صورة يفزعني صدقها
عن حرية الحركة أتحدث
حمار مربوط بحبل في وتدٍ، تلك هي العناصر المادية، التي أقام عليها الشاعر العربي الصورة التي رسمها في بيتين من شعره، ولست أذكر متى حفظتهما، ولا بد أن يكون ذلك منذ زمن بعيد، بل ولا أذكر من هو الشاعر، لا، بل تذكرته الآن، إنه «المتلمِّس» وما هو أهم من ذلك عندي، هو السؤال الذي طالما طرحته على نفسي في حالات التذكر التي تشبه هذه الحالة، والسؤال هو: لماذا تذكرت هذا المحفوظ القديم الآن؟ إذ كثيرًا ما ظننت أن لا علاقة هناك بين حادثة تصادفني، وبين ما تستدعيه من مخزون الذاكرة، لكنني لا أدع نفسي لتستريح إلا إذا بحثت فوجدت الرابطة بين الطرفين.
وليست العناصر المادية في الصورة التي رسمها الشاعر هي — بالطبع — كل ما يحمل البيتان، بل هي الركيزة الحسية التي اختارها الشاعر ليقيم عليها ما أراد إقامته من معانٍ، وإني لأوثر أن أرجئ ذكر البيتين حتى أعرض لبَّ المعاني التي أرادها الشاعر، وذلك لأني أعلم كم بات عسيرًا على القارئ اليوم أن يقرأ شعرًا، فأولًا: لم يرد الشاعر أن يسمي «الحمار» حمارًا، بل أسماه «عير الحي»، وذلك — في ظنِّي — لأن اسم «الحمار» قد ينصرف عند القارئ إلى تلك الحُمر التي يركبها السادة الأثرياء، والتي هي مطهمة بسروج من حرير، في حين أن الحمار الذي عناه الشاعر في صورته، إنما هو ذلك الضرب الذي يستخدمه سواد الناس في نقل الحجارة أو الرمل والزلط، أو ما إلى ذلك من أحمال! ولهذا فكثيرًا ما ترى الحمار المسكين في هذه الحالة مسلخ الظهر، معفَّر الجلد، ثم هو مع ذلك هزيل بارزةٌ عظامه لسوء ما تغذى، وثانيًا لا بد لنا إذا ما وردت كلمة «الوتد» في البيتين أن نستحضر في أذهاننا شيئًا من تاريخ الوتد؛ لأننا أميل إلى إهماله ونسيانه، فالوتد هو الآن قطعة من خشب، لكنه كان أيام عزه جزءًا من فرع شجرة حية خضراء، ولا بد لذلك الفرع أن كان يميس مع الرياح كأنه الغادة الحسناء يتأود عودها من عجب وخيلاء، وأحسب أن القارئ على علم بكثرة ما لجأ الشعراء العرب إلى فروع النبات يشبهون بها الغيد الحسان.
هكذا كان الحمار، والوتد الذي رُبط به، كلاهما في الصورة التي رسمها الشاعر، قد أحاط بهما، وسرى في جسديهما هوان وذل، وثالثًا لم يتركنا الشاعر لنتخيل في تلك الحالة الذليلة ما نتخيله، إذ خشي أن يذهب بنا الظن إلى افتراض أن يكون ذل الحمار وذل الوتد — كما رسمهما — قد جاءهما مصادفة، فما أكثر ما تهبط مصادفات الحياة بعزيز قوم إلى مذلة في أقل من لمح البصر، لكن حالة الحمار والوتد لم تكن من هذا القبيل، بل هو ذل أريد بهما عن عمد، ومع ذلك فهما مقيمان على ما أريد لهما من ضيم وكأنهما راضيان به، إذ تراهما وقد شملهما هدوء وسكون، فلا قلق ولا ملل ولا سخط. رابعًا إذا فرضنا أننا قد التقينا بذلك الشاعر فسألناه: من أين لك هذا كله عن الحمار والوتد؟ فإنه يجيب في ثاني البيتين بالبينة، إذ يقول عن الحمار إنه لم يقتصر على أن يكون مربوطًا «برمته» (الرمة هي الحبل تساق به الدابة)، بل إنه في وضعه ذلك «على الخسف»، وأما الوتد فإن سيده الذي غرسه في الأرض أخذ يدقه على رأسه حتى شجَّ له ذلك الرأس، ومع ذلك فقد بلغ من الهوان أن أحدًا من الناس لم يعطف عليه ببكاء أو رثاء.
