ضمير مكتوم
عن حرية التعبير أتحدث
كنت ما أزال دون الثلاثين من عمري حين أخذت أجمع كل ما استطعت جمعه من «المدن الفاضلة» (الطوباويات) بادئًا من «جمهورية» أفلاطون، فسائرًا مع مراحل التاريخ الفكري مرحلة بعد مرحلة حتى جعلت آخر المطاف كتاب ﻫ. ج. ويلز «يوتوبيا حديثة»، وكان نصيب الفكر العربي من تلك المجموعة كتاب الفارابي «آراء أهل المدينة الفاضلة»، وما زلت أذكر المتعة العقلية التي نعمت بها إبَّان الفترة التي انصرفت فيها إلى ذلك العمل؛ إذ وجدتني كلما انتقلت من «مدينة فاضلة» ابتدعها مفكر إلى مدينة فاضلة أخرى ابتدعها مفكر آخر في عصر آخر، وينتمي إلى شعب آخر، إنما أنتقل من حلم منسق البناء إلى حلم آخر، فللعقول أحلامها كما أن للنفوس أحلامها كذلك، وهذه الأخيرة هي التي يمارسها في نعاسه كل نائم، والفرق البعيد بين أحلام العقول وأحلام النفوس هو أن الأولى لا يستطيع بناءَها إلا كبار الفلاسفة والمفكرين، في حين أن الثانية جزء من فطرة الإنسان، كل إنسان وأي إنسان، بل أظن أن هنالك من يقولون إن لبعض صنوف الحيوان أحلامها في فترات نومها، وأحلام العقل صادرة عن وعي وتفكير وروية وتدبير، وأما أحلام النفس في سُباتها فأطياف تتجسد في رموز، وتتعاقب لا يربط الطيف السابق بالطيف اللاحق إلا ما يسمونه بقوانين «التداعي»، فالتشبيه يستدعي شبيه، والنقيض يستدعي نقيضه، والصورة المعينة في الحلم تجرُّ وراءها صورة كانت قد تجاورت معها مكانًا أو زمانًا، أي إن أحلام العقل كما صورها أصحاب «المدن الفاضلة» من الفلاسفة والمفكرين إنما تبنى على أسس منطقية، وأما أحلام النيام فتتحكم في تتابعها المصادفات، أو ما يشبه المصادفات، وفضلًا عن ذلك كله، فأحلام العقل تصور ما تصوره استباقًا لمستقبل مأمول، وأما أحلام النفس فتستعيد لحظات من ماضيها، لتحقق في النوم ما استحال عليها تحقيقه في اليقظة من شهوات ورغبات.
جمعت — إذن — مجموعة من أحلام العقل عن مستقبل الإنسان كما يتمناه رجال الفكر على اختلاف العصور واختلاف الأمم، وكانت قد بدت لي ملاحظات سجلتها لنفسي، في المقارنة بين تلك الصور العقلية، ومن أبرزها وأوضحها أن تلك الصور أخذت — مع تعاقب العصور — تتدرج من «مدينة» فاضلة كما هي الحال في «الجمهورية» لأفلاطون، و«آراء أهل المدينة الفاضلة» للفارابي، إلى «جزيرة» فاضلة، كما نراها في «يوتوبيا» توماس مور، ثم إلى «كوكب أرضي» فاضل كالذي أراده ه. ج. ويلز في كتابه «يوتوبيا حديثة» مما يدل على أن الإنسان كلما اتسع بفكره الأفق، اتسع أمامه — بالتالي — ما يظنه المثل الأعلى في حجم الوحدة القومية، فبعد أن حسب اليونان الأقدمون، بل وحسب معهم فيلسوفنا العربي أبو نصر الفارابي أنه لا يجوز للوحدة القومية أن تزيد على مدينة واحدة؛ حتى يمكن لأبنائها أن يترابطوا في كيان عضوي متسق، أصبحت «الجزيرة» هي ذلك الحد الأدنى، ولا بأس في أن تتعدد الجزر البشرية، على أن تكون كل منها مستقلةً بكيانها، ثم ازداد الأفق اتساعًا في عصرنا الحديث، بحيث لم يعد يتصور صاحب اليوتوبيا الحديثة إمكان أن تتجزأ الإنسانية إلى شعوب، مبتورة الصلة بين شعب وشعب، ولو كنت أرجأت ذلك الجهد الذي بذلته في جمع ما أمكنني جمعه من «الطوباويات» عشر سنين؛ فربما كنت أضفت إلى ما جمعته، نموذجًا جديدًا فيه أثر العلوم الحديثة على تشكيل الجماعة البشرية، كالذي قدمه أولدس هكسلي في كتابه «عالم طريف» أو كالصورة الحزينة الساخرة التي رسمها جورج أورويل في كتابه المسمى «١٩٨٤».
