تلك هي القضية
روى لنا الأستاذ أنيس منصور، في مقالة جعل عنوانها «بلابل وغربان على أشجارنا» (في صحيفة أخبار اليوم بتاريخ ٩ / ٢ / ١٩٨٥م)، روى عن رحلة للتنزه إلى الأقصر وأسوان، ذات شتاء في أواسط الستينيات. وكانت الرحلة بدعوة من الأستاذ أحمد بهاء الدين، وقد شملت الدعوة مع الأستاذ أنيس منصور، الأستاذين كامل الزهيري ورجاء النقاش، فلما بلغوا من رحلتهم مدينة أسوان، التقوا بالشاعر الروسي إيفنتوشينكو، فبينما كان الشاعر الروسي مستلقيًا يستمتع بدفء أسوان، جلس رفقاء الرحلة يتحدثون بالعربية، فنهض لهم الشاعر الشاب ليسألهم: فيمَ تتحدثون؟ ثم قفز بهم إلى سؤال أعم، وهو: ما الذي يتحدث فيه الأدباء المصريون؟ ما هي قضيتكم؟ ما هي المشكلة التي تشغلون أنفسكم بها بحيث تقوم محاسبتكم أمام الشعب على أساس ما قدمتموه لتلك المشكلة من حلول؟ وهنا يصف لنا الأستاذ أنيس منصور حيرته وحيرة زملائه أمام أسئلة الشاعر الروسي، ويبين لنا في شيء من الأسى كيف كانوا وكأنما أخذتهم الصاعقة، لماذا؟ لأن أسئلة الشاعر الروسي قد جاءت لتوقظهم من سبات؛ إذ الكاتب في مصر إنما يكتب في غير قضية، وفي غير مشكلة، إنه لا يتأزم مع سائر الشعب بأزمة تلاحقه وتؤرقه، تطالبه بألا يستريح له جنب على مضجع إلا إذا وجد حلًّا لمشكلة الشعب التي هي مشكلته، أو التي ينبغي لها أن تكون كذلك، (وأنا هنا لا أنقل كلام الأستاذ أنيس منصور بحروفه، بل أكتب ما بقي منه انطباعًا في نفسي مما قرأته له) ثم مضى الكاتب بعد أن وصف ذهوله وذهول رفقائه ليقول إنهم بعد فترة من ذلك الذهول أجابوا الشاعر على سؤاله فقالوا: إن قضيتنا التي تشغل أقلامنا هي «الاشتراكية الواقعية»، لكن الشاعر أسرع بالرد قائلًا: ليس هناك شيء اسمه الاشتراكية الواقعية … إلخ.
وكان واضحًا مما كتبه الأستاذ أنيس منصور أنه هو وزملاؤه قد أدركوا عندئذٍ أن الكاتب في مصر — وإذا قلنا «الكاتب»، فكأنما قلنا «رجل الفكر والأدب» — إنما يكتب في غير قضية أساسية تكون في حياتنا الفكرية والأدبية بمثابة القطب من الرحى، فإذا كنت قد خرجت مما كتبه الأستاذ أنيس منصور بانطباع صحيح إذن فقد كنت على حق فيما أخذني من عجب تملؤه الدهشة من أن يكون ذلك هو الرأي في حياتنا الفكرية والأدبية على مدى مائة وخمسين عامًا على أقل تقدير، عند ثلاثة من ألمع من يحملون القلم، وإذا كان ذلك هو ما يرونه فينا، إذن فالمسافة بعيدة بين ما يرونه وما أراه؛ وحتى لو كانوا جادين في إجابتهم على سؤال الشاعر الروسي حين سألهم: ما قضيتكم؟ فقالوا: هي الاشتراكية الواقعية! لا، يا سادة، إن لنا قضية رئيسية تبلورت في أذهاننا منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وكل ما في الأمر أنها لم تجد منَّا الجواب الحاسم الذي نلتقي عنده جميعًا، وسأوضح فيما يلي تلك القضية الأساسية، التي لم يعرف تاريخنا خلال المائة والخمسين عامًا الأخيرة كاتبًا واحدًا، إلا وقد جعلها مشغلته الأولى، سواء أكان ذلك عن طريق التناول المباشر الصريح، أم كان عن طريق التضمين غير المباشر؛ لأن طريق الأدب يُحتِّم على الأديب ألا تجيء قضاياه في أدبه معلنة صريحة، ولقد كانت تلك المشكلة الرئيسية الأولى هي: ماذا يكون موقفنا من الغرب وقد اقتحم ذلك الغرب ساحتنا متمثلًا في الحملة الفرنسية. تلك هي المشكلة «الأم» التي انقسمنا حيالها شيعًا وأحزابًا، ثم تولد عنها مشكلة كانت لها بمنزلة البنت من أمها، هي مشكلة الحرية، وأخيرًا تولدت عن البنت مشكلات هي بمثابة الحفيدات، وكان من بينها مشكلة «الاشتراكية» التي جاءت ولادتها ضمن ما جاء من نتائج ثورة ١٩٥٢م، وإذن فحين قال السادة للشاعر الروسي إن قضيتنا هي «الاشتراكية الواقعية» (كما وصفوها)؛ كانوا قد قدموا إحدى الحفيدات اللائي ولدتهن «الحرية» ومشكلة الحرية بدورها — كما أسلفنا — قد ولدتها لنا جدة كبرى، هي بحثنا عن موقف نتخذه إزاء «الغرب». أو قل إزاء «العصر»؛ إذ تكاد اللفظتان تكونان مترادفتين، ولو كانت القضية الجدة، ثم القضية الأم، قد وجدتا حلولًا متفقًا عليها منَّا جميعًا، ولم يبقَ أمامنا إلا الحفيدات، لجاز للسادة أن يجيبوا الشاعر الروسي عن سؤاله، بأية حفيدة يختارون، سواء اختاروا الحفيدة «الاشتراكية» أم اختاروا سواها، لكن الموقف المشكل بطوابقه الثلاثة: الجدة التي هي موقفنا من الغرب ماذا يكون، وابنتها التي هي الحرية وبأي معنًى وفي أي حدود نطالب بها، والحفيدة أو الحفيدات، التي من بينها مشكلة الاشتراكية التي وصفها الزملاء بالواقعية، أقول إن الموقف المشكل لا يزال قائمًا بطوابقه الثلاثة، وبالتالي فما يزال هو قضيتنا التي تشغل كل مفكر منَّا وكل أديب، ومن هذه الرؤية يكون السادة الأفاضل قد غابت عنهم الإجابة الصحيحة حين سئلوا عن قضية الفكر المصري والأدب المصري: ما هي؟ وكذلك يكونون قد ظلموا أنفسهم حين أخذتهم صاعقة السؤال، ظنًّا منهم أن مفكرينا وأدباءنا لا يصدرون فيما يكتبونه عن قضية، والآن فسبيلنا إلى شيء من التفصيل.
جاءت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون، ووصلت إلى شواطئ الإسكندرية سنة ١٧٩٨م، أي قبيل فاتحة القرن التاسع عشر بسنتين، وكان مع الحملة جماعة من العلماء الفرنسيين في تخصصات علمية مختلفة، فكان مما صنعه أولئك العلماء أن استدعوا كبار علماء الأزهر الشريف، جماعة بعد جماعة ليطلعوهم على عجائب العلوم الجديدة، من ذلك — مثلًا — أن يوقفوهم صفًّا، مشبِّكي الأيدي جارًا مع جاره، ثم يمسون الواقف في أول الصف بسلك مكهرب، فتسري رعدة الكهرباء في جميعهم، فأما هم فيأخذهم العجب، وأما العلماء الفرنسيون فيأخذهم الضحك، ولقد حدث يومًا أن اغتاظ من تلك الألاعيب الصبيانية أحد الشيوخ، فقال لهم ما معناه: هل في علمكم الجديد ما يجعل إنسانًا موجودًا هنا موجودًا في بلاد الغرب في وقت واحد؟ فأجابوا بقولهم أن ليس في علومهم ذلك لأنه محال، فرد هو قائلًا: لكن ذلك ممكن في علومنا الروحانية.
