقائق، وسبع ساعات و٥٥ دقيقة، فسيكون نوم الشخص منخفضَ التباين. قد ينام الشخص الذي يكون نومه مرتفعَ التباين ٨ ساعات في المتوسط أيضًا، لكن هذا المتوسط قد يكون موزَّعًا بشكل متباين تمامًا على مدار الليالي الثلاث، لنقُل ست ساعات و١٠ ساعات وثماني ساعات.
الأبعاد التي تتَّسم بالتباين الشديد تُعد مهمةً؛ لأنها قد تقدِّم معلومات مفيدة. على سبيل المثال، من الأسهل معرفة الحالة الانفعالية لشخص يكون هادئًا أحيانًا ويصرخ في أحيانٍ أخرى، مقارنة بشخص لا تظهر عليه الانفعالات ويبدو دائمًا بنفس الوجه الجامد. وبالمثل، من الأسهل تصنيف الأشخاص وفقًا للسمات التي تختلف كثيرًا من شخص لآخر، مقارنة بالسمات التي تشيع بين الناس. إدراكًا لأهمية التباين، يتمثَّل الهدف الرئيسي من تقنية تحليل المكونات الأساسية في إيجاد أبعاد جديدة — وهي مزيج من الأبعاد الأصلية، بنفس الطريقة التي يكون بها الذكاء مزيجًا من المهارة وسرعة البديهة — تُمثِّل أكبر قدرٍ من التباين الملاحظ في البيانات. هذا يعني أن معرفة أين تقع نقطة بياناتٍ وفقًا لهذه الأبعاد الجديدة، ستظل تخبرنا بالكثير عنها، حتى لو كان هناك عدد أقل من هذه الأبعاد. على سبيل المثال، لنفترض أن لدينا مجموعةَ خلايا عصبية مكونة من خليتَين عصبيتَين، ونريد أن نصف نشاط هذه المجموعة برقمٍ واحد فقط.
لنقُل إننا سجلنا نشاط هاتَين الخليتَين العصبيتَين أثناء حركات مختلفة؛ لذا لدينا لكل حركة زوجان من الأعداد يمثلان عدد الإشارات العصبية الكهربية المسجل من كل خلية عصبية. إذا مثلنا هذه الأزواج بالنقاط باستخدام المحور «س» لإحدى الخليتَين، والمحور «ص» للخلية الأخرى، فقد نرى أن البيانات تقع على طول خطٍّ مستقيم لا أكثر ولا أقل. وعليه، يمكن أن يصبح هذا الخط البُعدَ الجديد لدينا. الآن، بدلًا من وصف النشاط أثناء كل حركة في صورة زوجَين من الأعداد، يمكننا وصفها في صورة عددٍ واحد يشير إلى مكان وقوع النشاط على الخط.
تقليل الأبعاد بهذه الطريقة يؤدي إلى استبعاد بعض المعلومات. فنحن لا نعلم، على سبيل المثال، مقدار بُعد النشاط عن هذا الخط إذا كنا لا نصف سوى مكان وقوعه على الخط، إلا أن المقصد من ذلك هو تحديد الخط الذي يعكس أكبر قدر من التباين، وبهذا نخسر أقل قدر من المعلومات.
إذا لم تقع البيانات على طول خط مستقيم، أي إذا كان نشاط الخليتين العصبيتَين غير متماثل تمامًا، فلن ينجح هذا. في هذه الحالة سنقول: إن مجموعة الخلايا العصبية ثنائية الأبعاد هذه تَستخدم بالفعل بُعدَيها بالكامل، ولا يمكن تخفيض أبعادها. لكن كما ناقشنا سابقًا، ثمة العديد من الأسباب التي تجعل النشاط العصبي متكررًا، وعليه فإن تقليل الأبعاد ممكن.