والآن فلأذكر البيتين:
على أن روعة الشعر الجيد لا تنحصر في نصه، بكل ما يكون في ذلك من حلاوة لفظ، ودقة تصوير، بل إنها لتجاوز به تلك الحدود لتجعله قادرًا على تصوير مواقف وحالات لا حصر لأنواعها، مما قد يُصادف الإنسان في حياته، فلئن كانت الصورة في البيتين المذكورين خاصة بحمار ووتد أصابهما هوان وذل، بسبب ما فرض عليهما من قيود تشل فيهما حرية الحركة التلقائية، فإن هذه الصورة نفسها تنطبق أتم انطباق على مواقف أخرى كثيرة، وكأنما كانت تلك المواقف هي المقصودة بشعر الشاعر، ومن هنا كانت صورة الحمار المربوط برمته في وتد شُج رأسه من قسوة الدق عليه كثيرة الورود إلى مخيلتي، أستدعيها بالذاكرة من الوعاء الذي امتلأ بالمخزون، فهي صورة تقفز إلى ذهني دون أن يكون فيما أراه أمامي حمار ولا وتد، فتراني — كما أسلفت لك القول — لا أدع نفسي لتستريح حتى أجد العلاقة الخفية بين حادثة أراها وبين أن تقفز صورة الحمار والوتد إلى ذهني.
قد لا يكون الحمار — في الموقف الحادث — حمارًا ولا الرمة التي تربطه حبلًا (الراء في «الرُّمة» مضمومة)، ولا الوتد وتدًا، لكنها كثيرًا جدًّا هي تلك المواقف التي تستثير في مخيلتي الصورة التي رسمها الشاعر؛ إذ يكفي أن يكون في الموقف المعين «مربوط» و«رباط» و«رابط» بحيث ينتج عن ذلك الثالوث شلل في الحركة لتكون الصورة التي رسمها الشاعر دالةً على طبيعة ذلك الموقف، وأن أمثال تلك المواقف المشتملة على مربوط ورباط ورابط (أو مربوط به) لتتراوح عندي من الحادثة الصغيرة فصاعدًا إلى الحضارات حين يصيبها جمود يبطل فيها حرية الحركة.
حرية الحركة هي التي كانت معيارًا للتقدم في مسيرة الحياة منذ كانت في الدنيا حياة! وإن أشواط تلك المسيرة الكبرى لثلاثة تعاقبت في الظهور، نبات، وحيوان وإنسان، فإذا أمعنت النظر في تلك الخطوات الثلاث، وجدت أن العلاقة الفاصلة بين ما هو أدنى وما هو أعلى، إنما هي القدرة على الحركة في اتجاهات مختلفة وأبعاد متفاوتة، فالنبات يتحرك في نمائه حركة رأسية في مجملها، لكنه لا يتزحزح بجذعه من مغارسه على الأرض، والحيوان في وسعه الحركة من مكانه إلى مكان آخر، لكنه مقيد في ذلك بحدود، فضلًا عن أنه في حياته مقيد بلحظته الزمنية الحاضرة، فهو لا يعي تاريخ نفسه، ولا يجاوز لحظته الحاضرة إلى لحظة يتوقعها بخياله في مستقبله، وأما الإنسان فقد بلغ من حرية الحركة حدودًا كانت تسبق خياله، فهو لا يتقيد بمكان ولا يتقيد بزمان، فإذا عزَّت عليه الحركة في المكان والزمان بجسده، استطاع بخياله أن يصل إلى اللامتناهي مكانًا وزمانًا. وإنه لمن نافلة القول في هذا المجال أن نذكر ما قد أبدعه الإنسان لنفسه من وسائل الحركة الحرة: سيارات، وطيارات، وغواصات، وصواريخ.