وإنني لأنظر إلى تلك اللحظة التي قال فيها الشيخ ذلك الذي قاله للعلماء الفرنسيين على سبيل التحدي، أنظر إليها على أنها لحظة البدء في أحد طريقين اتخذناهما من ذلك الحين وإلى هذه الساعة التي أكتب فيها هذه الكلمات، فطريق منهما اختاره الرافضون للغرب، أي الرافضون للعصر وما أنتجه من علوم ترتب عليها ما ترتب من حضارة جديدة، وطريق آخر اختاره من أرادوا منَّا ألا تقفل أمام العصر الجديد أبوابنا ونوافذنا، وكانت نقطة البدء في هذا الطريق الثاني هي رفاعة رافع الطهطاوي، فإذا أنت تخيلت نفسك واقفًا في «مدرسة الألسن» التي أُنشئت في عهد محمد علي، إبَّان ثلاثينيات القرن الماضي، إذن لرأيت موقف الفريق الثاني مجسدًا في نشاط أعضاء تلك المدرسة العجيبة، التي قد تفوق في مغزاها الثقافي والحضاري، بيت الحكمة، الذي أنشأه الخليفة المأمون ببغداد في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) لماذا؟ لأن مهمة مدرسة الألسن كانت مزدوجة، فبينما «بيت الحكمة» كان مقتصرًا على ترجمة الثقافة اليونانية إلى العربية، كانت مدرسة الألسن تعمل عملين: أولهما تحقيق عيون مختارة من التراث العربي الإسلامي ونشرها نشرًا جديدًا، وثانيهما ترجمة مجموعة مختارة من كتب الغرب (الفرنسية والإيطالية بصفة خاصة) إلى اللغة العربية، فكأنما لسان الحال فيما كنت لتراه إذا ألقيت نظرة على ما كان ينشط به طلاب مدرسة الألسن، برئاسة الطهطاوي، يصيح قائلًا: لثقافتنا أن تنهض متكئة على ركيزتين، هما تراثنا من جهة، ونتاج العصر الجديد من جهة أخرى.
إذا غضضنا النظر عن فريق ثالث، ظهر فيما بعد ولم يزد على نفر قليل جاء متفرقًا، رجلًا بالأمس ورجلًا في الغد، وكان الرأي عند ذلك الفريق الثالث هو أن نشتل شجرة الغرب في أرضنا شتلًا يبقيها على حالها، ويتركها لترتوي من ماء النيل، ولتتلقى من سماء مصر شمسها وهواءها، وبذلك تصبح الشجرة وكأنها زراعة مصرية أصيلة، أقول إننا إذا غضضنا النظر عن ذلك الفريق الثالث «المستغرب»، لقلة عدده ولضعف أثره، وجدنا أنفسنا أمام جماعتين لكل منهما رؤيتها حيال هذا الغرب الجديد، فجماعة منها رافضة له بكل قضه وقضيضه، وأما الأخرى فتقبله قبولًا مشروطًا بضرورة مزجه بما ورثناه عن أسلافنا، مزجًا يخرج لنا منه مواطن مصري، وعربي، جديد.
بدأ القرن الماضي — إذن — بهاتين الرؤيتين لما ينبغي أن يكون عليه موقفنا إزاء الغرب، فكان هذا الازدواج في الرأي، بمثابة القضية الأولى والأساسية في حياتنا الثقافية كلها، فمنذ ذلك اليوم وحتى هذه الساعة، ليست هي بالقضية التي يمكن للكاتب — أي كاتب وكل كاتب — أن يتجاهلها؛ لأنه حتى لو تعمد ذلك التجاهل لما استطاع؛ إذ هو مضطر أن يختار مادة قراءته، ودراسته، وكتابته، من الينابيع والمصدر التي يستمد منها التأييد والقوة في وجهة نظره، سواء أكانت هي وجهة النظر عند الرافضين للغرب أم كانت وجهة النظر عند القابلين، فإذا سئلنا: ما قضيتكم التي تشغل مفكريكم وأدباءكم؟ أفيكون شططًا منَّا أن نجيب بأنها هي موقفنا من الغرب الجديد، وهي قضية بدأت معنا منذ تحدي ذلك الشيخ العلماء الفرنسيين بقوة علمه الروحاني بالقياس إلى علومهم الجديدة، متبوعًا ذلك الموقف بموقف مضاد وقفه الطهطاوي بوجوب قبول الغرب ثم المزاوجة بينه وبين موروثنا. نعم، هي قضية بدأت معنا منذ ذلك الوقت البعيد، وما زالت إلى اليوم قائمة من حياتنا الفكرية والأدبية في صميم الصميم.
لكن تلك القضية، التي عددناها جدة كبرى، سرعان ما ولدت ابنة لها، فكانت تلك الابنة هي مشكلة «الحرية»، وإذا شئت فانظر إلى مشكلة الحرية هذه، على أنها قضية قائمة بذاتها، بحيث إذا سألنا الشاعر الروسي مرة أخرى ما قضيتكم؟ أجبناه: إنها الحرية وكيف نحققها كاملة لشعبنا، فذلك أصوب من أن أفزع لظني بأنه لا قضية عندي تملأ بحرارتها ساحة الفكر والأدب.