وكان مما استوقف نظري في تلك الطوباويات أنها تشترك كلها في وجوب أن يكون العمل الذي يؤديه كل مواطن نابعًا من طبيعته هو، ومتفقًا مع مزاجه هو، وانعكاسًا لاستعداداته هو، وميوله هو، لا أن يكون المواطن كقطعة الحجر في يد البنَّاء، يجذ من أطرافها ما أراد له شكل الجدار الذي يبنيه، فنحن إذا تركنا للمواطن أن ينمو وأن يعمل وأن يعبر عن طبيعته وقدراته، جاءت صور الحياة كلها تعبيرًا عن المواطنين، كل فرد منهم فيما يقول أو يعمل، وبهذا يصبح مجموع ما يعبر به الأفراد عن ذوات أنفسهم هو نفسه ما يعبر به الشعب في مجموعه عما يصح أن يُطلَق عليه اسم «روح» ذلك الشعب.
إن أصحاب تلك الصور العقلية، الذين حاولوا بصورهم تلك، أن يرسموا لأنفسهم وللناس، صورًا للحياة المثلى كما يرونها، قد اتفقوا جميعًا على أن يحرص المجتمع المعين، في تربيته لأبنائه وبناته، على أن تنمو في كل فرد منهم طبيعة «الفنان»؛ إذ الأساس في طبيعة الفنان هو أن تكون العلاقة وثيقة ومباشرة بين ذات نفسه من جهة، وبين ما يصوغه في فنِّه من جهة أخرى، كتلك العلاقة التي تراها قائمة بين رجل الموسيقى وألحانه، وبين الشاعر وشعره، وبين المصور ولوحاته أو الأديب وكلماته.
والفرق بعيد بعيد بين مجتمع أفراده يعملون، ويقولون ويعزفون ويرسمون وفق نماذج أُمروا بالتزامها أو حتى وفق نماذج اختاروها هم من بين ما صنعه سواهم، ومجتمع آخر، بُني على أساس يشبه تلك الصور التي قدمها رجال الفلسفة والفكر للحياة المثلى، من حيث إتاحة الفرصة لكل فرد أن يستوحي فطرته في اختيار ما ينتجه وكيف ينتجه، فنحن إذا ما فعلنا ذلك أصبح كل إنسان في حياته الخاصة أو العامة «فنانًا» مبدعًا، حتى وهو يؤدي الأعمال اليومية، التي نقول عنها إنها رتيبة «روتينية» لا ابتكار فيها ولا إبداع، وبقدر ما تجيء أوجه النشاط المختلفة في مجتمع ما، من علوم وصناعات وفنون وآداب، معبرة عن أصحابها حقًّا؛ يكون في مستطاعنا أن نصف ذلك المجتمع بما يميزه؛ لأن ما قد أبدعه أبناؤه قد صدر صدورًا حرًّا عن عقولهم وقلوبهم.