لكن القول الذي ينبغي أن يُقال مرة وألف مرة حتى يرسخ بجذوره في رءوسنا إلى آخر خلية فيها؛ هو أن الإنسان؛ لكونه الذروة التي ليس بعدها خطوة تعلوها بالنسبة إلى كائنات الأرض، وذلك من ناحية الأجساد وأعضائها، قد انفرد — دون سائر الكائنات — بطرق يسلكها ليستأنف صعوده في مدارج الارتفاع، وأعني بذلك المسالك العقلية والوجدانية من دين وعلم وفكر وفن وما شئت بعد ذلك من فروع الحياة الثقافية للإنسان، ومعنى ذلك أنه إذا لم يكن هنالك وجه للمفاضلة بين إنسان في مقومات الكيان العضوي؛ فتلك المفاضلة واردة في مجال الثقافة بمختلف نواحيها ومعانيها. وإني لأستغفر الله إذا كنت أجاوز الحدود لو قلت إن في الجماعات البشرية ما يكاد يصبح «نوعًا» آخر بالنسبة لسواه، لا لأنه تغير وتطور في مكوناته العضوية، بل لأنه تغير وتطور في قدراته العقلية والوجدانية على نحو مكَّنه من أن يقهر الطبيعة قهرًا حتى خضعت له في الكثير من جوانبها، ثم كان أن نتج عن ذلك سيطرته على من لم يستطع من الجماعات البشرية أن يصنع صنيعه، وهي سيطرة قد تكون ظاهرة حينًا وخافية في معظم الأحيان، فإذا سألتني: ماذا قيد من تخلف من الجماعات البشرية فحال بينه وبين أن يصعد مثل ذلك الصعود؟! أجبتك بأن هذا هو موقف من المواقف الكبرى التي كلما طافت بذهني، قفزت إلى الصورة التي رسمها الشاعر العربي، وعليك أنت أن تتبين لنفسك، أين الحمار، وأين رمته المربوط بها على خسف، وأين الوتد الذي رُبط فيه!
إن حياة الكائن الحي مهما اختلف نوعه، ومن الكائنات الحية لغات وثقافات وحضارات، مرهونةٌ بسرعة التكيف للبيئة ومتغيراتها إن الكائن الحي يأخذ من بيئته ويعطيها، وإذا لم يتحكَّم فيها تحكمت فيه. إنه يأخذ منها الهواء شهيقًا ويردُّه إليها زفيرًا مختلفًا في عناصره عن الشهيق الذي أخذه، يأخذ منها طعامًا وشرابًا ويرده إليها فضلات، وهو يتحوَّط لها كلَّما أصابته منها صائبة احتمى بما يحميه، فإذا برد فيها الهواء أكثر مما يطيق، استدفأ بالثياب الملائمة، وهكذا وهكذا إلى ما ليس له آخر فيما بين الإنسان وبيئته من مداورة ومناورة وتعاون حينًا وعناد حينًا آخر، والفناء لمن قصَّر في تلك اللعبة العجيبة، وإنه لمَّما يُقال عن سبب اندثار الديناصور (وهو حيوان جسيم الضخامة حتى لترى هياكله العظيمة المعروضة في المتاحف الكبرى كالتي رأيتها في واشنطن وفي لندن قد بلغت من ضخامتها حدًّا جعلها تمتد به عدة أمتار) أقول إن سبب اندثار هذا الحيوان الجبار — فيما يقال — هو أنه قصَّر في سرعة التكيف للعوامل التي تفاجئه في بيئته، فإذا أصاب ذيله ما يؤذيه وتطلب سرعة الرد؛ أبطأت الرسالة الذاهبة من الذيل المصاب إلى المخ، حتى لتستغرق في طريقها نحو ثلاثة شهور، فإذا بدأ المخ في الاستجابة بتحريك البدن حركة ترد عن الذيل ما أصابه، كانت الفرصة قد أفلتت، واعتدى على الذيل ما اعتدى من عدو مهاجم.