ولماذا جعلنا قضية «الحرية» في حياتنا وليدة القضية الجذرية الأولى، التي هي تساؤلنا عن موقفنا من الغرب الجديد كيف يكون؟ إننا فعلنا ذلك لأن قضية «الحرية» ثارت أول ما ثارت — من الناحية الفكرية — عند الطهطاوي، إثر عودته من باريس، وتأثره بما رآه هناك من حريات لم يكن عرفها في مصر لا قبل أن يسافر منها إلى باريس، ولا عقب عودته إليها، فكانت النتيجة اللازمة عن وجهة نظره بضرورة قبولنا للغرب الجديد هي أن يبشِّر بضرورة أخذنا بشيء من الحرية كما رأى القوم هناك يحيونها، ومنذ بدأ الطهطاوي دعوته إلى الحرية أخذت تلك الدعوة تتردد على أقلام الكُتَّاب، لكن الذي يلفت النظر، ويستدعي هنا أن نلتفت إليه، هو أن مفهوم «الحرية» أخذ يزداد غزارة ويتسع رفعةً جيلًا بعد جيل من أجيال المفكرين والأدباء، على أنه إذا كان الموقف من الغرب قد كان الشرارة التي أشعلت الرغبة في الحرية عند من وقفوا من حضارة الغرب موقف القبول؛ فإن موقف الرافضين — بدوره — قد أدى بهم إلى أن يفهموا الحرية المنشودة على أنها «تحرر» من ربقة المستعمرين الذين جاءوا إلينا من ذلك الغرب.
نقول إن مفهوم الحرية قد أخذ يتسع ويعمق معنا على تتابع المراحل الزمنية، التي كانت في الوقت نفسه هي المراحل السياسية كذلك، فكانت كل مرحلة منها تتمسك بما كسبته المرحلة السابقة، ثم تضيف إليها طموحًا نحو مزيد تسعى إلى تحقيقه، بحيث لو أردنا الآن أن نرسم تخطيطًا يصور الأطوار التي اجتزناها في طريقنا إلى الحرية — أو قل إلى الحريات المنوعة الكثيرة — جاء الرسم شبيهًا بالعمارة الإسلامية، التي كان كل طابق علوي من البناء فيها، يوسع من رقعته عن الطابق الذي تحته.
كان رفاعة الطهطاوي هو أول بذر لبذور الحرية في تاريخنا الحديث، ففيه التقى الشرق والغرب على نحو صحي مقبول، ولعله كان هو صورة الالتقاء التي أقامت لنا نموذج الهدف الثقافي الذي نتغيَّاه، فمن الكتب المدرسية للطهطاوي كتاب «المرشد الأمين للبنات والبنين»، وقد أورد فيه فصلًا بعنوان «في الحرية العمومية والتسوية بين أهالي الجمعية»، يقسِّم فيه الحرية خمسة أقسام، أولها قسم للحرية الطبيعية التي يتمتع بها الإنسان في ضرورات حياته، كالأكل والمشي وما إلى ذلك، والقسم الثاني هو ما أسماه بالحرية السلوكية وهي التي يتمتع بها الإنسان داخل إطار الأخلاق، والقسم الثالث هو الحرية الدينية، وهي التي تكفل للإنسان حرية العقيدة والرأي والمذهب، بما لا يتعارض مع الدين، والقسم الرابع هو الحرية المدنية في التعامل مع الناس في حدود ما قد جرى به العُرف، وأما القسم الخامس فهو الحرية السياسية التي هي ضمان الحريات الأربع السابق ذكرها؛ إذ إنها تتعلق بواجب الدولة في أن تصون لكل فرد من مواطنيها أن يتمتع بتلك الحريات الأربع.
ولا بد لنا من أن نلحظ بوعي مستيقظ لهذا الذي قاله الطهطاوي عن الحريات، فنلحظ — أولًا — أنه منذ العنوان قد قرن الحرية بالمساواة، إذ لا تتحقق إحداهما إلا بالأخرى، وأن نلحظ — ثانيًا — أنه عند ذكره الحرية السياسية لم يذكر كلمة عن وجوب مشاركة الشعب في حكم نفسه، فكأنه يكتفي بأن تكفل الدولة للمواطنين أن يتمتعوا بحرياتهم الأخرى. أما ممن تتكوَّن الدولة وكيف تتكوَّن فليس من شأن الشعب أن يكون له رأي فيه، ومعنى ذلك هو أن الولاء للحكم أمر مفترض ومفروض، ثم تجيء الحريات داخل هذا الإطار.
