ويل للمعاصرين من المعاصرين
يشتدُّ بي الحنين آنًا بعد آنٍ إلى الأحباء من أفراد أسرتي الذين انتقلوا إلى رحاب الله، فأسرع إلى المقبرة لأقرأ الفاتحة حيث يرقدون! وإن طريقي إلى هناك لينعطف من الشارع العام إلى المدخل المؤدِّي إلى ساحة المقابر، عند مسجد الإمام الليث بن سعد، وما انثنيت مرة عند ذلك المسجد إلا وطاف برأسي قول الإمام الشافعي عن «الليث» مقارنًا إياه في الفقه بمعاصره الإمام مالك؛ إذ يقول الشافعي في تلك المقارنة: «الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به.» والليث فقيه مصريٌّ، عاصر مالكًا، ولكنه لم يوافقه في مذهبه؛ إذ كان من رأي الإمام المصري ضرورة الجمع بين الرأي والحديث، وأرسل إلى مالك رسالة يبين له فيها وجهة نظره تلك، ويقول الخبراء في هذا الميدان إن رسالة الليث قد جاءت آية في الجودة، ودلت على غزارة العلم ودقة التفكير وعمقه، وعن مكانة الليث في الفقه قال الشافعي فيه عبارته التي أسلفناها.
وإذا كانت عبارة الإمام الشافعي في فقه الإمام الليث تطوف برأسي كلما انثنيت بطريقي عند مسجد الليث، فليس ذلك لما فيها من مقارنة في الفقه بين إمامين، بل لما قد ورد في آخر عبارة الشافعي من تعليل لكون الفقه الأجود يكون أقل شهرةً من زميله الذي هو أقل جودةً منه، وتعليل ذلك عند الشافعي، كما هو ظاهر في عبارته، أن مالكًا وجد من أنصاره من ينشطون في إشاعة ذكره بين الناس، على خلاف ما لقيه الليث من أصحابه، الذين ربما عرفوا له قدره العظيم، إلا أنهم التزموا الصمت، ولماذا اهتممت أنا بهذا الجزء من عبارة الشافعي حتى رسخ في ذاكرتي ليطوف بذهني كلما جاءت مناسبة لذلك؟ الجواب هو أن الإمام الليث «مصري» وأصحابه الذين قدَّروه ثم كتموا تقديرهم في صدورهم هم «مصريون» على الأغلب، فقام في نفسي سؤال، وما زال السؤال قائمًا، وهو: أيكون من خصائص المصري أن يكتم أنفاس مواطنه المصري، حتى لا ينبه له ذكر، اللهم إلا أن يجد هذا المصري المسكوت عنه، أهلًا من ذويه الأقربين، فيتولون ذكره بالذيوع كلما سنحت لهم فرصة لدق الطبول؟ أقول إنه سؤال أقمته في نفسي، وما زال قائمًا، لكثرة ما أجد من شواهد في حياتنا العلمية والأدبية تدل كلها — أو قل معظمها — على ميل شديد فينا نحو «كبس» من بدرت فيه البوادر التي تدل على امتياز، وكثيرًا ما ينبه ذكر المصري النابه على أيدي الغرباء، أو على أيدي المصريين أنفسهم، ولكن في جيل بعد جيل معاصريه.
ونحن إذ ندير حديثنا في هذا السياق على مصر وأبنائها، فما ذلك إلا لأنها هي حياتنا وهي موضع اهتمامنا الأول، وإلا فظاهرة التنافس بين المتعاصرين تنافسًا يبلغ بهم حد الحسد والحقد بعضهم تجاه بعض؛ ليهدم بعضهم بعضًا، إنما هي ظاهرة تمسُّ الطبيعة البشرية ذاتها، ولا ينفيها أن تجد بين الناس ضروبًا من التعاون؛ وذلك لأن الأساس المبدئي في حياة الإنسان هو أن يحيا أولًا، وأن يسعى نحو أن تكون حياته أقوى ما تكون حياة ثانيًا، فإذا وجد التعاون في أمر من أموره أدعى إلى تحقيق وجوده وجودًا قويًّا دخل مع غيره في عقد التعاون، أما حيث لا يكون الأمر كذلك كان المبدأ عنده هو التنافس الذي لا يرحم. أقول إن تلك النزعة «الحاسدة» جزء من طبيعة الإنسان، لكن يعود فيختلف إنسان عن إنسان في تلك النزعة من حيث القدرة على إلجامها بالتربية وبتسليط «العقل» على شراسة الفطرة ليخمد أوارها.
