عين فتحة عا
معذرة إذا كنت قد اخترت لهذا الحديث عنوانًا يعود بالذاكرة إلى عهد الكتاتيب، ولكن عُذري في اختياره مع كل ما فيه من خروج على المألوف هو كثرة ما يدوَّن بيننا اليوم من أحاديث غاضبة عن «العلمانية» — هجومًا أو دفاعًا — وسواء أكان المتحدث مهاجمًا أم كان مدافعًا، فكلاهما ينطق اللفظة مكسورة العين، وكأنها منسوبة إلى «العلم»، مع أن حقيقتها هي العين المفتوحة، نسبة إلى هذا «العالَم» الذي نقضي فيه حياتنا الدنيا، ولو كان المخطئون هم من أبناء هذا الجيل فقط؛ لقلت إنها جهالة تُضاف إلى جهالات، لكن موضع العجب هو أني سمعت رجالًا من ألمع الرجال الذين هم في الحقيقة ممن ينتسبون إلى الجيل الماضي، وقد امتد بهم الأجل ليقطعوا شوطًا من مرحلة هذا الجيل — مد الله في أعمارهم وبارك لهم في أيامهم — ولست أدري كيف جاز لهم الوقوع في خطأ كهذا، وكلنا يعرف أن جيلنا الماضي كان على كثير من صحوة الضمير العلمي، الذي يدفع أصحابه إلى المراجعة والتثبت من صحة ما يقولونه أو يكتبونه؟ أو قل إن رجال الجيل الماضي كان لهم من تلك الصفات قدرًا ملحوظًا، وبينهم وبين أبناء هذا الجيل في ذلك مسافة من السبق لا تخطئها عين، كما أنها تستوقف الانتباه لتعليل حدوثها، ولقد ورد في القاموس الوسيط الذي أخرجه مجمع اللغة العربية بالقاهرة عن كلمة «عَلمانية» (الجزء الثاني، ص٦٣٠) ما يلي: «العلماني نسبة إلى العلم (بفتح العين وسكون اللام) بمعنى العالم، وهو خلاف الديني أو الكهنوتي.»
ولو كان الفرق في المعنى بين أن تكون «العلمانية» مكسورة العين أو مفتوحة العين فرقًا يسيرًا يمكن تجاهله؛ لقلنا إنه خطأ لا ينتج ضررًا كبيرًا، ولكن الفرق بين الصورتين في نطق الكلمة فرق لا يُستهان به، مما يستوجب الوقوف والمراجعة.
إنني كلما قرأت لكاتب في هذه الأيام كتب ليهاجم العلمانية وهو يشتعل بالغضب، أراني — دون قصد مني — قد تذكرت قصة قصيرة لسومرست موم، خلاصتها أن شابًّا من هواة الفن في بلد ما كان شديد الإعجاب بفنان إسباني، حتى لقد قرر السفر إلى إسبانيا ليلتقي به، فلما وصل إلى حيث يعيش الفنان وعرف سبيله إلى مسكنه، ضغط على زر الجرس، وفتح له الباب، فقال للخادم الذي فتح له الباب: لقد جئت للقاء سيدك، فأدخله وأجلسه في غرفة استقبال الزائرين، وكان من مجلسه ذلك يستطيع رؤية الهابط على سلم الدار من طابقها الأعلى إلى طابقها الأرضي، فلما أن رأى السيد على درجات السلم رأى شيخًا وقورًا، ابيضت لحيته، ودبت في جسده شيخوخة واضحة المعالم، فأخذ الشاب يتفرسه بنظراته من بعيد، هامسًا لنفسه ما يؤكد له بأن هذا الوقار كله، وتلك الجبهة العريضة الوضاحة الوضاءة، وشعره الأبيض الطويل الذي تهتز ذوائبه على عنقه وفوديه، كلها تدل على أن ذلك الفن الرفيع الرائع الذي عرفه له وهو هناك في بلده، لا بد أن ينضح به مثل هذا الجلال الوقور والهدوء الساكن، والحكمة التي يكاد ينطق بها كل ما أراه في هذا الرجل، حتى إذا ما التقيا وتلاقت كفاهما بالتحية، وجلسا في صمت دقيقة أو دقيقتين قال الشاب للشيخ: كم تملؤني السعادة إذ أراني جالسًا في حضرة فلان الفنان العبقري العظيم. فأجابه الشيخ في هدوء أخطأت يا ولدي. ففلان الفنان يسكن في البيت المجاور لبيتي.