فلما ذهب جيل الطهطاوي ونضج الجيل الذي تلاه مغتذيًا بغذائه اتسعت الحرية السياسية التي أخذ الرواد يطالبون بها عندئذٍ، فبدل التسليم بالولاء للحكم أيًّا كانت هويته، اكتفاءً بأن يصون ذلك الحكم للناس حرياتهم الطبيعية والمدنية والدينية والسلوكية، نودي بمبدأ أن يكون الولاء للشعب، ولقد تمخضت تلك الحركة عن ثورة عرابي، فكانت أول من رفع الشعار القائل بأن مصر للمصريين، ولكنه شعار لم يكن يعني عند المنادين به إذ ذاك أكثر من أن يكون للمصريين حقٌّ في بلادهم، دون أن ينفي بذلك تمتع غير المصريين معهم — بل ربما قبلهم — بذلك الحق نفسه، أي إن مبدأ أن تكون مصر للمصريين عند أول المطالبة به لم يكن يتسع ليكون معناه: مصر للمصريين ولا أحد غير المصريين.
وانتهت الثورة العرابية بالاحتلال البريطاني، فاشتدت حرارة المطالبة بالحريات، حتى لقد تفرعت القيادات بتعدد الحريات وتنوعها، فهناك الشيخ محمد عبده وقد شغله تحرير العقيدة الإسلامية مما دخل فيها من خرافات بسبب الجهل السائد، وهناك قاسم أمين وقد انصرف إلى تحرير نصف الأمة — وهو المرأة — ليحررها من قيود اصطُنعت لها من غير موجب يفرضه الدين، ومن غير داعٍ يدعو إليه تقدم المجتمع وارتقاؤه، وهناك مصطفى كامل يوجه اهتمامه إلى التحرر السياسي أولًا من المحتل، وهناك أحمد لطفي السيد ينادي بحريات الأفراد داخل مجتمع حر، إذ قد يتخلص المجتمع من المستعمر، ويظل الأفراد داخل وطنهم محرومين من حرياتهم، فأعلن أحمد لطفي السيد ألا يكون للحكومة سلطان إلا على ما ولَّتها الضرورة إياه، وهو ثلاث ولايات هي: ولاية البوليس، وولاية القضاء، وولاية الدفاع عن الوطن، وأما ما عدا ذلك من المرافق والمنافع، فالولاية فيها تكون للأفراد والهيئات الحرة، وهنا أودُّ للقارئ أن يتنبَّه إلى أن ذلك الذي دعا إليه أحمد لطفي السيد إنما هو جوهر المذهب السياسي الذي كان يُطلق عليه اسم «الليبرالية»، ومن أهم أهدافه أن يكون للأفراد أكبر قدر ممكن من الحريات على اختلاف أنواعها، ومن تفريعاته المهمة تشديده على أن تكون السيادة للقانون لا للأشخاص، وأن الحاكم إنما يحكم بإرادة الشعب لصالح الجمهور كله، لا لصالح فئة معينة، أو لصالح فرد بذاته، وها هنا كانت دعوة أحمد لطفي السيد بأن تكون مصر للمصريين بمعناها الأوسع والأدق مما كان عليه حين رُفع شعارها في الثورة العرابية، فأصبحت تتضمن ألا يكون لغير المصريين حق في مصر، وبالتالي فلا ولاية للأتراك ولا حقوق للجراكسة وغيرهم من الأجانب، وخلاصة الموقف الجديد بالنسبة إلى مفهوم الحرية هي أنه لن تكون للوطن حرية إلا إذا تحققت الحرية للمواطنين، ثم لا تتحقق الحرية للمواطن بأي معنًى من معانيها، إلا إذا كفلتها حرية سياسية، ولن يكون للحرية السياسية معنًى، إلا إذا اشترك كل فرد راشد في حكومة بلاده اشتراكًا تامًّا وكاملًا، وبهذا وحده تكون السلطة للشعب، لكن تلك الأهداف السياسية العليا تتطلب بادئ ذي بدء أن يتغير التعليم في طبيعته وأهدافه، فبدل أن يقام لإعداد موظفين يعملون في الحكومة ولها، يصبح الهدف من التعليم تنمية الحرية الفكرية عند الأفراد، وكلمة الأفراد هذه تشمل الإناث كما تشمل الذكور، ومِن ثمَ وجب تأييد الدعوة التي كان قبل ذلك دعا إليها قاسم أمين بوجوب أن تتحرر المرأة من قيودها، إلا أن قاسم أمين وقف من ذلك التحرر عند «الحجاب» بمعناه المادي، أي حجاب الوجه، فاتسعت الدعوة عند أحمد لطفي السيد لتكون دعوة إلى رفع حجاب العقل والفكر كذلك، ومما يجدر ذكره هنا أنه حين صدرت مجلة «السفور» في العقد الثاني من هذا القرن، كان المقصود بالسفور هنا هو سفور العقل وحرية تعبيره عن نفسه، وكأنما سفور الوجه كان قد أصبح عندئذٍ قضية مفروغًا منها، وهذه الجوانب كلها توضح لنا ما كان أعلنه أحمد لطفي السيد دستورًا للجامعة عند إنشائها، وهو: «حرية التفكير والنقد على وجه الاستقلال، لا الحفظ والتصديق لكل ما يقال.»