فهل ترى فرقًا كبيرًا بين هذه الصورة التي يذكرونها عن حيوان الديناصور وانقراضه وبين أمَّة كان يمكنها بما لديها من مقومات ثقافية وحضارية أن تكون سريعة الحركة، شديدة الوعي بما حولها، لكنها لأسباب تريد التحليل والتوضيح جمدت وخمدت فتثاءبت فنامت، حتى دهمها من دهمها، ولم يقتصر الداهم على الذيل والأطراف كما حدث للديناصور، بل توغل في قلبها وفي حشاياها. أقول هل ترى فرقًا كبيرًا بين ما أصاب الديناصور وما قد يصيب أمة كالتي ذكرت، فإذا سألتني: وما الذي حال تلك الأمة دون أن تتحرك كما تحرك الأحرار؟ أجبتك: وهذا ما يحيِّرني، وكلما أحسست الحيرة، وثبت إلى ذهني من الذاكرة الصورة التي رسمها الشاعر العربي. وعليك أنت مهمة البحث، أين يكون الحمار في هذه الصورة؟ وأين يكون الوتد الذي يُشد إليه الحمار برمته؟ وهنا يعنُّ لي أن أثير لك سؤالًا فرعيًّا يستحق منا وقفة قصيرة، فالشاعر العربي قد اختار أن يصف الحمار والوتد بأنهما «الأذلان»، فلماذا لم يقل إنهما «الذليلان»؟ أيكون قد جعل الفرق بين «الذليل» و«الأذل» أن الأول ذليل ويعرف أنه كذلك، فيحاول أن ينفض عن نفسه الذلة إذا استطاع، وأما «الأذل» فهو الذليل الذي ليس له من الإدراك ما يعلم به أنه ذليل؟ ربما.
إن الأمة العربية في تمزقها وتخلُّفها اللذين يسودان حياتها الحاضرة لو كانت مدركة حقًّا كم تمزقت وكم تخلفت لحاولت بكل ما ورثته من مقومات الحضارة والثقافة أن تتخلص مما انحدرت إليه، لكنها تزداد كل يوم تمزقًا وتخلفًا، فالمقياس الوحيد الذي أراه معيارًا للتقدم هو أن أرى كم تشارك في بناء عصرها، وإذا كان العصر تشوبه عيوب، فمن المشاركة أيضًا أن تتصدى لإصلاح عيوبه، باعتباره عصرنا الذي كُتب علينا أن نعيش فيه، وبهذا المقياس الوحيد، نرى في وضوح كم يكون مقدارنا، فلو كان المعيار عدد المدارس والجامعات ومن تخرجوا فيها، لكان من الجائز أن نجد لأنفسنا ما نعتزُّ به في موكب العصر، لكن المدارس والجامعات برغم قيمتها الكبرى في تخريج أصحاب المهن والحرف، فهي دون المطلوب، والمطلوب هو أن نشارك في الابتكار في عملية البناء، وإلا فهل يعقل أن نشتري سلاح الحرب ممن هو عدو لنا، لو كنَّا لنقاتل أحدًا لقاتلناه؟ هل يُعقل أن أطب لمرضاي بطب من هو عدوِّي الذي يسعى إلى محوي إذا استطاع؟ إننا نخدع أنفسنا إلى الحد الذي يجعلنا نشتري من عدونا مصانع نُقيمها على أرضنا، ثم نقول إننا منافسوه، ولو كنَّا ممن تسكع على طريق الحضارة الإنسانية دون أن يضيف إليها شيئًا لقلنا إن ذلك — إذن — هو قدرنا في الحاضر كما كان قدرنا في الماضي، ولكننا بُناة حضارة كأمهر من بنوها، وينبوع ثقافة كأغنى ما عرفت الثقافة الإنسانية من ينابيع، وهذا يعني أن البركة الآسنة التي نعيشها الآن لا تتطلب منا سوى أن نشقَّ لها الأخاديد لتتدفق أنهارًا هادرةً كالتي عشناها في معظم عصور التاريخ، لكن ما حيلتنا وفينا من أخذته الغيبوبة، ثم حسب أنه هو الواعي وهو العالم، وهو الشاعر وهو الفنان، وهو الرائد، وهو كل شيء في الدنيا، وماذا يعرف عن نفسه من لا يعرف إلا نفسه؟!