وهكذا كلما قرأت لكاتب في هذه الأيام يهاجم العلمانية؛ إذ تكون في ظنه مكسورة العين، منسوبة إلى العلم، تمنيت لو أني رأيت ذلك الكاتب جالسًا أمامي، لأقول له شيئًا يشبه ما قاله ذلك الشيخ للزائر الشاب: لقد أخطأت الطريق يا صاحبي، فالذي تسدد إليه سهامك، ليس هو العدو الذي ظننته، ولكن بينه وبينه فارقًا صغيرًا في الملامح، كبيرًا في حساب الحقائق، فهذا الذي تهاجمه مكسور العين، وعدوك الحقيقي مفتوحها، كان ذلك الخلط بين صديق وعدو هو عذري في اختيار العنوان لعله يشد انتباه القارئ، فيرهف الأذن و«يفتح العين».
وما هي «العلمانية» بفتح العين؟ لا أظن أن لهذه الكلمة وجودًا في اللغة العربية قبل عصرنا الحديث، لكنها كلمة ترجمنا بها — في عصرنا — كلمة مقابلة لها في اللغات الأوروبية، والكلمة هناك لها عند القوم أهمية وتاريخ، على عكس الحال عندنا، فقد كان ينبغي ألا تكون لها أهمية، وهي بحكم الأمر الواقع ليس لها عندنا تاريخ، أما أهميتها وتاريخها هناك فلأن عصورهم الوسطى (التي هي الفترة الواقعة بين القرنين الخامس والسادس عشر من التاريخ الميلادي) شهدت لرجال الدين سلطانًا رفعوا به مثلًا أعلى أمام الناس، يتمثل في حياة الرهبان، فالزهد في الدنيا لا الإقبال عليها هو ما ينبغي للإنسان الكامل أن يهتدي به، وذلك لأن عقيدتهم تسمح لهم بأن يفصلوا بين الأرض والسماء، بين الدنيا والآخرة، وفي الأولى تكون السيادة للقيصر، وفي الثانية يكون الأمر لله، ولما كان الغض من الدنيا وقيمتها ينتهي بالضرورة إلى إهمالها إهمالًا يخف به وزنها في أعين الناس، وبالتالي تقل الرغبة فيما يؤدي إلى الارتقاء بشئون الحياة فيها، فلا يكون علم ولا يكون عمل — إذا جاز لنا مثل هذا التعميم الجارف — فكان من أبرز ما تميزت به النهضة الأوروبية التي نفرت لتقضي على هذا الوخم كله أن هبَّ الناس وكأنهم أرادوا أن يعبوا الحياة النابضة في أجوافهم عبًّا، لم يتركوا طريقًا للمغامرة إلا سلكوه في نشاط محموم، فمنهم من أقلع بالسفن في بحار الظلمات ليكشف عنها ظلماتها، ومنهم من اخترق آفاق الأرض اليابسة التي كانت تتناثر إلى مسامعهم أخبارها دون أن يروها، وكأنها أرض يراها النائمون في أحلامهم، ومنهم العلماء الذين اتجهوا بأبصارهم نحو السماء يتعقبون أجرامها في مسالكها، بل ومنهم الفلاسفة الذين أصروا على أن يغوصوا بتأملاتهم في طبيعة الإنسان ذاتها، ليروا ذلك العقل المتستر في عظام الجمجمة كيف يعمل، وتلك المشاعر كيف تسري رعشاتها في الجوانح، فنتج عن هذا كله بعث هو الذي خلق لهم أوروبا الحديثة كما نعرفها، ومن هنا ارتفعت صيحة «العلمانية» كأنها تقول: عليكم بهذا العالم، عليكم بهذا العالم، لا تهملوه!