بهذه الخطوات المتلاحقة عند الرواد في دعوتهم إلى الحرية، لم يقتصر الأمر على مجرد التوسع في معناها على صورة أفقية، بمعنى أن تزداد أنواعها عددًا فحسب، بل اتسع أيضًا على صورة رأسية، بمعنى أن يكون الفرد حرًّا من الباطن، كما هو حرٌّ من الظاهر، ومعنى الحرية من الباطن أن يكون كل فرد قادرًا على التفكير الناضج، حرًّا في فكره، وحرًّا في التعبير عن ذلك الفكر.
وثارت مصر ثورتها سنة ١٩١٩م، عقب الحرب العالمية الأولى مباشرة، لتطالب بحريتها السياسية، لكن تلك الحرية السياسية المطلوبة على المستوى الرسمي سرعان ما لحقت بها دعوات مختلفة لحريات متنوعة تشمل مسالك الحياة جميعًا، كما نرى فيما أنتجه رجال الفكر والأدب والفن والاقتصاد وغير ذلك من أوجه الحياة الشاملة، كان ذلك خلال العشرينيات والثلاثينيات، ثم نشبت الحرب العالمية الثانية، وأعقبت ما أعقبته من نتائج.
وجاءت ثورة ١٩٥٢م لتوسع مطلب الحرية بحيث يشمل جوانب الحرية الاجتماعية التي لم تشملها كل الدعوات السابقة، وها هنا أُعلنت الاشتراكية وما استتبعته من حقوق أُعطيت للعاملين بكل فئاتهم وللمواطنين الذين لم يحسب لهم حساب في الدعوات السابقة.
ونعود بعد هذه الجولة إلى ما ذكره الأستاذ أنيس منصور عن نفسه ورفقائه عند التقائهم بالشاعر الروسي إيفنتوشينكو في مدينة أسوان خلال الستينيات، فسألهم الشاعر: ما قضيتكم يا رجال الفكر والأدب في مصر؟ فيروي لنا الأستاذ أنيس منصور في مقال أنهم شعروا بحسرة عميقة في مواطن نفوسهم؛ إذ شعروا بأنه لا قضية لنا، وإننا نفكر ونكتب خطفات متناثرات متفرقات لا تستهدف غاية محددة بذاتها، ومع ذلك فقد أجابوا عن سؤال الشاعر الروسي جوابًا يسترون به قصورهم المظنون، فقالوا إن قضيتنا هي «الاشتراكية الواقعية»، فردَّ عليهم الشاعر الشاب بأنه ليس هناك شيء اسمه الاشتراكية الواقعية.
وقرأت للأستاذ أنيس منصور ذلك الذي رواه، فعجبت أن يكون جهاد إعلامنا في مجالات الفكر والأدب، الذي لم ينقطع خلال مائة وخمسين عامًا على الأقل، والذي كانت قضيته واضحة نصب عينيه طوال تلك السنين والقضية كما وصفتها في موضع سابق من هذا الحديث، يمكن تصورها على صورها جدة وأم وحفيدة، فكانت في أساسها قضية موقفنا من الغرب كيف يكون، وتولد عنها جهاد متصل نحو تحقيق الحرية تحقيقًا أخذت تتسع دائرته مع الأعوام، ثم تولد عنه في خطواته الأخيرة حفيدة هي قضية الاشتراكية، ضمن حفيدات أخريات، فاكتفى السادة بذكر إحدى حفيدات قضيتنا الشاملة وأنساهم الشيطان ما قد كان وما هو كائن من جهاد المجاهدين في سبيل القضية الجدة والقضية الأم، فظلموا أنفسهم — وظلمونا — وظلموا عشرات من روادنا الأعلام.