طُبقت طريقة تقليل الأبعاد بنجاح على جميع أنواع البيانات العصبية على مدار سنوات. وقد طُبقت طريقة تحليل المكونات الأساسية في وقتٍ مبكرٍ من عام ١٩٧٨، وذلك عندما استُخدِمت لتوضيح أن نشاط الخلايا العصبية الثماني المسئولة عن حمل شفرة موضع الركبة، يمكن تمثيله جيدًا باستخدام بُعدٍ واحد أو اثنين فقط. أما استخدام تحليل المكونات الأساسية في الدراسات المتعلقة بالقشرة الحركية، فلم يشهد تزايُدًا إلا في العقد السابق. ويرجع هذا إلى أن تقليل الأبعاد ساعد علماء الحركة على رؤية المعلومات التي ما كانت لتتضح لولا ذلك. فالنظر إلى التقلُّبات في نشاط ما يزيد عن ١٠٠ خلية عصبية ممثلة بخطٍّ واحد؛ يجعل أنماط نشاط هذه الخلايا العصبية واضحةً للعين المجردة. بالنظر إلى تطور نشاط مجموعة من الخلايا العصبية الممثلة في صورة شكل ثلاثي الأبعاد، يمكن للعلماء الاستعانة بحدسهم حول الفضاء لفهم ما تفعله الخلايا العصبية. وعليه، فإن رؤية هذه المسارات يمكنها أن تخلق قصصًا جديدة حول آلية عمل الجهاز الحركي.
على سبيل المثال، تساءلت دراسات أجريت في معمل كريشنا شينوي، في جامعة ستانفورد في بدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عن كيفية استعداد القشرة الحركية للحركات. لفعل هذا، درَّب الباحثون قرودًا لتنفيذ عمليات قياسية لمد الذراع من أجل الوصول إلى شيء ما، لكنهم وضعوا مهلةً ما بين الوقت الذي حددوا فيه موضع الحركة، والوقت الذي يتعين فيه على القرد أن يبدأ بالحركة. مكنتهم هذه المهلة من التسجيل من القشرة الحركية في أثناء استعدادها للحركة.
كان الافتراض طويل الأمد يفيد بأنه خلال الاستعداد للحركات، تطلق الخلايا العصبية إشارات عصبية كهربية بنمطٍ يشبه النمط الذي تُطلق به أثناء الحركة، لكن بمعدلات إجمالية أقل. أي إنها ستقول الشيء نفسه لكن بشكلٍ أهدأ. في فضاء النشاط العصبي، هذا سيضع النشاطَ التحضيري في نفس اتجاه نشاط الحركة، إلا أنه لن يكون قريبًا منه في الموضع. لكن بعمل نسخة منخفضة الأبعاد للنشاط العصبي أثناء تخطيط الحيوان للحركة وأثناء تنفيذه لها، وجد الباحثون نتائج مختلفة. لم يكن النشاط قبل الحركة مجرد نسخة مقيدة فحسب من النشاط خلال الحركة؛ بل كان يحتل منطقة مختلفة تمامًا من فضاء النشاط.
هذا الاستنتاج، على كونه مدهشًا، يتَّسق مع النظرة الأحدث للقشرة العصبية. ركزت هذه الرؤية على حقيقة أن القشرة الحركية نظام ديناميكي، بمعنى أن الخلايا العصبية بداخلها تتفاعل بطريقة تجعلها قادرة على إنتاج أنماط معقدة من النشاط بمرور الوقت. ونظرًا لهذه التفاعلات بين الخلايا العصبية للقشرة الحركية يمكنها تلقِّي مُدخَلات قصيرة وبسيطة، وإنتاج مخرجات مفصَّلة وممتدَّة في المقابل. ما يجعل هذا مفيدًا جدًّا هو أنه يعني أن منطقة أخرى من الدماغ يمكنها أن تقرر الموضع الذي ينبغي أن ينتقل إليه الذراع، وأن ترسل هذه المعلومات إلى القشرة الحركية، وستنتج القشرة الحركية مسارًا كاملًا للنشاط العصبي اللازم، لجعل الذراع ينتقل إلى هذا الموضع.