فما لنا نحن بهذا كله، وليس في عقيدتنا ما يدعونا إلى إهمال هذا العالم؟ بل العكس هو الصحيح، فقد أُمرنا بأن نحتفل بالدنيا وكأننا نعيش فيها أبدًا، وأن نعمل للآخرة كأننا منتقلون إليه غدًا، ما لنا نحن بذلك كله، والدنيا في عقيدتنا هي الفرصة التي أتيحت لنا ليبلونا الله تعالى فيها أينا أحسن عملًا؟ إن صيغة الحياة للأوروبي في عصوره الوسطى يمكن إيجازها كما يلي: إما الدنيا وإما الآخرة ولا اجتماع بينهما، فمدينة الأرض شيء مبتور الصلة بمدينة السماء، وأما صيغة الحياة عندنا فيمكن إيجازها فيما يأتي: لا بد للحياة الدنيا أن تمارس على أن تظل الآخرة هدفًا أسمى، فكلتاهما خير، ولكن الآخرة خيرٌ وأبقى، والآخرة خير من الأولى، فهل هناك — إذن — في حياتنا وعقيدتنا ما يدعو إلى صيحة تقول: عليكم بهذا العالم فلا تهملوه؟! فإذا كنَّا قد رأينا أنفسنا وقد أهملناه بالفعل، وغفونا عنه، فأخذ منَّا الضعف والهزال والفقر والجهل، حتى أمسك الطغاة برقابنا، فإن ذلك لم يكن ناشئًا عن عقيدة تحول بيننا وبين هذا العالم، بل كان لأسباب حضارية، وهذه الأسباب هي التي يجب أن نقلعها من أرضنا اقتلاعًا.
تلك هي العلمانية، التي لم تكن تحتاج منا إلا أن نفتح لها العين، فإذا هي جزء من حياتنا، ومقومٌ جوهري من مقومات تاريخنا في فترات عزه ومجده، فمن الذي يحاربه أولئك الذين ركبوا جيادهم، وحملوا قسيهم ورماحهم؛ ليقاتلوا «العلمانية» حتى يقتلوها؟ أيحاربون عصر الرشيد والمأمون، الذي نشطت فيه الحياة الدنيا بقوة نبضها، والتي هي في الوقت نفسه الزهرة الحضارية والثقافية التي نشير إليها حين نريد أن نقول للناس: انظروا كيف ازدهرنا؟
ولست أبالي إذا كان في صدور الدعاة إلى «العلمانية» (بفتح العين) في أيامنا غل يخفونه وراء ستارها؛ لأنهم إن كانوا كذلك، فلنحاربهم في أشخاصهم، ولا نحارب الدعوة إلى الاهتمام بالعالم، لأن العالم هو مسرح العمل والنشاط وموطن الحضارات، وإلا فأين تريدوننا أن نقيم للحضارة على أرضنا قائمة؟
وإذا كانت مقاومة من يُقاوم العلمانية بفتح عينها مصيبة، فالمصيبة أعظم فيمن يقاومونها بكسر العين؛ لأن عينها إذا كسرت، كانت الإشارة عندئذٍ إلى العلم وإلى الحياة التي تقيمها العلوم، فهل يرضيكم — أيها السادة — أن نزرع أرضنا بغير علم، وأن نُدير مصانعنا بغير علم، وأن ننشئ مدارسنا وجامعاتنا لغير العلم، وأن نعد عدتنا العسكرية بغير العلم؟ هل يرضيكم — أيها السادة — أن نمحو أسماء العلماء من تاريخنا، فلا يكون فيهم بعد اليوم جابر بن حيان ولا الخوارزمي ولا ابن الهيثم ولا ابن النفيس؟ وإذا رأيتم في هؤلاء وأمثالهم مواضع فخر لأنهم رجال أقاموا للعلم قوائمه، فلماذا لا تريدون لأحفادهم المعاصرين أن يعيدوا سيرتهم الأولى؟ لا، محال أن يكون هذا هو ما تبتغونه، ومحال أن تكون سهامكم موجهة إلى العلم في حياتنا، وإذن فماذا يبقى للعلمانية — إذا كسرت عينها — لتحاربوه، ومرة ثانية أقول إنني لا أبالي أن يكون في صدور الدعاة إلى العلمانية بكسر عينها، شر مكتوم يريدون به حياتنا الدينية، على افتراض جاهل منهم بأنه إذا كان علم فلا دين! فقد ذهبت عن الناس غفلة استبدت بهم حينًا طويلًا من الدهر في بلادنا وفي بلاد الغرب كذلك حين لعب الشيطان بعقولهم فأوهمهم أن لا مصالحة بين علم ودين، فإذا قام أحدهما غاب الآخر، ذهبت عن الناس هذه الغفوة لأن الإنسان إنسان بدينه وبعلمه معًا، وارجع إلى كتاب الله الكريم وإلى حديث رسوله — عليه أفضل الصلاة والسلام — وانظر في كم موضع يأتي الحض على العلم، بل إننا لنعرف ذلك جيدًا، ونعيده ونكرره فيما نكتبه وما نذيعه في الناس، فقل لي بالله: من ذا الذي يحاربونه أولئك الذين يحاربون العلمانية وهي مكسورة العين؟ على أنني أود أن أضيف هنا أنه لا وجود في لغتنا — قديمها وحديثها معًا — لهذه الكلمة، فدورانها على الأقلام — إذن — هو وهمٌ يضاف إلى وهم، ليكتنف حياتنا وهم مركب.
إن الحياة الفكرية كما عاشها أسلافنا كان معظمها يدور حول محور نعرفه جميعًا ونريده جميعًا، ونعلمه لطلابنا، ونتحدث عنه في محاضراتنا، ونعرضه في مؤلفاتنا، وذلك المحور هو محاولة التوفيق بين العقل والنقل — كما كان يُقال — أما العقل فكان المراد به هو ما ورد في الفلسفة اليونانية التي نقلوا الجزء الأكبر منها إلى اللغة العربية، وأما «النقل» فكان المراد به قريبًا جدًّا مما نطلق عليه اليوم اسم «التراث»، ولكن أهم ما كانوا يقصدون إليه في «المنقول» هو الشريعة، فكان السؤال عندهم هو هذا: هل هناك تعارض بين ما جاء في شريعة الإسلام من جهة وما ورد في الفلسفة اليونانية من جهة أخرى؟ ولم يكونوا ليجيبوا عن سؤالهم هذا إجابة عشوائية، بل جاءت إجابتهم — أو قل إجابة الكثرة الغالبة منهم — نتيجة دراسة تحليلية دقيقة، وخلاصتها هي أنه لا تناقض بين الطرفين، فما تقوله الشريعة بلغتها هو هو نفسه ما تقوله الفلسفة اليونانية بلغتها، أعني أن الشريعة والفلسفة قد تضع كلٌّ منهما ما أرادت أن تقوله في مفاهيم تتناسب مع سياقها، لكننا إذا ما حللنا تلك المفاهيم عند هذه وعند تلك، وجدنا الحق واحدًا بينهما، ولا غرابة فالحق لا يتعدد.