وفي هذا المعنى أودُّ أن أسوق إلى القارئ شيئًا مما كتبه أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، فيما أسماه ﺑ «الطب الروحاني» (وهو ضمن ما ورد في مجموعة «رسائل فلسفية» جمعها وحققها بول كراوس) والمقصود بعبارة «الطب الروحاني» عند أبي بكر الرازي هو تحليلات لطائفة من الصفات الحميدة، ومن الصفات الذميمة، ليبين كيف تقوى الروح بالأولى، وتضعف بالثانية، يقول الرازي في التنافس والتحاسد بين أبناء المجتمع الواحد في العصر الواحد ما خلاصته:
إننا نرى الرجل الغريب حاكمًا في بلد ما، متحكمًا في أهله، ومع ذلك فلا يكادون يحسون نحوه بكراهية، أما أن يحكمهم رجل من أهلهم، فالأغلب أن تنصب عليه الكراهية مع أنه قد يكون أرأف بهم من الحاكم الغريب، وسر ذلك هو محبة الإنسان لنفسه، مما يجعله توَّاقًا إلى أن يكون سبَّاقًا لسواه من أبناء قومه، «فإذا رأى الناس أن من كان بالأمس منهم، قد أصبح اليوم سابقًا لهم، مقدَّمًا عليهم، اغتموا لذلك وصعب واشتد عليهم سبقه إياهم، ولم يرضهم منه تعطفه عليهم ولا إحسانه إليهم.» (تلك عبارة بنصها من كلمات الرازي) ويمضي المفكر الإسلامي بعد ذلك ليقول ما معناه إن الناس إذا ما ارتفع من بينهم رجل إلى مرتبة الحكم، لا يرضيهم منه إلا شيء واحد، وهو أن يزول عنه ذلك السبق، وأما المالك الغريب — يقول الرازي — فمن أجل أنهم لم يشاهدوا حالته الأولى، لا يتصورون قصورهم في كمال سبقه لهم وفضله عليهم فيكون ذلك أقل لغمهم وأسفهم، ثم يعقِّب الرازي على هذه النزعة الفطرية في الإنسان فيقول إنه لا بد من التغلب عليهم بالاحتكام إلى «العقل»؛ لأنه إذا كان في مقدور الإنسان أن يعتصم بعقله في مقاومة «اللذائذ» فكيف والحسد لا لذة فيه؟ ومما يمحو الحسد عن النفس — هكذا يقول الرازي — «أن يتأمل العاقل أحوال الناس، فإنه سيجد أن حالة المحسود عند نفسه، خلافها عند الحاسد، فالإنسان لا يزال يستعظم الحالة، ويتمنى بلوغها، حتى إذا بلغها لم يسر بها، إلا مُديدة (تصغير مدة) يسيرة، بقدر ما يستقر فيها ويتمكن منها ويُعرَف بها، ثم تسمو نفسه إلى ما هو فوقها، إنه عندئذٍ يصير بين همٍّ وخوف، خوف من النزول عن الدرجة التي بلغها، وهم لما يتمنى بلوغه.»
معذرة فقد أطلت الوقوف عند عبارة أبي بكر الرازي؛ فلقد أردت أن أستعين به أمام القارئ لأضمن اقتناع هذا القارئ بصحة ما زعمناه عن الإنسان إذا ما أرخى العِنان لفطرته، من أنه يكره أن يرى واحدًا من أهله قد سبقه في مدارج الصعود إلى قمم النبوغ، في حين أنه لا يشقيه أن يعلم مثل هذا الصعود في إنسان غريب، وربما صعب على القارئ أن يتصور الصدق فيما قاله الرازي؛ لأن الرازي أدار حديثه على من يملك بلدًا ويحكمه، والحق أننا قد خبرنا في أنفسنا كم نكره أن يتولى الحكم فينا غريب عنَّا، ولكن لكي يقترب القارئ من رؤية ما عناه الرازي — وهو حق لا شك فيه — فليجعل مدار الحديث نبوغ النابغ في شعر أو فنٍّ أو فكر أو أي فرع شئت من فروع الحياة العقلية والثقافية، ولينظر عندئذٍ إلى نفوس المتنافسين في الميدان الواحد — هل يملؤها حب لمن نبغ — أو تملؤها كراهية؟ وإن هذه الكراهية لتزداد حدة كلما نقصت قدرة الناس في بلد ما على احتكامهم إلى «العقل» فيما يقولون وما يفعلون.