ففي مستطاعنا — مثلًا — أن ننظر إلى مراحل الفكر الإسلامي في عصور إبداعه فنقول عنه — بصفة عامة — إن القرن الأول الهجري ساده إيمان مطلق بغير وقوف عند مقومات ذلك الإيمان لتحليلها تحليلًا منطقيًّا، وإن القرن الثاني الهجري سادته الدراسات العقلية التي من شأنها أن تُعين على فهم القرآن الكريم فهمًا جيدًا، وهي دراسات كانت في معظمها لغوية وفقهية، وإن القرن الثالث الهجري غلبت عليه الرغبة في الاطِّلاع على ما قاله أصحاب الثقافات الأخرى، وإن القرن الرابع الهجري ظهرت فيه نتيجة لذلك الاطلاع على ثقافات الآخرين، إذ امتزج فيه المنقول مع الأصيل، امتزاجًا كاملًا، أنتج ثمرات جديدة لا يشبهها شيء مما سبقها، وبالطريق نفسها نستطيع أن ننظر إلى تاريخ أوروبا الحديثة، فنصف كل مرحلة بما يميزها، فقد تميز فيها القرن السادس عشر بروح رومانسية قوية الخيال جريئة في مغامراتها نحو كشف المجهول من آفاق البر والبحر والسماء، وتميز القرن السابع عشر بعقلانية صارمة تفصل بين الفكر أو الطبيعة، فإذا ما انصبَّ الإنسان بفكره على الطبيعة لدراستها واستخراج قوانينها، وجب الفصل الحاد بين ما هو «ذات» وما هو «موضوع» وتميَّز القرن الثامن عشر بحركة فكرية هدفها التنوير لينتهي الإنسان إلى ثورة على أوضاع سياسية وثقافية ذهب زمانها، وهي الثورة الفرنسية التي نعرفها جميعًا، وتميز القرن التاسع عشر بنزعته «الحيوية» التي رفضت ما كان قائمًا في دنيا العلم قبل ذلك، من نظرة سكونية وآلية إلى الكون وظواهره إلى نظرة أخرى دينامية وحيوية، وتميز القرن العشرون بالتحليل، فمن جهة الأشياء أخذت الأجهزة العلمية التي لم يكن لها مثيل فيما مضى، أخذت تحلل الأشياء إلى أدق دقائقها، ثم انعكست هذه النزعة التحليلية إلى الإنسان وفكره، ومن تحليل العقل في عملياته الفكرية نشأ الأساس الذي قام عليه الكمبيوتر الذي لا نخطئ إذا جعلناه أبرز علامة تميز عصرنا الراهن.
ولماذا استطعنا أن نميز مراحل التاريخ الفكري بعضها من بعض، بما يصف كل مرحلة منها على حدة؟ سواء كان ذلك عند استعراضنا للفكر الإسلامي وهو في شبابه، أو كان في عرضنا للفكر الأوروبي بعد نهوضه من عصوره الوسطى؟
إننا قد استطعناه لأن الفكر في كلتا الحالتين جاء تعبيرًا حرًّا لما اعتملت به النفوس، ولم يجئ إملاءً من أجنبي أو غريب، وإلا فهل نستطيع مثل هذا التمييز بين مراحل التاريخ في جماعات النمل — مثلًا — لأنه لا فرق في حياة النمل بين يومه وأمسه، إنها كائنات بغير تاريخ؛ لأنها تكاد لا تؤدي عملًا إلا تكرارًا لما حفظته في غرائزها، اللهمَّ إلا هامشًا ضيقًا يُترك لكل كائن حتى ليستطيع في حدوده أن يواجه المواقف المفاجئة.
وإني لأزعم راجيًا أن أكون مخطئًا فيما أزعم، فذلك خير عندي ألف مرة من أن يكون ما زعمت صوابًا، أزعم بأن حياتنا نحن الفكرية، وقد اتجهت بخطوات سريعة خلال العشرين عامًا الأخيرة — أعني منذ هزيمة ١٩٦٧م، وبرغم النصر الذي أحرزناه سنة ١٩٧٣م — أقول إن حياتنا الفكرية خلال هذه الفترة تسير بخطوات سريعة نحو النمط التكراري الذي لا يدع لنا فرصة واسعة للتعبير الحر الأصيل عن ذوات أنفسنا، فنحن في جزء كبير جدًّا مما نصنعه أو نقوله ونكتبه ننقل عن آخرين، فإما أن نعبر البحر بعقولنا لننقل عن الغرب فكره وصناعاته وفنونه ونظمه السياسية والإدارية، وإما أن نعبر كذا قرنًا من الزمان، قافلين إلى سلف ننقل عنه الأفكار والنظم والحلول التي نواجه بها ما أشكل علينا، وفي كلتا الحالتين لا تجيء حياتنا «تعبيرًا» عن معاناة حقيقية نكابدها لنقرر لأنفسنا بأنفسنا ما يثبت وجودنا من فكر وفن وأدب ونظم. وحتى لا يساء فهم ما أقوله لا بدل لي من تكرار ما قد عرضته في مناسبات كثيرة سابقة، من أن الدعوة هنا ليست دعوة لأن ندير ظهورنا وأن نصم آذاننا عما تركه لنا أسلافنا، أو عما يعج به الغرب من كل ما ذكرناه، بل الدعوة هي أن نملأ وعاءنا حتى حافته من رحيق السلف ومن نقيع العصر في الغرب الذي هو الصانع الأول لعصرنا، لكن هذا الوعاء المليء برحيق الأولين ونقيع الآخرين، إنما نشربه لنتمثَّله تمثُّلًا يحيله إلى دماء تكون هي دماءنا، وبهذه القوة المستفادة نبدع الجديد ليضاف إلى حصيلة الإنسان.