لقد مرت في تاريخ الأمة العربية تجربتان تستحقان النظر الصادق والدراسة الجادة المتأملة، كانت الأولى هي حكمها للأندلس ثمانية قرون — ومع ذلك — فقد استطاع عدوها انتزاعها منها بعد تلك المدة الطويلة، والثانية هي أن استولى الصليبيون على فلسطين ولبثوا فيها نحو ثلاثة قرون، ولكننا عدنا فجمعنا عزيمتنا وطردنا الصليبيين من فلسطين، والسؤال الذي يتطلب منَّا الدراسة العميقة لنهتدي بنتائجها فيما نحن فيه الآن من تمزق وتخلف هو هذا: لماذا فشلنا في تجربة الأندلس ونجحنا في تجربة الصليبيين؟
إنني في أعماق نفسي مؤمنٌ أشد الإيمان بإمكانات الأمة العربية لو صدقت عزيمتها وصحَّت نظرتها إلى الأمور، ولم يرتفع فيها صوت كالذي سمعته من ذلك المسئول الكبير — وذكرت لك أمره في مناسبات سابقة — وذلك حين أعلن في اجتماع رسمي أنه سيعمل على تحفيظ شبابنا القرآن الكريم ليستطيع أن يقاوم الحضارة القائمة، ولو هداه الله إلى الصواب لقال إنه سيعمل على تحفيظ شبابنا القرآن الكريم ليستطيع به أن يشارك في بناء الحضارة القائمة؛ لأنها حضارة عصر يعيش هو فيه.
إن الدراسة المستفيضة التي قام بها فيلسوف التاريخ «توينبي» عن الحضارات متى تندثر ومتى يُكتب لها البقاء، يمكن أن تضيء لنا الطريق فيما نحن الآن بصدد الحديث عنه، فلقد تناول «توينبي» بالتحليل أكثر من عشرين حضارة عرفها التاريخ، منها ما انقرض وزال، ومنها ما ثبت ودام، (وكانت حضارتنا نحن من الصنف الثاني) ومن تلك الدراسة استخرج القاعدة العامة، وهي التي أطلق عليها عبارة «التحدي والاستجابة»، فالحضارة المعينة قد تنشأ العوامل التي تعمل على هدمها، وعندئذٍ يكون الأمر بين ثلاثة احتمالات: الأول هو أن يكون التحدي أضعف جدًّا من أن يؤثر في قوة الحضارة المراد هدمها، فيزول التحدي وتبقى الحضارة، والثاني هو أن يكون التحدي أقوى جدًّا من أن تستطيع الحضارة المراد هدمها أن تقاومه، فتزول الحضارة ويبقى ما جاء ليتحداها، والثالث هو أن يكون التحدي بين القوة والضعف، فيفعل في الحضارة المراد هدمها فعل التطعيم الطبي، الذي من شأنه أن يوقظ في الجسم قوة المقاومة فيقاوم فيصح ويقوى ويعيش، وليس من شك في أن الأمة العربية يتهددها في هذا العصر ما يتحدى وجودها نفسه، ولست أعني بوجودها مجرد وجود لأفراد يأكلون ويتكاثرون، بل أعني وجودًا فيه العزة والبأس الشديد، وعقيدتي هي أن التحدي هذه المرة هو من الصنف الثالث فيما ذكرنا من أصنافه، أي إنه من النوع الذي لا هو من الضعيف بحيث نتجاهله ولا هو من القوة بحيث يسحقنا، وإنما هو بين بين، أي من النوع الذي يمكن أن يُوقظ فينا قوة المقاومة لو اشتدت بنا العزيمة.
لكن العزيمة القوية وحدها لا تكفي؛ إذ هي بحاجة إلى هدف تشتدُّ من أجل بلوغه، وتلك هي علة العلل في حياتنا الحاضرة؛ لأنها حياة بغير هدفٍ واضح، أو ربما كان لكثير منا هدفه الواضح، لكنه ليس الهدف الذي يمكن قُبوله ليكون هدفًا قوميًّا تمامًا، نعمل من أجله ونعلِّم أبناءنا من أجله ونفكر من أجله ونكتب الأدب وننشئ الفن من أجله، ولن يكون ذلك الهدف القومي واضحًا، إلا إذا استطاع خيالنا أن يتصوره مجسدًا في الأفراد، فماذا نريد للمواطن العربي أن تكون صورته؟ وعن هذا السؤال أجيب إجابة لا أتردد فيها، وقد عبَّرت عنها في مناسبات كثيرة سابقة، وهي أن يكون المواطن العربي الجديد ملتقى طبيعيًّا لموروثه من جهة ولجوهر الحضارة العصرية من جهة أخرى.