وللشاعر الإنجليزي العظيم ت. س. إليوت، الذي كان من حسن حظنا أن شاع ذكره بين القراء العرب في عصرنا، والشعراء من هؤلاء القراء بوجه خاص، وذلك بفضل طائفة قليلة من نقادنا ودارسي الأدب الإنجليزي المعاصر فينا. أقول إن لهذا الشاعر العظيم كتابًا في النقد الأدبي، جمع فيه عدة فصول متفرقة، منها فصل خصصه لهذه الفكرة التي نعرضها هنا، وهي المنافسة الحاسدة الحاقدة التي يغلب أن تستبد بالمعاصرين إذا ما تولوا بالنقد معاصريهم؛ ولذلك يميل «إليوت» إلى إهمال ما يقوله معاصر عن معاصره، مدحًا كان ذلك أو قدحًا؛ لأنه في كلتا الحالتين مغرض على الأغلب المرجح ولا تكون للنقد قيمته إلا إذا جاء في عصر تالٍ لعصر الناقد والمنقود معًا.
وإذا نحن أردنا مثلًا لذلك من تاريخ الأدب الإنجليز (والمثل من عندي وليس مأخوذًا من كتاب إليوت)، وثب إلى ذهني ما قد حدث لأعظم شاعر عرفته إنجلترا، وهو وليم شكسبير، فكلنا يعرف كيف ظهر ذلك العملاق في دنيا المسرح وكأنه الشهاب اللامع، ولم يلبث أن استقطب كل الأضواء في شخصه وما يقدمه على المسرح، فشد الانتباه من الملكة ونبلائها فنازلًا إلى جمهور الناس، وكانت المفاجأة لافتة للأنظار بصفة خاصة لأن الرجل لم يكن قبل ذلك السطوع إلا سائس جياد النبلاء الذين يقصدون إلى المسرح، فما هو إلا أن فزع رجال الأدب المسرحي المحترفون من أساتذة الأدب في الجامعات، وكان من أبرزهم «مارلو» و«ناش» و«جرين»؛ فأخذوا يملئون الدنيا بنقدهم الساخر، يبثون فيه ازدراءهم لمن اقتحم ميدانًا لم يُؤهَّل له، فنتج عن ذلك النقد المر أن سقط شكسبير لفترة طويلة من حساب التاريخ الأدبي، برغم احتفاظه بإقبال المشاهدين لمسرحه حتى آخر عهده به، وفي هذه المناسبة أودُّ أن ألفت الأنظار إلى وجوب التفرقة بين حالتين فيما يختص بالمسرح، إحداهما حالة المسرح الذي يجتذب الجمهور دون أن يدرجه مؤرخو الأدب في صفحاتهم، والثانية حالة تجيء فيها المسرحية أدبًا أولًا، يرصده التاريخ الأدبي سواء مُثِّلت تلك المسرحية أو لم تُمثَّل، وأقبل عليها الجمهور أو لم يُقبل، وخير مثل يوضح ذلك هو ما قد شهدته المسارح في مصر من مسرحيات اشتد عليها إقبال المشاهدين، فيما قبل توفيق الحكيم، لكنها لم تكن لتظفر بكلمة واحدة عند من يؤرخ للأدب العربي الحديث، إلى أن ظهرت مسرحية «أهل الكهف» للحكيم، فغدت أدبًا يحتم على الناقد وعلى الدارس والمؤرخ جميعًا أن يحسبوا حسابها فيما يكتبون، والذي حدث لشكسبير على أيدي معاصريه هو أنهم وإن لم يستطيعوا أن يصرفوا عنه اهتمام الجمهور بكل طبقاته نجحوا في أن يسقطوه من حساب التاريخ الأدبي، ولبث أمره على هذه الحالة ما يقرب من قرن كامل، حتى قيض الله له ناقدًا ألمانيًّا يكتشفه، فيكشف عنه غبار الزمن بكل ما فيه من حسد المعاصرين وحقدهم، فإذا شكسبير هو من هو اليوم، حتى لقد قال عنه أصحاب الرأي من أبناء وطنه أيام أن كانت بريطانيا تحكم الهند إن شكسبير في انتماء بريطانيا إليه، أهم من إمبراطورية الهند في احتلال بريطانيا لها.