وإنني لعلى وعي كامل بأن التعميم في أحكامنا عندما يكون الموضوع خاصًّا بجمهور عريض إنما هي أحكام معرضة للخطأ، فنحن إذ نقول عن الشعب المصري في هذه الفترة الزمنية التي يجتازها منذ ما يقرب من عشرين عامًا إنه لا يعبر عن نفسه تعبيرًا حرًّا صريحًا يدل حقًّا على خلجات نفسه (وحديثي منصب أساسًا على الحياة الثقافية بوجه عام)، فلا يفوتنا أنه لا بد أن يكون بين رجال الأدب والفن والباحثين في مجال الدراسة العلمية من علوم النفس والاجتماع، من يطالعنا بما هو حقٌّ وصدق، لكنني أشعر برغم ذلك أن الفجوة منفرجة بين ما نقوله ونذيعه ونكتبه عن أنفسنا وبين ما تضطرب به جوانحنا بالفعل من خواطر ومشاعر، بحيث إذا أراد مؤرخ في المستقبل البعيد أن يرسم عن عصرنا صورة مستندًا إلى المنشور في الكتب والصحف، والمسجل في أشرطة التسجيل الصوتي، فالأغلب أن تجيء الصورة المرسومة بعيدة بعدًا شديدًا عما هو كائن في نفوسنا لا نقوله صريحًا إلا للأقربين، ولا تقل لي إن أحدًا لا يمنع أحدًا من الإفصاح عن ذات نفسه؛ لأنه حتى لو كان الأمر كذلك فقد بات الخوف الذاتي كفيلًا وحده بأن تكون هناك تلك الفجوة المنفرجة بين السر والعلن.
لقد ذكرت لك فيما أسلفته جانبًا من أحلام الفلاسفة والمفكرين، في صورة المجتمع الأمثل كيف تكون، وكان من عناصر تلك الصورة المثلى أن يكون هناك بين الإنسان وما يعمله، تلك الصلة الحميمة المباشرة، التي تكون بين الفنان وفنه، لكي نضمن بذلك: أولًا أن يكون كل إنسان سعيدًا بعمله؛ لأنه تعبير حقيقيٌّ عن نفسه، وثانيًا أن يجيء إنتاج العمل أجود ما يستطاع له أن يجيء، لكن انظر إلى حياتنا العملية من جميع أطرافها تجد الشائع هو أن يكون بين العامل وعمله نفور وكراهية، فكأن العمل كله تكليف وتسخير، فمنذ مراحل التعليم الفني والمهني كثيرًا ما لا يوضع المتعلم حيث يريد أن يتعلم إلا بالمصادفة، أما القاعدة فهي أن يوضع حيث يراد له أن يكون.
وإذا كنت لأرسم صورة توضح على وجه التقريب ما أظنه قائمًا في حياتنا من حيث التعبير عما نفكر فيه وما نشعر به، قلت إن الأمر في ذلك أشبه بأسرة كبيرة تسكن بيتًا من الطراز القديم الذي كان يخصص غرفة أذكر أنها كانت تسمى بغرفة «المسافرين»، وهي الغرفة التي كان الزائرون يُستقبلون فيها، ولها بابها الخاص، بحيث يدخل الزائر ويقيم ما يقيم، ثم يخرج وهو لم يشهد من البيت إلا تلك الغرفة، ولم يسمع من أحاديث الأسرة ذاتها إلا ما يدور مع من يجالسه من أفرادها، أما الأسرة بكل أفرادها وبما تتحدث عنه أو ما تشعر به من يسر أو من عسر ومن الرضا أو من السخط؛ فلن يعلم الزائر من أمره شيئًا، وهكذا نحن في جملة حياتنا الفكرية والشعورية ترانا قد خصصنا غرفة ﻟ «المسافرين» الغرباء هي الكتب والصحف والإذاعة مرئية ومسموعة للغرباء أن يقرءُوا وأن يسمعوا، لكننا قد طوينا في جوانحنا ما يسره بعضنا في آذان بعض إذا ما خلونا لأنفسنا.