على أن هذه الصورة الثقافية الجديدة لا تتحقق لنا لمجرد ذكرها فيما نقوله وما نكتبه، فالدواء لا يشفي المريض لمجرد أن يكون المريض قد كرر اسمه ملايين المرات، إنما هو قد يشفيه إذا هو تجرعه ليسري في كيانه، كذلك إذا استهدفنا للمواطن العربي صورة جديدة كان لا بد من تنشئته على تلك الصورة، بالتعليم الخاص وبالتعليم العام، وأعني بالتعليم الخاص تعليم المدارس والجامعات. وأعني بالتعليم العام تعليم وسائل الإعلام كلها، وقنوات الثقافة كلها، وإنما يتحقق لنا ذلك لا بالتلقين المجرد، بأن يقول المعلم، أو المذيع، أو الكاتب للمتلقي: عليك بأن تكون في حياتك تجسيدًا لثقافتين يلتقيان في شخصك هما كذا وكيت، بل لا بد — في أمثال هذه الحالات التي يُراد فيها للإنسان أن يغير اتجاهه العام — من عملية التحليل والتأصيل، التي نكشف بها عن الجذر المبدئي الذي تلتقي عنده الثقافتان المذكورتان، لنبثَّه فيما نعلمه من مواد، وما نكتبه أو نذيعه من فكر وأدب وفن وإعلام.
وأما ماذا يكون ذلك الجذر المبدئي الذي نجعل نقطة فيكون بالتالي هو الأساس النظري الذي نقيم عليه البناء؟ فهو — فيما أرى، وقد يرى غيري شيئًا آخر — أن نبدل ما هو قائم في نفوسنا الآن، من أن السكون لا الحركة، هو الأصل، أن نبدل ذلك بنقيضه، وهو أن الحركة هي الأصل، والسكون هو العرض الزائل، فنحن الآن في وقفتنا الثقافية العامة كمن يرى أن الجمود على صورة الحياة السلفية لا يحتاج إلى تفسير؛ إذ هو عندنا الوضع الطبيعي الذي لا يثير سؤالًا، أما الذي يتطلب السؤال ويحتاج إلى تفسير، فهو أن يُنادي أحدنا بوجوب أن نتغير، والذي نراه هو عكس ذلك، وهو أن نربِّي جيلًا جديدًا، يبني وجهة نظره على أساس أن التغير الدائب الذي لا ينقطع في كل أسس الحياة، بحيث تواكب عصرها دائمًا، إنما هو الوضع الطبيعي للأمور، فإذا طالب أحدنا بأن نتوقف ونجمد على صورة سلفت سألناه لماذا؟
إن موضع المأساة في الصورة التي رسمها الشاعر العربي من حمار مربوط برمته إلى وتد هو أن الحمار والوتد كليهما قد استسلما ورضيا بما أصابهما من تقييد للحركة، في حين أنه — كما قال ذلك الشاعر — «لا يقيم على ضيم يراد به» إلا الذليل، بل ما هو أذل من الذليل، ولست أجد ما أختم به حديثي هذا أكثر دلالة من صورة امرأة لفَّت جسدها بما يشبه عباءة سوداء، من رأسها إلى قدميها، رأيتها في إحدى العواصم الكبرى وفي شارع تجاري مزدحم من تلك العاصمة، وقد تعثَّرت في غطائها الأسود فوقعت بين الزحام، ثم أسرعت مقرفصة إلى ركن المدخل من محل تجاري قريب منها، وقبعت فيه وكأنها ترتجف داخل سوادها مما أصابها، وما كان يمكن أن يصيبها، فوثبت إلى ذهني الصورة التي رسمها الشاعر العربي في بيتين من شعره، ولم أجد هذه المرة عسرًا في أن أعرف أين الحمار وأين يكون الوتد الذي رُبط فيه الحمار برمته، لكني قلبي الحزين أنطق لساني بصيحة ملتاعة: متى يجيء اليوم — يا رب — الذي تكون فيه هذه المرأة نفسها رائدة من رائدات الفضاء؟!