والأمثلة لا تقع تحت الحصر والعدد، إذا أردت أمثلة لما يقترفه المعاصرون من إثم معاصريهم، وقد يتاح للزمن بعد ذلك أن يصحح آثامهم، ولكنه كذلك قد يُغفَل فتضيع موهبة الموهوب في التراب مع رفاته، وإن الإنسان ليأخذه العجب كيف جرؤ المعاصرون لعبقريات تطير بأصحابها إلى أجواز السماء أن يحاولوا إطفاء تلك الشموس الساطعة، كيف جرؤ أهل أثينا على مهاجمة سقراط حين ضاقت به صدورهم، فحاكموه وأعدموه، مع أن الرجل لم يصنع بمواطنيه سوى أن يفتح أعينهم لتشهد النور! كان الناس بمن فيهم أدعياء العلم، يملئون أشداقهم بألفاظ ضخمة، كلٌّ في ميدانه، فرجل القانون يتشدق بالعدل، ورجل الأخلاق ينادي بالفضيلة، وصانع الفن أو قائد الحرب أو القابض على زمام الحكم لا يشكون في دقة معرفتهم بالفن أو بالحرب أو بالحكم، فإذا بسقراط في حواره معهم على النحو الذي نعرفه جميعًا يفضح جهلهم بما ظنوا أنفسهم يعلمونه أكمل العلم وأوضحه.
كنت قد وقعت يومًا على مجموعة خطابات خاصة كتبها عالم النفس الذي يعرفه اليوم حتى رجل الشارع، وهو «فرويد» صاحب النظرية المعروفة في التحليل النفسي، أقول إنني كنت قد وقعت على خطابات أرسلها فرويد إلى أحد أصدقائه أيام أن كان فرويد عضوًا في هيئة التدريس بجامعة فيينا بالنمسا (في النصف الثاني من القرن الماضي).
وأذهلني أن أجد فرويد يشكو إلى صديقه في خطاب بعد خطاب من أن الجامعة تضطهده ولا تريد أن ترفعه إلى درجة الأستاذية بها، فانظر إلى رجل يعد الآن رابع أربعة كبار، هم صناع هذا العصر من الناحية الفكرية، انظر وقد تعمد معاصروه من زملائه أن يخمدوا شعلته حتى لا تتوهج، وقريب من هذا المثل ما حدث في حالة الفيلسوف البريطاني «ديفيد هيوم» الذي هو بغير شك في طليعة الطليعة من فلاسفة بريطانيا (عاش في القرن الثامن عشر)، فهو أيضًا قد حُورب في عصره على صورة تثير فينا الدهشة، فمن ناحية حرَّمت أقسام الفلسفة في جامعة أكسفورد على طلابها شغل أنفسهم بمؤلفاته؛ لأن أساتذتها لم يروا فيها قيمة تذكر، ومن ناحية أخرى حورب في حصوله على كرسي الأستاذية في جامعة أدنبره باسكتلندا (وهيوم اسكتلندي)، وأظن أن الذي فضلته عليه الجامعة من زملائه يومئذٍ هو آدم سمث، صاحب المؤلف المشهور في مادة «الاقتصاد السياسي»، (وكان الاقتصاد يوصف دائمًا بكلمة «السياسي» فيما قبل عصرنا) مع أن الأستاذية المطلوبة كانت لفلسفة الأخلاق، وعلم الرغم من أهمية آدم سمث، الذي يعرفه كل دارسٍ للاقتصاد حتى اليوم، فلا أظن مؤرخًا واحدًا يؤرخ للفكر البريطاني يتردد لحظة في ترجيح هيوم على آدم سمث من حيث عمق الأثر، لا في بريطانيا، بل وفي عالم الفكر في كل أرض بها للفكر حياة.