في هذا الإطار، يمثل النشاط التحضيري «حالة أولية» لهذا النظام الديناميكي. تحدد الحالات الأولية الموضع في فضاء النشاط الذي بدأت مجموعة الخلايا عنده، لكن ما يحدد مسار المجموعة هو الاتصال بين الخلايا العصبية. بهذه الطريقة، تكون الحالات الأولية أشبه قليلًا بمداخل الزحاليق المائية أعلى المنصة: موضع المدخل له تأثير طفيف على مسار الزُّحْلوقة أو على الموضع الذي ينتهي عنده. ومن ثم، لا يوجد سبب يجعل النشاط التحضيري مشابهًا للنشاط في أثناء الحركة. كل ما يهم هو أن تصل القشرة الحركية إلى الحالة الأوَّلية، وستتولى الوصلات بين خلاياها العصبية بقيةَ الأمر.
منظور «الأنظمة الديناميكية» هذا لديه القدرة على تفسير السبب في صعوبة محاولات فهم القشرة الحركية. بالتفكير في هذه الخلايا العصبية — باعتبارها جزءًا من نظام أكبر، في هذا النظام تقود بعضُ الأجزاء حركات العضلات في اللحظة الحالية، في حين تتولى أجزاء أخرى التخطيط للخطوة التالية — يصبح من المتوقع أكثر أن تكون استجاباتها متنوعة وقابلة للتطويع. من المفارقات أن هذا المنظور الجديد أعاد المجال لجذورِه. يتوافق هذا النموذج الذي يمكن فيه أن تنتج عن المدخلات البسيطة مُخرجاتٌ مركبة جيدًا، مع استنتاجات فيريير التي تفيد بأن التحفيز يُنتج حركات طبيعية ممتدَّة. وبالفعل بُرِّئت ساحة فيريير في أوائل القرن الحادي والعشرين، حين أوضح مايكل جرازيانو الأستاذ بجامعة برينستون — باستخدام تقنيات التحفيز الحديثة — أن تحفيز القشرة الحركية لمدة نصف ثانية يستحث حركات طبيعية ومنسقة، مثل تقريب اليد من الفم أو تغيير تعبير الوجه.
•••
من المألوف أن يعترف العلماء بالأشياء التي يفتقرون إلى معرفتها. ففي النهاية يزدهر العلم في المجالات التي نفتقر فيها إلى المعرفة، والاعتراف بالافتقار إلى المعرفة في هذه المجالات مُهم من أجل تحقيق التقدم. لكن يبدو أن الباحثين في مجال الجهاز الحركي، على وجه التحديد، قد بالغوا كثيرًا في اعترافاتهم بالافتقار إلى المعرفة. فقد شغلوا فقرات بالحديث عن «الجدل الكبير» في مجالهم، وكيف أن هناك اتفاقًا ضئيلًا على نحوٍ ملحوظ، حتى بشأن خواص الاستجابة الأساسية للقشرة الحركية. كما أنهم سارعوا بالاعتراف بأنه «ما يزال تحقيق الفهم العميق لوظيفة القشرة الحركية أمرًا صعبًا.» وأن «السؤال عن كيفية ارتباط الاستجابات العصبية في القشرة الحركية بالحركة؛ لا يزال دون إجابةٍ حاسمة.» حتى إنهم كانوا يتساءلون في لحظات يأسهم: «لماذا تصعب الإجابة عن هذا السؤال الذي يبدو بسيطًا؟»
على الرغم من أن هذه الكلمات صيغت بالطريقة الرسمية التي تتسم بها الكتابة الأكاديمية، فإن هذه الكلمات توضح اعترافًا أمينًا بالحقيقة التعِسة؛ وهي أنه على الرغم من كون القشرة الحركية من أوائل مناطق القشرة المخية التي استُكشفت، ومن أوائل المناطق التي سُجِّل فيها نشاط الخلايا العصبية المنفردة أثناء القيام بسلوك معين، فإن الغموض الذي يكتنف القشرة الحركية لا يزال راسخًا ومُتجذِّرًا. كما رأينا بالطبع، لا يُعزى ذلك إلى عدم المحاولة؛ فقد حظِي تاريخ المجال بأعمال بطولية ومناقشات قوية، وبالطبع تحقق العديد من التطورات فيه أيضًا. لكن لم يسفر سوى عددٍ قليل من الجدالات الرئيسية عن تسوية كاملة، ربما باستثناء الجدل حول وجود القشرة الحركية ووظيفتها التي لا يمكن إنكارها.