فإذا أردنا اليوم أن نصنع في حياتنا الفكرية صنيع أسلافنا؛ فكيف يكون ذلك؟ الإجابة عندي واضحة وضوح الشمس الساطعة، وهي أن تدور حياتنا الفكرية على المحور نفسه الذي دارت عليه حياة أسلافنا، وأعني النظر في موروثنا نظرة الدارس الفاحص، وأن ننظر فيما عند الثقافات الأخرى، لا سيما ما يكون منها عند صناع الحضارة الحديثة في عصرنا نظرة الدارس الفاحص كذلك، لنرى كيف يكون التوفيق بين الطرفين، إذا كان ذلك التوفيق ممكنًا وحيثما وجدناه ممكنًا، إن «أوروبا» بالنسبة إلى أسلافنا كانت هي اليونان القديمة، وثقافة أوروبا في ذلك العهد أيضًا كانت هي ما عرفه أهل اليونان من فلسفة وعلم (وكان لهم أدبهم، لكن العرب غضُّوا عنه النظر)، فهل يتغير الموقف في جوهره، إذا كانت أوروبا قد مدَّت أجنحتها عبر الأطلسي، ليصبح الغرب هو أوروبا وأمريكا معًا، ثم إذا كان لهذا الغرب في صورته الجديدة علوم ظهرت في صورة جديدة، تغاير علوم اليونان الأقدمين، وإذا كان له فلسفة حديثة قد لا تكون شبيهة كل الشبه بفلسفة اليونان الأقدمين؟ لست أظن أن شيئًا في الموقف — مأخوذًا بجوهره — قد تغير، وإذن يكون انتهاجنا نهج أسلافنا هو أن نلتمس صيغة ثقافية جديدة، نجمع فيها رحيقًا إلى رحيق في إناء واحد.
فإذا كان هذا الجمع بين الرحيقين هو نفسه ما يطلقون عليه اسم «العلمانية» بعين مفتوحة، فأهلًا بها، وإذا كان هو ما يسمونه بهذا الاسم بعين مكسورة، فمرحبًا بها، إن الأسماء لا تسكنها العفاريت فأخشاها، إنني أخشى أو لا أخشى ذلك الذي تسميه تلك الأسماء، إذا وجدت في المسمى ما أخشاه، فهل أخشى أن يكون هذا العالم الجديد موضوعًا لاهتمامي، في علومه وفي آدابه وفي فنونه، وفي كثير من نظمه. إن حياة الحي هي أن يتفاعل مع ما يحيط به، أخذًا وعطاءً، فما الذي يخيفني من العلمانية، فُتحت عينها أو كُسرت، إنه بفتحها تكون دعوة إلى الاهتمام بعالمنا الذي نعيش فيه، وبكسرها تكون دعوة إلى العلم، وكلتا الدعوتين معلنتان في عقيدة الإسلام وشريعته.
لست ألزم أحدًا بأن يستعين في حياته الفكرية بالعادات التي نشأت أنا عليها في حياتي الفكرية، ووجدت فيها عونًا كبيرًا في زيادة الوضوح وحسن الفهم، ومن تلك العادات أن أطالب نفسي، إذا وجدتني أمام فكرة فيها بعض الغموض، بالبحث عن شخص بعينه أو موقف بعينه، يجسِّد تلك الفكرة المراد توضيحها، وكثيرًا ما أُوفَّق في ذلك فتتحول الفكرة المجردة إلى إنسان معين أعرفه وأعرف خصائصه ومميزاته، فينزاح عن الفكرة المجردة تجريدها، وعن الفكرة الغامضة غموضها، فمن الذي أراه — يا ترى — يجسد لنا بشخصه المتعين ذلك الضرب من اللقاء بين تراثنا ومنتجات عصرنا في دنيا الفكر؟ إن أول من يرد إلى خاطري كلما ألقيت عليَّ هذا السؤال: هو طه حسين، فإلى جانب مؤلفاته ذات القيمة الكبرى، أرى في شخصه ما هو أهم منها فيما نحن الآن بصدد الحديث فيه، وأعني بذلك طريقته في الجمع بين موروثنا وروح عصرنا، أما موروثنا فلا أظن أحدًا يجادل في سعة إلمامه بذلك الموروث، إلمامًا فيه الدقة وفيه الفهم، وأما روح العصر فظاهر في منهجه وفي رؤيته وتصوره، والآن فلنعد إلى موضوعنا لنسأل: هل كان طه حسين «علمانيًّا» بفتح العين أو بكسرها، من الناحية التي يراها المهاجمون بلاءً يشين من صاحبه، إنه رجل كان موفور الحظ في العلم، وشديد الميل إلى التفاعل مع عالمه، فهل تدرجه هاتان الصفتان فيما يراه المتشنجون حقيقًا بأن يقاوم حتى يزول.