أمثلة لا تعد ولا تحصى لما يكيد به المعاصرون لمعاصريهم، مما يدعو إلى التفهم والتسامح، حين نتجه بأبصارنا إلى حياتنا نحن المعاصرة في جوانب الفكر والفن والأدب، فإن نظرة واحدة سريعة، تتعقب بها ما يسمونه ﺑ «المعارك» الثقافية، سواء كان ذلك في الجيل الماضي، أو في هذا الجيل الحاضر، لتكفي للدلالة على أنها حياة ملطخة بالدماء نابًا ومخلبًا، هي حياة سادها الإجحاف وندر فيها الإنصاف، وحتى إذا رأيت أحد الأعلام في تلك الميادين قد ظفر بما يستحق من ثناء وتمجيد، فسوف تدرك بعد الفحص الدقيق المتأني أن لذلك الموقف علة، وقد تكون هذه العلة هي ما قام به ذلك العلم من ضروب النشاط الاجتماعي التي لا شأن لها بمجال إنتاجه الثقافي، لكن لها الشأن كل الشأن بجذب انتباه الجمهور، وكذلك قد تكون العلة فيما يؤديه من أجله أنصاره، لقتل من أرادوا قتله، أكثر مما هو للإشادة به حقًّا وتمجيدًا حقًّا.
وأعود بذاكرتي إلى مرحلة الشباب، وقد كنت في شبابي متابعًا لكل ما يحدث في حياتنا الثقافية، سواء أكانت ذات صلة بموضوع تخصصي أم لم تكن. أعود بالذاكرة إلى تلك الأيام فأذكر ليلة كنت أذاكر فيها دروسي وقد تقدم الليل، وإذا بصوت بائع الصحف يُدوِّي في الشارع، فيحطم جدران السكون، مناديًا بالعدد الخاص من جريدة «السياسة الأسبوعية» الذي خصص نفسه للاحتفال بتنصيب أحمد شوقي أميرًا للشعراء، فهرولت إلى بائع الصحف لأظفر بالعدد الذي كان موعد ظهوره هو صباح اليوم التالي، ولما عُدت إلى مكاني من مسكني آثرت أن أنفق بقية الليل في قراءة ما نشره الكاتبون عن شوقي، وكان أول ما اخترت أن أقرأ له هو المازني: فإذا أول جملة يستهل بها الكاتب مقالته، كما أذكرها حتى اليوم هي: «ليس شوقي بشاعر ولا شبه شاعر»؛ لأن الشاعر إما أن يكون شاعرًا، وإما ألا يكون شيئًا، ولا وسط بين الطرفين.
ولم يكن هذا الرأي جديدًا علينا كل الجدة، فمنذ عدة سنوات قبل ذلك الموعد كان العقاد والمازني يسعيان جهدهما في النقد الأدبي ليخرجا أحمد شوقي من زمرة الشعراء، وكتابهما «الديوان» يشتمل على كثير مما كتباه لهدم شوقي (ولهدم المنفلوطي أيضًا)، ولقد كنت في شبابي وما بعد شبابي متأثرًا بهما في هذه النظرة، مشايعًا لهما في الحكم، لكنني أدخلت لنفسي تعديلًا أساسيًّا في فهم الشعر وتقويمه، وليس هذا مكان الحديث في ذلك، ولكنه مكان أسأل فيه: هل يعقل أن يقال عن شوقي وعلى ألسنة أقدر النقاد في عصرهم إن شوقي لا هو شاعر ولا شبه شاعر؟ إلى هذا الحد يبلغ ظلم المعاصرين للمعاصرين؟!