هناك في حياتنا عمق باطن، وسطح ظاهر، ففي العمق ترانا صادقين مع أنفسنا مخلصين لهويتنا المصرية الصميمة مهما خدعتنا بعض الظواهر التي قد تدل على غير ذلك، فالمصري مصري بمجموعة من الثوابت التي لا يوهنها الزمن؛ فهو مصري بشعوره الديني العميق الغزير، فحتى وهو يسهو عن شعائر دينه يظل ضميره الديني على يقظته، وأعني بذلك إيمانه الراسخ بأن هذه الدنيا ليست كل شيء في حياته، فبعد الدنيا آخرة تكفل للعدل أن تُقام له موازينه، فليكن من ظلم الدنيا وجورها ما يكون بحيث يثاب المعوج ويُعاقب المستقيم، فهنالك آخرة خير من الأولى، وهناك من يعمل (في دنياه) «مثقال ذرة خيرًا يره»، ومن يعمل (في دنياه) «مثقال ذرة شرًّا يره»، فالعدل مطلق. وكامل هذا الضمير الديني راسخ في نفس المصري، ولا أظن أن في العالم شعبًا آخر يتساوى مع المصري في عمق هذا الضمير؛ لأنه ضمير نشأ مع نشأته، حيث لم يكن في العالم شعوب سواه، أو كاد الأمر أن يكون كذلك، ولم يكن عالم التاريخ المصري «بريستد» لاهيًا بالكلمات حين جعل عنوان كتاب لعله أعظم ما كتب: «فجر الضمير»، مشيرًا بذلك إلى الشعب المصري عند نشأته الأولى.
ومع الضمير الديني في المقومات الثابتة الدائمة من هوية المصري علاقته بأسرته وعلاقته بأرضه، وتلك هي الثوابت التي تكوِّن من المصري عمقه الباطن الذي أشرنا إليه، والذي لم تنل منه عوامل الزمن، إلا أنه اليوم في حالة مكتومة الصوت نسبيًّا حتى ترانا فيما نسمع عنه أو نقرأ له، لا نرى منه إلا نبرات خافتة.
أما المسموع عنه في صوت جهير، والمقروء له، فمعظمه صادر عن «السطح» الظاهر، الذي لا تدري فيه أين الحق وأين النفاق، أين الصدق وأين الكذب، أين ما يعبر عن ذاته نفسه حقًّا، وأين ما أراد أن يتصيد به المنصب والراتب والرواج والازدهار، فما الذي حدث في حياتنا بحيث انقسم وجودنا إلى باطن وظاهر بينهما تلك الهوة السحيقة التي تفصل بينهما على هذا النحو الخطير؟ ما الذي أصابنا بحيث اختلف في حياتنا عمقها عن سطحها؟ ففي العمق ما زال المصري مصريًّا بضميره الديني اليقظان، وأدائه للواجب نحو أسرته ونحو وطنه، وأما على سطح السلوك فلم يعد المصري هو المصري الذي عرفه التاريخ الطويل، أو هكذا يُخيل للرائي في الخارج، فهو يمكر بمواطنيه إذا اقتضت مصالحه مثل هذا المكر، وهو يجرِّف أرضه الزراعية التي كانت منذ الأزل موضع حبِّه وعزِّه، إذا كان ذلك التجريف يعود عليه ببضعة ألوف من الجنيهات، وهو يسطو على أصحاب القلوب الطيبة بطرق لا علم لهم بها، حتى لتتكدس بين يديه الملايين في غفلة الحوادث، ثم يسرب تلك الملايين إلى حيث لا ندري وهو يقفز إلى مواقع القوة والنفوذ دون أن يسلك إليها سبيلها المشروع، واختصارًا فقد انفصل عقله المدبِّر عن قلبه المؤمن العابد، وأصابه من الانفصام ما أصابه، ولقد شاءت له روحه الفكهة أن تصور نفسه لنفسه في مرارة لاذعة كعهدنا به دائمًا كلما أراد أن يعالج أزماته بالمزاح الساخر، ومن ذلك هذا الحوار الآتي الذي اخترعه ليصور به ذلك الانفصام النفسي الذي أشرنا إليه، وهو حوار متخيل بين بقَّال وصبيه يوم جمعة قبيل الصلاة:
وهكذا انحصر الروح الدين في شعائر العبادة بين الإنسان وربه، ولم يمتد ليشمل دنيا التعامل بين الإنسان والإنسان، فجاء تعبير المصري عن نفسه منقوصًا، وانقسمت شخصيته على نفسها، فوجب التفكير والعمل على إعادة بنائه. لقد كان الدين للمصري طوال تاريخه، مدار الحياة وصميمها، لا بمعنى أن ينقطع للعبادة فيما يشبه صوامع الرهبان، وخلوات المتصوفة، بل بمعنى أن يجعل الدين متمثلًا في القيم التي يراعيها وهو في حقله يزرع، وفي مصنعه يعمل، وفي دكانه يتاجر، كان الدين في حياته هو عصارتها وصفوتها وغذاءها ودماءها؛ إذ كانت روحه تسري في التعامل داخل الأسرة وخارج الأسرة مع الأصدقاء والزملاء وسائر من يتعامل معهم من المواطنين، كانت روحه تسري في دراسة الدارس وفي كلمات الكاتب، أيًّا كان موضوع الدراسة وهدف الكتابة، فليست روح الدين مقصورة على أن يكون الدين نفسه هو موضوع الدراسة أو هو هدف الكاتب، بل إن روح الدين يمكن أن يعمر قلب الباحث وهو يدرس علوم الصوت والضوء والكهرباء، ويمكن أن يسري مع الدماء في شرايين الكاتب وهو ينظم الشعر ويؤلف الموسيقى ويرسم اللوحات ويكتب الرواية والمسرحية والمقالة؛ لأن روح الدين إخلاص وصدق وضمير حي يهتدي ويهدي، أقول إن ذلك هو ما كان ينبغي أن يقوم عليه إيمان المصري، كما كان دائمًا، حين كان إيمان المصري ماثلًا في البنيان يبنيه وفي الجدران والسقوف يزخرفها، وفي النحاس والخشب ينقشه ويحفره، وفي كل صنعة يصنعها بأصابع ماهرة تحركها قلوب مؤمنة.
لكننا نلحظ اليوم شيئًا آخر في تصور المصري للحياة الدينية أو المتدينة كيف تكون؛ إذ يتصور أن تلك الحياة المتدينة إنما تعني أن يترك أعمال الدنيا بكل أنواعها العاملة المنتجة لينصرف إلى العبادة أو ما يتعلق بها، كأن الدين قد أصبح في حياتنا تمائم نتبرك بها، وكأن حقيقة الأمر هي: إما أن «تعمل» وإما أن «تتدين»، وكان ينبغي للمؤمن الحق أن يدرك أن إيمانه إنما هو مجسد في طريقة أدائه لعمله، أيًّا كان ذلك العمل من دراسة الناشئ في مدرسته ومعهده، إلى صناعة النجار والسباك والكهربائي، والكاتب والأستاذ ورجل القانون والمهندس والطبيب، فكل ضرب من ضروب العمل جسده هو حركات البدن التي تصاحب أداء العمل، وروحه هو الإيمان الديني بالقيم المثلى التي توجِّه تلك الحركة البدنية نحو الإجادة والإتقان وسائر جوانب الخير.
وبهذا وذاك معًا مندمجين كان المصري يعبر عن نفسه تعبيرًا حرًّا، أو هكذا نقرأ عنه ونستدل من أمجاده التي أورثنا إياها، فلما انفصل هذا عن ذاك في حياته الحاضرة لأمر ما، بات واجبًا علينا أن نفكر مخلصين كيف يكون سبيلنا إلى إعادة البناء.