وأسوق مثلًا آخر لرجل جمع في شخصه الحسنيين، وربما كان أبعد من طه حسين عن إثارة القلق، وهو الشيخ مصطفى عبد الرازق، فهو الآخر يلم بالموروث إلمامًا يجعل ذلك الموروث على أطراف أصابعه، وهو في الوقت نفسه يحيط بأهم ما دار في عقول علماء الغرب، في ميدان تخصصه، وهو لم يضع هذا إلى جانب ذاك، كما نضع مصوغات الذهب إلى جوار مصوغات الفضة في صندوق، بل مزج الجانبين في نفسه وتكوَّن له من المزيج منهج ورؤية وتصور. فهل هذه الوقفة المتزنة تدرجه في «علمانية» مفتوحة العين أو مكسورتها، بالمعنى السيئ الذي يهاجمه المهاجمون؟ إنني — حقًّا وصدقًا — لا أدري، ولقد أنباني من أنباني أن كاتبًا مصريًّا من هؤلاء المجاهدين قد ذكرني في صحيفة عربية، أعني صحيفة مما يصدر في بلاد الخليج، فقال عني إنني واحد من هؤلاء العلمانيين، وليتني أسمع منه ما يوجهني إلى موضع الخطأ مني لأصححه، أهو أني ألممت بأطراف من موروثنا وبأطراف من نتاج العصر ومزجت الجانبين معًا في صيغة واحدة؟ لو كان الأمر كذلك، إذن فهو تشريف لا أستحقه ومكانة لا أدعيها.
إننا إذا عدنا بالذاكرة إلى المناخ الفكري في عصورهم الوسطى، لرأينا أن النموذج المجسد الذي يوضح ذلك المناخ، والذي كان هو نفسه النموذج الذي جاءت نهضة أوروبا لتطيح به وتقيم مكانه نموذجًا آخر، هو الراهب الزاهد، ومن هنا انبثقت الدعوة عند النهضة إلى «علمانية» تفتح الآفاق واسعةً لينفتح للناس أمل في مستقبل جديد، وحدث بالفعل أن انبثق للأوروبيين في نهضتهم نموذج بشري آخر، هو الذي وضعناه فيما أسلفناه، وقد يدهش الأخوة المهاجمون لما يسمونه بالعلمانية إذا عرفوا أن ذلك النموذج الجديد الذي ولدته النهضة الأوروبية ليحل محل الراهب الزاهد كان من أهم ما يتميز به في بناء ثقافته الجديدة العودة إلى الأدب الكلاسي عند اليونان الأقدمين! والعجيب الذي يلفت النظر هو أنهم اعتبروا إحياء الأدب الكلاسي ذلك «رومانسية» تثير الخيال في مبدعاتهم الجديدة، فالعلماني بالمعنى الذي عرفه أصحابه لا يعني التنكر للموروث، بل العكس هو الصواب؛ لأن إحياء ذلك الموروث يتضمن عدة معانٍ يكون العلماني علمانيًّا بها، فهناك جانب الانتماء، وهناك جانب الخروج من صوامع الرهبان.
ليس في كل ما قدمته إليك هنا دفاع عن أحد ولا هجوم على أحد، ليس فيه تشيع لمذهب وتنكر لمذهب، وإنما قصدت إلى هدف واحد، هو أن يكون المدافعون عن «العلمانية» بيننا، والمهاجمون لها، أكثر حرصًا على أن يتثبتوا ليعلموا عن أي شيء يدافعون أو يهاجمون.