ولقد كان ظلم المعاصرين للعقاد أقسى وأفدح، ولست أنسى ساعة قابلت فيها ناقدًا مرموقًا، أُعفي نفسي من ذكر اسمه، «وكان ذلك سنة ١٩٦٤م وبعد وفاة العقاد بقليل»، فكان حكم ذلك الناقد على العقاد أنه «لم يقدم شيئًا»، وأنه «بغير قيمة أدبية على الإطلاق»، وأذكر أني أجبته في هدوء قائلًا: إن هذه الأحكام الشاملة لا تنفع أحدًا، وخير لك ولنا أن نتناول العقاد في ميادينه المختلفة، واحدًا واحدًا؛ فنحكم عليه شاعرًا (وله عشرة دواوين) ونحكم عليه كاتبًا سياسيًّا، ونحكم عليه كاتبًا لتراجم الأبطال، ونحكم عليه ناقدًا أدبيًّا، وهكذا، فعندئذٍ قد نجد أن الحكم على العقاد في ميدان معين ليس هو بذاته الحكم عليه في ميدان آخر، ولكن إلى هذا الحد يبلغ ظلم المعاصرين للمعاصرين.
ومن أظلم ما يحارب به المعاصرون معاصريهم في حياتنا نحن، هو أن يوجه الناقد إلى خصمه أحد سهمين، أو أن يوجه إليه السهمين جميعًا؛ فهو يرميه إما بالكفر — والعياذ بالله — وإما أن يرميه بتهمة الخيانة للوطن والعمالة للأعداء، وكثيرًا ما يرميه بالتهمتين معًا، ولست أريد المقارنة بيننا وبين سوانا من الشعوب — والمتقدمة منها بوجه خاص — لكنني أشعر الآن بفائدة أن أنبئ القارئ بأنه يندر جدًّا أن يقع على إحدى هاتين التهمتين موجهة من ناقد إلى كاتب أو مفكر، أما نحن فأهون وأسرع ما يلجأ إليه الناقدون الحاسدون هو قتل العدو بهاتين التهمتين ارتكانًا إلى حقيقة يعرفونها جيدًا، وهي ضعف القدرة النقدية عند الجمهور المتلقي، وبالتالي كان من العسير عليه أن يفرق بين الصواب والخطأ فيما يكيله الناس بعضهم لبعض من تُهم في المجال الثقافي بصفة عامة، وأقل ما يُقال في تعليل ذلك هو أن الجمهور كثيرًا ما يسمع الأحكام ويصدِّقها دون أن يكون قد قرأ سطرًا واحدًا مما كتبه المتهم في عقيدته أو في وطنيته.
إبَّان الخمسينيات أصدر مؤلف مصري كان معروفًا — على الأقل بسبب ارتفاع مناصبه — كتابًا يُبين فيه أثر الاستعمار في حياتنا الفكرية، ولقد رضي له ضميره بأن يوجه تهمة خيانة الوطن والخروج على الدين معًا إلى ثلاثة رجال — هم: طه حسين، وعلي عبد الرازق، والفقير لله كاتب هذه السطور — أقل ما يُقال فيهم إنهم بذلوا كل ما يستطيعونه من جهد في إثراء الحياة الثقافية وترشيدها، وبعد ذلك فمن حق من شاء أن يقول عن أحدهم أو عن جميعهم إنهم أخطئوا في هذا وفي ذاك مما عرضوه من أفكار، أما أن يقال عنهم إنهم عملاء للمستعمر، وإنهم مارقون على دينهم فذلك — في الحق — مما يشكك في نزاهة المؤلف، أكثر مما يشكك في قيمة هؤلاء الرجال، ولكنه ظلم المعاصرين للمعاصرين.
على أن أفتك سلاح يحارب المعاصرون به معاصريهم ليس هو قذفهم بمخالفة الدين وخيانة الوطن؛ لأن ذلك لا ينطلي إلا على السذج، وإنما هو سلاح الإهمال والصمت عمن يريدون إخماد أنفاسه حتى يموت، وذلك فيما يبدو هو ما صنعه أصحاب الفقيه المصري الإمام الليث بن سعد، الذي قال عنه الإمام الشافعي عبارته التي أسلفت ذكرها، والتي رسخت في ذاكرتي منذ عرفتها، وهي تقفز إلى ذهني كلما مررت بمسجد الليث: «الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به.» ترى كم ليثًا في حياتنا المعاصرة خذله معاصروه؟!